تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ

____________________________________

فإن إجراءها للسفر والتجارة ، ورؤية الآيات (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإجراء في البحر (لَآياتٍ) دالة على الله وصفاته (لِكُلِّ صَبَّارٍ) يصبر عند البلاء (شَكُورٍ) يشكر عند الرخاء ، وكان الإتيان بهاتين الصفتين هنا ، لما يطرأ على الإنسان ، من هاتين الحالتين ، عند ركوب البحر من الأهوال المحتاجة إلى الصبر ، والإنجاء المحتاج إلى الشكر ، فإن الصابر الشاكر ـ وهو المعترف بالله ـ هو الذي يدرك الآيات ، أما الجاهل المضطرب النفس ، فلا يدرك الآيات ، ولا يعيرها أهمية.

[٣٣](وَإِذا) ركب الناس السفينة و (غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) فإن الموج أحيانا يركب على السفينة ، كالظلة التي تلقى عليها ، فيدخل فيها قسم من ماء الموج ، وإنما جاء بالجمع في قوله «كالظلل» وهو جمع ظلة ، لأن للموج طبقات ، تعلو طبقة على طبقة (دَعَوُا اللهَ) أي الركاب ، في حال خوفهم من الموج أن يغرق السفينة بمن فيها ، في حال كونهم (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي قد أخلصوا له الطريقة ، بأن صار توجههم إليه وحده ، وانصرف المشركون من الراكبين عن آلهتهم (فَلَمَّا) ذهب الموج ، وأمنوا الخطر ، و (نَجَّاهُمْ) الله (إِلَى الْبَرِّ) بأن خرجوا من السفينة بسلام (فَمِنْهُمْ) أي بعض أولئك الراكبين (مُقْتَصِدٌ) ، أخذ طريق القصد والعدل ، فيبقى على إيمانه بالله (وَ) منهم راجع إلى كفره وشركه ، و (ما يَجْحَدُ بِآياتِنا) الدالة على وجودنا ، وسائر صفاتنا ، ومن تلك الآيات الإنجاء ، من أهوال البحر (إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ)

٢٨١

كَفُورٍ (٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ

____________________________________

من ختر ، بمعنى غدر بالعهد (كَفُورٍ) لله سبحانه ، في المجمع : قيل إن هذا كان سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل ، وهو إخلاصهم الدعاء في البحر ، فقد روي السدّي عن مصعب بن سعد عن أبيه ، قال لما كان يوم فتح مكة أمّن رسول الله ، الناس ، إلا أربعة نفر ، قال : اقتلوهم ، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ، عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن أخطل ، وقيس بن صبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فأما عكرمة ، فركب البحر ، فأصابته ريح عاصفة ، فقال أهل السفينة أخلصوا ، فإن آلهتكم ، لا تغني عنكم شيئا هاهنا ، فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر ، إلا الإخلاص ، ما ينجيني في البر غيره؟ اللهم إن لك علي عهدا ، إن أنت عافيتني مما أنا فيه ، أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده ، فلأجدنه عفوا كريما ، فجاء فأسلم (١) ... وقد قبل النبي إسلامه ، ومن طريف الأمر إن الإنسان كلما وقع في مشكلة ، لا بد وأن يعرف ما ينجيه ، وما لا ينجيه ، ثم إذا ارتفعت المشكلة ، رجع إلى تقاليده البالية ، وما يفرضه العرف والاجتماع عليه.

[٣٤] وإذا أتم الاحتجاج مع الناس حول الألوهية والمعاد ، جاء السياق لتخويفهم عاقبة أمرهم ، بقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أي خافوا عقابه (وَاخْشَوْا يَوْماً) هو يوم القيامة (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) أي لا يغني أحد أحدا ، حتى أن الأب الرؤوف بأولاده لا يتمكن من

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٨ ص ٩٥.

٢٨٢

وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ

____________________________________

خلاصهم (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) والابن لا يغني عن أباه ، حتى الشيء القليل (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والجزاء (حَقٌ) آت لا ريب فيه (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بأن تصرفكم زهرتها عن الإيمان حتى تذوقوا العذاب يوم القيامة (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) أي لا يجرأنكم على عصيان الله ، الشيطان (الْغَرُورُ) الذي يغر كثيرا.

