تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥)

____________________________________

يسنّ الطريقة الصالحة للناس ، ويستمر عليها فلا يغيرها ، ولا يبدلها.

[٦٤] وإذ بيّن سبحانه ، ما أعد للكافرين والمنافقين ، الذين يؤذون الله ورسوله والمؤمنين في الدنيا من اللعنة والطرد والقتل ، عطف السياق ، نحو ما أعدّ لهم في الآخرة ، مع ذكر ما يرتبط بذلك من وقت القيامة ، فإنها لما كانت بعيدة عن الأذهان ، كانوا يكثرون السؤال عنها ، فقال سبحانه (يَسْئَلُكَ) يا رسول الله (النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) أي القيامة؟ (قُلْ) يا رسول الله لهم (إِنَّما عِلْمُها) أي العلم بوقت وقوعها (عِنْدَ اللهِ) سبحانه ، فهو وحده يعلم وقتها (وَما يُدْرِيكَ) أيّ شيء يدريك ويعلمك يا رسول الله عن وقت قيامها ، وهذا كناية عن أنك لا تدري (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) فإن الشيء المجهول وقته يحتمل قربه وبعده ، وهذا تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو تهديد للكفار.

[٦٥](إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ) أي بعدهم عن الخير ، فإن اللعن بمعنى الطرد ، والتبعيد عن الخير (وَأَعَدَّ لَهُمْ) في الآخرة (سَعِيراً) نارا تسعر وتلتهب.

[٦٦] في حال كونهم (خالِدِينَ فِيها) أي في النار ، فلا يزولون عنها ، ولا تزول عنهم (أَبَداً) دائم الزمان (لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يلي أمورهم حتى يخلّصهم من النار (وَلا نَصِيراً) ينصرهم على الله سبحانه وعلى عذابه.

٣٦١

يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨)

____________________________________

[٦٧] ذلك الإعداد والخلود إنما هو ، في (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) التقليب ، تصريف الشيء في الجهات ، فإن أهل النار ينقلون وجوههم في الجهات الست ، تخلصا من الحرّ وتطلبا للنجاة ، كالذي يقع في مشكلة كيف يقلب وجهه هنا وهناك ليجد ملاذا ومعاذا (يَقُولُونَ) بتأسف وتمني (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ) فيما أمرنا (وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) في الدنيا حتى لا نبتلي بهذا العذاب المقيم.

[٦٨](وَقالُوا) أي الأتباع الذين اتبعوا رؤساءهم الكافرين ، يا (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا) في الكفر والعصيان (سادَتَنا) جمع سيد ، وهو كبير القوم (وَكُبَراءَنا) جمع كبير ، وكأن السيّد أجلّ قدرا من الكبير ، أو المراد بالكبير ، الأكبر سنا ، وبالسيد الأعلى رتبة (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) أي حرّفوا بنا عن الطريق.

[٦٩](رَبَّنا آتِهِمْ) أي اجعل لهم (ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) أي نصيبين نصيبا لضلالهم ، ونصيبا لإضلالهم إيانا ، وهم يريدون بذلك الانتقام منهم ، حيث أوقعوهم في هذه المشكلة العظيمة (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) أي اطردهم من رحمتك طردا كبيرا حتى يبتعدوا عن رضاك بعدا زائدا ، وهذا بالنسبة إلى العذاب الروحي ، والأول بالنسبة إلى العذاب الجسمي.

٣٦٢

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ

____________________________________

[٧٠] وحيث تقدم أذى بعض المسلمين للرسول كما قال سبحانه (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عطف السياق عليهم ناهيا ومؤدّبا في مثال وقصة عن الأمم السابقة ، ليكون أدخل في الذهن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا) في إيذائكم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) النبي عليه‌السلام (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) أي أظهر الله براءته عليه‌السلام ، مما قال فيه بنو إسرائيل على وجه الإيذاء له (وَكانَ) موسى (عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) أي ذا جاه وعظمة ، فلم يكن يتركه نهب أذى بني إسرائيل ، فقد ورد عن علي عليه‌السلام «أن موسى وهارون صعدا الجبل ، فمات هارون ، فقالت بنو إسرائيل أنت قتلته ، فأمر الله الملائكة فحملته ، حتى مروا به على بني إسرائيل ، وتكلمت الملائكة بموته ، حتى عرفوا أنه قد مات ، وبرأه الله من ذلك» (١).

