تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

١
٢

٣

٤

تقريب القرآن إلى الأذهان

الجزء الخامس والعشرون

من آیة (٤٨) سورة فصلت

إلى آیة (٣٣) سورة الجاثية

٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

٦

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ

____________________________________

[٤٨] وبمناسبة ما تقدم من أوصافه سبحانه ، وذكر المعاد ، يأتي السياق يؤكد ذلك ، حتى يعرف الناس ، أن ما يعملون ، إنما هو باطلاعه سبحانه ، ثم يجازيهم عنه (إِلَيْهِ) سبحانه (يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) التي هي القيامة ، والمعنى أنه ، إذا سئل عن وقت القيامة ، رد علمه إلى الله ، وقيل الله عالم ، إذ لا يعلمه سواه (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) أي لا تخرج ثمرة من وعائها وغلافها ، إلا بعلمه سبحانه ، وأكمام جمع كم ، وهو الغلاف ، يقال تكمم الرجل بثوبه إذا تلفف به (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) إنسانا كان أو حيوانا (وَلا تَضَعُ) مولودها (إِلَّا بِعِلْمِهِ) تعالى ، وحيث إن القيامة عبارة عن ظهور عالم جديد ، ناسب ذلك الإتيان بظهور الثمرة ، وظهور الحمل ، وظهور الولد ، فعلمه سبحانه عامّ لكل شيء (وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي ينادي الله سبحانه المشركين ، قائلا لهم (أَيْنَ شُرَكائِي) الذين زعمتم أنهم مشتركون معي في صفة الألوهية؟ وهذا الاستفهام للتقريع (قالُوا) أي المشركين (آذَنَّاكَ) أي أعلمناك ، والمعنى نعلمك ونعترف لك بأنه (ما مِنَّا) أي ليس منا جماعة المشركين (مِنْ شَهِيدٍ) يشهد بأن لك شريكا ، يريدون بذلك التبرؤ من أعمالهم الإشراكية.

[٤٩] (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي ضاع عنهم الآلهة ، التي

٧

وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ

____________________________________

كانوا يعبدونها قبل يوم القيامة ، في دار الدنيا ، فلم يجدوها في المحشر (وَظَنُّوا) بأنهم (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي ملجأ ومهرب وإنما قال ظنوا حكاية عنهم ، فإن الإنسان لا يقر نفسيا بما يؤلمه ، وإن كان في قرارة نفسه يعلم بوصول المكروه إليه ، أو إنهم ظنوا حقيقة لاحتمالهم النجاة.

[٥٠] ثم يأتي السياق ليصف حال الكفار في الدنيا ، بعد أن أرى جانبا من حالهم في الآخرة ، ليبين وجه إصلائهم النار في الآخرة ، إنه لانحرافهم في الدنيا ، فبالإضافة إلى كفرهم ، إنهم منسلخون عن الفضيلة (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ) أي لا يمل ولا يكل (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) ويطلبه ، فهو يدعو الخير ويطلبه لنفسه دائما أبدا لا قناعة له ولا رضى في نفسه ، مما حصل عليه بقدر الكفاية (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) مجرد إحساس ، من فقر ومرض وخوف وما أشبه (فَيَؤُسٌ) أي شديد اليأس من الفرج (قَنُوطٌ) من رحمة الله تعالى.

[٥١] (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ) أي أعطينا هذا الإنسان المتصف بتلك الصفة (رَحْمَةً مِنَّا) أي فرجا من كربه ، بالصحة والغنى بعد المرض والفقر ، أو ما أشبه ذلك (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) أي وصلت إليه (لَيَقُولَنَ) منكرا فضل الله وإحسانه في كشف كربه (هذا) الخير الذي جاءني (لِي) فأنا فاعله ، والآتي به ، عوض أن يشكر ربه ، ويعرف أنه من إحسانه وفضله (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ) أي القيامة

٨

قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١)

