تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ

____________________________________

قلنا : الشمس مشرقة أو النار محرقة ، أو العقار الفلاني مقوي ، أو ما أشبه ، لم يناف مع عدم إشراق الشمس وقت الكسوف ، أو عدم إحراق النار إذا لم يشأ الله ، كنار إبراهيم ، أو عدم تقوية العقار في بدن بلغ من الضعف إلى حيث لا يتمكن من هضم العقار ، وهكذا في سائر القضايا ، فإن الملحوظ ، في أمثالها الطبيعة ، لا كل فرد ، والطبيعة قد يمنع عنها مانع ، أو عدم تمامية المقتضى ، وقد قال سبحانه (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (١) ، فمن لم يف بعهده سبحانه ، بأن ارتكب الكفر والعصيان ، لم يكن عليه سبحانه ، أن يفي بما عهد ، وكذا قال تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٢) فمن لم يتق ، لم يكن لدعائه ، قبول واستجابة .. ولا يقال : إنا لا نرى الفرق البين بين الداعي وغيره ، فلكل منهما مشاكل ولكل منهما سعادة؟ إذ الجواب أنه منقوض بمن يقول : إنا لا نرى فرقا بين من يراجع الطبيب ، وبين من لا يراجع ، فإن لكليهما صحة حينا ومرض حينا آخر ، والحلّ : إنا نرى الفرق شاسعا ، فالداعون ، أسعد هناء عيشا ، وأقل مشكلة من غيرهم ، وهذا يعلم ، عند المقايسة الدقيقة ، كما هو الجواب عن مثال مراجع الطبيب وغيره.

[٦٢] ثم بين سبحانه جملة من الآيات الكونية ، الملفتة إلى وجوده تعالى ، وسائر صفاته (اللهُ) وحده ، هو (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) معاشر البشر (اللَّيْلَ) من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ، أو إلى طلوع الشمس (لِتَسْكُنُوا) وتستريحوا ، من الأتعاب (فِيهِ) بالنوم والراحة

__________________

(١) البقرة : ٤١.

(٢) المائدة : ٢٨.

٦٢١

وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣)

____________________________________

(وَ) جعل لكم (النَّهارَ مُبْصِراً) أي موجبا ، لأن تبصرون فيه حوائجكم وسبلكم ، فتشتغلوا وتسيروا إلى مآربكم (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) يتفضل عليهم بأنواع النعم ، بدون استحقاق منهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) نعمه وفضله ، بل يجحدون بها ويكفرون به.

[٦٣](ذلِكُمُ) ذا إشارة إلى الله سبحانه ، جاعل تلك الآيات المذكورة ، و «كم» خطاب للسامعين (اللهُ رَبُّكُمْ) أيها البشر (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، فهو بالإضافة إلى جعله تلك الأمور ، وكونه ربا لكم ، خالق لكل شيء موجود في الكون (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا شريك له من صنم ، أو بشر أو ملك أو غيرها ، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي إلى أين تصرفون أيها المشركون حيث تتخذون مع الله شريكا له؟ من أفك بمعنى انصرف وقلّب الأمر ، ولذا يسمى الكذب إفكا.

[٦٤](كَذلِكَ) أي كما أفك هؤلاء بالشرك بالله ، بعد رؤية الآيات (يُؤْفَكُ) ويصرف عن الحق (الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) من الأمم السابقة ، فكل جاحد للآيات الكونية ، لا بد وأن يصرف عن التوحيد إلى الشرك ، والذي يأفك هؤلاء نفوسهم الأمارة ، ورؤساؤهم الكافرون.

٦٢٢

اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤)

