تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ

____________________________________

تدب على وجه الأرض (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) أي لا تقدر على حمل وتحصيل رزقها لضعفها ، وعدم شعورها على التحمل والطلب (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) أي يرزق تلك الدابة الضعيفة ويرزقكم (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بنياتكم ، فلا تقولوا ولا تنووا شيئا ينافي إيمانكم.

[٦٢] ثم يرجع السياق إلى المحاورة مع الكفار المنكرين للتوحيد والرسالة والمعاد ، فيقول سبحانه (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي سألت الكفار ، يا رسول الله ، أو أيها السائل (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بأن أنشأها وأخرجهما من العدم إلى الوجود (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ذللهما حتى يسيران بهذا السير المنظّم لمنافع العباد (لَيَقُولُنَ) في جواب ذلك (اللهُ) هو الخالق المسخّر ، إذ لا يتمكنون أن يقولوا صنع كل ذلك الصنم (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)؟ أي بعد هذا الاعتراف ، كيف يصرفون من عبادة الإله ، إلى عبادة الأصنام؟ من أفك بمعنى صرف ، ويسمى الكذب إفكا ، لأنه صرف الكلام عن الحقيقة نحو خلاف الواقع.

[٦٣](اللهُ) هو الخالق المسخر ، وهو الرازق المقدر ، فلما ذا يعبدون الأصنام؟ الله (يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أي يوسعه (لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أن يوسّع عليه (وَيَقْدِرُ لَهُ) أي يضيق الرزق لمن يشاء من عباده ، من

٢٢١

إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ

____________________________________

«قدر» بمعنى ضيق ، والظاهر أن لفظ «له» عائد إلى لفظ «من يشاء» لا إلى معناه حتى يستلزم التناقص ، ويحتاج في جوابه إلى التزام تعدد الوقت (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم مصالح العباد ، وطبق ذلك العلم الواسع يوسع في الرزق لبعض ، ويضيق فيه لبعض.

[٦٤](وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي سألت الكفار العابدين للأصنام (مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي المطر (فَأَحْيا بِهِ) أي بذلك الماء (الْأَرْضَ) بأن أوجد فيها حركة تقتضي إنبات النبات (مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) حيث لا حركة لها ولا إنماء ـ أو إن الإحياء للنبات ، ونسب إلى الأرض بعلاقة الحال والمحل ـ (لَيَقُولُنَ) في الجواب (اللهُ) يحيي الأرض بعد موتها (قُلِ) يا رسول الله ، بعد ما سمعت هذا الاعتراف منهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فقد اعترفتم بأن الله هو الوحيد في إدارة الكون ، كما اعترفتم من قبل بأنه هو الوحيد في الخلق والرزق (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) توحيد الإله مع إقرارهم بأنه الخالق الرازق المصرف.

[٦٥] إنهم بعد أن اعترفوا بالإله ، يلفتهم السياق إلى المعاد (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ) موجبة لأن يلهو الإنسان ، وينسى الحقائق والغرض الأصلي من الخلقة (وَلَعِبٌ) كلعب الأطفال يشغل الإنسان مدة ثم يزول وينصرم (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي الحياة الحقيقية

٢٢٢

لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦)

____________________________________

التي يصح أن يقال لها حياة ، وحياة وحيوان ، بمعنى واحد ، يقال حيي حياة وحيوانا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو علموا الفرق بين الحياتين لرغبوا في تلك ، وزهدوا في هذه.

[٦٦] إن هؤلاء الذين يشركون بالله ، قد دلت فطرتهم على وحدة الإله ، حتى أنهم ليتوسلون في المشاكل إليه وحده ، أما إذا انحلت المشكلة ، رجعوا إلى كفرهم ، جريا حسب المألوف عندهم ، والتقليد (فَإِذا رَكِبُوا) أي هؤلاء الكفار (فِي الْفُلْكِ) أي السفينة ، واضطربت بهم الأمواج (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي توسلوا إليه في حال كونهم يخلصون له الطريقة والدعوة ، فلم يدعوا الشركاء لأنهم يعلمون أن لا منجي إلا الله سبحانه (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) بأن لم يهلكوا وأتوا إلى البر سالمين بفضله سبحانه (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) أي عادوا إلى شركهم ، كما كانوا سابقا ، وكان الإتيان بلفظة «إذا» لإفادة المبالغة ، فإنه كان من التوقع منهم أن يبقوا موحدين بعد تلك الكارثة ، فإذا بهم يفاجئون الناس بالشرك.