____________________________________

(قائِمَةً) أي سوف تكون ، فإن الإنسان إذا وجد نعمة بطر ونسي ربه وميعاده ، فلا يشكر ، ولا يصرف النعمة في حقها ، فيعرض ميعاده ، بل يقول إن النعمة لي ، ويصرفها في الشر قائلا ، لا قيامة ، حتى أعمل صالحا بالنعمة ، ثم فوق ذلك يظن أنه مكرم عند الله ـ كما هو تمني الجهّال ـ فيقول (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي) بأن صدق قول الناس المؤمنين بوجود الميعاد (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي المنزلة الحسنى ، وهي الجنة ، فكما أعطاني في الدنيا ، يعطيني في الآخرة ، وهنا يأتي السياق ليبين مصير هذا الإنسان (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي لنخبرن هؤلاء الكفار (بِما عَمِلُوا) في الدنيا من الكفر والعصيان ، والإخبار إنما هو لأجل التقرير ، وإفضاحهم أمام الملأ العام (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) هو النار والنكال ، لما عملوا من الأعمال السيئة.

[٥٢] (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) والمراد به الإنسان المنحرف ، كما سبق في الآية السابقة (أَعْرَضَ) عن الله سبحانه (وَنَأى بِجانِبِهِ) أي بعد بجانبه عن الاعتراف بالله وشكره ، تشبيه بالإنسان المعرض عن شيء ، حيث يبعد نفسه منه بعدا حسيا (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) من مرض وفقر وخوف وما شابه (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) يكثر الإلحاح والطلب منا لرفع ضره ، و «العريض» أبلغ من «الطويل» ، إذ العريض لا يكون إلا طويلا ،

٩

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ

____________________________________

وإلا لا يسمى عريضا ، بخلاف الطويل ، فإنه لا يلازم العريض.

[٥٣] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار المنكرين ، لكون القرآن من عند الله تعالى (أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ كانَ) القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ) بأن أنزله عليّ لا كما تقولون من أنه افتراء مختلق (ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) وجحدتموه (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)؟ أي من يكون ـ حينذاك ـ أكثر ضلالا منكم؟ وإنما أتى بهذا الوصف ، تقريعا. ورهانا ، لكونهم أضل ، إذ هم في شقاق بعيد عن الحق ، فهم شق والحق في شق ، وبينهما تباعد كثير.

[٥٤] (سَنُرِيهِمْ آياتِنا) الدالة على وجودنا ، وسائر صفاتنا (فِي الْآفاقِ) جمع أفق ، وهو أطراف الكون ، لأن كل طرف أفق ، من سماء وأرض ، وشمس ، وقمر ، ونجوم ، وجبال ، وشجر ، وحيوان ، وبحار ، وغيرها (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) وما فيها من لطائف الصنع ، وعجائب التراكيب ، التي تدل على وجود الله وعلمه ، وقدرته ، وإرادته ، وسائر صفاته ، ومعنى الإرائة ، إلفاتهم إلى الآيات ، بواسطة التوجيهات في القرآن ، وكلمات الرسول والأئمة ، والإلقاء في قلوبهم (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) أي يظهر (لَهُمْ) أي لهؤلاء الكفار (أَنَّهُ) أي الله سبحانه ، أو الرسول ، أو القرآن (الْحَقُ) فإن الأدلة الكونية ترشد إلى كل ذلك ـ وإن كان الأول أقرب ـ (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ) يا رسول الله ، والباء في

١٠

أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)

____________________________________

«بربك» زائدة دخلت على الفاعل ، إذ الأصل في المعنى «أو لم تكف بربك» (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي حاضر ، وهذا برهان على أنه الإله الحق ، إذ الإله يحضر ويشهد كل شيء بخلاف سائر الأشياء ، فإنها لا تشهد «الله» إذ الإله سابق عليها ، والشاهد يلزم أن يكون حاضرا من البدء إلى الختم ، وليس لأحد أن يقول : من أين نعلم ، أن الله شاهد على كل شيء؟ إذ الجواب هل هناك شيء أول شهد كل شيء ، أم لا؟ فإن قال نعم قلنا ذلك هو الله ، وثبت المطلوب ، وإن قال لا ، قلنا هذا خلاف الضروري ، إذ لا يعقل أن لا يكون هناك شيء أول ، وإن قال ، بل يمكن أن يكون الأول متعددا ، فلا وحدة في الأول قلنا اعترفت بالواحد ، فعليك الدليل على الأكثر ، ثم لا يمكن تعدد الأول ، لما ثبت في علم الكلام ، من أن التعدد في الأزلي غير معقول ، إذ يلزم من التعدد التركب ، ومن التركب ، عدم الأولوية ـ فهو خلف ـ.