[٧١](يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) خافوا عقابه ، وامتثلوا أوامره ونواهيه (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) أي تكلموا بالصواب ، لا بالإيذاء ، والإفساد.

[٧٢] فإنكم إن فعلتم ذلك (يُصْلِحْ لَكُمْ) الله (أَعْمالَكُمْ) باللطف عليكم حتى تستقيموا ، فإن الإنسان إذا واظب مدة على الطاعة ، وضبط النفس ، استقامت أعماله عن الانحراف والزيغ والفساد (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٣ ص ٩.

٣٦٣

وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢)

____________________________________

السابقة ، فإن الحسنات يذهبن السيئات (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يأمران به وينهيان عنه (فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) أي أفلح أعظم أقسام الفلاح ، فإنه يفوز بخير الدنيا وسعادة الآخرة.

[٧٣] إن الإيمان أمانة في عنق الإنسان ، يجب عليه أن يردّ هذه الأمانة سالمة ، بلا أن يشوبها ، بخيانة الكفر والعصيان ، ولقد كانت هذه الأمانة ثقيلة ، بحيث أن أضخم المخلوقات لا تتحمل أن تقبلها ، أما الإنسان الضعيف ، فقد قبلها ، لكنه يخون بها لظلمه وجهله (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) أمانة الإيمان (عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) ليقبلوها ، بأن توضع عندها أمانة الإيمان فيتحفظون عليها (فَأَبَيْنَ) هذه الأشياء وامتنعن (أَنْ يَحْمِلْنَها) أي يحملن الأمانة ويقبلنها (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) أي خفن إن قبلوا الأمانة أن يخونوا فيها (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) قبلها لما عرضت عليه لكنه هل يؤدي الأمانة كما قبل؟ كلا (إِنَّهُ) أي أن الإنسان (كانَ ظَلُوماً) كثير الظلم (جَهُولاً) كثير الجهل ، فتارة يخون فيها لجهله ، وأخرى يخون فيها لعصيانه ، وهذه الآية كناية عن صعوبة التحفظ على الإيمان ، فقد اعتاد البلغاء أن يشبهوا الأشياء المعنوية بالأمور الحسية ، للتقريب من الذهن ، قالت فاطمة عليها‌السلام.

صبت عليّ مصائب لو أنها

صبت على الأيام صرن لياليا (١)

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧٩ ص ١٠٦.

٣٦٤

لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ

____________________________________

وقال الشاعر :

ولو أن ما بي من شديد رزية

على جبل قد ساخ في الأرض ذاهبا

وقال :

لو كان في الجبل الأصم سروره

رقصت له أحجاره البرش

ويحتمل بعيدا أن يكون الكلام على الحقيقة ـ لا المجاز ـ بأن عرضت الأمانة على هذه الأشياء ، هل يقبلنها؟ فأبين ، قال في الصافي : المراد بالأمانة التكليف ، وبعرضها عليهن النظر إلى استعدادهن وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد ، وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا ، لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية ، وهو وصف للجنس باعتبار الأغلب (١) ، أقول : وعلى هذا المعنى ، فما ورد في الأحاديث من كونها ولاية علي عليه‌السلام ، أو نحوها ، فالمراد بيان بعض المصاديق.

[٧٤] وإنما عرض سبحانه على الإنسان ليقبلها ـ فإن حمل الإنسان لها ـ لم يكن إلا بعد العرض والقبول ، وليجري الامتحان ، ويصح الثواب والعقاب ، كما يقول مدير المدرسة : إنما جعلت الامتحان لأرفع الناجحين وأطرد الراسبين (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) وإنما قدمهم على المشركين ، لأن الكلام فيهم ، حيث كانوا يؤذون

__________________

(١) تفسير الصافي : ج ٤ ص ٢٠٦.

٣٦٥

وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)

____________________________________

الرسول ويرجفون (وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) الذين ضيعوا الأمانة بالكفر والعصيان (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) فإنهم حين كانوا كفارا ـ قبل الإسلام ـ كان الله معرضا عنهم ، فإذا قبلوا الإيمان ، وقاموا بشرائطه تاب الله ـ أي رجع سبحانه بلطفه ـ عليهم (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) للذنوب (رَحِيماً) يتفضل على المؤمنين بسابغ نعمه ، علاوة على غفرانه ذنوبهم.