[٦٧](لِيَكْفُرُوا) لعل اللام لام الأمر ، جيء للتهديد نحو «افعل ما شئت» أي فليكفر هؤلاء (بِما آتَيْناهُمْ) أي أعطيناهم من الحياة ، والصحة والغنى وسائر الخيرات (وَلِيَتَمَتَّعُوا) بمتاع الحياة من مأكل ومشرب ، وملبس ومنكح ومركب (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم ، وهي النار والعذاب.

٢٢٣

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨)

____________________________________

[٦٨] ومن عجيب أمر هؤلاء ، أن الله قد أنعم عليهم ، وهم يبدلون نعمة الله كفرا ، فقد أعطاهم حرما آمنا ، ثم هم يجعلون الحرم مركزا للأصنام ، فمن يا ترى جعل الحرم آمنا غير الله؟ (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يعلم هؤلاء الكفار (أَنَّا جَعَلْنا) لهم (حَرَماً آمِناً) يحترم فيه دماءهم وأموالهم من القتل والغارة (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) يختطفهم أعداءهم ، فالقبائل تغير بعضها على بعض ، فيقتلوا ويأسروا ، أليس هذا يقتضي أن يشكروا الله على هذه النعمة ويوحدوه؟ (أَفَبِالْباطِلِ) وهي الأصنام (يُؤْمِنُونَ) فيجعلونها آلهة؟ (وَبِنِعْمَةِ اللهِ) التي أنعمها عليهم (يَكْفُرُونَ) فيجعلون الحرم الذي هو نعمة الله عليهم ، محلا للأصنام والأوثان ، فإن كفران النعمة أن تصرف في معصية الله.

[٦٩](وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أظلم من هكذا إنسان ـ والحصر إضافي ـ (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ككفار مكة الذين جعلوا لله شركاء افتراء وكذبا (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ) أي كذّب بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن (لَمَّا جاءَهُ) يريد إرشاده وهدايته (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً) أي محل ثوى وإقامة (لِلْكافِرِينَ) فليعملوا ما يشاءون ، فإن مصيرهم إلى النار ، وهل هناك كفر أعظم من الشرك وتكذيب الرسل؟

[٧٠] إن في وسط هذا الزحام الخانق ، والجو الكافر ، من يجاهد في الله

٢٢٤

وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)

____________________________________

بالإيمان ، والأعمال الصالحة ، فإنه يهتدي إلى طريق الحق ، الموصل له إلى سعادة الدنيا والآخرة (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) أي من أجلنا ، وابتغاء مرضاتنا وطاعتنا (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) جمع سبيل وهو الطريق الذي قررنا لأجل الرشاد والصلاح والخير والسعادة ، وهذا عام ، فكل من جاهد في طريق فتح أمامه باب الحق والصدق (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم ، فإنه تعالى معهم بالنصرة والغلبة والسعادة في الدارين.

٢٢٥

(٣٠)

سورة الروم

مكيّة / آياتها (٦١)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الروم» وإشارة إلى قصة لهم مع الفرس ، وهي كسائر السور المكية ، تطرق طرفا من العقيدة والتوحيد والرسالة والمعاد ، قال في المجمع : أجمل في آخر العنكبوت ذكر المجاهدين ، ثم فصل في هذه السورة ، فقال.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله الذي إن ابتدأ به شيء ، كان الشيء مطبوعا بطابع الإيمان ، فله سمة المؤمنين في الظاهر ، وعليه رعاية الله في الباطن ، فإن من هتف باسم شخص جعله ظهيرا لنفسه ، أليس أبدى إنه من جمعه وحزبه؟ واستمداد من الرحمة المطلقة والفيض العميم الذي وسع كل شيء ، لتشمله الرحمة الخاصة ، واللطف المخصوص.