[٣٥](إِنَّ اللهَ) هو العالم القادر ، هو عالم بما تعملون ، وقادر على البعث والجزاء ، ألا ترون إلى آثار علمه وقدرته عندكم ، فإنه سبحانه (عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) بمعنى ، في أي وقت تقوم القيامة (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) أي المطر الدال على كمال قدرته (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أي أرحام النساء ، من ذكر وأنثى ، صحيح أو سقيم ، جميل أو قبيح ، وهكذا ، ولو لم يعلم ذلك لم يتمكن من صنعه بهذه الدقة المدهشة ، أما أنتم أيها البشر ، فأسرعوا في التوبة والرجوع ، إلى هذا الإله العالم القادر ، والعمل الصالح (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر ، فلا تسوّفوا التوبة والعمل لغد ، فلعلّ ما أردتم فيه ، لم تتمكنوا من إنجازه (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) فلعله مات في نفس مكانه ، لم يقدر على الجري ، ليصلح شأنه ، إن سوّف التوبة ، والعمل

٢٨٣

إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)

____________________________________

الصالح ، فيبادر الإنسان في زمانه ، ومكانه إلى الرجوع إليه سبحانه ، قبل أن يتحسر ويندم ، ولات ساعة مندم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأعمالكم وضمائركم (خَبِيرٌ) ولعل الفرق بين الوصفين ، إن الثاني أدق من الأول ، في إفادة المراد ، لدى اجتماعهما ، فالخبير ، من يعلم كنه الأشياء ، وجميع مزاياها.

٢٨٤

(٣٢)

سورة السجدة

مكيّة / آياتها (٣١)

سميت السورة بهذا الاسم ، لاشتمالها على مادة السجدة ، في قوله «خروا سجدا» وهي كسائر السور المكية ، تعالج قضايا العقيدة بشعبها المختلفة ، قال في المجمع : ختم الله سبحانه السورة التي قبلها بدلائل الربوبية ، وافتتح هذه السورة أيضا بها.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) باسم الإله الذي يرحم العباد ، نبتدئ السورة ، لكي نجعله عنوانا لنا ، وشعارا لأمورنا ، ونسترحم لطفه ، وعنايته ، بتذكر اسمه الرحمن الرحيم.

٢٨٥

الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ

____________________________________

[٢](الم) «ألف» و «لام» و «ميم» جنس لحروف هذه السور ، التي عجز البشر من الإتيان بمثلها ، أو إنها رموز بين الله والرسول ، أو لأن المشركين ، كانوا يصيحون حين يبدأ الرسول بالقرآن ، ليمنعوا الناس عن سماع صوته وإيقاعه في الغلط ، فكانت تنزل المقطعات لتوجب الدهشة فيهم فينصتوا استغرابا وهناك يلقّنوا القرآن ، أو غيرها من الأقوال.

[٣](تَنْزِيلُ الْكِتابِ) خبر ، ل «الم» واللام في «الكتاب» للعهد ، أي أن «الم» أو هذه الآيات ، تنزيل الكتاب الذي وعدتم به من قبل ، على لسان الأنبياء ، أو لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد وضع المصدر ، وهو «تنزيل» موضع المفعول ، فهذه الآيات ، هو الكتاب المنزل ، أو «الم» هو الكتاب المنزل ، كما وضع المصدر موضع الفاعل في «زيد عدل» أي عادل (لا رَيْبَ فِيهِ) أي ليس الكتاب محل ارتياب ، وإن ارتاب فيه المبطلون ، كما تقول : لا ريب في أن وقت طلوع الشمس أو الصبح ، يعني ليس محل ارتياب ، وإن كان هناك «سوفسطائيون» ينكرون ذلك ، أو يشكون فيه (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، وإلا فلو لم يكن من رب العالمين ، فلما ذا لا يتمكن البشر من الإتيان كمثله.