____________________________________

[٦٥](اللهُ) وحده ، هو (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) أي تستقرون عليها (وَ) جعل (السَّماءَ بِناءً) أي بناها بناء ، والمراد بالسماء الأفلاك والهواء ، التي قد أحكمت إحكاما دقيقا ، وإن لم يكن جسما ملموسا ، حتى إن هذا الإحكام لو أزيل ، لاختلت الحياة ، واضطربت الأرض والكون (وَصَوَّرَكُمْ) أي أعطاكم الله الصور أيها البشر (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) أي أجملها وزينها ، والمراد بالصورة هنا أعم من الشكل واللون والحجم ، فإن الصورة تطلق على ذلك ، كما تطلق على اللون فقط ، أو الشكل فقط ، أو الحجم والكيفية فقط (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) التي خلقها من ماء عذب ، وأثمار شهية وألبان وعسل وسائر المطاعم ، بل والمشارب والمساكن والمناكح والعلوم وغيرها ، فإن الجميع داخلة في الرزق ، والمراد بهاتين القضيتين ، كغالب القضايا الطبيعية ، فلا ينافي ذلك عدم حسن صورة بعض الأفراد ، أو عدم رزقهم الطيب طيلة عمرهم (ذلِكُمُ) «ذا» إشارة إليه سبحانه الذي فعل ما تقدم و «كم» خطاب للبشر (اللهُ رَبُّكُمْ) أيها البشر ، ولا شريك له في ذلك (فَتَبارَكَ اللهُ) أي جلّ سبحانه ، فإنه الدائم الذي ينمي الأشياء ، ويجعل فيها الخير والبركة ـ وقد تقدم معنى تبارك ـ (رَبُّ الْعالَمِينَ) عالم الإنسان والملائكة والحيوان والجن وغيرهم.

٦٢٣

هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦)

____________________________________

[٦٦] إن الذي أنعم عليكم بهذه النعم (هُوَ الْحَيُ) المطلق الذي لا موت له (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا شريك له ولا ظهير (فَادْعُوهُ) أيها البشر (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي دعوة بإخلاص في دينكم وطريقتكم (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فإن له الحمد وحده ، حيث أن كل شيء محمود منه ، لا يشركه فيها أحد ، واللام في الحمد للجنس ، أي أن جنس الحمد له ، أما من جعل اللام للاستغراق ، فقد ابتعد عن سياق الكلام.

[٦٧](قُلْ) يا رسول الله ، لهؤلاء الكفار (إِنِّي نُهِيتُ) نهاني الله سبحانه (أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام التي تدعونها آلهة وهي سوى الله سبحانه (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ) الأدلة الواضحات على التوحيد ، أي حين أتاني الحجج والبراهين (مِنْ رَبِّي) أي من قبله سبحانه ، وذلك الحين قبل خلق آدم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» (١) فلا تدل هذه الآية على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قبل نزول القرآن ، غير عارف ببعض المعارف (وَأُمِرْتُ) من قبله تعالى (أَنْ أُسْلِمَ) في جميع أعمالي وعقائدي (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) الذي يملك العوالم كلها ، وهو المدبر والمربي الوحيد لها ، والإسلام هو

__________________

(١) مفتاح الفلاح : ص ٤١.

٦٢٤

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي

____________________________________

الاستسلام والانقياد.

[٦٨](هُوَ) الله تعالى وحده (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أيها البشر (مِنْ تُرابٍ) فإن الإنسان تراب ، ثم يكون نباتا ، والنبات يأكله الحيوان ، فيكون لحما وقسما من اللحم وقسما من التراب يأكله معا الإنسان ، فيكون دما في جسمه (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) فإن الدم ينقلب منيا ، وهو النطفة (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) وهو المنى المتحول إلى علقة من الدم (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ) من بطون أمهاتكم (طِفْلاً) والمراد ، كل واحد منكم طفلا ، فلا تنافي بين الإتيان ، ب «كم» جمعا ، وب «طفلا» مفردا (ثُمَ) يبقيكم (لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) وهو حال استكمال القوة والشباب (ثُمَ) يبقيكم (لِتَكُونُوا شُيُوخاً) جمع شيخ ، وهو الكبير السن ، البالغ عمر الشيخوخة والضعف (وَمِنْكُمْ) أيها البشر (مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أن يبلغ سن الشباب أو الشيوخ ويموت بعضكم قبل ذلك ، (وَ) يفعل الله ذلك بكم (لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) أي المدة التي سميت في اللوح المحفوظ ، فإن الله سبحانه ، قدر لكل إنسان أجلا محدودا لا يتجاوزه (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي ولكي تتفكروا وتعقلوا أمر دينكم ، فإن خلق الإنسان ، وإبلاغه الأجل المسمّى إنما هو للتعقل والتفكر.

