تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥)

____________________________________

مشرب ، وهو مصدر ميمي ، والمراد لبنها (أَفَلا يَشْكُرُونَ)؟ هذه النعم ، التي منحناها لهم ، بترك الكفر ، والدخول في زمرة المؤمنين والمطيعين.

[٧٥] إنهم بعد أن علموا بجزيل إحساننا ، وفضلنا عليهم ، اتبعوا طريق الكفر والعصيان (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) المراد الجنس ، فيشمل الواحد أيضا ، فإن الجنس والجمع يقومان مقام الآخر (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي لكي تنصرهم تلك الآلهة ، من بأس الله سبحانه ، كما قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (١) وقالوا (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (٢).

[٧٦] ولكنهم أخطئوا في انتظار النصرة من الآلهة (لا يَسْتَطِيعُونَ) أي تلك الآلهة ، والإتيان بضمير العاقل ، لتوحيد السياق في الحوار ، بين المؤمنين ، والكفار ، فإن الكفار كانوا يعبرون عن الأصنام ، بألفاظ العقلاء زعما منهم ، إنها تعقل وتدرك (نَصْرَهُمْ) أن تنصر هؤلاء الكفار (وَهُمْ) أي الكفار (لَهُمْ) أي لتلك الآلهة (جُنْدٌ) كالجند ، لأن الأتباع ، كالجند (مُحْضَرُونَ) جميعا في النار ، أو المراد إن هؤلاء هم جنود الآلهة المحامون عنها ، فكيف يمكن أن تكون الآلهة هي المحامية عنهم؟

__________________

(١) الزمر : ٤.

(٢) يونس : ١٩.

٤٦١

فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨)

____________________________________

[٧٧](فَلا يَحْزُنْكَ) يا رسول الله (قَوْلُهُمْ) قول هؤلاء الكفار فيك ، إنك شاعر ، أو ما أشبه ذلك (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) في ضمائرهم ، وبينهم في مجالسهم الخاصة (وَما يُعْلِنُونَ) في الملأ حولك ، وحول رسالتك ، من الوقيعة فيك ، ونسبتك إلى الجنون والكهانة والسحر ، وما أشبه.

[٧٨] وإذ ذكر السياق جملة حول الرسالة ، رجع إلى الكلام حول المعاد ، وقد كان من بلاغة القرآن الحكيم ، إنه لا يأتي بكلام واحد في تفصيل ، وإنما يقطع الكلام المختلف تقطيعا ، ويذكر بعض نوع في خلال نوع آخر ، حذرا من الإسهاب ، وملالة السامع (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) المنكر للمعاد (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) أي قطرة من المني؟ والمراد بالرؤية العلم (فَإِذا هُوَ) إنسان كبير (خَصِيمٌ) لنا ، أي يخاصمنا في أوامرنا وأخبارنا (مُبِينٌ) ظاهر الخصومة ، فإنه يخاصم في قدرتنا على البعث ، وقد رأى كيف قدرنا على أن نصنع إنسانا ، من قطرة مني؟

[٧٩](وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) أي ضرب مثلا لإنكاره المعاد بالعظم البالي (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي ترك النظر في خلق نفسه ، حيث إن تصيير المني إنسانا ، أصعب في نظر العامة ، من تصيير العظم البالي إنسانا (قالَ) وهذا هو مثله (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) أي بالية؟ والاستفهام

٤٦٢

قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً

____________________________________

إنكاري تعجبي ، أي لا يمكن أن تحيى العظام البالية ، فقد ذكروا إن أبي بن خلف ، أو العاص بن وائل ، جاء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعظم بال متفتت ، وقال : يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم ، ونزلت الآية (١).

[٨٠](قُلْ) يا رسول الله ، في جوابه (يُحْيِيهَا) أي العظام (الَّذِي أَنْشَأَها) وأبدعها وخلقها (أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي في ابتداء الأمر ، فمن كان قادرا على الإيجاد ، فهو قادر على الإعادة (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) فليس لأحد أن يقول : هناك فرق بين الإيجاد والإعادة ، فإن الإعادة بالإضافة إلى احتياجها إلى القدرة ، تحتاج إلى علم واسع ، لكي يعلم الشخص إن أجزاء الميت الفلاني أين تفرقت وتناثرت ، حتى يجمعها بأعيانها ، ليكون المعاد ، هو الأول ، لا غيره؟ فإن الجواب ، إن الله سبحانه ، كما هو قادر على كل شيء ، عالم بكل شيء.