[٤](أَمْ يَقُولُونَ) أي بل يقول هؤلاء الكفار (افْتَراهُ) أي نسب الرسول القرآن إلى الله كذبا ، وليس الأمر كما يقولون (بَلْ هُوَ الْحَقُ) المطابق للواقع (مِنْ رَبِّكَ) أي من طرفه سبحانه ، وليس مفترى على الله تعالى ، كما زعموا ، وقد أنزله سبحانه (لِتُنْذِرَ) يا رسول الله

٢٨٦

قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ

____________________________________

(قَوْماً) بأنهم إن بقوا على الكفر ، وعملوا بالمعاصي ، كان مصيرهم إلى النار (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) فإن كفار مكة ، لم يأتهم رسول ينذرهم قبل بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي لكي يهتدوا إلى طريق الله سبحانه.

[٥] ثم بين سبحانه «رب العالمين» بقوله أنه هو (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من أنواع الحيوان ، والإنسان والنبات ، والهواء ، والملائكة ، وغيرها (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وقد جرت عادته سبحانه على التدريج في الخلق ، كما نشاهد في خلق الإنسان ، والنبات ، والحيوان ، وعلى هذا الناموس العام ، كان خلق الكون تدريجيا في ستة أيام والسر في هذا العدد الخاص ، هو السر ، في أي عدد كان ، وهو السر في تسعة أشهر للحمل ، والمدة الفلانية في النبات ، والحيوان ، وهكذا ، فهو أحد مصاديق التدريج ، والظاهر ، أن المراد مقدار ستة أيام ، وإلا فقبل الشمس ، لم يكن نهار وليل (ثُمَّ اسْتَوى) سبحانه (عَلَى الْعَرْشِ) أي استولى عليه ، وهذا معنى كنائي ، كما يقال : استوى الملك على سرير الملك ، يراد أنه ، أخذ زمام السلطة بيده ، وإن لم يكن هناك سرير ، والإتيان بثم مع أنه سبحانه ، كان قائما على كل شيء ، لأنه لم يكن قبل خلق الكون شيء ، حتى يقال : استولى عليه ، فتحقق الاستيلاء ، إنما هو بتحقق المستولى عليه (ما لَكُمْ) أي ليس لكم أيها البشر (مِنْ دُونِهِ) أي سواه سبحانه (مِنْ وَلِيٍ) يلي

٢٨٧

وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ

____________________________________

أموركم ، ويقدر ويدبر شؤونكم ، فإن الأصنام مخلوقة ، لا تملك لنفسها شيئا ، فكيف تملك لكم؟ (وَلا شَفِيعٍ) في إنجائكم من الهلكات الدنيوية ، والأخروية ، فإن الخلق ، والولاية ، والشفاعة ، كلها له وحده ، فإن أراد إنقاذ أحد أشار هو بشفاعة نبي أو عظيم ليشفع له ، كما قال (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (١) (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أيها البشر ، ما أودع فيكم من الفطرة الدالة على أن للكون إلها قويا يسيّره ، وليس ذلك لهذه الأصنام ، أو ما أشبهها؟

[٦] وهو سبحانه (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي جنس الأمر المرتبط بهذا العالم ، فيأتي (مِنَ السَّماءِ) وإنما جعل سبحانه تدبير أمر الأرض في السماء ، حسب حكمته البالغة ، كما قال (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) (٢) وإلا لم يكن له حاجة إلى ذلك ، وليس ذلك ، لأنه تعالى أقرب إلى السماء منه إلى الأرض ، بل الجميع لدى عظمته سواء ، ولا مكان له ولا جسمية ، حتى يكون أقرب إلى بعض من بعض (إِلَى الْأَرْضِ) أي تدبيرا ينتهي إلى الأرض (ثُمَّ يَعْرُجُ) أي يصعد الأمر (إِلَيْهِ) تعالى ، والظاهر ، أن التعبير ، ب «يعرج» باعتبار ارتفاع مقام الله سبحانه ، كما إذا سألت أحدا من أعضاء الحكومة أمرا ، يقول : «أراجع فوقي» يريد فوقه في الرتبة ، لا في المكان ، ومعنى صعود الأمر إليه ، أن النتائج والآثار التي ظهرت من الأمر ، يكون بنظره سبحانه ، أو أن العروج ،

__________________

(١) الأنبياء : ٢٩.