[٦٩] و (هُوَ) الله (الَّذِي يُحْيِي) الناس من التراب ، ثم يحييهم بعد موتهم

٦٢٥

وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١)

____________________________________

ليوم القيامة (وَيُمِيتُ) الإنسان بعد حياته (فَإِذا قَضى أَمْراً) أي أراد شيئا (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ) لفظا ، أو إرادة (فَيَكُونُ) ويوجد في الخارج ، وهذا لدفع استبعاد الحياة بعد الموت ، فإن الله الذي تمكن من خلق الإنسان ، يتمكن من إعادته بعد الموت.

[٧٠](أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو أيها الرائي (إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) أي المشركين الذين يريدون إبطال الآيات والحجج الدالة على وجود الله وصفاته ، ويوم القيامة (أَنَّى يُصْرَفُونَ) أي إلى أين من الضلال ، يصرفهم الشيطان وأنفسهم الكافرة.

[٧١](الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) بأن لم يؤمنوا بالقرآن ، ونسبوه إلى الكذب (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) من الشرائع والأحكام ، بأن لم يقبلوا ما جاء به الأنبياء من الأصول والأحكام (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) في القيامة ، عاقبة تكذيبهم بالكتاب ، وبالشريعة.

[٧٢](إِذِ) ظرف ل «يعلمون» أي يعلمون سوء أعمالهم حين تكون (الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) كما يغل المجرم في الدنيا ، والغل في العنق ، إما للإهانة والألم ، وإما للربط (وَالسَّلاسِلُ) في أعناقهم (يُسْحَبُونَ)

٦٢٦

فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً

____________________________________

أي يجرّون ، والأغلال جمع غل ، وهو طوق يدخل في العنق ، والسلاسل جمع سلسلة ، وهي حلق حديدية متشابكة يربط بها المجرم.

[٧٣](فِي الْحَمِيمِ) متعلق ب «يسحبون» أي يجرون في المحل الحار المنتهي حرارته غايتها (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) من سجّر التنور ، إذا أوقده ، ولعل المعنى يكونون وقودا في النار ، حتى تشعل النار بهم ، كما قال : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) (١).

[٧٤](ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ) تقول لهم الملائكة الموكلة بالنار ، على وجه الإهانة والإذلال (أَيْنَ) ذهبت (ما كُنْتُمْ) أي الأصنام التي كنتم (تُشْرِكُونَ) أي تجعلونها شريكة لله سبحانه؟

[٧٥](مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق ب «تشركون» فإنهم لما كانوا يعبدون الله ، ويعبدون الأصنام ، استثنى «الله» سبحانه (قالُوا) أي المشركون في الجواب (ضَلُّوا عَنَّا) أي ضاعوا عنا ، ولا نجدهم (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ) في الدنيا (شَيْئاً) ، وهذا إما يقولونه إنكارا ، لعلهم يتخلصون بهذا الإنكار ، من تبعة عبادة الأصنام ، كما في آية أخرى يقولون (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢) وإما أن مرادهم ، أن ما كنا ندعوا

__________________

(١) البقرة : ٢٥.

(٢) الأنعام : ٢٤.

٦٢٧

كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى

____________________________________

في الدنيا ، لم يكن شيئا يستحق العبادة ، وينفع أو يضر ، نحو «يا أشباه الرجال ولا رجال» فقد نفوا الذات مريدين نفي الصفة (كَذلِكَ) أي كما أبطل الله سبحانه عبادة هؤلاء للأصنام (يُضِلُّ اللهُ) سائر (الْكافِرِينَ) فلا يهديهم طريق الجنة ، ويبطل عبادتهم وأعمالهم ، أو المعنى يضلهم في الدنيا ، بأن يتركهم وشأنهم ، حين رآهم لم يقبلوا الهدى ، فلا يلطف بهم الألطاف الخفية ، حتى يعملوا ما ينتفعون به في الآخرة.

[٧٦](ذلِكُمْ) «ذا» إشارة إلى العذاب الذي يحيط بهم ، و «كم» خطاب بسبب ما (كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) بأن كنتم تبطرون وتتكبرون بالأعمال الإجرامية (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) من مرح ، وهو الفرح بالباطل بتوسع فهو أخص من الفرح ، وهكذا يكون المجرمون دائما ، إن فرحهم بالباطل ، وهم يوسعون في الفرح ، بخلاف المؤمنين الذين فرحهم بالحق ، وهم يفرحون بقدر ، حيث يعلمون أن وراءهم يوما مهولا ، كما قال الله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (١).