٣٦٦

(٣٤)

سورة سبأ

مكيّة / آياتها (٥٥)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «سبأ» وقصة القوم الذين كانوا ساكنين فيها ، وهي بلدة في يمن ، وهي كسائر السور المكية ـ غالبا ـ مشتملة على أصول العقيدة ، وبعض القصص التي تقوي هذا الجانب ، ولما ختم الله سبحانه سورة الأحزاب بعاقبة الكافر والمؤمن ، بدأ هذه السورة ، بأن له تعالى ، ما في الكون ابتداء وإعادة.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الله سبحانه المتجمع لجميع الكمالات ، فإن الله علم للذات الواجب وجوده المتجمع لجميع الكمالات ، وهذا هو سر تخصيص اسم الله بالتقديم ، والاستعانة باسمه ، لا به ، تعظيما وتأدبا ، كأن الله سبحانه أجل من أن يستعان به ، بل اللازم أن يستعان باسمه ، وذكر صفة الرحمة لأنها أكثر الصفات احتياجا ، كما قال سبحانه «ولذلك ـ أي للرحم ـ خلقهم».

٣٦٧

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ

____________________________________

[٢](الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي أن جنس الحمد له سبحانه ، إذ جميع المحامد راجعة إليه (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) «له» بالخلق ، والملك والتربية ، وغيرها ، والمراد الظرف والمظروف ، وإنما يذكر أحدهما تغليبا واختصارا (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) كما له الحمد في الأولى ، والمعنى أنه يستحق الحمد هنا وهناك ، لما يولي عباده من الجميل في الدارين ، ولذا يقول أهل الجنة «الحمد لله الذي هدانا لهذا» و «الحمد لله الذي صدقنا وعده» (١) (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في جميع أفعاله ، والحكمة هي وضع الأشياء مواضعها اللائقة بها تكوينا وتشريعا ، فمن يصنع عبثا أو يأمر عبثا لم يكن حكيما (الْخَبِيرُ) العالم المطلع على الأشياء ، فكل ما يعمل إنما هو عن علم وحكمة.

[٣](يَعْلَمُ) سبحانه (ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) الولوج الدخول ، أي يعلم ما يدخل في الأرض ، من مطر ، أو كنز أو ميت ، أو حبة ، أو ماء ، أو مائع ، أو غيرها (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من زرع ، أو عين ، أو نبات ، أو جواهر ، أو حيوان ، أو غيرها (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من مطر أو رزق ، أو ملك أو شيطان ، أو جسم كالنيازك أو طير ، أو غيرها (وَما يَعْرُجُ) أي يصعد (فِيها) أي في السماء من ملك ، أو شيطان ، أو طير ، أو عمل ، أو نحوها ، فإن المراد بالسماء جهة العلو (وَهُوَ

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٨ ص ١٩٢.

٣٦٨

الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣)

____________________________________

الرَّحِيمُ) بعباده ، وسائر خلقه (الْغَفُورُ) يغفر ذنوبهم ويستر عيوبهم.

[٤] فالكون إذن كله بيده ، ورهن إشارته ، وبقدرته سبحانه ، جعل المعاد ، كما بقدرته خلق الخلق (وَ) مع ذلك يرى الناس من ابتداء الخلقة (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وأنكروا البعث (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، يعني لا قيامة أصلا حتى تأتينا (قُلْ) لهم يا رسول الله (بَلى) تأتيكم (وَرَبِّي) أي وحق الله الذي أوجدني وخلقني (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) القيامة بكل تأكيد ، وليس الحاكم هناك كالحكام هنا أناسا لا يعلمون ما صدر من المحكومين ، بل الحاكم هناك (عالِمِ الْغَيْبِ) يعلم كل ما غاب عن الحواس ، فكيف بالأشياء الظاهرة البارزة؟ (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) الغروب ، كالغروب لفظا ومعنى ، أي لا يفوته (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) أي ما كان في الثقل بقدر الذرة ، وهي الهباءة ، التي ترى إذا دخلت الشمس في مكان مظلم من كوّة صغيرة (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فإنه عالم بكل ذلك (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) من مثقال ذرة (وَلا أَكْبَرُ) منه (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي كتاب واضح لديه سبحانه ، وهذا كناية عن علمه بذلك كله مع تفنن في تعبير العلم ب ـ لا يغرب ـ مرة ، وب ـ في كتاب ـ أخرى ، والمراد بالكتاب إما اللوح ، أو علمه سبحانه تشبيها ، أو ما يكتبه الملائكة الحفظة.