(٢) الذاريات : ٢٣.

٢٨٨

فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧)

____________________________________

والنزول ، باعتبار ، أن تقديرات الأرض تكون في السماء ، ثم تصعد الآثار إلى السماء (فِي يَوْمٍ) أي أن النزول والعروج منسوبان إلى يوم ، فإن «في» بمعنى النسبة (كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) فهما في زمان يسير ، لكن المسافة الحقيقة ، هي تقطع في ألف سنة ، خمسمائة سنة نزولا ، وخمسمائة سنة صعودا ، أو أن المراد ، أن نتائج الأعمال ، إنما ترفع إلى مقام جلال الله سبحانه ، في يوم القيامة ، الذي يعادل ألف سنة.

[٧](ذلِكَ) الذي خلق السماوات والأرض بتلك الأوصاف (عالِمُ الْغَيْبِ) أي يعلم ما غاب عن الحواس (وَالشَّهادَةِ) الأشياء ، التي يشاهدها الإنسان بإحدى حواسه (الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه (الرَّحِيمُ) الذي يرحم الخلق ، ويتفضل عليهم بأنواع النعم.

[٨](الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) بأن أتى بأحسن المزايا والخصوصيات ، التي يمكن أن يكون الخلق عليها ، على نحو يقتضي الحكمة والصلاح ، فحتى الإنسان الأعمى أحسن الله في خلقه غاية الإحسان ، فإن العمى ، وإن كان نقصا في ذاته ، إلا أنه جعله عبرة وعظة ، وما أعدّ له من الثواب ، إن صبر وعمل صالحا ، يردفه في جملة ما حسّن خلقه (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) فإن آدم خلق من الطين ، الذي هو تراب مخلوط بالماء.

٢٨٩

ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ

____________________________________

[٩](ثُمَّ جَعَلَ) الله سبحانه (نَسْلَهُ) أي ولده وذريته (مِنْ سُلالَةٍ) أي صفوة ، قد سلّت من غيرها ، ويسمى ماء الرجل سلالة ، لانسلاله من صلبه (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي حقير ، من هان ، بمعنى حقر ، والمراد به «المني» فإنه حقير مهان لرائحته وقذارته.

[١٠](ثُمَّ سَوَّاهُ) أي جعله بشرا سويا ، بإعطائه الآلات والحواس والأعضاء (وَنَفَخَ فِيهِ) أي في ذلك الماء الذي سواه (مِنْ رُوحِهِ) أي الروح الذي خلقه ، والإضافة تشريفية ، كإضافة البيت إلى الله سبحانه في قولنا «بيت الله» للكعبة والمسجد ، وحيث أن الروح جوهر لطيف عبر بالنفخ ، كما ينفخ الهواء في الزق (وَجَعَلَ) الله (لَكُمُ) أيها البشر (السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) جمع فؤاد ، وهو القلب ، وتخصيص هذه الأعضاء بالذكر ، لما يشاهد لها من الفوائد الجمة ، كما أن الإتيان بالسمع مفردا مرادا به الجنس ، بخلاف الأبصار والأفئدة ، جمعا للتفنن في الكلام ، الذي هو من أبواب البلاغة (قَلِيلاً ما) «ما» زائدة لتأكيد «قليلا» (تَشْكُرُونَ) نعم الله سبحانه.

[١١] وبعد ذكر المبدأ ، أتى السياق ، لذكر المعاد (وَقالُوا) أي من أنكروا البعث (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) بأن صرنا ترابا ، وتفرقت أجزاؤنا ، بحيث لا يقدر على تميزها من غيرها ، من أراد التمييز (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)؟

٢٩٠

بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا

____________________________________

بأن نرجع إلى الحياة؟ إن هذا لا يمكن أبدا ، فإن تمييز أجزائنا عن غيرها ، لا يمكن ، فكيف بجمعها وصنعها إنسانا من جديد (بَلْ هُمْ) أي هؤلاء الكفار (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) أي لقاء جزائه وحسابه (كافِرُونَ) وإلا فلم يدل دليل على امتناع ذلك ، والمعنى أن قولهم هذا ناشئ من كفرهم ، لا عن دليل دلّهم على استحالة الإعادة.

