تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)

____________________________________

القوم أي تلاحقوا وجاء بعضهم إثر بعض ، والمعنى تلاحق (عِلْمُهُمْ) وتتابع (فِي) باب (الْآخِرَةِ) فانتهى علو حدودها ، وقصر عن الوصول إليها يقال هذا ما أدركه علمي أي بلغه ولم يلج فيه فهو منتهى العلم (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي من الآخرة ، فكيف يعرفوا موعدها وخصوصياتها؟ (بَلْ هُمْ مِنْها) أي من الآخرة ومعرفتها (عَمُونَ) جمع عمى ، وهو أعمى القلب لتركه التدبر والنظر ، وهذه مراتب ثلاث متدرجة في الشدة ، فالأولى أن لا يعلمها إطلاقا ، والثانية أن يشك فيها ، والثالثة أن يكون أعمى عنها حتى لا يكون قابلا لتعلمها ، وحيث إن كل مرتبة أشد من سابقتها صحت الرتبة والإضراب ـ وهذا هو الذي نستظهره من الآية ، والله العالم ـ.

[٦٨](وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله واليوم الآخر (أَإِذا كُنَّا تُراباً) بأن متنا وتحولنا إلى التراب (وَآباؤُنا) كانوا ترابا (أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) من القبور للبعث والحساب؟ قالوا ذلك على وجه التعجب والإنكار ، لأنهم أنكروا أن يتحول التراب إنسانا كما كان.

[٦٩](لَقَدْ وُعِدْنا هذا) أي البعث (نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) فيما مضى على لسانك ولسان الأنبياء ، ولم يظهر أثر لذلك (إِنْ هذا) أي ما هذا الوعد والإخبار بالبعث (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إخباراتهم الخالية

١٢١

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ

____________________________________

عن الصحة ، جمع أسطورة ، وهي القصة الخيالية.

[٧٠](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المكذبين ، إن تماديتم في تكذيبكم وإنكاركم أصابكم مثل ما أصاب المكذبون السابقون و (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) حتى تصلوا إلى بلاد الأقوام الذين أهلكوا بتكذيبهم الأنبياء (فَانْظُرُوا) بأعينكم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا وعصوا ، فإنكم ستشاهدون آثارهم الدراسة وبلادهم الخربة ولا ترون من نسلهم أحدا.

[٧١](وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) يا رسول الله كيف أنهم يعصون حتى تكون النار مصيرهم (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ) نفسي (مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي يدبرون في أمرك ، لإبطال دينك وقتلك ، فإن مكرهم سيرد إلى نحورهم ، والحزن على المعاند مما لا ينبغي.

[٧٢](وَيَقُولُونَ) أي هؤلاء الكفار المنكرون للبعث (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي في أي زمان يكون العذاب أو بعث الأموات؟ (إِنْ كُنْتُمْ) أيها المؤمنون القائلون به (صادِقِينَ) بأنه يكون.

[٧٣](قُلْ) يا رسول الله (عَسى) أي لعل (أَنْ يَكُونَ) هذا الوعد بالبعث أو العذاب (رَدِفَ لَكُمْ) أي وراءكم رديفا لكم يلحقكم عن قريب ، من الرديف الذي هو الإنسان الراكب على دابة ردف الآخر وخلفه

١٢٢

بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ

____________________________________

(بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) من العذاب والبعث.

[٧٤](وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) ومن فضله أنه يؤخّر عذاب هؤلاء ، لعلهم يرجعون ويندمون فلا يلاقوا العذاب والمهانة (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي أكثر الناس (لا يَشْكُرُونَ) نعمه وفضله.

[٧٥](وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) أي ما تخفيه صدورهم من الكفر والمكر والرذيلة (وَما يُعْلِنُونَ) من أنواع الشرك والمعاصي ، ومع ذلك يتفضل عليهم ويمهلهم.

[٧٦] وليس علمه سبحانه خاصا بما يفعله هؤلاء من الأسرار والإعلان بل (وَما مِنْ غائِبَةٍ) أي خصلة ، أو عين غائبة عن الحواس (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي كتاب ظاهر لدينا ، فإنّا نعلم كل شيء غاب عن الحواس.