٣٦٩

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ

____________________________________

[٥] وإنما تأتي الساعة ، وتقوم القيامة (لِيَجْزِيَ) الله (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بما يستحقونه من الإيمان بالله ، والعمل الصالح حسب أمره (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم ، و «مغفرة» مصدر ميمي بمعنى الغفران (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) والمراد بالرزق كل نعمة ينعم الإنسان بها من جنة ، ومأكل وغيرها ، والمراد بالكريم كونه خاليا عن الفساد ، والأذية ، أو أنه مع كرامة وتعظيم.

[٦] وليجزي الذين كفروا وعملوا السيئات بما يستحقونه من العذاب (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) أي عملوا بجهدهم في إبطال آياتنا وحججنا (مُعاجِزِينَ) في حال كونهم مريدين أن يعجزونا ، فلا نتمكن من إظهار الدين ونشره في الآفاق ، وإنما جيء من باب المفاعلة ، لأن كلّا من الطرفين ، يريد تعجيز الآخر عن تنفيذ مبدئه ومرامه (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) وهو العذاب السيئ (أَلِيمٌ) مؤلم موجع.

[٧] إن الكفار يرون أن القرآن باطل وأن الرسول ليس بحق ، ولذا يسعون لإحباط عمله وتعجيزه عن القيام بمهمته (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي أعطوا العلم بالله ، وبالحقائق ، والمراد العلماء الذين يدركون الأشياء (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ) مفعول «يرى» والمراد به «القرآن» (مِنْ رَبِّكَ) متعلق بالذي ، ومن تتمة المفعول الأول (هُوَ الْحَقَ) مفعول

٣٧٠

وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ

____________________________________

ثان ، ليرى أي أنهم يرون ويعلمون ، أن القرآن حق من جانب الله سبحانه ، وليس مختلفا ، كما يقول الكفار (وَ) يرون أنه (يَهْدِي) ويرشد (إِلى صِراطِ) الله (الْعَزِيزِ) الغالب سلطانه (الْحَمِيدِ) الذي هو محمود في جميع أفعاله ، فهو من قبل مالك السماوات والأرض ، وإنه للصلاح والرشاد ، إذ منزله الله الحميد الذي يستحق الحمد بكل ما يفعل ـ لحسنه وكونه صلاحا ـ.

[٨] لقد ألمع إلى التوحيد والرسالة والقرآن ، ثم جاء دور المعاد (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله وأنكروا المعاد ، قال بعضهم لبعض (هَلْ نَدُلُّكُمْ) ونرشدكم ونريكم (عَلى رَجُلٍ) يعنون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يُنَبِّئُكُمْ) ويخبركم أنه (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي متم وصرتم أجزاء ممزقة مقطعة بعضها عن بعض ، بجميع أنواع التمزيق (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يقول لكم إنكم تخلقون بهذه الصورة من جديد ، حتى تكونوا كما كنتم؟ وقد كان هذا استفهاما استهزائيا ، يريدون بذلك استبعاد الأمر.

[٩] ثم أخذوا يرددون بين أنفسهم ، وينسبون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه الأمور (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي هل أنه في كلامه هذا مفتري على الله ، فالله سبحانه لم يبعثه ، ولم يقل له ذلك ، وإنما هو ينسب إلى الله ذلك كذبا؟ (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون ، ويسمى زوال العقل جنونا لأن المرض يستر العقل؟ ومرادهم أنه لا يخلو أن يكون إما عاقل كاذب ، أو مجنون

٣٧١

بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ

____________________________________

لا يشعر ما يقول ، ثم رد الله سبحانه عليهم بأنه صادق عاقل ، فليس الأمر كما قالوا (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) المتعجبون من قول الرسول (فِي الْعَذابِ) هناك (وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) هنا ، فقد أثبت لهم أمرين ، كما أنهم أثبتوا للرسول أحد أمرين ، والمراد أن ضلالهم وانحرافهم عن الطريق بعيدا جدا ، لا كالعاصي الذي هو ضال ، ولكنه قريب إلى الطريق.