[١٢](قُلْ) يا رسول الله لهم (يَتَوَفَّاكُمْ) أي يميتكم (مَلَكُ الْمَوْتِ) أي الملك الموكل بإماتة الناس ، وهو عزرائيل عليه‌السلام (الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) وكله الله سبحانه ، لوفاتكم ، فالوفاة هكذا ، وليست اعتباطا ، كما يزعم الجاهلون ، فإنهم حيث لا يرون أحدا يظنون أن الأسباب الظاهرة ، هي العلة التامة للوفاة (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) إلى حسابه وجزائه رجوعكم.

[١٣] وهناك يأتي المجرمون نادمين على ما فرطوا في دار الدنيا من الكفر والعصيان (وَلَوْ تَرى) يا رسول الله ، أو كل من يتأتى منه الرؤية ، وجواب «لو» محذوف ، والتقدير «لرأيت أمرا فظيعا» (إِذِ الْمُجْرِمُونَ) الذين أذنبوا (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) قد طأطؤوها حياء ، وندما ، وذلا (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في موقف الحساب ، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، وعند ذلك يقولون : يا (رَبَّنا أَبْصَرْنا) ما كنا نعمى عنه ، في دار الدنيا (وَسَمِعْنا) ما كنا نصم عنه في الحياة (فَارْجِعْنا) إلى

٢٩١

نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ

____________________________________

الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً) كما تأمر (إِنَّا مُوقِنُونَ) قد تيقنا صدق كلامك ووعدك ، ولكن هل يرجعون؟ كلا! وهل يصدقون في أنهم لو رجعوا عملوا صالحا؟ كلا! إنها كلمة هو قائلها.

[١٤](وَلَوْ شِئْنا) أن نجبر الناس على الهداية (لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي أعطيناهم الهداية بالجبر ، بأن نلجأهم إلى الإيمان ، والعمل الصالح ، ولكن ذلك يبطل التكليف ، كما يبطل الثواب والعقاب ، ويكون الناس حينئذ ، كالحجارة ، التي لا مدح لها ولا ذم ، فإنما تفعل ، ما تفعل بالطبع والقسوة لا بالاختيار والرغبة (وَلكِنْ) لأن شاء ذلك ، وقد (حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي ثبت ولزم ما قلته سابقا ، من إعطاء الاختيار للناس ، حتى يذهب بعض إلى الجنة ، ممن أطاع وآمن ، و (لَأَمْلَأَنَ) من ملأ بمعنى الإكثار من المظروف حتى يمتلئ الظرف ، ولا يكون له بعد مجال لأخذ الزائد (جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ) أي الجن (وَالنَّاسِ) الكفار والعصاة (أَجْمَعِينَ) وإنما ذكر هذا الشق ، من شقي الناس والجان ، لأنه محل الكلام ، فإن الحديث بالنسبة إلى المجرمين.

[١٥] وإذ يدخل النار الكفار ، من الصنفين يخاطبون من قبل الله سبحانه (فَذُوقُوا) العذاب ، والمذوق هو الإدراك بحاسة اللسان ، أو حاسة اللمس ، أو مطلق الحواس (بِما نَسِيتُمْ) أي بسبب نسيانكم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ

٢٩٢

هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥)

____________________________________

هذا) والتعبير بالنسيان ، باعتبار جعل الإنذار مهملا غير معتنى به ، كالناسي للشيء ، والمراد باليوم القيامة (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي أهملناكم ، ولم نعتن بكم ، لننقذكم من العذاب ، وإنما استعمل النسيان في الإهمال ، لعلاقة المشابهة (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي العذاب الذي هو خالد ، لا زوال له بسبب ما (كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من أنواع الكفر والعصيان.