[٥٥] (أَلا إِنَّهُمْ) أي الكفار (فِي مِرْيَةٍ) وشك (مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أي لقاء حسابه وجزائه ـ على سبيل تشبيه المعقول بالمحسوس ـ وهذا على سبيل التسفيه لعقيدتهم ، فكيف يمكن أن يكون الخلق عبثا ، لا حساب لهم ولا جزاء؟ (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) إحاطة علم وقدرة ، فهو عالم بهم ، ولا يخرجون عن قبضته ، فسيأتي يوم يحاسبهم بما علم ، ويعطيهم جزاء كفرهم وإنكارهم ، فلا مفر لهم منه ، ولا مجال للإنكار ، لما اقترفوه من الكفر والآثام.

١١

(٤٢)

سورة الشورى

مكية ـ مدنية / آياتها (٥٤)

وتسمى ب «حمعسق» أيضا لاشتمالها على كلمة «الشورى» و «حمعسق» ، وهي كسائر السور المكية ، تعالج قضايا العقيدة ، قالوا ونزلت بعض آياتها في المدينة ، كآية «القربى» وحيث ختمت سورة فصلت ، بذكر إنكار الكفار للأصول ، ابتدأت هذه السورة ، بتقريرها ، وتأكيدها ، فقال سبحانه :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) شروع في السورة ، باسم الله ، والإتيان ، ب «الاسم» دون أن يقال «بالله» للتحليل والتصريح ، إذ قوله «بالله» أيضا تؤول إلى «باسم الله» وللمعارضة لما يقوله أهل سائر الأديان ، والطرق كقول المسيحي «باسم الأب والابن والروح القدس» والتأكيد على صفتي «الرحمن الرحيم» للتوجيه إلى أهم الصفات التي تنفع الناس في دنياهم وآخرتهم.

١٢

حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)

____________________________________

[٢ ـ ٣] (حم* عسق) أي أن هذا القرآن مؤلف من حروف الهجاء ، التي منها «حاء» «ميم» «عين» «سين» «قاف» ـ على قول ـ أو رمز بين الله والرسول ـ على آخر ـ أو هو إشارة إلى أسامي لله تعالى ، فمعناه الحليم المثيب العالم السميع القادر ـ على رواية عن الصادق عليه‌السلام (١) ـ أو غير ذلك من الأقوال الكثيرة ، في فواتح السور.

[٤] (كَذلِكَ) أي كهذا الذي ذكرها من «حم عسق» أو كالوحي الذي تقدم من سائر سور القرآن (يُوحِي إِلَيْكَ) يا رسول الله (وَإِلَى) الأنبياء (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ) فاعل يوحي (الْعَزِيزُ) في سلطانه ، فلا غالب عليه (الْحَكِيمُ) في تكوينه وتشريعه ، فإنه يخلق الأشياء حسب الحكمة والصلاح ، ويأمر ويشرع ، حسب الحكمة والصلاح ، فإنزال الوحي عليك ، وعلى الأنبياء السابقين ، تابع للحكمة ، لا عبث فيه ، ولا اعتباط ، ولا محاباة.

[٥] (لَهُ) تعالى بالخلق والملك والتدبير (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) المراد الظرف والمظروف ، فإن أحدهما يطلق ، ويراد به الآخر ـ في كثير من الأحيان ـ إيجاز في الكلام (وَهُوَ الْعَلِيُ) أي الرفيع الذي لا أرفع منه ، والمراد رفعة المنزلة لا رفعة المكان ، فإنه تعالى منزه عن المكان والمكانيات (الْعَظِيمُ) الذي هو أعظم من كل شيء

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨٩ ص ٣٧٣.

١٣

تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ

____________________________________

علما وقدرة ، ومن حيث سائر الصفات.