[١٠] إنهم كيف يستبعدون المعاد ، وهم يرون الخلق العظيم أمامهم من قدرة الله ، وهم يعلمون أنه سبحانه إن يشأ أن يعذبهم لتمكن من ذلك؟ فمن له قدرة على ذلك ، كيف لا يكون له اقتدار على إعادة الأجساد؟ (أَفَلَمْ يَرَوْا) هؤلاء الكفار ، والاستفهام إنكاري (إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي ما في قدامهم (وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) المحيطة بهم ، والإتيان بهذين الجانبين كناية عن الإحاطة ، فإن الإنسان مهما نظر أمامه ، أو خلفه رأى السماء الرفيعة ، والأرض المنبسطة (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) بأن تفور الأرض ، وهم عليها في الأعماق (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً) أي قطعا ، جمع كسفة بمعنى القطعة ، أي نسقط عليهم قطعات (مِنَ السَّماءِ) لتهلكهم ، فإن الأنجم أراضي كبيرة وسيعة ربما بلغت بعضها أكثر من مليون مرة

٣٧٢

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠)

____________________________________

كبرا من الأرض ، فإذا شاء سبحانه أسقط على البشر قطعا منها حتى تهلكهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي يرون من السماء والأرض ، وما يعلمون من قدرتنا على إهلاكهم بالخسف أو الإسقاط (لَآيَةً) دليلا واضحا على قدرة الله سبحانه على بعث الإنسان بعد موته (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) قد أناب ـ أي رجع ـ إلى الله سبحانه عن كفره وعصيانه ، فإنه هو الذي يستفيد بهذه الآية ، أما الكافر العاصي ، فلا يستفيد منها ، بل يزداد عنادا وعتوا.

[١١] وكيف ينكر هؤلاء قدرتنا ، وقد كان لبعض عبيدنا قدرة هائلة ، فداود كان يتصرف في الجبال والحديد ، وسليمان كان يتصرف في الهواء ويسخر الجن؟ ولعل الأمر كان معروفا لدى كفار مكة ، بواسطة إخبار أهل الكتاب لهم ، فكان من الممكن الاستدلال لعظيم القدرة ، بما يصدر من هؤلاء الأنبياء العظام (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (داوُدَ) النبي عليه‌السلام (مِنَّا) من طرفنا ، لا بكسب كسبه أو علم يعلمه (فَضْلاً) زيادة على سائر الناس من الإنعام والإكرام ، فقد قلنا للجبال (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) «آب» بمعنى رجع ، أي ارجّعي صوت التسبيح مع داود ، فكان إذا سبّح عليه‌السلام ، سبّحت الجبال معه (وَالطَّيْرَ) أي يا طير أرجع مع داود في التسبيح ، فقد كان داود عليه‌السلام ، إذا مرّ بالبراري يقرأ الزبور ، وتسبح الجبال والطير معه ، والوحوش ، وإنما قال «أوّبي» لأنها كانت كالطفل الذي يرجع الصوت بعد سماعه (وَأَلَنَّا) من ألانه (لَهُ الْحَدِيدَ) أي كان الحديد ليّنا في يده كالشمع ، فكان يعمل منه الدروع.

٣٧٣

أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ

____________________________________

[١٢] وقد قلنا لداود عليه‌السلام (أَنِ اعْمَلْ) بالحديد دروعا (سابِغاتٍ) جمع سابغة ، بمعنى التامة الوسيعة ، ومنه سبوغ النعمة بمعنى وسعتها (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي عدّل في نسج الدروع ، فإن السرد هو نسج الدرع مأخوذ من سرد في الكلام إذا تابع بعض جمله بعضا ، والمراد بالتقدير جعل حلق الدرع متناسبة بقدر وشبه ، فلا تكون بعضها وسيعة ، وبعضها ضيقة ، روي عن الصادق عليه‌السلام : «أن الله أوحى إلى داود ، نعم العبد أنت ، إلا أنك تأكل من بيت المال ، فبكى داود أربعين صباحا ، فألان الله له الحديد ، وكان يعمل كل يوم درعا ، فيبيعها بألف درهم ، فعمل ثلاثمائة وستين درعا ، فباعها بثلاثمائة وستين ألفا ، فاستغنى عن بيت المال» (١) (وَاعْمَلُوا) خطاب لداود وآله (صالِحاً) أي عملا صالحا ، والمراد به الجنس (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أرى أعمالكم فأجازيكم عليها.