[٨١] ثم بيّن سبحانه ، بعض آثار قدرته ، دليلا على قدرته على إحياء الأموات (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ) أيها البشر (مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ) أي الرطب ، غير اليابس ، وإنما يسمى الرطب بالأخضر ، لأن الماء إذا كان داخلا في الأعواد ، كان لون الشجر أخضر ، فإذا يبس ، مال لونه إلى السواد والغبرة (ناراً) ، ف «المرخ» و «العفار» شجرتان ، إذا اصطكت بعض أحدهما ببعض الآخر ، خرج النار من بينهما ، فمن قدر على إخراج النار من الشجر الرطب المضاد للحرارة ، قادر على إيجاد الحياة

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧ ص ٢٠.

٤٦٣

فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ

____________________________________

في العظم البالي (فَإِذا أَنْتُمْ) أيها البشر (مِنْهُ) أي من ذلك الشجر المخرج للنار (تُوقِدُونَ) أي تشعلون الحطب ، فمن يا ترى جعل النار في الشجر الريان بالماء؟ ومن يا ترى جعل الشجر ، بحيث يختزن من شعاع الشمس ، مقدار يخرج ويتقد بمجرد الحك والدلك؟ إنه هو الله القادر على كل شيء.

[٨٢] ثم (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) هذين المخلوقين العظيمين (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) بأن يصبّ أجزاءهم البالية في القالب ، حتى يخرج إنسان مثل الإنسان الأول؟ (بَلى) قادر على ذلك (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) إذ هذه العملية ، تحتاج إلى قدرة وعلم ، وكلاهما متوفران لديه سبحانه.

[٨٣](إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ) وبمجرد هذه اللفظة ، أو معناها ـ وهي الإرادة ـ يبدع ذلك الشيء ، المراد (فَيَكُونُ) أمرا موجودا في الخارج ، فلا يحتاج سبحانه ، إلى آلات وأسباب وزمان ، حتى يوجد شيئا ، وقد ذكرنا سابقا إن «كن» إما حقيقة بأن يخلق سبحانه صوتا ، أو إشارة إلى إرادته تعالى حدوث ذلك الشيء.

[٨٤](فَسُبْحانَ) منصوب بفعل مقدر ، أي أسبح سبحان (الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) والمعنى أنزهه تعالى عن عدم القدرة ، أو عدم

٤٦٤

وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)

____________________________________

العلم ، والمعنى إن تمت قدرته ملك كل شيء ، فهو قادر على الإيجاد والإعادة ، فإن «ملكوت» هو الملك ، وزيد فيه التاء للعظمة ، نحو «جبروت» وملكوت كل شيء ما يقوم به ذلك الشيء ، ولفظة «بيده» للكناية ، فإن اليد هي الآخذة بالمملوكات ، فهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، وإلا فليس لله سبحانه يد كأيدينا ، فإنه سبحانه منزه عن الجسمية ، وعوارضها (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي تردون إلى جزائه وحسابه ، حيث لا يملك أحد شيئا ، إلا هو وحده فيجازيكم حسب أعمالكم الكافر والعاصي بالعقاب ، والمؤمن والمطيع بالثواب.

٤٦٥

(٣٧)