[٦] ثم بين سبحانه بعض عظمته في الكون التي أوجبت أن تقترب السماوات إلى الإنفطار والانشقاق خوفا وروعة ، وأوجبت تنزيه الملائكة ، وطلب غفرانهم لأهل الأرض العصاة ، كما نرى من اعتذار الوزير من الملك ، عمّن عصاه ، لما يرى شدة بطشه ، ولما يخاف من أن تحل نقمته ـ (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) أي يتشققن (مِنْ فَوْقِهِنَ) أي جهة أعلاهن ، لأن الأعلى ، أقرب إلى ما ارتكز في الذهن من علوه سبحانه ، وإن كان العلوان مختلفان ، فعلوه سبحانه معنوي وعلوها حسي ، والمعنى أن عظمته سبحانه ، بحيث تؤثر في السماوات ، حتى أنها تقترب من الانشقاق ، وهذا كقوله سبحانه (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) (١) وقوله ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ) (٢) (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي ينزهونه بذكر محامده ، فإن من قال فلان شجاع ، كان حمدا وتنزيها عن الجبن ، بخلاف ما لو قال إنه ليس بجبان ، فإنه لا يلزم أن يكون شجاعا (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) بأن يغفر الله لهم ، أما مؤمنهم ، فيغفر له عصيانه ، وأما كافرهم فبأن يهيئ سبحانه مغفرته بالإيمان ، حتى لا يحل بهم العذاب مما يرهب منه ، حتى الملائكة ، وإن كان تعذيبا لغيرهم ، فإن الشخص يرهب العذاب ، حتى إذا نزل بغيره (أَلا) فيتنبه البشر (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ)

__________________

(١) الرعد : ٣٢.

(٢) الأحزاب : ٧٣.

١٤

الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ

____________________________________

لذنوب عباده (الرَّحِيمُ) بهم يتفضل عليهم بالإحسان فوق الغفران.

[٧] (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (أَوْلِياءَ) أي الأصنام بأن عبدوها (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) أي أنه يحفظهم ، فالأصنام موهومات ، لا حقيقة لألوهيتها ، وإنما الله هو الحافظ لهم ، وهكذا كما يقول الرئيس : إن فلانا الذي يحاربني ، يأكل رزقي وعطائي ، (وَما أَنْتَ) يا رسول الله (عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) فإنك غير مسئول عن كفرهم ، وإنما أنت مسئول عن تبليغهم ، وقد فعلت ذلك.

[٨] (وَكَذلِكَ) أي كما أوحينا إلى الأنبياء من قبلك (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أو المعنى ، «هكذا أوحينا إليك» وإنما جيء ب «ذلك» لتنزيل رفعة القرآن معنى ، منزلة بعده حسا ـ كما ذكروا في علم البلاغة ـ (قُرْآناً عَرَبِيًّا) فإنه بلغة العرب ليفقهوا ما فيه (لِتُنْذِرَ) يا رسول الله (أُمَّ الْقُرى) وهي مكة ، والمراد أهلها (وَمَنْ حَوْلَها) أي حول مكة من سائر القرى في العالم ، فإنها حيث صارت أمّا صارت كل قرية حولها ، فإن البنات حول الأم ، وإنما سميت أم القرى ، لأن الأرض دحيت من تحتها ، كالأولاد الذين يخرجون من الأم بالولادة ، وكأن هذا الإنذار ، بالنسبة إلى الأمور الدنيوية ، فإن من أعرض عن ذكره تكون معيشته ضنكا (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) هو يوم القيامة ، الذي يجمع فيه الخلائق ، بأن من كفر أو عصى ، عذب بالنار والنكال (لا رَيْبَ فِيهِ) وإن ارتاب

١٥

فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ

____________________________________

فيه كثيرون ، إذ المعنى ، إنه ليس محلّا للريب ، كما قال سبحانه ، بالنسبة إلى القرآن (لا رَيْبَ فِيهِ) (١) وكما تقول «لا ريب في نور الشمس» وإن أنكره السوفسطائيون (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ) وهم المؤمنون المطيعون (وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي النار المستعرة الملتهبة ، وهم الكفار والعصاة ، فتنذرهم ، بأن لا يتمادوا في الكفر والعصيان ، حتى يكونوا من أصحاب السعير.