٢٢٦

الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ

____________________________________

[٢](الم) رمز بين الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو المراد ، إن هذا الكتاب من جنس «ألف» «لام» «ميم» أو غير ذلك من الأقوال البالغة نيفا وعشرين ، وهو خبر مبتدأ محذوف ، أي «هذا : الم» حذف خبره ، أي «الم : هذا الكتاب».

[٣](غُلِبَتِ الرُّومُ) فقد كان بين الروم ، وهم المسيحيون ، وكانوا في طرف غرب الجزيرة ، تقريبا ، وبين الفرس ، وهم المجوس ، وكانوا في شرق الجزيرة ، تقريبا حروب دامية على طول الخط ، فتارة يغلب هؤلاء على هؤلاء ، وأخرى بالعكس ، واتفقت إحدى حروبهم في بدء الإسلام حين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بمكة ، فغلبت الفرس على الروم ، حتى أخذت الفرس مركز المسيحيين «بيت المقدس» وفرح الكفار بذلك ، لأن الفرس كانت مثلهم في عدم الاعتقاد بالإله ، كما حزن المسلمون ، لأن الروم كانت ذات دين وكتاب واعتقاد ، وكانت بينهم وبين المسلمين جهات مشتركة ، ولذا سلّى الله سبحانه المسلمين ، بأن مغلوبية الروم لا تدوم ، وإنما هم يغلبون بعد سنوات قلائل.

[٤](فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أي أقرب أرضهم من أرض الجزيرة في بيت المقدس (وَهُمْ) أي الروم (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) أي غلبة الفرس عليهم ، في هذه الحادثة (سَيَغْلِبُونَ) وينتصرون عليهم بإرجاع بلادهم منهم.

[٥] وإنما يغلب الروم الفرس (فِي بِضْعِ سِنِينَ) بضع القطعة من العدد ما بين الثلاثة إلى العشرة ، يقال بضع وعشرون ، أي أن فوق عشرين عدد ، هو ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وهذا من أخبار القرآن الغيبية ، وما

٢٢٧

لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ

____________________________________

أكثرها ، فقد كان كذلك ، إذ وقعت حرب أخرى بين الطرفين ، فغلبت روم الفرس ، واستردت ما أخذوا منها من البلاد (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي من قبل الغلب ، ومن بعد الغلب ، فلا يقع شيء إلا بإذنه ، وفي هذا تسلية للمؤمنين ، بأنه إن غلبت فارس ، فليس ذلك موجبا لحزنهم ، إذ الأمور بيد الله الذي هو وليهم وناصرهم ، كما تقول لابنك : إن رأيت غلبة بعض أعدائك ، فلا يهمك ، إني أريد ذلك ، والحاصل أن غلبة الفرس ، ليست انتصار للكفر على الإيمان ، وإنما شيء مؤقت بقضاء الله وقدره ، والله لا يترك الإيمان حتى يغلبه الكفر (وَيَوْمَئِذٍ) أي يوم غلبة الروم على الفرس (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) المعتقدون بالرسول.

[٦](بِنَصْرِ اللهِ) للإيمان على الكفر ـ وإن كان نصر الله إنما هو للإيمان المسيحي ـ فإن كل مرتبة من مراتب الإيمان خير مما يقابلها من الكفر (يَنْصُرُ) الله (مَنْ يَشاءُ) فيمن توفرت فيه شروط النصرة ، كما أمر ، وكما أجرى أسباب الكون (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب سلطانه ، فلا يغلبه أحد (الرَّحِيمُ) بعباده المؤمنين ، فلا يتركهم نهب الكفار يفعلون بهم ما يشاءون.

[٧](وَعْدَ اللهِ) أي وعد الله ذلك وعدا ، فهو مصدر تأكيدي (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) الذي وعد بغلبة الروم على الفرس (وَلكِنَّ أَكْثَرَ

٢٢٨

النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ

____________________________________

النَّاسِ) الذين لا يؤمنون بالله ، ولا يصدقون كلامه (لا يَعْلَمُونَ) صحة وعد الله ، وإنه لا خلف فيه ، فإن الذي يخلف وعده إما لعجز أو لجهل أو لخبث ، والله سبحانه منزه عن ذلك كله.