[٧٧] ثم عطف السياق ـ بعد الألوهية والمعاد ـ إلى ذكر القرآن فقال سبحانه (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) وتخصيصهم بالذكر هنا ، لأن هذه السورة تعرضت إلى ذكر جملة من قصصهم كقصة سليمان

١٢٣

أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ

____________________________________

وموسى وداود عليهم‌السلام ومعنى القصة نقل الخبر (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من القصص والأحكام ، فقد حرفت كتبهم ولذا اختلفوا في القصص ، والقرآن يبين الحق الواقع ، ولذا ورد في وصفه قوله (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ). (١)

[٧٨](وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَهُدىً) هداية ترشد الطريق الذي يوجب سعادة الإنسان في دنياه وعقباه (وَرَحْمَةٌ) أي سببا لتفضل الله على البشر ورحمته بهم (لِلْمُؤْمِنِينَ) وإنما خصتهم ، لأنهم هم المنتفعون به الفائزون بجزاء عمله على طبقه.

[٧٩](إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (يَقْضِي بَيْنَهُمْ) أي بين المختلفين من بني إسرائيل في قصص الأنبياء عليهم‌السلام وجهات المبدأ ومزايا المعاد (بِحُكْمِهِ) أي على طبق حكمه الواقعي ، لا على ما في كتبهم المحرفة ، والمراد القضاء بينهم يوم القيامة ليجزي كلّا حسب ما عمل ، كما يقول الحاكم : سأفصل بينكم ، يريد الفصل مع الجزاء (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على أمره فيفعل ما يشاء (الْعَلِيمُ) بما فعل كل أحد ، فيكون الجزاء طبق العمل بلا زيادة أو نقصان.

[٨٠] وإذ كان الله سبحانه عزيزا عليما (فَتَوَكَّلْ) يا رسول الله (عَلَى اللهِ) وفوض أمورك إليه ، فإنه غالب عالم (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ

__________________

(١) المائدة : ٤٩.

١٢٤

الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)

____________________________________

الْمُبِينِ) أي الواضح ، إنك على الحق ، وتحت سيطرة إله غالب فلا يتمكن أحد من السوء بك ، عالم فيجازيك بما لقيت من الأتعاب في سبيل التبليغ.

[٨١] أما هؤلاء الذين يعاندون ، فلا تغتم لهم ، ولا يلقون اليأس في نفسك ، فإنهم كالأموات وكالأصم (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) أي سماعا نافعا ، فإن الميت لا يتحرك ولا يتجه حسب ما وجهه الإنسان وهؤلاء المعاندون كالأموات في عدم تأثير الكلام فيهم و «موتى» جمع ميت (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَ) جمع «أصم» وهو الفاقد لحاسة السمع (الدُّعاءَ) أي الدعوة والكلام الذي تناديه به (إِذا وَلَّوْا) أي أعرضوا عنك (مُدْبِرِينَ) أي بحيث كان دبرهم نحو الإنسان ، وهذا للمبالغة في عدم السماع ، فإنه لا مطمع في إفهام الأصم المدبر ، وإن كان كل أصم لا يسمع الكلام وإنما لو كان وجهه مقابلا أمكن إفهامه وإلّا لم يمكن.

[٨٢](وَما أَنْتَ) يا رسول الله (بِهادِي الْعُمْيِ) أي لا يمكنك يا رسول الله أن تهدي الأعمى من هؤلاء والمراد المعاند الأعمى القلب ، شبّه بالأعمى بصرا الذي لا يهتدي إلى الطريق ، إذ درك المعارف يتوقف على بصر القلب ، كما أن درك الطريق يتوقف على بصر العين (عَنْ ضَلالَتِهِمْ) بأن تصرفهم عن ضلالتهم وانحرافهم إلى طريق الرشاد ، (إِنْ تُسْمِعُ) أي ما تسمع سماعا مفيدا (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي ليس معاندا إذا سمع الحق قلبه (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي يسلمون أنفسهم لله

١٢٥

وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢)

____________________________________

والدين وينقادون لأوامرك.