[٧٧](ادْخُلُوا) أيها الكفار (أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أي من أبوابها السبعة ، كل فوج ، حسب بابه وأعماله في حال كونكم (خالِدِينَ فِيها) إلى الأبد ، لا انقطاع لعذابها ، ولا خلاص لكم منها (فَبِئْسَ مَثْوَى) من «ثوى»

__________________

(١) القصص : ٧٧.

٦٢٨

الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧)

____________________________________

بمعنى اتخذ المحل ، أي المنزل (الْمُتَكَبِّرِينَ) الذين تكبروا عن قبول الحق ، والظاهر أن هذا الكلام تأكيد للكلام السابق ، وهو «يسحبون في الحميم ، ثم في النار يسجرون» لا إنّ ذلك ، كان قبل دخولهم جهنم ، وإن كان محتملا ، بأن يكون هناك أنهر من المياه الحارة ، والأودية النارية ، فيسحبون أولا ، في تلك المياه ، ويعذبون بتلك النار ، ثم يدخلون في النار.

[٧٨] ثم يرجع السياق إلى الرسول ليصبّره عما يلاقي من الأذى في سبيل البلاغ (فَاصْبِرْ) يا رسول الله (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) لك بالنصر والأجر ولأولئك بالعذاب والإذلال والانهزام (حَقٌ) لا خلف فيه (فَإِمَّا) أصله «إن» الشرطية ، و «ما» الزائدة (نُرِيَنَّكَ) يا رسول الله (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) فإن الله وعدهم عذاب الدنيا والآخرة ، والمراد بالبعض عذاب الدنيا (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) بأن نقبض روحك قبل تعذيبهم (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) في الآخرة ، لنعذبهم العذاب الشديد ، وليس من المهم عذابهم هنا ، حتى يحتم أن تراه ، وإنما المهم أنهم لا يفوتوننا ، ومعنى «إلينا» إلى حكمنا وعقابنا.

[٧٩] وقد كان الكفار يطلبون من الرسول ، أن يأتيهم بالخوارق ، كعصا موسى ، وإحياء عيسى ، فيأتي السياق ، لردّ هذا الطلب ، فقد أتى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن الذي هو أعظم الخوارق حجة ودليلا ، فمن كفر بعد ذلك ، فهو معاند ، أما الإتيان ، بسائر الآيات ، فذلك حسب إرادة الله ، إن شاء جاء بها وإن لم يشأ لم يأت ـ بعد أن تمت الحجة ـ أما

٦٢٩

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨)

____________________________________

الخوارق لإثبات وجود الله سبحانه ، فهي الآيات الكونية المثبوتة ، في كل جهة من جهات الكون (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ) أحوالهم ، كإبراهيم ، ونوح ، وموسى ، وعيسى ، ولوط ، ويونس ، وغيرهم (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) أحوالهم ، كسائر الأنبياء عليهم‌السلام ، بل الأكثر منهم ، لم تقص أحوالهم في القرآن ـ وليس المهم القصة ـ (وَ) إنما المهم أنه (ما كانَ لِرَسُولٍ) أي لم يكن حسب مقدوره (أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) أي بمعجزة خارقة (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بأن يأذن الله للرسول حتى يتمكن أن يؤتي بها (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) بهلاك القوم ، بعد أن أتاهم الرسول بالخارقة ، ولم يؤمنوا (قُضِيَ) عليهم بالهلاك والدمار (بِالْحَقِ) بسبب أنهم عاندوا فاستحقوا العقاب (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) خسروا دينهم ودنياهم ، وفي هذا تلميح ، بأنه إنما لا يؤذن للرسول بالخارقة ، لأنه إن جاءهم بالخارقة ولم يقبلوا استحقوا العقاب ، والله سبحانه لا يشاء عقاب هؤلاء بهذه العجالة.