[١٦] لقد رأينا الكفار ، وما صاروا إليه من العذاب الدائم ، فلنعطف النظر إلى المؤمنين ومصيرهم الكريم ، فمن هو المؤمن ، وما مصيره؟ (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) يصدق بها ، ويتفكّر فيها ، ليستدل بها على الصانع وصفاته (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها) بأن ذكرهم الرسول ، أو بعض المؤمنين بتلك الآيات ، بأن أروهم الآيات الكونية ، أو الآيات القرآنية ، ثارت فيهم غريزة الإيمان ف (خَرُّوا سُجَّداً) جمع ساجد ، أي ألقوا بأنفسهم على الأرض ، في هيئة الساجد بوضع جباههم على التراب تعظيما لله سبحانه ، وشكرا لنعمه (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي نزهوه عن النقائص ، بنحو الحمد والثناء الجميل ، فإن التنزيه ، قد يؤدى بالنحو السلبي ، كأن يقال : «فلان ليس بجبان» ، وقد يؤدى بالنحو الإيجابي ، كأن يقال : «فلان شجاع» فإنه تنزيه وحمد ، والأول ، لا يلازم الثاني ، بخلاف الثاني ، فإنه حمد وتسبيح (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن التواضع لله ، عملا بالسجود ، ولسانا بالحمد والثناء.

٢٩٣

تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)

____________________________________

[١٧] ومن صفاتهم أنهم (تَتَجافى) من التجافي ، وهو الابتعاد ، أي تبتعد وترتفع (جُنُوبُهُمْ) جمع جنب (عَنِ الْمَضاجِعِ) جمع مضجع ، وهو محل النوم ، أي أنهم يقومون بالليل لأداء الصلاة (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) ويناجونه (خَوْفاً) أي لأجل الخوف من عذابه (وَطَمَعاً) في ثوابه (وَ) هم (مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في سبيل الله ، و «مما رزقنا» عام يشمل العلم ، والمال ، والجاه ، وغيرها. وهاتان الآيتان ، مشتملتان على السجدة الواجبة ، فإذا تلاهما الإنسان ، أو سمعها ، وجب أن يسجد.

[١٨] إن المؤمنين هم أولئك الذين ذكرت أوصافهم ، فلننظر إلى مصيرهم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ) مؤمنة بالله ، عاملة للصالحات (ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) أي ما خبأ الله لهم من النعيم ، الذي يسبب قرة أعينهم ، الموجب لاستقرار العين ، رضا وطمأنينة ، في مقابل الإنسان الخائف الذي تتحرك عينه هنا وهناك ، ليجد ملجأ وملاذا ، وقد ورد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : إن الله يقول أعددت لعبادي الصالحين ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وإنما أخفي للمؤمنين هذا النعيم العظيم (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الإيمان بالأصول ، والصالحات فإن الإيمان أيضا عمل ، أو على تغليب العمل على العقيدة ، لأنه أكثر منها عددا.

[١٩] ثم بين سبحانه ، إن التفاوت في الجزاء ، إنما هو للتفاوت بين الأعمال

٢٩٤

أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠)

____________________________________

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟) وهذا استفهام للتقرير ، أي ليس المؤمن كالفاسق ، والمراد به أعم من الفسق في العقيدة ، أو في العمل (لا يَسْتَوُونَ) أي لا يعادل أحدهما مع الآخر ، ولذا اختلف جزاءهما.

[٢٠](أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وبرسوله ، وبما جاء به (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) التي هي الإتيان بالفرائض ، واجتناب الرذائل (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) «ومأوى» اسم مكان من آوى ، بمعنى اتخذ المنزل ، والمسكن ، والمراد الجنات ، التي هي مسكن للمؤمنين (نُزُلاً) هو ما يعد للضيف ، أو ينزلهم الله فيها نزلا (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بسبب أعمالهم ، التي عملوها في دار الدنيا.