[٨٣] ومن علامات الساعة التي كان الكفار يكذبون بها إن الله سبحانه يظهر للناس «دابة» أي حيوانا مهولا يكلم الناس بلسان يفهمونه ولعل هذا من أهوال الساعة (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي وجب العذاب لهم ، وثبت وقت ما قلنا من أنهم يعذبون (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) ، وهل المراد بالإخراج أنها تخرج من الأرض كما يخرج النبات منها ، أو المراد به ظهورها؟ ولفظة «من الأرض» في مقابل من السماء ، وقد ورد في بعض الروايات ، إن المراد بدابة الأرض حيوان مدهش (١) ، كما ورد في روايات أخرى إن المراد بها الإمام المرتضى عليه‌السلام (٢) ـ والدابة تطلق على كل ما يدب على وجه الأرض ـ كما أن خروج الدابة في بعض الروايات من أشراط الساعة ، وفي بعضها من علائم ظهور المهدي عليه‌السلام (٣) ولا منافاة بين الأمرين ، في الموضعين ، لتعدد الدابة وكون كل واحدة مصداقا ، ولكون ظهور المهدي «عجل الله فرجه الشريف» أيضا من أشراط الساعة ، بل بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أيضا ، من علائم الساعة (تُكَلِّمُهُمْ) أي تتكلم تلك الدابة مع الناس ، ومن كلامها معهم (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) أي بأدلتنا الدالة على وجودنا وسائر شؤوننا ، وقد لاءمت هذه الآية جو السورة التي تعالج العقيدة ، كما لاءمت مع تكلم الحيوانات والجن مع البشر ، في قصة الهدهد ،

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٦ ص ٣٠٠.

(٢) تأويل الآيات : ص ٣٩٩.

(٣) راجع تأويل الآيات : ص ٤٠٠.

١٢٦

وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ

____________________________________

والنملة ، وعفريت الجن ، وهاهنا دابة تتكلم.

[٨٤](وَ) اذكر يا رسول الله لهؤلاء (يَوْمَ نَحْشُرُ) أي نجمع (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا) ، وإذ تقدم بعض علائم القيامة من خروج دابة الأرض ، جاء السياق ليتم مشهد القيامة ، وجاء ذكر المكذبين فقط لأنهم محل الكلام ومحور البحث في تكذيب المعاد ، فلننظر ماذا يكون مصيرهم؟ وقوله «ممن» بيان «فوجا» أي نجمع من كل أمة فوجا هم من الذين يكذبون بالآيات (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يحبسون ، حتى يجتمعوا جميعا من «وزع» بمعنى «حبس» فإن أول الفوج يحبسون لآخر الفوج ، حتى يجتمع الجميع.

[٨٥](حَتَّى إِذا جاؤُ) إلى موقف الحساب (قالَ) الله تعالى لهم (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَ) الحال أنكم (لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً)؟ أي كيف كذبتم وليس لكم علم بكذبها؟ وحيث إن المقام مقام أن يكذب الكفار قائلين لم نكذب بها ، يأتي السياق ليقول لهم ثانيا ـ سادّا عليهم طريق الإنكار ـ (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)؟ إن لم تكونوا كذبتم بالآيات فما ذا كان عملكم؟ لكنهم لا يقدرون أن يقولوا كنا نعمل صالحا ، وبهذا ينقطعوا عن الجواب ، ولا يتمكنون من الإنكار.

[٨٦](وَوَقَعَ الْقَوْلُ) أي ثبت القول الذي قلنا : إنهم يعذبون جزاء كفرهم (عَلَيْهِمْ) فالعذاب يأخذهم بعد ذلك الحوار

١٢٧

بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي

____________________________________

(بِما ظَلَمُوا) أي بسبب ظلمهم (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) في هذا الموقف ، وإن نطقوا في المواقف الأخر ، وفي جملة من الأحاديث تفسير «يوم نحشر» ـ إلى آخره ـ بزمان ظهور المهدي عليه‌السلام ، وذلك من باب المصداق ، فإن اللفظ عام مستعمل في الأمرين ، القيامة ، وظهور الإمام عليه‌السلام وإن لم نقل بالعموم والمصداق ، نقول إنه من باب البطن ، أو من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى وذلك جائز لدى وجود القرينة ، والقرينة هي الروايات المفسرة.