[٨] إنهم لا يقدرون الأشياء حق قدرها ، فيزعمون أن لا قوة خارقة غيبية تسير الكون ، بل يظنون أن كل الأمر كائن فيما يشاهد من القوى الظاهرة (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) من قواها وأسبابها ومسبباتها ، وسائر الخصوصيات الظاهرة (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) وبهذه الغفلة تختل مقاييسهم للأمور ، فلا يصدقون بوعد الله ولا يرقبون جزاءه ، ولا يقدرون قوته الغيبية ، الخاضعة لها الأشياء ، وكان إقامة هذه الجملة مقام «وهم عن الله غافلون» لأجل إفادة ، أن منكر المعاد ، منكر الله سبحانه ، فهو من إقامة المسبب مقام السبب ، فإن سبب الغفلة عن المعاد ، هو الغفلة عن الله تعالى ، والإتيان بلفظ «هم» مكررا ، للتأكيد في غفلة هؤلاء.

[٩](أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) أي هؤلاء الغافلون عن الآخرة ، الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا (فِي أَنْفُسِهِمْ) أي في حالة خلوتهم بأنفسهم حيث لا جدال ولا إنكار ـ لو ظهر الحق ـ فإن الإنسان بينه ، وبين نفسه يعترف ، بما لا يعترف به عند الملأ خوفا ، أو استكبارا (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من الإنسان والحيوان والنبات والهواء وغيرها (إِلَّا بِالْحَقِ) فلو لم يكن هناك إله ، كما يزعمون ، فمن يا ترى

٢٢٩

وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

____________________________________

خلق كل هذه الأمور؟ ومعنى «بالحق» إن الخلق لغاية وغرض ، مما يدل على الإله العليم الحكيم القدير المريد (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي ولمدة محدودة ، قد سميت تلك المدة عنده ، فليست الأشياء بقاؤها اعتباطا ، بل تبقى بمقدار قدر الله لها من المدة ، فإن الإنسان إذا علم إن جملة من الأشياء ، لغاية ومقصود علم بذلك إن سائر الأشياء كذلك ، ألا ترى إنك إذا نظرت إلى «الساعة» فعلمت إن بعض آلاتها لماذا ، تعتقد إن كل الآلات لها إنما حكمت وصنعت عن قصد ، وإن كنت لا تعلم الحكمة فيها ، وإما عرفان الأجل المسمى ، فلما يرى الإنسان أن الأشياء تحدد بحدود معنية ، حتى أن كل محاولة لنفيها قبل المدة عبث ، كما أن كل محاولة لإبقائها بعد المدة لغو (وَ) مع ذلك (إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) أي لقاء جزائه وحسابه (لَكافِرُونَ) غير معترفين ، مع أن إحكام الصنع ، يدل على أنه ، لا بد أن يكون هناك حساب وجزاء ، وإلا كان الخلق لغوا ، وتمكين الظالم من الظلم خلاف الحكمة.

[١٠](أَوَلَمْ يَسِيرُوا) أي هؤلاء المكذبون (فِي الْأَرْضِ) فإن السير يوجب اطلاع الإنسان على مساكن الذين ظلموا ، فأهلكوا ، كمدائن عاد وثمود ، وقوم لوط ، وقوم نوح (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي يعلموا ذلك بالاستخبار عمن في أطراف تلك البلاد ، فإن كل أمة تحفظ أطراف تلك البلاد ، وإن كل أمة تحفظ أخبار أسلافها

٢٣٠

كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)

____________________________________

(كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) فقد وصلت حضارتهم إلى حدود مدهشة ، كما يحدث التاريخ بذلك (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) من الإثارة بمعنى التقليب ، لأجل الزرع والإنبات (وَعَمَرُوها) بالبيوت وما أشبه (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) هؤلاء ، فقد كانت وسائلهم ، أكثر ، ولذا كانت عمارتهم أجمل وأكثر (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالأدلة البينة الواضحة ، فجحدوا الرسل ، وكذبوا بما قالوا ، فأهلكهم الله سبحانه (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) حين أهلكهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفر والعصيان ، فأخذهم وبال أعمالهم ، وهؤلاء الكفار المعاصرون للرسول ، إن كذبوا أهلكوا ، فإنهم أقل قوة ، وأقل عمارة وزراعة من أولئك.