[٨٠] ثم يأتي السياق ، ليذكر جملة من الآيات الكونية ، الدالة على وجوده تعالى وصفاته ، والتي هي أحسن من الخارقة الموقتة ، ألا ترى أنه لو صنع إنسان صنعا ، هل يحتاج بعد ذلك أن يأتي بدليل على وجوده ،

٦٣٠

اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١)

____________________________________

أو علمه ، بمجيء خارق؟ (اللهُ) وحده هو (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) أي خلقها لكم ، والمراد بالأنعام ، الإبل والبقر والغنم (لِتَرْكَبُوا مِنْها) أي بعضها وهي الإبل (وَمِنْها) أي من جميعها (تَأْكُلُونَ) لبنا ولحما.

[٨١](وَلَكُمْ) أيها الناس (فِيها مَنافِعُ) من جهة الصوف والشعر والوبر ، وحمل الأثقال ، وغير ذلك (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) بأن تركبوها لمقاصد بعيدة ، والوصول إليها حاجة في صدوركم ، وهذا أخص من الركوب ، الذي سبق في الآية المتقدمة ، فإن الركوب أعم من ذلك ، وأهمية هذا القسم من الركوب ، هي التي أوجبت تخصيصها بالذكر ، وقوله «لتبلغوا» عطف على «لتركبوا» (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) الأنعام للبر ، والفلك ، وهي «السفينة» للبحر ، وتكرار «عليها» تمهيد ل «على الفلك» فمن يا ترى جعل كل ذلك؟ وهل يحتاج الإنسان بعد ذلك إلى خارقة للبرهنة على وجود الله ، أو صفاته؟

[٨٢](وَيُرِيكُمْ) الله سائر (آياتِهِ) وأدلته الدالة على وجوده ، وسائر صفاته ، من الآيات الآفاقية والأنفسية ، إما بخلق جديد ، أو بإلفاتكم إلى المخلوق السابق (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ)؟ أيها البشر ، تنكرون وجودها ، أو دلالتها على الله المتصف بالعلم والقدرة ، وسائر الصفات؟

٦٣١

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣)

____________________________________

[٨٣] وبعد الاحتجاج على الكفار بصنوف الاستدلال لتهديدهم ، إن تمادوا في الغي والضلال ، وإنه يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة ، لما تمادوا في الكفر والطغيان (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي يسافروا هؤلاء الكافرين (فِي الْأَرْضِ) إلى الشام وإلى اليمن (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المكذبة ، والنظر إنما هو بالنظر إلى أراضيهم وطلالهم ، والسؤال عن أحوالهم ، من الساكنين هناك (كانُوا) أولئك الأمم (أَكْثَرَ مِنْهُمْ) عددا (وَأَشَدَّ قُوَّةً) بدنية وعلمية وغيرهما (وَ) أكثر (آثاراً فِي الْأَرْضِ) بالزراعة والعمارة والصناعة ، ونحوها (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) أي ما أفادهم في دفع العذاب عنهم (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ما كسبوه من البنيان والعمارة والأموال والقوى ، وغيرها.

[٨٤](فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالأدلة البينة الواضحة ، الدالة على وجود الله ، وسائر صفاته (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي فرح الكفار بعلمهم الوراثي التقليدي حول الأصول ، واستحقروا علم الرسل (وَ) استهزءوا بما أتت به الرسل ، ف (حاقَ) أي حل وأحاط (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب ، فقد كان الكفار يستهزءون بما يعدهم الرسل من العذاب ، وأخيرا وقعوا فيه.

٦٣٢

فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)

____________________________________

[٨٥](فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي عذابنا النازل بهم (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) لا شريك ، كما قال الرسل (وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي بالأصنام التي كنا نشركها بالله.

[٨٦](فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) وعذابنا ، كما قال سبحانه (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (١) (سُنَّتَ اللهِ) أي سنّ الله عدم قبول إيمان من نزل به العذاب سنّة (الَّتِي قَدْ خَلَتْ) وسبقت واستمرت (فِي عِبادِهِ) الكفار ، وذلك لأن العذاب لا ينزل إلا بعد أن يظهر عناد الكفار ، بحيث يعلم أنهم لا يؤمنون باختيارهم أبدا ، وهذا وإن كان معلوما لله سبحانه من الأزل إلا أن مظهره ذلك (وَخَسِرَ هُنالِكَ) عند نزول العذاب (الْكافِرُونَ) بأن ذهبت دنياهم وآخرتهم ، فلم يفوزوا بما أعدّ الله للصالحين من الثواب والجنان.