[١٣](وَ) سخرنا (لِسُلَيْمانَ) بن داود عليه‌السلام (الرِّيحَ) فكان يجلس على بساط ، فتحمله الريح ، فإن الشيء إنما يسقط ، لأن الهواء والريح تنخرق من تحته ، أما كبت الهواء بعضه في بعض كالهواء المكبوس في الزق ، لم تنخرق حتى يسقط ما يعلوها (غُدُوُّها) أي حركة الريح في الغدوة ، وهو الصباح (شَهْرٌ) فإذا تحركت بسليمان صباحا ، سارت به مقدار ما يسير الإنسان في مدة شهر هلالي (وَرَواحُها شَهْرٌ) أي

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ج ٦ ص ٣٢٦.

٣٧٤

وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ

____________________________________

وكانت تسير بسليمان عصرا ، مقدار شهر من الزمان ، فكانت في كل يوم تسير مقدار شهرين (وَأَسَلْنا) من الإسالة بمعنى الإذابة ، حتى يكون للشيء سيلان كالمائعات (لَهُ) أي لسليمان عليه‌السلام (عَيْنَ الْقِطْرِ) أي أذبنا له عين النحاس ، والمراد بالعين معدنه حتى يتمكن من استعماله في الظروف والأواني ، وما أشبه من الأشياء النحاسية (وَ) سخرنا لسليمان عليه‌السلام (مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) كالعبد المطيع (بِإِذْنِ رَبِّهِ) فقد أمر الله سبحانه الجن ، أن تكون مسخرة بأمر سليمان تعمل في حوائجه (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ) من زاغ إذا انحرف وعصى ، أي من كان يعصي من الجن (عَنْ أَمْرِنا) الذي أمرناهم به من إطاعة سليمان ، فلم يكن يطيعه فيما يأمر (نُذِقْهُ) أي نذق ذلك الجن العاصي (مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أي عذاب الدنيا ، بأن كان سليمان يؤدبه ، وسمي سعيرا تشبيها ، أو من عذاب النار في الآخرة ، وسمي سعيرا ، لاستعار النار واشتعالها.

[١٤](يَعْمَلُونَ) أي الجن (لَهُ) أي لسليمان عليه‌السلام (ما يَشاءُ) صنعه وعمله (مِنْ مَحارِيبَ) جمع محراب ، ولعل المراد بها المساجد ، وإنما سمي محرابا ، لأنه محل المحاربة مع الشيطان والنفس (وَتَماثِيلَ) جمع تمثال ، وهو الشيء المصنوع ، من معدن ، أو طين ، أو حجر ، أو خشب ، شبه شيء آخر ، كتماثيل القصور والأشجار والأنهار وغيرها ، قال الصادق عليه‌السلام : «والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ، ولكنها

٣٧٥

وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣)

____________________________________

الشجر وشبهه» (١) (وَجِفانٍ) جمع جفنة ، وهي جفنة الطعام (كَالْجَوابِ) أصله «الجوابي» جمع «جابية» كالروابي جمع رابية ، والمراد بها الحياض الكبار ، وسمى الحوض جابية لأنها تجمع فيها الماء ، ومنه يسمى الذي يجمع الضرائب والأموال «جابي» وإنما كانوا يصنعون له مثل هذه الظروف الكبار ، حتى تصلح لطعام جيش سليمان عليه‌السلام ، وقد قال بعض : أنه كان يجتمع حول كل جفنة ألف رجل يأكلون منها (وَقُدُورٍ) جمع قدر ، وهو ما يطبخ فيه الطعام (راسِياتٍ) جمع راسية بمعنى الثابتة في الأرض ، فإن القدر الكبير ، الذي يراد دوام الطبخ فيه ، يبنى في الأرض ، حتى لا يزول ، ولا يتحرك ، وقلنا لسليمان ، وسائر أهل بيته (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ) أي يا آل داود (شُكْراً) فإن الشكر قد يكون بالقلب ، وهو أن يعترف الإنسان في قلبه ، بأن الإحسان من الله سبحانه ، وقد يكون باللسان ؛ كأن يقول «الشكر لله» وقد يكون بالعمل بأن يصلي ويصوم ، ويأتي ، بسائر الواجبات ، ويترك سائر المحرمات ، فإن الشكر هو المظهر للجميل الاختياري ، الذي يأتي به أحد تجاه الإنسان (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) «الشكور» صفة مشبهة ، بمعنى من تكرر منه الشكر ، أي أن العباد الشاكرين لله ، فيما أنعم عليهم قليلون ، وكأن الإتيان بهذه الجملة لتأكيد أن يشكروا ، فإن الإنسان إذا علم قلة من على شاكلته في أمر قوي عزمه للعمل أكثر ممن يعلم كثرة أعوانه وأمثاله.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٤ ص ٧٤.