سورة الصافات

مكيّة / آياتها (١٨٣)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على هذه اللفظة في قوله «والصافات» وهي كغالب السور المكية ، تعالج قضايا العقيدة ، بأصولها الثلاث ، التوحيد والرسالة والمعاد ، في أسلوب قصصي رائع ، ولما ختمت سورة «يس» بشؤون الإله سبحانه ، ابتدأت هذه السورة بتلك ، مع فصل آيات سيقت للحلف على ذلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله الواحد ، الذي له كل شيء جميل ، وهو منزه عن كل شيء قبيح ، فإن لفظ «الله» بما هو علم للذات المستجمع لجميع الكمالات ، يوحي إلى هذا المعنى ، والرحمن الرحيم ، وصفان مشتقان من الرحمة ، يوحي مبدأ اشتقاقهما بالفضل والرحم ، وتكرارهما ، بقوة هذه الصفة في ذاته سبحانه ، والرحمن صفة الفعل ، وليس صفة الذات ، فالمعنى أنه سبحانه يفعل ما يفعله الرحيم ، لا إن له حالة نفسية ، توجب ذلك ولذا قالوا في مثل هذه الصفات «خذ الغايات واترك المبادي».

٤٦٦

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥)

____________________________________

[٢](وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) «الصافات» جمع صافة ، وهي الملائكة التي تصف أقدامها للصلاة والإطاعة ، أو أجنحتها حال الصعود والهبوط و «صفا» تأكيد له ، أي قسما بالملائكة الصافات ، الذين يصطفون صفا ، وإنما جيء بالجمع المؤنث ، باعتبار الجماعة.

[٣](فَالزَّاجِراتِ) أي ثم قسما بالملائكة التي تزجر الكفار حين قبض أرواحهم ، أو تزجر من أمر الله ، بزجره (زَجْراً) مصدر تأكيدي لفعل محذوف.

[٤](فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) أي ثم قسما بالملائكة التي تتلو القرآن ، أو سائر الكتب المنزلة ، وحيث إن معنى التاليات يلازم الذكر جيء تأكيده بلفظ «ذكرا».

[٥] قسما بهؤلاء الطوائف من الملائكة (إِنَّ إِلهَكُمْ) أيها الناس (لَواحِدٌ) لا شريك له ، وقد نرى في القرآن الحكيم القسم من الله سبحانه ، بأصناف وأنواع مختلفة من الخلق ، دلالة لعظمتها في أنفسها ، وإن لا يصح لنا أن نحلف إلا باسمه الكريم ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كان حالفا ، فليحلف بالله ، أو ليسكت (١).

[٦](رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالقهما ومربيهما (وَما بَيْنَهُما) من الهواء ، والإنسان والملائكة ، وغيرها (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) جمع مشرق ،

__________________

(١) متشابه القرآن : ج ٢ ص ١٩٨.

٤٦٧

إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ

____________________________________

وهو موضع طلوع الشمس ، فإن الشمس في كل يوم تطلع من موضع جديد ، فلمن هذا الموضع في كل يوم؟ إنه لله سبحانه.

[٧](إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي السماء القريبة إلى الأرض ، مؤنث «أدنى» وإنما خصها بالذكر لاختصاصها بالمشاهدة ، ولعل المراد بالسماء الدنيا مدار الأرض ـ كما يقوله العلم الحديث ـ (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) فإن الكواكب تزين الأرض ، والإضافة للنوع ، أي بهذا النوع من الزينة ، فإن السماء بجمالها تمتّع الإنسان ، مع ما فيها من الفوائد الأخر.

[٨](وَ) حفظناها (حِفْظاً) فإن السماء محفوظة (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) متجرد خبيث خال من الخير ، فقد يظهر من الأحاديث ، أن في أعالي الجو ، يقدر أمور الأرض ، وكأنها مراكز للملائكة المدبرة للأمور ـ بإذن الله سبحانه ـ فالشياطين تريد الصعود إلى تلك المراكز ، لاستراق بعض الكلمات ، لتعلم ماذا يحدث في الأرض ، لكن السماء محفوظة عن وصول الشياطين و «مارد» مشتق من «مرد» وهو المنجرد ، ومنه يسمى بالأجرد ، من لا شعر له ، فكان الشيطان مجرد عن الخير لا يتأتى منه عمل حسن.