__________________

(١) النساء : ١٩.

٦٣٣

(٤١)

سورة فصلت

مكيّة / آياتها (٥٥)

سميت هذه السورة ، ب «فصلت» لاشتمالها على هذه الكلمة ، وسميت ب «حم السجدة» لابتدائها ، ب «حم» ووجود السجدة الواجبة فيها ، فأضيف «حم» إلى السجدة ، لتميزها عن غيرها من «الحواميم» وهي كسائر السور المكية ، تحوم حول العقيدة بأصولها الثلاث ، ولما ختم سبحانه سورة المؤمن «غافر» بذكر الذين يتكبرون عن آيات الله سبحانه ، والإيمان به ، ابتدأ في أوائل هذه السورة ، بذكرهم ، وما كانوا يقولون حول الإيمان.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الله المستجمع لجميع صفات الكمال ، ذي الرحمة الموكّدة التي وسعت كل شيء ، وذكر الله بصفة خاصة ، يستمطر من تلك الصفة على الذاكر ، فمن أكثر ذكر ، الغني ، يغني ، ومن أكثر ذكر ، العظيم ، يعظم ، ومن أكثر ذكر المؤمن يقوى إيمانه ، فالإكثار من ذكر «الرحمن الرحيم» يوجب اتصاف الذاكر بالرحم ، هذا بالإضافة إلى إيجابه أن يرحمه‌الله سبحانه.

٦٣٤

حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣)

____________________________________

[٢](حم) أي هذا حم ، أو «حاء» و «ميم» «تنزيل» وقد تقدم في فواتح السور بعض التي منها أنها رموز بين الله والرسول ، ومنها أنها للإشارة ، إلى أن القرآن المعجز من جنس هذه الحروف التي تتلفظون بها ليل نهار ، وقال بعض : أن الكفار تبانوا أن يصفقوا ويلفظوا عند قراءة الرسول ، استهزاء ومنعا للناس عن الاستماع ، فكان كلما وجد مثل هذا المجال ، افتتحت السورة بالمقطعات ، لأنهم كانوا ينصتون لها لما قد دهشهم ، فيلقى الوحي الموقظ.

[٣](تَنْزِيلٌ) أي أن القرآن تنزيل (مِنَ) الله (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ذي الرحمة المكررة ، فإنه يرحم العباد في الدنيا والآخرة ، ويرحمهم بالحياة ، وسائر اللوازم ، إلى غيرهما من الأقوال في وجه التكرار ـ وقد تقدم بعضها ـ.

[٤] هو (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي بيّنت آياته تبيانا تاما ، بحيث ، لم تجمل ولم تدمج ، بل أوضحت ، كما يقال ، فصلت الأمر لزيد ، حيث أوضحه له وذلك ، لأن التفصيل والتوضيح متلازمان غالبا ، وهذا لا ينافي إجمال بعض الآيات لحكمته ، لأن القضية طبيعية ، أي أن طبيعة القرآن ، تفصيل آياته وتوضيحه في حال كونه (قُرْآناً عَرَبِيًّا) بهذه اللغة التي يفهمها أهل الجزيرة والقرآن ، من قرأ ، بمعنى جمع بعضه إلى بعض ، وأنه يقرأ ، كما أنه يسمى كتابا لأنه يكتب (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي أنزل هذا القرآن ، لأهل العلم ، وإنما خصوا بذلك ـ مع أنه عام ـ لأنهم هم المستفيدون منه.

٦٣٥

بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥)

____________________________________

[٥] في حال كون هذا القرآن (بَشِيراً) للمؤمن والمحسن ، بالجنة والثواب (وَنَذِيراً) للكافر والعاصي ، بالنار والعقاب ، وذلك بما اشتمل عليه من آيات الوعد والوعيد (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر المخاطبين به ـ إلى حين نزول هذه السورة ـ والمراد بهم أهل مكة (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) القرآن ، استماع تفكر وتعقل وفائدة.