[٩] (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن يجبر الناس على دين واحد (لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ولكن هذا نقض للغرض ، فإن الغرض من الخلقة التكليف ، حتى يترتب عليه الثواب والعقاب ، ولو كان الناس مجبورين ، لكانوا كالأحجار والنبات في الفعل (وَلكِنْ) خيّرهم ، وأعطى الزمام بأيديهم ، ل (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ) ممن آمن وعمل صالحا (فِي رَحْمَتِهِ) بالسعادة في الدنيا ، والجنة في الآخرة (وَالظَّالِمُونَ) الذين اختاروا الكفر والعصيان (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍ) يواليهم ويلي أمورهم (وَلا نَصِيرٍ) ينصرهم.

[١٠] (أَمِ) منقطعة ، بمعنى «بل» أي أن الكفار ضربوا عن عبادة الله وولايته ، و (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) هي الأصنام التي والاها الكفار (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) وإنما الأصنام أحجار لا تضر ولا تنفع ، فهي

__________________

(١) البقرة : ٣.

١٦

وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ

____________________________________

لا توالي أحدا ولا تنفع ولاية الناس لها (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) فمبعث الخلق بيده ، لا بيد غيره ، ويلزم من ذلك ، أن يخاف الناس عقابه ، حيث إن بيده الحكم (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من الإحياء والإماتة والرزق ، وغيرها ، بخلاف الأصنام ، التي لا تقدر على شيء ، واتخاذ القادر وليا أولى من اتخاذ العاجز.

[١١] أما هذه الاختلافات التي حدثت بين الناس ، فالحكم الوحيد فيها هو الله تعالى ، إذ هو المطلع على الصدق والكذب والحقيقة والزيف (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) الضمير عائد إلى «ما» أي كل شيء اختلفتم فيه (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) وهو الحكم العالم الذي يحق له الحكم ، أما من سواه ، فبين جاهل ، وبين ما لا يحق له الحكم ، وإن كان عالما ، إذ الفصل في القضايا ونفوذها أمر يحتاج إلى السلطة ، ولا سلطة إلى له سبحانه (ذلِكُمُ) «ذا» إشارها ، و «كم» خطاب (اللهُ رَبِّي) أي أن الذي يحكم بين المختلفين هو ربي ، لا الأصنام العابرة الجاهلة (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في مهامي (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع في جميع أموري ، أو المعنى ، أتوب إليه.

[١٢] ثم وصف سبحانه بأنه (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومبدعهما ، من فطر بمعنى خلق ، وهو الذي (جَعَلَ لَكُمْ) أيها البشر

١٧

مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ

____________________________________

(مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من جنس نفوسكم (أَزْواجاً) ليسكن الإنسان إليها ، فإن «كل جنس لجنسه يألف» ولا يقال فكيف تكون في الآخرة زوجة الإنسان حورية؟ إذ هناك يلطف الإنسان ، حتى يكون كالملك فيتجانسان (وَ) جعل (مِنَ الْأَنْعامِ) الإبل والبقر والغنم (أَزْواجاً) ذكرا وأنثى ، لتكميل المنافع والنتاج ، لبقاء النسل ، فمن يا ترى جعل كل ذلك؟ (يَذْرَؤُكُمْ) ذرأ ، بمعنى أوجد ، أي يخلقكم ـ أنتم والأنعام ـ (فِيهِ) أي في هذا الجعل ، فإن امتداد نسل الإنسان والحيوان ، إنما هو بجعل الأزواج ، ولذا ينقطع من لا زوج له (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) من الأصنام وغيرها من سائر المعبودات ، والكاف إما زائدة لتأكيد النفي ـ كما هو شأن الزوائد غالبا ـ أي ليس مثله شيء ، قطعا ، أو هذا مبالغة ، فإن الشيء إذا لم يكن لما يشابهه مثل ، لم يكن له مثل بطريق أولى ، مع أنه سبحانه لا يشابه أحدا ، فهو غير منقطع عن خلقه (وَهُوَ السَّمِيعُ) للمسموعات (الْبَصِيرُ) للمبصرات ، فهو غير منقطع عن خلقه ، فقد أحاطهم علما وإدراكا.