[١١](ثُمَ) بعد تلك الحضارة والعمار (كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا) بالكفر والعصيان (السُّواى) اسم كان ، أي كانت الخلة ، والعاقبة السوء ـ أي السيئة ـ عاقبة الذين أساءوا ، فإنهم بالكفر ، فعوقبوا بما أساءهم من الهلاك والدمار : على (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) فلم يقبلوها (وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) ومنها يضحكون ، ويحتمل أن يكون «أن كذبوا» اسم «كان» ومعنى أساءوا السّوءى ، عملوا السّوءى من باب

٢٣١

اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣)

____________________________________

المصدر التأكيدي ، نحو ضرب الضرب ، فيكون المعنى : كان التكذيب بآيات الله عاقبة الذين عملوا بالمعاصي ، فإن الإنسان يتدرج من المعاصي إلى الكفر ، وعلى هذا المعنى ، ف «ثم» للعطف لفظا ، لا معنى.

[١٢] وكيف يكذب الكافر بآيات الله ، وبالمعاد ، وهو يرى أن الخلق كيف يبتدأ مما يدل على إله عليم قدير ، قادر على الإعادة ، كما قدر على الإنشاء (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي يخلقهم ابتداء (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد الموت ، ليحيي من جديد للحساب والجزاء (ثُمَّ إِلَيْهِ) أي إلى جزائه وحسابه (تُرْجَعُونَ) أيها البشر.

[١٣](وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي القيامة (يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) من بلس بمعنى يئس من الخير ، فإنهم ييأسون من الرحمة ، وينقطعون من الجواب.

[١٤](وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) أي لا يشفع لهم الأصنام ، التي جعلوها شركاء الله سبحانه ، وأضيف الشركاء إليهم ، لأنهم اخترعوها (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) إذ يظهر الحق هناك ، وقد كانوا عبدوها في الدنيا قائلين (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (١) ، وهناك يتبين إنها لا تنقذ أنفسها ، فإنها تصبح حصب جهنم ، فكيف تتمكن من شفاعتهم.

__________________

(١) الزمر : ٤.

٢٣٢

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللهِ

____________________________________

[١٥](وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) وتأتي القيامة (يَوْمَئِذٍ) أي في ذلك اليوم (يَتَفَرَّقُونَ) أي يتميز المؤمنون عن الكفار ، فالمؤمنون واقفون في طرف اليمين ، بالبشر والسرور ، والكفار في طرف الشمال بالحزن والتقطيب.

[١٦](فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بما يجب الإيمان به من التوحيد والرسالة والمعاد ، وسائر ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) الملازم لترك السيئات (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ) وهي الجنة (يُحْبَرُونَ) الحبرة المسرة ، أي يسرون سرورا يظهر أثره على وجوههم ، من النعيم الذي هم فيه.

[١٧](وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بما يجب الإيمان به (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بدلائلنا التي نصبناها للدلالة علينا ، وعلى الرسالة (وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) بأن ينكروا البعث والمعاد (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي يحضرون إلى العذاب ، كالمجرم الذي يحضر إلى السجن والتعذيب ، ولا يأتي هو برجله.

[١٨] ثم ينتقل السياق من العالم الآخر إلى هذا العالم ليشهد الإنسان ، دلائل الكون ، التي كان الكفار بها يكذبون حتى صاروا إلى ذلك المصير الهائل (فَسُبْحانَ اللهِ) مصدر منصوب بفعل مقدر من سبّح ، أي أنزه الله تنزيها ، والفاء للتعقيب على تلك الخاتمة ، أي وإذا كان لله

٢٣٣

حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩)

____________________________________

تلك الخاتمة أسبحه تسبيحا (حِينَ تُمْسُونَ) أي تدخلون المساء ، وهو الليل (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) أي تدخلون الصباح ، فهو منزه دائم الأوقات ، لا كالملوك الذين لا يستحقون الحمد والثناء ، في بعض أحوالهم لعدم رعايتهم الأمور في تلك الأوقات.