[٦](وَقالُوا) أي الكفار المعرضون (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أي في أغطية ، فإن «أكنة» جمع «كن» وهو الغطاء (مِمَّا تَدْعُونا) يا محمد (إِلَيْهِ) من التوحيد والمعاد ، وسائر الأصول والفروع ، فلا نفقه ما تقول ، كالشيء الذي عليه غطاء ، حيث لا ينفذ فيه البصر والسمع لحيلولة الغطاء بينه وبين الإبصار والاستماع ، وكانوا يقولون هذا القول استهزاء بالرسول والقرآن (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي حمل ثقيل ، فلا نسمع ما تلفظ منه ، من آي القرآن (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ) يا محمد (حِجابٌ) لا نراك ولا ترانا فقلبنا وسمعنا وبصرنا ، غير مستعدة لك ولكلماتك ، وكما كان قوم نوح يفعلون ذلك (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) (١) فقوم الرسول ، كانوا يقولونه قولا (فَاعْمَلْ) يا محمد على طبق وحيك (إِنَّنا عامِلُونَ) على طبق تقاليدنا ، وهذا يشبه الاستهزاء أو التهديد ، قريب من قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (٢).

__________________

(١) نوح : ٨.

(٢) الكافرون : ٧.

٦٣٦

قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧)

____________________________________

[٧](قُلْ) يا رسول الله في جواب هؤلاء الأشخاص ، إنني لست شخصا عجيبا ، حتى أستحق ، كل هذه الأقوال الفارغة بل أنا بشر يوحي الله إليّ لإرشادكم (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي من هذا الجنس ، فلا أدعي لنفسي مقاما فوق هذا ، منتهى الأمر ، أنه (يُوحى إِلَيَ) من قبل الله سبحانه (أَنَّما إِلهُكُمْ) أيها الكفار (إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له ، كما تزعمون (فَاسْتَقِيمُوا) في عقيدتكم وأعمالكم (إِلَيْهِ) استقامة منتهية إليه سبحانه دون انحراف إلى اليمين أو الشمال (وَاسْتَغْفِرُوهُ) أي اطلبوا غفرانه فيما سلف من معاصيكم (وَوَيْلٌ) أي الهلاك والنكال ، فإن «ويل» كلمة تطلق للأمر السيئ أيّا ما كان (لِلْمُشْرِكِينَ) الذين يشركون بالله سبحانه.

[٨] ثم بين سبحانه أظهر صفات المشركين بقوله (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي لا يعطونها ، والظاهر أن المراد بالزكاة مطلق الإنفاق ، لا الزكاة المفروضة ، لأنها لم تكن وجبت في مكة ، والسورة كما عرفت مكية ، وهذا لأجل أن المشرك لا يعتقد بالله واليوم الآخر ، حتى ينفق ، فالذم راجع إلى عدم الاعتقاد ، لا إلى عدم الإعطاء ، حتى يقال ، لو كانت الزكاة مندوبة ، لم يكن وجه للويل؟ (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) إنما كرر «هم» تأكيدا ، وبيانا للتلازم بين الكفر وبين عدم الإيمان بالآخرة.

٦٣٧

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ

____________________________________

[٩](إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وبما يجب الإيمان به (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الملازم لعدم عمل السيئات (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي جزاء على أعمالهم غير مقطوع ، فإن «ممنون» من «منّ» بمعنى «قطع» أو من «المنّ» بمعنى الأذى الذي يكدّر الإحسان ، أي غير مكدّر بالمن.

[١٠](قُلْ) يا رسول الله منكرا على الكفار (أَإِنَّكُمْ) أيّها الكافرون (لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) أي كيف تكفرون بهذا الإله العظيم ، الذي خلق أرضكم الوسيعة ـ هذه ـ في مدة يومين فقط؟ (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) أي أضدادا ، أو أمثالا ، من الأصنام ، تعبدونها معه ، (ذلِكَ) الذي خلق الأرض (رَبُّ الْعالَمِينَ) فليس دونه إله ولا شريك له.