[٩](لا يَسَّمَّعُونَ) من أسمع أصله من باب الافتعال «استمع» ثم قلبت التاء سينا ، على القاعدة ، أي إنما حفظنا السماء من كل شيطان لكي لا يستمعون (إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) وهم أشرف الملائكة الذين وكّل إليهم بعض أمور الأرض ولهم مراكز في تلك الطبقات الرفيعة في الفضاء (وَيُقْذَفُونَ) أي يقذف الشيطان الذي تجرأ وذهب إلى هناك

٤٦٨

مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ

____________________________________

للاستماع (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من جوانب السماء بالشهب ، كاللص الذي يرميه الإنسان ، إذ رآه يريد سرقته ، فقد جعل الله سبحانه الكواكب محلات للإرصاد ، فهناك ملائكة ينظرون إلى الملأ الأعلى ، فمهما اقترب منه شيطان رموه بالشهب ـ وهي النيازك ـ ينحونه عن الاقتراب ، وهذا لا ينافي في تعليل النيازك ، بعلل ظاهرة ، فإنه سبحانه جعل للأشياء عللا ظاهرة ، وعللا خفية ، كالميت الذي إنما يموت بالسم ظاهرا ، وبقبض ملك الموت لروحه باطنا ، وكالكسوف الذي هو لكثرة المعاصي باطنا ، ولحيلولة القمر بين الأرض والشمس ظاهرا.

[١٠](دُحُوراً) أي دفعا لهم بالعنف ، وطردا ، يقال دحره ، إذا طرده بالعنف (وَلَهُمْ) أي لأولئك الشياطين (عَذابٌ واصِبٌ) أي عذاب دائم ثابت إلى يوم القيامة.

[١١](إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) الخطف هو سلب الشيء خلسة بسرعة ، والمعنى إن الشياطين لا يسمعون إلى الملائكة ، إلا من اقترب خفية ، فاختلس بعض الكلمات ، التي تدار بين الملائكة ، بأن لقفها بسرعة (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) أي لحقته وأصابته جمرة من نار مضيئة تثقب وتحرق الشيطان من حرارتها وحدتها ، وهذه هي النيازك التي نراها في الليالي ، وذلك لا ينافي ما يعلله علم الفلك لها من أنها قذائف جوية.

[١٢] وبعد تذكير هؤلاء بما خلقنا من السماوات والكواكب ، وغيرها من المخلوقات العظيمة (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي اسألهم يا رسول الله (أَهُمْ أَشَدُّ

٤٦٩

خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا

____________________________________

خَلْقاً) أي أحكم صنعا ، وأصعب في نظرهم (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) من الملائكة والسماوات والأجرام؟ فكيف أن هؤلاء مع ضحالتهم يتكبرون عن الانقياد ، بينما إن ما هو أشد منهم خلقا خاضعون منقادون؟ (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي طين يلصق باليد ، وهو الطين الصافي ، وهذا بالنسبة إلى كل أحد أحد ، فإن أصل كل فرد هو الطين ـ كما تقدم ـ فكيف أنهم مع وهن أصلهم يستكبرون؟

[١٣](بَلْ عَجِبْتَ) يا رسول الله من كفر هؤلاء ، وشدة إنكارهم ، مع وضوح الأمر (وَيَسْخَرُونَ) بينما أنت ـ مع عظمك ـ تعجب ، كيف غفلوا وتمردوا؟ وهؤلاء يسخرون بك ، وبما تقول من الحقائق الواضحة الظاهرة للعيان.

[١٤](وَإِذا ذُكِّرُوا) بآيات الله ، أي ذكرتهم بالله والمعاد ، مما هو كامن في فطرة كل أحد (لا يَذْكُرُونَ) أي لا ينتفعون بالتذكير ، فقد أقيم عدم السبب مقام عدم المسبب ، إذ التذكير علة الانتفاع ، فهم حيث لم ينتفعوا كأنهم لم يذكروا.

[١٥](وَإِذا رَأَوْا آيَةً) دالة على وجود الله ، وسائر صفاته ، أو على رسالتك ، وصدق ما تقول (يَسْتَسْخِرُونَ) أي يستهزئون بتلك الآية قائلين : إنها سحر ، والآتي بها ساحر ، وجعلوا يضحكون منك ومنها.

[١٦](وَقالُوا) لتلك الآية (إِنْ هذا) أي ما هذا الذي عمله الرسول من

٤٧٠

إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠)

____________________________________

الإعجاز (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) واضح ظاهر.