[٨٧](أَلَمْ يَرَوْا) هؤلاء المنكرون للمبدأ والمعاد ، آياتنا الدالة على وجودنا ، والتي تدل على إله عليم حكيم ، وتدل على القدرة الكاملة ، التي لا يمتنع لديها إحياء الأموات؟ (أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ) أي أوجدناه (لِيَسْكُنُوا فِيهِ) عن الحركة والتعب (وَ) جعلنا (النَّهارَ مُبْصِراً) أي موجبا لبصر الإنسان ، وهو من المجاز بنسبة ما للحال إلى الزمان ، نحو «يا سارق الليلة» ، كما أن جري النهر ، من نسبة ما للحال إلى المكان (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر (لَآياتٍ) دلالات (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنهم يستدلون منها على وجود الله العليم القدير ، والاختصاص بهم لأنهم هم الذي يستدلون ، أما غيرهم ، فإنهم معرضون غافلون.

[٨٨](وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) هو البوق الذي يشبه قرن الحيوان ينفخ فيه إسرافيل عليه‌السلام لإحياء الأموات (فَفَزِعَ مَنْ فِي

١٢٨

السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها

____________________________________

السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي خافوا جميعا من هول قيام الساعة (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) أن لا يفزع وهم بعض الأنبياء وبعض الملائكة (وَكُلٌ) من الأموات الذين أحيوا من النفخ (أَتَوْهُ) أي يأتون المحشر ، أو يأتون الله سبحانه ـ والمراد من إتيان الله الإتيان إلى الموضع المعد لهم ، نحو إني ذاهب إلى ربي ـ (داخِرِينَ) أي أذلاء صاغرين ، من دخر بمعنى ذل.

[٨٩](وَتَرَى الْجِبالَ) أيها الرائي ، في ذلك اليوم ، في حال كونك (تَحْسَبُها) وتظنها (جامِدَةً) في مكانها ، كالسابق ، واقفة غير متحركة ، والحال أنها (وَهِيَ تَمُرُّ) وتسير (مَرَّ السَّحابِ) أي مثل مرور السحاب سيرا حثيثا سريعا ، وقد صار الكل كالقطن المندوف ، إن قلع الجبال وتسييرها إنما هو (صُنْعَ اللهِ) منصوب على المصدر أي صنع الله ذلك صنعا (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) فأتقن أهوال المعاد بقلع الجبال وتسييرها ، كما أحيى الأموات وجعلهم هائمين يسيرون في فزع وخوف (إِنَّهُ خَبِيرٌ) أي عالم (بِما تَفْعَلُونَ) فيجازيكم عليها.

[٩٠](مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) المراد بها الجنس وهو الإيمان والعمل الصالح ، نحو (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) فإن المراد بهما الجنس أيضا (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي يضاعف ثوابها عشرة أضعاف أو أكثر

١٢٩

وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ

____________________________________

(وَهُمْ) أي الذين جاءوا بالحسنة (مِنْ فَزَعٍ) وخوف (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (آمِنُونَ) فلا يفزع المؤمن حيث يفزع الناس.

[٩١](وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) والمراد السيئة الكاملة التي لا حسنة معها ، وهي الكفر والمعاصي ، حتى صحّ أن يقال : إنه جاء بالسيئة (فَكُبَّتْ) الكب هو الإلقاء منكوسا (وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي ألقوا على وجوههم في النار ، ويقال لهم (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)؟ استفهام في معنى النفي ، أي ليس هذا إلا جزاء أعمالكم من الكفر والعصيان.