٣٧٦

فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)

____________________________________

[١٥] وقد استمر سليمان في ذلك الجلال والملك ، حتى جاءه الموت (فَلَمَّا قَضَيْنا) أي حكمنا (عَلَيْهِ) أي على سليمان عليه‌السلام (الْمَوْتَ) كان قد اتكى على عصاه في قبة ، وهو ينظر إلى الجن كيف يصنعون له ، إذ حانت منه التفاتة ، فإذا هو برجل معه في القبة ، ففزع منه ، فقال له : من أنت؟ قال : أنا الذي لا أقبل الرشا ، ولا أهاب الملوك ، أنا ملك الموت ، فقبض روحه ، وهو متكئ على عصاه ، فمكثت الجن ، تدأب في العمل ، ولما كانوا رأوا من سليمان العجائب ، ظنوا أنه واقف ، ولكنه لا يتحرك لحكمة وعلة ، حتى بعث الله عزوجل الأرضة ، ف (ما دَلَّهُمْ) أي أرشدهم وأعلمهم (عَلى مَوْتِهِ) أي موت سليمان عليه‌السلام (إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) أي الأرضة ، فأخذت (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) وتنخر فيها ، فوقع سليمان على الأرض ، وقد كان آصف وصيه يدبّر أمر الملك في مدة موته واتكائه (فَلَمَّا خَرَّ) أي فلما سقط سليمان ، بعد ما وهت عصاه ، بفعل الأرضة فتكسرت ، لثقل جسم سليمان عليها (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) أي علمت الأجنة ، وإنما أوتى بالفعل مؤنثا ، باعتبار أن المراد ب «الجن» الجنس ، فهي بمعنى الجماعة (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) أي ما غاب عن الحواس ـ فقد كانت الجن تزعم ، أنها تعلم الغيب ، لما كانت تعلم بعض ما لا يعلمه الإنس من الأشياء البعيدة الخفية ـ (ما لَبِثُوا) وبقوا تلك المدة التي مات فيها سليمان متكئا على عصاه (فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) أي في شدة العمل وتعبه الذي يهينهم ويذلّهم فإن العمل كان عذابا عليهم ، وشدة لهم.

٣٧٧

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ

____________________________________

[١٦] وإذ تمت قصة داود وسليمان عليما السّلام أتى السياق ، لبيان قصة قوم سبأ ، وما وصلت إليه حالتهم لأجل كفرانهم للنعمة ، في مقابل ما سبق من قصة داود وسليمان ، وآلهما ، وما وصلت إليه حالتهم لأجل شكرهم للنعمة (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) أي لتلك القبيلة المسماة باسم سبأ ، التي كانت تسكن في جنوبي اليمن ، كان لهم في محل سكناهم آية دالة على لطف الله وفضله ، فقد ارتقى القوم ، في مراقي الحضارة ، حتى تمكنوا أن يصنعوا من بعض الجبال ، خزانا كبيرا من الماء ، بإقامة سدّ ، يسمى «سد مأرب» أمام الماء ، فكان يسقي أراضيهم ، حتى أن المار إليهم ، يرى في الطريق بساتين متصلة ، وقد فسر سبحانه «آية» بقوله (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) أي يمين الماء وشماله ، وقيل لهم (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) الأمر للإباحة ، أي أبحنا لكم هذا الرزق الطيب العميم (وَاشْكُرُوا لَهُ) أي لله سبحانه ، فبلدتكم (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) كثيرة الفواكه والأرزاق طيبة الماء والهواء (وَرَبٌّ غَفُورٌ) أي أن إلهكم إله يغفر الذنوب ، ويستر العيوب.