[٢١](وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) أي خرجوا عن طاعة الله ، إما بالكفر أو العصيان (فَمَأْواهُمُ) ، أي مصيرهم ، الذي يأوون إليه (النَّارُ) في جهنم (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) أي كلما هموا بالخروج من شدة العذاب وألم النار (أُعِيدُوا) أي ردتهم الملائكة الموكلة بهم (فِيها) فلا مخلص لهم من العذاب (وَقِيلَ لَهُمْ) إهانة وازدراء بهم (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) فقد كانوا يكذبون بالنار تكذيبا عقيديا كالكفار ،

٢٩٥

وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢)

____________________________________

أو عمليا كالفساق.

[٢٢](وَلَنُذِيقَنَّهُمْ) أي الفساق (مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) وهو ضنك العيش في الدنيا ، وعذاب القبر ، ومن مصاديق العذاب الأدنى ، ما يلاقيه المجرمون زمن ظهور الإمام الثاني عشر ، كما ورد في الحديث (١) (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) أي قبل أن نذيقهم من العذاب الأكبر في الآخرة ، وهي جهنم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لكي يرجعوا عن كفرهم وعصيانهم ، فإن الإنسان ، إذا رأى الأذى ، والعذاب جاش في نفسه حب الخير ، والعمل الصالح.

[٢٣](وَمَنْ أَظْلَمُ) أي أيّ شخص أكثر ظلما (مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) أي ذكره الأنبياء والأوصياء والمرشدون (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) ولم يقبلها؟ والمعنى لا أحد أظلم من هذا الشخص ـ وذلك إضافي ، كما مر غير مرة ـ ولا يظن مثل هذا الشخص ، إنه لا يرى وبال إعراضه ، ف (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا بالكفر والعصيان (مُنْتَقِمُونَ) بإحلال العقاب بهم.

[٢٤] ثم يأتي السياق ليسلّي الرسول فيما يتحمله من الأذى ، ويسلي المؤمنين بأن لهم العاقبة المحمودة ، فإن حال الرسول حال موسى ـ

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٨ ص ١١٠.

٢٩٦

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤)

____________________________________

فإنهما يتلاقيان في الأصول والفروع ، إلا في اختلافات ، لا ترجع إلى جوهر الدين ـ وحال المؤمنين بالرسول ، حال بني إسرائيل ، فكما نصرنا موسى عليه‌السلام وبني إسرائيل على أعدائهم ، ننصر الرسول والمؤمنين به على أعدائهم (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة ، وهذا كناية عن إرساله إلى القوم لهدايتهم (فَلا تَكُنْ) يا رسول الله (فِي مِرْيَةٍ) أي في شك (مِنْ لِقائِهِ) أي من الالتقاء بموسى في العقيدة والشريعة. وهذا كما يقال يتلاقى فلان وفلان في العقيدة ، وهذه الجملة كناية عن أول طريق الرسول طريق موسى ، فمصيره كمصيره ، في النصرة والغلبة على الأعداء (وَجَعَلْناهُ) أي الكتاب (هُدىً) أي هداية وإرشادا (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) فإنهم اهتدوا بالتوراة عن الضلالة والانحراف.

[٢٥](وَجَعَلْنا مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل (أَئِمَّةً) جمع إمام ، وهو المقدم في الدين (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) وإذننا لهم في الهداية ، فإنه لا يحق لأحد أن ينصب نفسه علما للهداية ، إلّا بإذن (لَمَّا صَبَرُوا) أي أن جعلهم أئمة ، بسبب صبرهم على المكاره وأذى الجهال ، وصمودهم في تطبيق أوامرنا (وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) لا يشكون فيها ، اللازم لو أن يعملوا على طبقها ، فإن صاحب اليقين يعمل صالحا ، ويترك السيئ ، وهذا تعريض بالمؤمنين بالرسول ، بأنهم إن صبروا وجعلناهم أئمة ، كما تقول لأحد ولدك : لقد أمرت ابني فلانا بكذا ، وأنت في نفس طريقه ،

٢٩٧

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦)

____________________________________

وأعطيته المال وجعلت جماعة يتبعونه ، تريد التعريض بهذا الولد المخاطب ، بأن عاقبته كعاقبة ذلك الابن الأول.