[٩٢] قل يا رسول الله لهؤلاء الكفار بعد تهديدهم بالعذاب (إِنَّما أُمِرْتُ) أنا بأمر الله سبحانه (أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) أي رب مكة ، لا الأصنام التي نحتّموها بأيديكم (الَّذِي حَرَّمَها) أي الله الذي حرم هذه البلدة بأن جعلها محترمة لا يحل فيها القتال ، أو الدخول بدون الإحرام ، أو الإتيان ببعض الأعمال كتنفير الصيد وقلع الشجر ونحوهما (وَلَهُ) أي لله (كُلُّ شَيْءٍ) بيده (وَأُمِرْتُ) من قبله سبحانه (أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وهذا لا يدل على عدم كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسلما فيما قبل ، إذ الأمر قد يكون للابتداء ، وقد يكون للاستدامة نحو : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

[٩٣](وَ) أمرت (أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) أقرأه على مسامعكم وأدعوكم لما فيه

١٣٠

فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)

____________________________________

(فَمَنِ اهْتَدى) إلى الحق وعمل بما فيه (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) فإن فائدة هدايته تعود إلى نفسه حيث تسعد في الدنيا والآخرة (وَمَنْ ضَلَ) عن القرآن وانحرف عن أحكامه وأوامره (فَقُلْ) له يا رسول الله إن ضلالك لا يعود إليّ ف (إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) الذين يخوّفون من عذاب الله ، وقد خوفتك ، فعدم عملك إنما يعود سيئه عليك.

[٩٤](وَقُلِ) يا رسول الله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الذي هداني وجعلني منذرا (سَيُرِيكُمْ) أيها الناس (آياتِهِ) بإلفاتكم إليها ، أو إيجادها لترونها (فَتَعْرِفُونَها) بأنها آيات الله والأدلة على وجوده وسائر شؤونه (وَما رَبُّكَ) يا رسول الله (بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أيها الناس ، وفي هذا التفات من المخاطب إلى غيره من سائر الناس لأن «كاف» تعود إلى الرسول و «تعملون» إلى الناس.

١٣١

(٢٨)

سورة القصص

مكيّة / آياتها (٨٩)

سميت السورة بهذا لاسم لاشتمالها على قصص موسى عليه‌السلام مع فرعون ، وشعيب عليه‌السلام وقارون وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة ولما ختمت سورة النمل بتلاوة الرسول للقرآن ، جاءت هذه السورة مفتتحة بتلاوة بعض قصص القرآن ، وهي قصة موسى وفرعون.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله الذي يستعان به في كل حاجة ، وهو الرحمن المتفضل بالرحم ، الرحيم الذي يرحم العباد ، بل كل شيء ، كما قال سبحانه (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (١) فإن الرحم هو التفضل ، وقد تفضل سبحانه على الأشياء حيث خلقها من غير استحقاق وإن كان فضله على الإنسان أكثر حيث إنه كلما زيدت النعم زيد الفضل.

__________________

(١) الأعراف : ١٥٧.

١٣٢

طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ

____________________________________

[٢](طسم) «طاء» و «سين» و «ميم».

[٣](تِلْكَ) أي من هذه الحروف الهجائية التي تركبون منها كلماتكم أيها العرب العاجزون عن الإتيان بمثل القرآن (آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي الظاهر الواضح الذي لا غموض فيه ، فإن الكتاب قد يكون سريا ، غير واضح ، وقد يكون غامضا غير ظاهر المعنى والمراد ، وقد يكون غير معلوم الانتساب ، وكل ذلك مفقود في القرآن الحكيم ، وفي مقطعات السور ، وإعرابها أقوال أخر تقدم بعضها.

[٤](نَتْلُوا) أي نقرأ (عَلَيْكَ) يا رسول الله (مِنْ نَبَإِ) أي خبر (مُوسى وَفِرْعَوْنَ) أي بعض أطراف خبرهما ، ولذا دخلت «من» (بِالْحَقِ) أي بالصدق ، فإن خبر الله سبحانه عنهما حق لا كذب فيه (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي أن ما نتلو عليك إنما هو لقوم مؤمنين أما غيرهم فلا يعتبرون بالقرآن ، ولا يصدقون ما فيه من القصص والأحكام.