[١٩](وَلَهُ الْحَمْدُ) الثناء الجميل ، لما عمله من الجميل (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو المستحق للحمد في جميع الكون (وَعَشِيًّا) أي له الحمد في وقت العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أي تدخلون في الظهيرة ، وهي وقت الظهر ، فإنه المحمود المنزّه في جميع الأكوان ، وكافة الأوقات ، وهذا من بلاغة القرآن العجيب ، حيث ذكر هذا الموضوع ، في هذه الجملات الحية النديّة ، التي تفتح الذهن ، وتسير بالنفس إلى الآثار الكونية ، والأوقات الزمنية.

[٢٠](يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالنبات من النوات الميتة ، والطير من البيضة الميتة ، والإنسان من الأرض الميتة ، بواسطة النبات (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كالفضلات الميتة من الإنسان والحيوان الحي ، والبيضة الميتة من الطير الحيّ وهكذا (وَيُحْيِ الْأَرْضَ) بنمو النبت (بَعْدَ مَوْتِها) حيث تكون غبراء قاحلة لا نمو فيها ولا نبات (وَكَذلِكَ) أي تحيى الأرض (تُخْرَجُونَ) أنتم أيها البشر من قبوركم

٢٣٤

وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)

____________________________________

بعد الموت للحساب والجزاء.

[٢١](وَمِنْ آياتِهِ) أي أدلته الدالة على وجوده ، وسائر صفاته (أَنْ خَلَقَكُمْ) أيها البشر (مِنْ تُرابٍ) فالتراب ينقلب نباتا ، وحيوانا ، يأكلهما الإنسان ، فيصيران منيا ، ثم جنينا إنسانا (ثُمَ) بعد أن كنتم ترابا (إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) في الأرض تسيرون وتتّجرون ، وتعملون ، وإذا للمفاجات ، فكيف صار التراب اليابس الراكد ، بشرا سميعا بصيرا ، ينتشر ويتصرف في مختلف الشؤون؟

[٢٢](وَمِنْ آياتِهِ) أي أدلة الله سبحانه الدالة على وجوده ، وسائر أوصافه (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ) أيها البشر (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من هذا الجنس (أَزْواجاً) للرجال نساء ، وللنساء رجالا ، فإن كون الزوجين من جنس واحد أكثر هنأة ولطفا (لِتَسْكُنُوا) أي لتطمئنوا ، ولتألفوا (إِلَيْها) أي إلى تلك الأزواج ـ وهذه قرينة ـ على أن المراد بالأزواج : الزوجات. (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) أيها البشر ، أي بين الرجال والنساء (مَوَدَّةً) يود بها بعضكم بعضا ، ويحب أحدكم الآخر (وَرَحْمَةً) فيرحم بها أحدكم الآخر ، مما يهنئ العيش ويسعد الحياة (إِنَّ فِي ذلِكَ) الخلق للأزواج ، وجعل المودة والرقة (لَآياتٍ) أي أدلة على وجود الله تعالى ، وسائر صفاته (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في هذه الأمور ، وإنما

٢٣٥

وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ

____________________________________

خصهم ، لأنهم هم الذين يدركون هذه الآيات ، وإلا فهي آيات لكل أحد ، وقد يزعم البعض ، إن الصفات النفسية ، من قبيل المودة والرحمة ، والشجاعة والجبن والسخاء ، وما إليها ، ليست أمورا مخلوقة ، لكنها نظر سطحي ، وإلا فمن أين هذه الظواهر؟ إنها ألوان للنفس ، لا تدرك إلا بآثارها ، وإلا فكيف هذا يكون مقداما سخيا ، وكيف ذاك الذي على شكله يكون جبانا بخيلا؟ وقد ذكر في أول كتاب «البحار» جنود العقل والجهل ، وإنها مخلوقات له سبحانه.