[١٧] ثم أخذوا يظهرون التعجب من قولك بأنهم يبعثون يوم القيامة قائلين (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً) بأن صارت لحومنا ترابا ، وبقيت عظامنا (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي محيون بعد الموت؟

[١٨](أَوَ) يبعث (آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) الذين ماتوا ، وصاروا ترابا ، والهمزة للاستفهام ، والواو عاطفة.

[١٩](قُلْ) يا رسول الله ، في جواب استفهامهم الإنكاري (نَعَمْ) أنتم وآباؤكم تبعثون (وَ) الحال (أَنْتُمْ داخِرُونَ) أي صاغرون أذلاء ، من دخر ، بمعنى صغر وذل.

[٢٠] وليس بعثكم أمرا مشكلا (فَإِنَّما هِيَ) أي بعثتكم بعد الممات (زَجْرَةٌ) أي صيحة (واحِدَةٌ) ، هي نفخة إسرافيل في الصور ، وإنما سمي النفخ زجرا لأنهم قد زجروا عن الحالة التي هم عليها إلى الحشر (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) إلى القيامة التي كذبوا بها.

[٢١](وَقالُوا) حين يرون القيامة (يا) قوم (وَيْلَنا) أو يا ويلنا احضر ، فهذا وقتك ، وويل كلمة يقولها الإنسان عند توجه مصيبة إليه ، كأنه يتمنى الهلاك فرارا عن تلك المصيبة (هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي يوم

٤٧١

هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤)

____________________________________

الحساب الذي كذّبنا به.

[٢٢] فيردّ عليهم من قبل الله سبحانه ، أو الملائكة ، أو المؤمنين ، ب (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) الذي يفصل فيه بين المؤمن والكافر ، والمبطل والمحق (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) فتقولون ـ وأنتم في الدنيا ـ لا حساب ولا جزاء.

[٢٣] ثم يقال من قبل الله تعالى (احْشُرُوا) أي اجمعوا من ساحة المحشر (الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) أي نساءهم الظالمات ، أو المراد أشكالهم ، فإن الزوج بمعنى الشكل ، وكأنّ «الذين ظلموا» مراد به كبراء الظالمين ، ويراد ب «أزواجهم» أشباههم من صغار الظالمين (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) أي الأصنام التي كانوا يعبدونها.

[٢٤](مِنْ دُونِ اللهِ) أي سوى الله سبحانه ، وإنما الاستثناء باعتبار أن المشركين ، كانوا يعبدون الله والأصنام ، فالاستثناء لتخصيص الأمر حتى في الصورة واللفظ ـ بالأصنام (فَاهْدُوهُمْ) أي أرشدوهم وأروهم ـ بعد جمعهم جميعا ـ (إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أي الطريق التي تنتهي إلى النار ، وإنما جيء بلفظ الهداية لشباهة إراءتهم لطريق النار بإراءة المؤمنين طريق الجنة.

[٢٥](وَقِفُوهُمْ) من «وقف» أي أوقفوا هؤلاء الكفار ، قبل إلقائهم في النار (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) أي يلزم أن يسأل عنهم ، عما فعلوا لزيادة التقريع ،

٤٧٢

ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨)

____________________________________

ثم يلقون في النار ، وقد ورد في بعض الأحاديث سؤالهم عن ولاية الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) ، وذلك من باب بعض المصاديق لما يسأل عنه هناك.

[٢٦] ثم يقال لهم تقريعا وتبكيتا (ما لَكُمْ) أيها الكفار (لا تَناصَرُونَ) أي لا ينصر بعضكم بعضا ، لإنجائكم من أهوال القيامة؟ أصله «تتناصر» حذفت إحدى تائيه للقاعدة.

[٢٧](بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) منقادون ، لما يفعل بهم ، حيث لا يتمكنون من المعارضة ، وليس هناك كالدنيا ، التي كان بعضهم ينصر بعضا ـ فيها ـ ضد الحق ، ولإخماد نوره.

[٢٨](وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ) أي بعض أولئك الكفار (عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) فإن الأتباع يسألون القادة عن سبب إضلالهم؟ ويلقون عليهم تبعة ضلالهم.