[٥](إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا) أي ترفع وتكبر (فِي الْأَرْضِ) والمراد بها أرض مصر (وَجَعَلَ أَهْلَها) أهل أرض مصر (شِيَعاً) أي طوائف ، جمع شيعة ، وهي الطائفة التي تتبع مسلكا خاصا ، من شايعه إذا تابعه ، وهذا دأب الطغاة دائما ، إذ لو لم يجعلوا الناس طوائف متناحرة ، حتى يشتغل بعضهم ببعض ، خافوا من أن يتحدوا ضدهم في حال كونه (يَسْتَضْعِفُ

١٣٣

طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ

____________________________________

طائِفَةً مِنْهُمْ) والمراد بهم بني إسرائيل ، فقد كان بعضهم ضعيفا في مصر ، ولذا يؤذيهم ويسخرهم في الأعمال الشاقة ، ويفعل بهم ما ذكره سبحانه (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) إنما جيء من باب التفعيل للدلالة على التكثير ، فإن هذا الباب يدل على ذلك ، فإن فرعون كان يكثر القتل في أبناء إسرائيل ، حينما سمع بأن زوال ملكه على يد رجل منهم يولد في ملكه ، فقد وكّل بكل حامل إسرائيلية قابلة حتى إذا ولدت أخبرت الجلادين فيأتون ويقتلون الولد (وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي يبقيهن أحياء ، كأنه يطلب حياتهن لاستخدامهن في البيوت (إِنَّهُ) أي فرعون (كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) الذين يفسدون في الأرض بالكفر والمعاصي والظلم.

[٦] إن فرعون كان يريد إهلاك بني إسرائيل وإفنائهم (وَنُرِيدُ) نحن بعكس ذلك ، وجيء بفعل المضارع لأنه حكاية عن ذلك الوقت (أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) أي نمن على بني إسرائيل الذين استضعفهم فرعون (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) في الحق ، بأن يكونوا مقتدى الناس وملوكهم (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لفرعون بأن يرثوا الأرض ، ويكونوا خلفا لهم.

[٧](وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي نجعل بني إسرائيل قادرين على أن

١٣٤

وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ

____________________________________

يتصرفوا في أرضي كيفما شاءوا (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ) وزيره (وَجُنُودَهُما) من سائر الذين تعاونوا معهما على إيذاء بني إسرائيل (مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) أي من طرف بني إسرائيل وعلى أيديهم ، ما كانوا يخافون من الإفناء والإبادة ، وقد أصدق الله وعده فأهلك فرعون وهامان وجنودهما ، وجعل بني إسرائيل ملوك الدنيا وسادتها ، وبعث فيهم الأنبياء.

وقد ورد في جملة من الأحاديث تطبيق الآيتين الكريمتين على الشيعة والأئمة عليهم‌السلام ، وأعدائهم (١) ، وهذا مما لا مجال للشك فيه ، فإن آيات القرآن الحكيم دائما مدى الدهر ، تجري في اللاحقين كما جرت في السابقين ، كما دل على ذلك العقل ، وورد به روايات كثيرة.

[٨] ثم بين سبحانه كيف نصر بني إسرائيل وكيف أهلك فرعون وجنوده (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) والإيحاء هو الإلقاء في القلب ، ونحوه قوله سبحانه (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً) (٢) وقوله (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (٣) (أَنْ أَرْضِعِيهِ) أي أعطيه اللبن في الفترة التي لم تخافي على موسى (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) من القتل ، وفي بعض التفاسير ، المراد بذلك أن ذلك إذا أظهر الصوت (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) أي اطرحيه في البحر ، بجعله في

__________________

(١) مشكات الأنوار : ص ٩٥ فصل ٥.

(٢) المائدة : ٣٢.

(٣) النحل : ٦٩.

١٣٥

وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨)

____________________________________

صندوق وإلقائه فيه (وَلا تَخافِي) عليه الغرق والهلاك (وَلا تَحْزَنِي) لمفارقته (إِنَّا رَادُّوهُ) أي نرد موسى (إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ) أي نجعله فيما بعد (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) قال في المجمع : وفي هذه الآية أمران ونهيان وخبران وبشارتان ، وحكي إن بعضهم سمع بدرية تنشد أبياتا فقال لها ما أفصحك؟ فقالت الفصاحة لله تعالى وذكرت هذه الآية وما فيها (١).