[١٣] (لَهُ) سبحانه (مَقالِيدُ) جمع مقلاد وهو المفتاح (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإن مفتاح الصحة والمرض ، والغنى والفقر ، والحياة والموت ، والإيجاد والإعدام ، وغيرها ... ، بيده ، وهذا من باب التشبيه ، فإن من بيده المفتاح يكون مسيطرا على الخزينة التي منها العطاء والمنح (يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أي يوسعه (لِمَنْ يَشاءُ) من عباده

١٨

وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى

____________________________________

(وَيَقْدِرُ) أي يضيق الرزق لمن يشاء ، حسب حكمته في التوسعة والتضييق ، وليس معنى هذا ، أن لا مدخلية للطلب ، إذ الطلب من جملة الأشياء التي قررها سبحانه للرزق ، كما أن الزواج من جملة الأسباب التي قررها سبحانه للولد ، وإن كان الولد من خلقه تعالى (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ومن علمه جعل بعض الناس أغنياء ، بأن وسع عليهم ، وجعل بعضهم فقراء ، بأن ضيق عليهم.

[١٤] ثم أن هذا الخالق العظيم ، الذي بيده كل شيء ، وهو سميع بصير بكل شيء ، هو الذي شرع الدين لرفاه البشر ، ونظامه أفضل الأديان والأنظمة ، إذ يعرف ما يلائم حياة الإنسان ، وما لا يلائم ، ثم إن نظامه خال من الأغراض ، والأهواء والميول (شَرَعَ لَكُمْ) أيها المسلمون (مِنَ الدِّينِ) أي الإسلام ، ومعنى الشرع ، جعل النهج والنظام وأصله من الظهور ، ومنه الشريعة لظهور محل أخذ الماء على الشاطئ ، أو من الشروع بمعنى الابتداء (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) فالإسلام دين الأنبياء ، من شيخ المرسلين نوح الذي كان بدء العالم الجديد (وَ) هو (الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا رسول الله (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) فهؤلاء الأنبياء ، وغيرهم من سائر الأنبياء ، إنما بشروا بدين واحد ، كما قال الله سبحانه (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (١) وقد ذكرنا في بعض

__________________

(١) آل عمران : ٢٠.

١٩

أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ

____________________________________

المؤلفات ، إن الدين ينقسم إلى أصول وفروع وأخلاق ، والكل غير قادر للتبدل ، فالأصول : التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والوصاية ، والمعاد ، وهل هذا قابل للاختلاف؟ والفروع : خضوع يسمى الصلاة ، وإنفاق يسمى الزكاة ، وإمساك يسمى الصيام ، وذهاب إلى محل يذكر الله يسمى الحج ، وأمر بالمعروف ، ونهي عن المنكر ، وهل هذا قابل للنسخ؟ ثم بيع وشراء وإجارة وإرث ، وما أشبه ، ورذائل محرمة ، كالخمر والقمار ، وفضائل لازمة ، كالصلة وبر الوالدين ، وهل يمكن تحريف شيء منها؟ والأخلاق شجاعة وغيرة وبذل ومعونة وعفة ، وما أشبه ، وهل يمكن أن تنقلب الشجاعة رذيلة ، والجبن فضيلة ، وهكذا؟ نعم اختلاف في الحدود ، والقيود ، والآداب ، لا في الجوهر والأصل (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) متعلق ، ب «وصّى» أي أوصيناهم بإقامة الدين ، بأن يكون قائما غير دارس (وَلا تَتَفَرَّقُوا) أيها الأنبياء عليهم‌السلام أو أيها الناس ـ بأن يكون من باب الالتفات ـ (فِيهِ) أي في الدين ثم ذكر الله سبحانه ، إن الكفار يستعظمون دعوتك إلى التوحيد ، لأنهم عباد أصنام قد توارثوها عن الآباء (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) بالله (ما تَدْعُوهُمْ) من التوحيد والإخلاص (إِلَيْهِ) أو المراد كبر عليهم دعوتك إلى نفسك بالرسالة ، إذ قالوا ، كيف صار رسولا من بيننا (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (١)؟ وهذا المعنى أقرب إلى الجملة التالية (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) أي أن الله سبحانه يختار من يشاء للرسالة ،

__________________

(١) الزخرف : ٣٢.

٢٠