[٢٩](قالُوا) أي قالت الأتباع للقادة (إِنَّكُمْ) أيها القادة (كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي عن طريق اليمن والبركة ، فتقولون لنا إن كفرتم ، ولم تؤمنوا بقيت لكم البركة والسعادة الدنيوية ، فلم كنتم تغوونا بهذه الغواية حتى نلاقي هذا المصير السيئ؟ أو المراد كنتم تأتون عن طرف

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٤ ص ٢٧٢.

٤٧٣

قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ

____________________________________

يميننا للإسرار في آذاننا ، فإن الذي يريد أن يناجي ، يسر في الأذن اليمنى ، لأنها أكثر احتراما واستماعا ، لأنها في طرف القلب.

[٣٠](قالُوا) أي القادة للأتباع ، يريدون بذلك تبرئة ساحتهم عن تبعة كفر الأتباع (بَلْ لَمْ تَكُونُوا) أنتم بالذات (مُؤْمِنِينَ) فإنكم كنتم معرضين عن الله والرسول ، وإنا لم نسبب ضلالكم ، حتى تكون التبعة علينا.

[٣١](وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ) أيها الأتباع (مِنْ سُلْطانٍ) أي سلطة وقهر نجبركم على الكفر ، لو لا أنكم كنتم تحبون الكفر (بَلْ كُنْتُمْ) أيها الأتباع ، في أنفسكم ، وبدون إغوائنا (قَوْماً طاغِينَ) قد طغيتم ، وتجاوزتم حدود الإيمان فتبعتكم على أنفسكم ، لا نحن معاشر القادة.

[٣٢](فَحَقَّ عَلَيْنا) جميعا التابع والمتبوع (قَوْلُ رَبِّنا) بأنا معذّبون ، فقد قال الله سبحانه : إن من كفر ، سيعذب ، وقد ثبت ، وانطبق علينا هذا القول ، ف (إِنَّا لَذائِقُونَ) عذابنا على الكفر.

[٣٣] وإذ قد ثبت علينا وانطبق العذاب (فَأَغْوَيْناكُمْ) حسب استعدادكم الذاتي ، حيث انزلقتم معنا في حضيض الكفر (إِنَّا كُنَّا) بأنفسنا (غاوِينَ) والطيور على أشكالها تقع.

[٣٤] ثم يحكي سبحانه حالتهم جميعا ، بقوله (فَإِنَّهُمْ) القادة والأتباع

٤٧٤

يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧)

____________________________________

(يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) لكونهم جميعا ، كانوا كفارا مشتركين في الضلال ـ في الدنيا ـ فاشتركوا في العذاب ، هناك.

[٣٥](إِنَّا كَذلِكَ) أي كما فعلنا بهؤلاء من التعذيب (نَفْعَلُ) بسائر المجرمين فهم معذبون بما صدر منهم من الكفر والعصيان ، وكأنّ الآية ذكرت سابقا جماعة خاصة ، دار حولهم الكلام ـ وهم المشركون ـ ثم أرادت تعميم الأمر على سائر من يجرم.

[٣٦] ثم بين سبحانه علة تعذيبهم بقوله (إِنَّهُمْ كانُوا) في الدنيا (إِذا قِيلَ لَهُمْ) قولوا (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) واتركوا عبادة الأصنام (يَسْتَكْبِرُونَ) أي يطلبون الكبرياء ، ويرون أنفسهم فوق هذا الاعتراف ، أليسوا هم أكبر قدرا من أتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ بزعمهم.

[٣٧](وَيَقُولُونَ) أي يقول بعضهم لبعض (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا) أي هل إنّا نترك الأصنام لقول شاعر (مَجْنُونٍ)؟ يعنون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والاستفهام إنكاري ، أي لا نفعل ذلك.

[٣٨] فرد الله عليهم ذلك بقوله ، إن الرسول ليس شاعرا ولا مجنونا (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) الذي هو التوحيد ، وسائر الشؤون الأصولية (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) الذين كانوا من قبله ، وهل يقال لمثله شاعر ، أو يقال له

٤٧٥

إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣)

____________________________________

مجنون؟ فهذا كلامه ، ليس بشعر ، وهذه حركاته ليست بحركات ذي جنون.