[٩] فولدت أم موسى بموسى عليه‌السلام ، وجعلته في صندوق وألقته في البحر ، وقالت لأخت موسى اذهبي في أثره حتى ترين ماذا يصنع به ، وجاء الصندوق تحمله الأمواج حتى ألقته في شط يمر بدار فرعون ، (فَالْتَقَطَهُ) أي أخذه (آلُ فِرْعَوْنَ) أي حاشيته (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) هذه «اللام» تسمى لام العاقبة ، لأنها بمعنى «كي تكون العاقبة» وليست للعلة ، نحو قوله «للقتل ما ولدوا للنهب ما جمعوا» أي كانت عاقبة الالتقاط أن يكون موسى لهم عدوا ، وموجبا للحزن ، لما كان الكلام موهما تعدي موسى عليهم ، قال سبحانه (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما) الذين تصافقوا على إذلال بني إسرائيل (كانُوا خاطِئِينَ) قد أخطئوا حيث اختاروا الكفر والعصيان ، على الإطاعة والإيمان ، ولهذه الخطأ صار موسى عدوا لهم ، وأهلكهم الله سبحانه.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٧ ص ٤١٦.

١٣٦

وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ

____________________________________

[١٠] ولما جيء بموسى من الصندوق إلى فرعون وكان جالسا مع زوجته «آسية» أمر بفتح الصندوق ، وإذ ما رأيا فيه غلاما ألقى الله محبته في قلبهما ، كما قال سبحانه (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) (١) ثم أراد فرعون قتله لأنه علم أنه إسرائيلي ، ولكن «آسية» حالت دون ذلك (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) أيها الملك إنه (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) أي يوجب هذا الولد قرار عيوننا ، فإن الإنسان المسرور تقر عينه في مكانها ، فلا تطير هنا وهناك طالبة المفزع والملجأ ، بخلاف الإنسان الواله والخائف ، ولم يكن لهما ولد ولذا طمعت في أن يكون موسى كالولد لهما. (لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) أي لعله ينفعنا في المستقبل ، بأن نستخدمه (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي نجعله بمنزلة ولدنا (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) إن هلاكهم على يده ، وقد روي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله به كما هداها.

[١١] فلنرجع إلى أم موسى كيف صنعت بعد ما ألقت طفلها في البحر (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) أي خاليا من الاتزان كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه ، لما دهمتهما من المصيبة والغم بفقد ولدها ، كيف ألقت به في اليم؟ وكيف صنعت به هذا الصنع العجيب؟ وهل الولد في حضن الأم يخشى عليه ، أما في اليم فلا يخشى عليه؟ (إِنْ كادَتْ

__________________

(١) طه : ٤٠.

١٣٧

لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١)

____________________________________

لَتُبْدِي بِهِ) و «إن» مخففة ، واسمها محذوف ، أي أنها ـ والمراد أم موسى ـ كادت وقربت أن تظهر للمجتمع قصة ابنها ، كما هو شأن النساء ، إذا فجعن بفقد عزيز ينقلن الأمر للناس ، ليجدن من يساعدهن في الغم والمصيبة (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) بأن حفظناه حتى لا يظهر ما فيه من الهم والألم ، ولا تنتقل القصة إلى اللسان لتذيعه في الناس ، وقد شبه قلبها بشيء لا يستقر ، فإذا ربط عليه برباط ، استقر ولم يتحرك (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإن إخبارها كان خلاف تصديقها بوعد الله (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) فربطنا على قلبها ، لتكون من المصدقين بوعدنا ، فإن ربط القلب بالثبات والصبر كان سببا لإيمانها ، وإلا فلو اضطرب قلبها وأبدى ما فيه لم تكون مصدقة بالوعد.