[١٧](فَأَعْرَضُوا) عن الدين ، وانحرفوا في طرق الضلال (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) واحدهما عرمة مأخوذة من عرامة الماء ، وهي ذهابه كل مذهب ، أي السيل العظيم الشديد ، وقد قال بعض المفسرين : «إن الماء كان يأتي أرض سبأ ، من أودية اليمن ، وكان هناك جبلان ، يجتمع ماء المطر والسيول بينهما ، فسدوا ما بين الجبلين ، فإذا احتاجوا إلى الماء

٣٧٨

وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧)

____________________________________

نقبوا السدّ ، بقدر الحاجة ، فكانوا يسقون زروعهم وبساتينهم ، فلما كذبوا رسلهم ، وتركوا أمر الله ، بعث الله جرذا نقب ذلك الردم ، وفاض الماء عليهم ، فأغرقهم» (١) (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ) أي عوضا عن الخصب الذي كان لهم المكنى عنه بالجنتين عن اليمين والشمال (جَنَّتَيْنِ) من شكل آخر ، وهذا من باب الازدواج في الكلام نحو ، (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٢) (ذَواتَيْ) تثنية ذات (أُكُلٍ خَمْطٍ) «أكل» اسم للثمرة مهما كانت ، و «خمط» كل شجر له شوك ، والمراد مرّ بشع ، وذلك شجرة أم غيلان ، التي تنبت في الصحاري القاحلة (وَأَثْلٍ) الطرفاء (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ) هو النبق (قَلِيلٍ) فقد كان الخمط والأثل ، أكثر منه ، وهذا دليل على عدم الماء والزرع والحضارة ، حتى بقيت الصحاري يباسا ، لا تنبت ، إلا نباتات الصحراء ، التي لا ينتفع بها إلا قليلا.

[١٨](ذلِكَ) السيل العرم والتبديل (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) أي بسبب كفرهم (وَهَلْ نُجازِي) بمثل هذا الجزاء السيئ (إِلَّا الْكَفُورَ) استفهام معناه النفي ، أي لا نجازي بمثل هذا الجزاء إلا لمن كفر النعمة ، ولم يشكر.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٨ ص ٢١٠.

(٢) البقرة : ١٩٥.

٣٧٩

وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا

____________________________________

[١٩](وَ) قد كان من قصة قوم سبأ ، قبل أن يكفروا النعم ، أن (جَعَلْنا بَيْنَهُمْ) أي بين بلادهم في اليمن (وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا) أي الشام التي باركنا (فِيها) مبعث الأنبياء عليهم‌السلام ، وطيب الهواء وكثرة الزراعة والفواكه (قُرىً ظاهِرَةً) أي متظاهرة متواصلة في عرض الطريق ، فقد كان متجرهم من أرض اليمن إلى الشام ، وكانوا يبيتون بقرية ، ويقيلون بأخرى ، حتى يرجعوا في أمن ودعة وسلام ، وكانوا لا يحتاجون إلى زاد من وادي سبأ إلى الشام ، وكانت القرية ترى من القرية التي قبلها لظهور بعضها على بعض وقرب أحدها من الأخرى (وَقَدَّرْنا فِيهَا) أي في تلك القرى (السَّيْرَ) أي جعلناه مقدرا ممكنا للأمن والسلامة ، وسهولة الطريق ، أو المعنى كان بين كل قرية وقرية بقدر مسير نصف يوم ، وقلنا لهم (سِيرُوا فِيها) أي في هذه الطريق أو في تلك القرى (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) فلا خوف ، ولا صعوبة سواء سرتم ليلا أو نهارا (آمِنِينَ) من كل خطر ونصب ، وجوع وعطش.

[٢٠] ولكنهم لم يشكروا هذه النعم العظيمة ، ولم يسمعوا كلام الله وأوامره ، بل بغوا وبطروا (فَقالُوا) يا (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) فقد مللنا من الأسفار القصيرة بين القرى المتقاربة التي لا يرى فيها الصحراء ، ولا نتمكن من ركوب الرواحل ، وتجهيز القوافل ، فإنا نريد الصحاري القاحلة «لنلتذ لذة السفر» ، وهذا كما بطرت اليهود النعمة فقالوا : (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها

٣٨٠