[١١](وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) جمع راسية ، أي الجبال الثابتات ، من «رسى» بمعنى ثبت (مِنْ فَوْقِها) أي من فوق الأرض ، حتى أنتم تشاهدونها (وَبارَكَ فِيها) أي جعل في الأرض البركة والنمو ، فليس ما في الأرض جامدا لا ينمو ، إنما فيها الثمار والحيوان وغيرهما من أنواع الخيرات (وَقَدَّرَ فِيها) أي في الأرض (أَقْواتَها) جمع قوت ، وهو الرزق ، بأن قدّر لكل إنسان وحيوان رزقه ومأكله (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي في تتمة أربعة أيام ، فيومان للخلق ، ويومان للتقدير ، وهذا كما يقال :

٦٣٨

سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ

____________________________________

خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما يراد في خمسة ، حتى تمت السفرة في خمسة عشر (سَواءً) أي أربعة أيام مستوية ، كاملة من غير زيادة ونقصان (لِلسَّائِلِينَ) عن مدة خلق الأرض ، وتقدير الأقوات فيها ، وقد أوصل بعض انهزاميتهم الغربية على أن يتصرف في الآية ويطبقها على العلم الحديث ، فيقول بأن «يومين» يعني «ألفي مليون سنة» إلى آخر أمثال هذه الثرثرة الفارغة ، ومن غريب الأمر أن نرى أناسا يهتبلون كل كلمة غربية وإن قالها رجل في كتاب ، ويتركون ظواهر الكتاب والسنة ، ولم؟ لإرضاء الغرب والمتغربين ، كأنهم لم يسمعوا قوله (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (١) ورفع اليد عن الظاهر ، لا يكون إلا بدليل قاطع من عقل أو نقل ، وإلّا ، حصل التزلزل في جميع أصول الإسلام وفروعه ، ثم ما المانع في أن يكون الخلق في مقدار يومين من أيامنا ، كما هو الظاهر؟

[١٢](ثُمَّ اسْتَوى) الله سبحانه (إِلَى السَّماءِ) أي قصد نحو خلقها ، يقال : استوى إلى مكان كذا ، بمعنى توجّه إليه توجها ، لا يلفته شيء ، والإتيان ب «ثم» للتفاوت بين الخلقين ، لا للتراخي بين الزمانين (وَهِيَ دُخانٌ) أما المراد هو الدخان المتعارف ، بأن خلق سبحانه أولا دخانا ، ثم جعله سماء ، أو المراد الهواء المتخلخل بالماء ، الذي صعد من ضرب الماء بعضه ببعض ، وسمي دخانا لشباهته به ، فإن الدخان هواء متخلخل بالرماد ، وكلاهما يرى في النظر على نحو واحد ، وهل هناك

__________________

(١) البقرة : ١٢١.

٦٣٩

فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها

____________________________________

في المدارات ، ما أصله الدخان ، مما يشبه هوائنا المجاور للأرض ، أو المراد من خلق السماء خلق الكواكب من الدخان؟ أو غير ذلك؟ احتمالات (فَقالَ) الله سبحانه (لَها) أي للسماء ـ فإنها مؤنثة سماعية ـ (وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا) وأقبلا السير على وفق حكمتنا (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) وهذا كناية عن تطلب الحركة منهما ، كما يتطلب الإنسان من العاقل شيئا (قالَتا أَتَيْنا) وانقدنا للأوامر (طائِعِينَ) جمع طائع ، وهذا كناية عن خضوعها التكويني ، لما أجرى الله فيهما من السنة ، كما يقال : قلت لداري لا تهدمي ، فامتثلت ، يراد أنها لم يحن بعد وقت انهدامها ، ويحتمل بعيدا أن يكون هناك خطاب حقيقي ، وجواب حقيقي ، فإن ظاهر (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (١) إن للأشياء مرتبة من الإدراك والتجارب ، وإنما قال «طائعين» لأن الجمع قد يستعمل بمعنى الجنس ، أو باعتبار تغليب العقلاء الذين فيهما.

[١٣](فَقَضاهُنَ) أي صنع السماوات ، وأحكم خلقهن (سَبْعَ سَماواتٍ) مدارات للكواكب السيارة ـ كما قالوا ـ أو هناك طبقات تسمى كل طبقة سماء ، ولا حجة في قول علماء الفلك على النفي ، إذ الفضاء وسيع مدهش ، ولم يدرك الإنسان حسب اعترافهم إلّا شيئا ضئيلا في الفلك ، نسبة إلى ما لم يدرك كنسبة الذرة إلى الصحراء الوسيعة (فِي يَوْمَيْنِ) أي مقدارهما ـ كما هو الظاهر ـ (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) بأن دبّر

__________________

(١) الإسراء : ٤٥.

٦٤٠