[٣٩](إِنَّكُمْ) أيها الكفار (لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) أي المؤلم الموجع ، فإن استمراركم في الكفر لا ينتج إلا ذاك.

[٤٠](وَما تُجْزَوْنَ) يوم القيامة (إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي على قدر إجرامكم ، أو نفس جرائمكم ـ بناء على تجسيم الأعمال ـ.

[٤١] ولما كان الخطاب ، في «إنكم» يوهم العموم لكل الناس ، استثنى سبحانه عن ذلك بقوله (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصهم الله لنفسه ، فلا يعملون ، إلا لله سبحانه ، فإن هؤلاء بمعزل عن العذاب الأليم.

[٤٢](أُولئِكَ لَهُمْ) في الجنة (رِزْقٌ مَعْلُومٌ) قد علم وقدّر جزاء لأعمالهم ، والحصة المعلومة ، أقر للعين من الحصة المجهولة ، التي لا يدري مقدارها.

[٤٣] ثم بين سبحانه بعض ذلك الرزق المعلوم ، بقوله (فَواكِهُ) جمع فاكهة ، وهي ثمرة الأشجار ، يتفكهون بها ويتنعمون فيها (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) فلهم النعمة الروحية ، ـ بالإكرام ـ إضافة على النعمة الجسمية بالجنة والفواكه.

[٤٤] وذلك الإكرام والفواكه (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي البساتين التي

٤٧٦

عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨)

____________________________________

يتنعم فيها الإنسان.

[٤٥] والمؤمنون هناك (عَلى سُرُرٍ) جمع سرير (مُتَقابِلِينَ) حال عن أولئك ، أي في حال كون بعضهم في مقابل بعض ليتم السرور عليهم بالتنعم في المجالس مع الأصدقاء يرى بعضهم بعضا.

[٤٦](يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ) وهي الإناء الذي فيه المائع اللذيذ ، ومعنى يطاف إن الحور والولدان ، يدورون عليهم بالكأس المملوءة (مِنْ مَعِينٍ) والمعين الماء الجاري ، النابع من العين.

[٤٧](بَيْضاءَ) ومن ذلك يعرف ، إن ما في الكأس «خمر» لوصفه بالمؤنث ، وبما سيأتي (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) فكأنها من كثرة اللذة قطعة منها ، نحو زيد عدل.

[٤٨](لا فِيها) أي في تلك الخمر (غَوْلٌ) هو فساد يلحق الشيء ، يعني ليس في ذلك الخمر فساد (وَلا هُمْ) أي الشاربين (عَنْها) أي عن تلك الخمر (يُنْزَفُونَ) أي يسكرون ، فليس في خمر الجنة سكر ، من نزف إذا ذهب عقله ، أو بمعنى يطردون من نزف بمعنى طرد ، فالشرب لهم دائم لا ينقطع مهما أرادوا.

[٤٩](وَعِنْدَهُمْ) زوجات (قاصِراتُ الطَّرْفِ) «الطرف» العين ، والمعنى قصرن أعينهم على أزواجهن ، فلا يرغبن في غيرهم (عِينٌ) جمع «عيناء» وهي المرأة واسعة العين ـ مما يزيدها جمالا ورونقا ـ يعني

٤٧٧

كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣)

____________________________________

إنهن واسعات العيون.

[٥٠](كَأَنَّهُنَ) أي كأن أجسام تلك الزوجات من البياض (بَيْضٌ مَكْنُونٌ) بيض قد حفظ في مكان ، فلم يذهب بياضه ، بواسطة الوسخ والغبار.

[٥١] وهناك لما يستقرون ويتنعمون ، بأنواع النعم يذهب بهم الفكر إلى أحوال الدنيا ، وما كانوا فيها ، ثم يتذكرون الكافرين الذين كانوا يستهزئون بهم ، حيث إنهم يصدقون بالمعاد (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ) أي بعض أهل الجنة (عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) عن أحوالهم السابقة ، فقد التقوا هناك ، وكثيرا ما لم يكن لأحدهم معرفة بالآخر.