[٢٣](وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وجوده ، وسائر صفاته (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فمن خلق المدارات والكواكب؟ ومن خلق الأرض ، وما فيها؟ إن الخالق هو الله العليم القدير الحكيم (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) جمع لسان ، والمراد به اللغة فإنه تعالى ، لو لم يفعل ذلك ، من كان يقدر على منح هذا الاختلاف من عربي ، وفارسي ، وتركي ، وهندي ، وغيرها؟ بالإضافة إلى الاختلاف ، في النغمة والصوت والخشونة والنعومة وغيرها (وَ) اختلاف (أَلْوانِكُمْ) من أبيض وأحمر وأسود ، وبنّي وحنطي ، وغيرها ، فمن يا ترى جعل كل ذلك؟ بالإضافة إلى مزايا كل إنسان في لونه وشكله ، حتى يعرف كل أحد من غيره (إِنَّ فِي ذلِكَ) الاختلاف (لَآياتٍ) لأن كل لون ، وكل نعمة آية (لِلْعالِمِينَ) أي العلماء ، فإنهم هم الذين يتدبرون في هذه الآيات ، وينشغلون منها ، إلى من أوجدها وصنعها.

[٢٤](وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على توحيده ، وسائر أوصافه تعالى

٢٣٦

مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ

____________________________________

(مَنامُكُمْ) مصدر ميمي ، بمعنى نومكم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) فما هو النوم؟ ومن خلفه؟ إنه من خلق الله سبحانه ، سواء كان عدما بإخراج بعض الأرواح عن الإنسان موقتا ، أم وجودا بإضافة شيء على بدنه يوجب له هذه الحالة (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) فقد جعل فيكم صفات أوجبت ، أن تطلبوا الرزق فمن يا ترى جعل هذه الصفات في الإنسان؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ) المنام والابتغاء (لَآياتٍ) أي أدلة دالة على الله سبحانه ، وسائر صفاته (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) والمراد أنهم يسمعون الآيات ، فيتدبرونها ، ويتفكرون فيها ، لا أن يعرضوا عنها ، كما قال سبحانه (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (١).

[٢٥](وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وجوده ، وسائر صفاته ، أن (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) في خلال السحاب ، وهو كما قالوا : يحدث من اصطكاك السحب بعضها ببعض ، فيتولد فيها الكهرباء ، ولا ينافي هذا كونه ، صوت ملك ، كما لا يخفى (خَوْفاً) من الصاعقة ، وإنزال المطر المضر (وَطَمَعاً) في إنزال المطر المفيد ، ونصب هذين ، بتقدير اللام ، أي لتخافوا خوفا ، ولتطمعوا طمعا (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ) أي جهة العلو (ماءً) هو المطر (فَيُحْيِي بِهِ) أي بذلك الماء (الْأَرْضَ

__________________

(١) يوسف : ١٠٦.

٢٣٧

بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦)

____________________________________

بَعْدَ مَوْتِها) بالجدب ، وعدم النبات (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور سابقا (لَآياتٍ) لأن كل واحد من الأمور المذكورة ، آية دالة على الله وعلى صفاته (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يعملون عقولهم ، فينتقلون من الأثر إلى المؤثر.

[٢٦](وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وجوده تعالى ، وسائر أوصافه (أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) فإن بقاء السماء بهذه الكيفية المنظمة ، وبقاء الأرض بهذا الترتيب العجيب الدائم ، لا يكون إلا بقدرة الله سبحانه ، وأمره التكويني ، وإلا فمن يدير الكون ، بهذا النحو المنظم المدهش؟ (ثُمَ) إن الله سبحانه الذي رأيتم قدرته وآياته (إِذا) متم ثم (دَعاكُمْ دَعْوَةً) وطلبكم طلبا (مِنَ الْأَرْضِ) التي دفنتم فيها (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) أحياء كما كنتم سابقا ، وذكر هذا للتركيز على المعاد ، بعد بيان آياته الدالة على عمله وقدرته ، ونفوذ إرادته ، فمن يقدر على تلك ، يقدر على هذا.