[١٢](وَقالَتْ) الأم (لِأُخْتِهِ) أي أخت موسى ، وكانت صغيرة (قُصِّيهِ) أي اتبعي أثر موسى لنرى ماذا يصنع به البحر؟ من قص إذا اتبع الأثر ، ومنه سميت القصة قصة ، لأنها تتبع المقصوص عنهم ، وجاءت الأخت حتى دخلت دار فرعون ، وكان كبلاط الملوك في السابق يدخل فيها كل أحد (فَبَصُرَتْ) الأخت (بِهِ) أي بموسى (عَنْ جُنُبٍ) أي عن بعد ، فإنها لم تدن ، لئلا تعرف (وَهُمْ) أي فرعون وأهله (لا يَشْعُرُونَ) بأنها أخت موسى ، وجاءت لاستقاء الأخبار.

[١٣] ولما كان موسى طفلا ، لم يصبر عن الثدي ، وأخذ يطلب اللبن ، فأمر فرعون بأن تؤجر له مرضعة ، وجاءت النساء لتحوز هذا الفخر ولكن

١٣٨

وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)

____________________________________

موسى أبى أن يقبل ثدي امرأة إطلاقا (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) جمع مرضعة ، أي منعنا موسى عن الارتضاع من ثديهن ، فلم يكن يميل إليهن ، بل تأبى نفسه من الارتضاع منهن (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل أن يؤتى بهن ، وذلك بجعل نفسه أبيّة عنها.

(فَقالَتْ) الأخت وكانت تشاهد القصة (هَلْ أَدُلُّكُمْ) أرشدكم (عَلى أَهْلِ بَيْتٍ) عائلة (يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) يقبلون أن يرضعوا موسى ويقوموا بخدماته لأجلكم (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) أي تلك العائلة ناصحة لموسى لا تدّخر جهدا في القيام بخدماته؟

[١٤] وقد قبل فرعون ذلك وذهبت الأخت إلى الأم وحكت لها القصة وجاءت الأم إلى بيت فرعون ولما أرضعت موسى قبل موسى الثدي بكل إصرار وشوق وسر فرعون وأهله بقبول موسى (فَرَدَدْناهُ) أي أرجعنا موسى (إِلى أُمِّهِ) حسب ما وعدناها (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ)(كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) أي لأجل أن تسر وتفرح فتقر عينها عن الحركة والاضطراب ـ كما تقدم ـ (وَلا تَحْزَنَ) عليه في مقابل ما سبق منها حيث قال سبحانه (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً)(وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فقد وفي سبحانه بوعده حيث أرجع إليها ابنها (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي أكثر الناس (لا يَعْلَمُونَ) أن وعد الله حق ، ويظنون أن مواعيده تخلف ، وليس

١٣٩

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ

____________________________________

هكذا ، فإن الله سبحانه لا يخلف الميعاد.

[١٥] وكبر موسى عليه‌السلام في بيت فرعون يختلف إلى أمه فتفرح به (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) وقد ورد عن الصادق عليه‌السلام : إن المراد بلوغه ثمانية عشر سنة (١) (وَاسْتَوى) أي اعتدل قوامه (آتَيْناهُ) أي أعطيناه (حُكْماً) بأن يحكم الناس ، فإن منصب الحكم خاص بالله سبحانه لا يجوز لأحد أن يستقل به إلا بإذنه سبحانه (وَعِلْماً) أي علمناه علم الأشياء مما يليق بمقام النبوة (وَكَذلِكَ) أي وكما جازينا موسى لصلاحه بهذا المنصب الخطير كذلك (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في عقيدتهم وعملهم ، بإعطائهم أجورهم.

[١٦](وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) أي مدينة من مدائن مصر (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) أي في وقت غفلة الناس عن تتبع الأمور وقد ورد أنه كان بين المغرب والعشاء ، فإن في هذه الساعة حيث يسدل الظلام ستاره والناس من حال إلى حال يكونون غافلين ، غير ملتفتين إلى ما يقع (فَوَجَدَ) موسى عليه‌السلام (فِيها) أي في تلك المدينة (رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) أي يختصمان ، ولعل المراد القسم الخاص من الاختصام ، وهو ما يؤدي إلى القتل (هذا) أي أحدهما (مِنْ شِيعَتِهِ) شيعة موسى ، وقد كان إسرائيليا (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) أي من جملة أعدائه ـ والمراد بالعدو

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٢ ص ٢٨٤.

١٤٠