[٥٢](قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي من أهل الجنة لبعض أصدقائه (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) أي شخص مقارن معي في دار الدنيا ، بالجوار أو النسب أو الصداقة.

[٥٣](يَقُولُ) لي على وجه الإنكار والاستهزاء (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) أي من جملة الذين يصدقون بالحساب والجزاء؟

[٥٤] ثم يستهزئ قرينه بما اعتقده قائلا (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) لحومنا (وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) أي مجزيون بأعمالنا من دانه ، بمعنى حاسبه وجازاه ، أي كيف يمكن أن يجزي تراب وعظام؟ فإن هذا لا يكون أبدا.

٤٧٨

قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨)

____________________________________

[٥٥](قالَ) هذا المتسائل ـ بعد أن يحكي قول قرينه ـ (هَلْ أَنْتُمْ) أيها الجلساء (مُطَّلِعُونَ)؟ أي تحبون الاطلاع ، والإشراف على النار ، لترون ذلك القرين المكذب؟

[٥٦] فيقولون نعم نحب الاطلاع ، فانظر أنت لتعرف مكانه ، حتى ترينا ، فإنّا لا نعرفه (فَاطَّلَعَ) هو بنفسه ، وأشرف على النار (فَرَآهُ) أي رأى قرينه (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أي في وسط النار ، فإن «سواء الشيء» وسطه ، وطبيعي أنه حين رآه ، أراه إخوانه الذين قال لهم «هل أنتم مطلعون».

[٥٧] وإذ قد رأى قرينه الكافر في النار ، يتوجه إليه بالتكلم معه (قالَ) له المؤمن (تَاللهِ) التاء للقسم ، وتأتي غالبا لأمر غريب ، أو نحوه (إِنْ كِدْتَ) أي قد اقتربت ، (لَتُرْدِينِ) أي ترديني وتهلكني بوسوستك ، وحذف «ياء» المتكلم تخفيفا.

[٥٨](وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) وفضله بي ، حيث عصمني من أن أسمع كلامك ، فأصير كما صرت (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) الذين أحضروا إلى الحشر والحساب بالقهر ـ لا بالرضا ـ لأنهم علموا بمصيرهم السّيء ، ولذا كرهوا الحضور ، حتى أجبروا عليه.

[٥٩] ثم يردّد المؤمن ، ما كان يقوله الكافر في الدنيا ، ترديدا بإنكار وتقريع (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) أي كنت تقول في الدنيا ، ما نحن نموت.

٤٧٩

إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢)

____________________________________

[٦٠](إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) فليس موت بعد الحياة في القبر ، فإن الإنسان إذا حوسب في القبر مات ثانيا ، ثم يحيى يوم القيامة ، كما قال سبحانه (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (١) (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) يوم القيامة ، ألم تكن تقول ذلك؟ فهل كان صحيحا؟ أو إن الكفار كانوا يقولون «ما وراءنا إلا موتة واحدة ، فلا عذاب» وحينئذ معنى «الأولى» المتعارفة ، لا في مقابل الموتة الثانية.

[٦١] ثم يأتي السياق ليبين فوز أهل الجنة ـ بعد إسدال الستار على قصة تلك المحاورة ـ (إِنَّ هذا) الذي ينعّم المؤمن في الجنة (لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز ولا فلاح أعظم منه.

[٦٢](لِمِثْلِ هذا) الفوز والثواب (فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي الذين يريدون العمل ، فإنه أحسن نتيجة يحصل عليها العامل.

[٦٣] وبعد أن تقدم شطر من أحوال المؤمنين ، يأتي السياق ليقابل بهم أحوال الكفار (أَذلِكَ) الثواب في الجنان (خَيْرٌ نُزُلاً) «النزل» هو ما يعد للضيف ، ونصبه لكونه تمييزا (أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) التي أعدت نزلا للكفار؟ قالوا ، وهي شجرة صغيرة الورق زفرة مرة تكون بتهامة ، شبهت بها الشجرة التي تنبت في النار لتكون ثمرتها قوتا لأهل النار.

__________________

(١) غافر : ١٢.

٤٨٠