[٢٧](وَلَهُ) أي لله سبحانه بالملكية المطلقة (مَنْ فِي السَّماواتِ وَ) من في (الْأَرْضِ) من العقلاء ، وغيرهم ، وغلب العقلاء ، ولذا ، جيء ب «من» (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي خاضعون مطيعون ، فهل يتمكن أعظم الملوك ، أن يخالف أوامر الله التكوينية ، بأن لا يموت ، أو لا يشيب أو

٢٣٨

وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى

____________________________________

يبقى إلى أمد يحبه؟ كلا ، نعم قد أعطى الله سبحانه ، زمام الإرادة بيد الإنسان ليختبره ، أما الأزمة التكوينية ، حتى دورة الدم ، في بدن الإنسان ، وحركة الأجهزة الباطنية ، والقوى الظاهرة ، فهي كلها تحت قدرته وإرادته.

[٢٨](وَهُوَ) الله سبحانه (الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) بإنشائه بعد العدم (ثُمَّ يُعِيدُهُ) إلى الحياة ـ بعد الموت ـ للجزاء والحساب (وَهُوَ) أي «أن يعيد» (أَهْوَنُ) وأسهل في قياس البشر (عَلَيْهِ) أي على الله سبحانه ، فإن الإنسان في مقاييسه ، يرى إن إعادة الشيء ، أسهل من ابتدائه ، ومع ذلك فكيف يظن ، إن الإعادة عسيرة عليه تعالى ، وإنما قلنا «في قياس البشر» لأن الله سبحانه كل شيء لديه سواء ف (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) لا يقال : كلا! إن الإعادة ليست أهون ، فإن من يصنع شيئا ، قد يكون لا يقدر على إعادته إذا هدم ، قلنا : إن عدم القدرة منه ، لعدم علمه ، أو لتعبه ، أو أشباه ذلك ، أما من توفرت فيه الشروط ، فالإعادة عليه أيسر من جهة أن في ذهنه مثالا لذلك المصنوع ، مما يسهل صنعه ثانيا (وَلَهُ) سبحانه (الْمَثَلُ الْأَعْلى) المثل هو الشبيه للشيء الذي يؤتى به لمعرفة ذلك الشيء ، والله سبحانه لا يمثل له ، فلا مثل له ، من جميع الجهات ، كما قال : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) (٢) ، وإنما قد يمثل له بأمثلة تقريبية ، لاستيناس

__________________

(١) يس : ٨٣.

(٢) النحل : ٧٥.

٢٣٩

فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ

____________________________________

الذهن ، كما قال تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ) (١) وإذا أريد المثل ، فله أعلى الأمثلة وأحسنها ، كأن يمثل لنوره بالمصباح النيّر ، أو يمثل بملكه بملك أعظم الملوك ، وهكذا (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ففي كل مكان أريد أن يضرب له المثل ، لا بد وأن يكون له المثل الأعلى ، وليس كالملك ، في قطر خاص ، الذي له أعلى الأمثلة في قطره ، أما في خارج قطره ، فليس له أعلى الأمثلة ، ففي قطره يقال إن مثله ، كمثل أعظم الناس ملكا ، أما في خارج قطره يقال ، إنه كمثل الملك الآخر ، أو المالك الكذائي (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على كل شيء لا يغلبه أحد (الْحَكِيمُ) فكل ما يفعل ، إنما هو بالحكمة والصواب.

[٢٩] ثم ضرب سبحانه مثلا لعدم الشريك له ، وذلك بالاستفهام ، عن هؤلاء المشركين ، أنهم هل يقارنون بين السيد والعبد ، وإذا قالوا : لا قبل لهم ، فلم تقارنون ـ في الألوهية ـ بين الله ، وبين الأصنام؟ مع أن البون بينهما أبعد من البون بين السادة والعبيد (ضَرَبَ لَكُمْ) أيها المشركون ، والذي ضرب المثل هو الله سبحانه (مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) بيّن لكم شبها في حال كونه من أنفسكم ، فليس مثلا ، من الملائكة ، أو الجن ، والنبات ، والحيوان ، والجماد (هَلْ لَكُمْ) أيها المشركون (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي عبيدكم ، وإمائكم ، وإنما نسبت الملكية إلى اليد ، لأنها العاملة المحصلة للمال الذي به يشتري العبد (مِنْ

__________________

(١) النور : ٣٦.

٢٤٠