[٢٦] وحيث ينتهي الكلام إلى هنا يختلج في ذهن السامع ، أن يسأل ، فما بال هؤلاء اليهود الذين نراهم ليسوا كذلك؟ ويأتي الجواب ، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) أي بين بني إسرائيل الصالحين منهم ، والطالحين (يَوْمَ الْقِيامَةِ) فصلا يؤدي إلى إعطاء كلّ ما يستحق من النعيم أو الجحيم (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فإن بعضهم غيّروا شريعة موسى ، ولعبت أهواؤهم بها ، وبعضهم بقوا على الشريعة ، بلا تغيير أو تحوير.

[٢٧] ثم يرجع السياق إلى قصة الكفار (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) استفهام إنكاري ، أي كيف لم يبصرهم (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) والأجيال ، التي كانت تكذب بآيات الله ، وتعصي أحكام الله (يَمْشُونَ) أي هؤلاء الكفار (فِي مَساكِنِهِمْ) أي في مساكن أولئك ، فإنهم في رحلتهم الشتائية ، إلى اليمن ، والصيفية إلى الشام ، كانوا يمرون بمساكن عاد وثمود ، وقوم لوط ، وغيرهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإهلاك لأولئك الكفار (لَآياتٍ) دلالات دالة على وجود الله ، وعلمه وقدرته ، وانتقامه من الظالمين (أَفَلا يَسْمَعُونَ) أي ألا يسمع هؤلاء الكفار تلك الآيات سماعا يؤدي إلى رجوعهم ، عن غيّهم إلى الحق.

٢٩٨

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ

____________________________________

[٢٨] وكيف يكفر هؤلاء الكفار بالله ، مع أنهم يرون آياته ، وآثاره؟ وحيث هددهم في الآية السابقة بالعذاب ، ذكر لهم نعم الله عليهم ، لعلهم يشكرونه ، فالعذاب والرحمة ، كلاهما ماثلان أمام أعينهم ، ليؤمنوا رهبة أو رغبة (أَوَلَمْ يَرَوْا) استفهام إنكاري ، أي كيف لا يرون هذه النعمة ، ليؤدوا شكرها؟ (أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) بواسطة المطر أو الأنهار (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) وهي الأرض اليابسة ، التي ليس فيها نبات ، من قولهم سيف جراز ، أي قطاع لا يبقي شيئا إلا قطعة ، فالأرض قد جرز نباتها ، أي قطع وأزيل ، فلا نبات لها (فَنُخْرِجُ بِهِ) أي بالماء (زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ) أي من ذلك الزرع (أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ) مما يعود بالخير إليهم (أَفَلا يُبْصِرُونَ) نعم الله عليهم؟ ليشكرون.

[٢٩](وَيَقُولُونَ) أي يقول الكفار (مَتى هذَا الْفَتْحُ) الذي تقول يا محمد ، أنت تفتح البلاد (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أيها المسلمون في ادعائكم ، إنكم ستفتحون البلاد؟ ففي أي وقت يكون؟ ولماذا لم يتحقق إلى الآن؟.

[٣٠](قُلْ) يا رسول الله لهم (يَوْمَ الْفَتْحِ) الذي نفتح فيه (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) بعد الفتح ، ووقوعهم أسرى في أيدي المسلمين ، فإن ذلك لا يفك أسرهم ، أو المراد بالفتح ، يوم مدتهم ، حيث يقولون للملائكة ، أمهلونا ، حتى نؤمن ، فلا يمهلونهم ، كما قال سبحانه

٢٩٩

وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)

____________________________________

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (١) (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي يمهلون.

[٣١](فَأَعْرِضْ) يا رسول الله (عَنْهُمْ) اتركهم وشأنهم بعد ما لم يؤثر النصح ، والتهديد ، والترغيب فيهم (وَانْتَظِرْ) موعد الفتح (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) وهذا تسلية للرسول ووعيد لهم ، والمراد ينتظر الفريقان ، حتى يرون الجميع لمن العاقبة الحسنة؟ ولمن العاقبة السيئة؟ وقد كان كما أخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد انتصر المسلمون ، وفتح الله لهم.

__________________

(١) النساء : ١٩.

٣٠٠