تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

(٣٣)

سورة الأحزاب

مدنيّة / آياتها (٧٤)

سميت السورة بهذا الاسم ، لاشتمالها على لفظة «الأحزاب» وطرفا من قصتهم ، وهي كسائر السور المدنية ، تشتمل على الأحكام والنظام ، والحرب ، وغيرها ، وإذا ختمت تلك السورة ، بانتظار الرسول يوم الفتح ، جاءت السورة مفتتحة لسير النبي في طريقه المرسوم له ، بلا أن يحرفه الكفار والمنافقين ، حتى يصل العاقبة المحمودة؟

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله الذي إن ابتدأ به شيء باركه وأتمه ، كما ورد كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله ، فهو أبتر ـ المفهوم منه ، إنه إن بدأ بالبسملة كان غير أبتر ـ وهو الرحمن الرحيم ، المتصف بالرحمة المتزائدة ، فإن تكثير الوصف يوجب تكثير الصفة ، كيف لا ، ولو لم تدرك الرحمة الإنسان (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) (١)

__________________

(١) فاطر : ٤٦.

٣٠١

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١)

____________________________________

[٢](يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) بإطاعة أوامره ، واجتناب نواهيه ، والرسول ، إنما كان مؤدبا بتعليم الله ، الذي منه هذا الأمر ، فلا يقال إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان متقيا ، فكان الأمر لغوا؟ وبالإضافة إلى أن معنى ذلك أدم على تقواك نحو اهدنا الصراط المستقيم (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) والمنافق هو الذي يظهر الإيمان ، ويبطن الكفر (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالحكم والمصالح (حَكِيماً) فلا يأمر إلا بالصالح ، ولا ينهى إلا عن الضار ، فإن بين العلم والحكمة عموما وجه ، كما هو واضح ، فمن الممكن أن يكون العالم غير حكيم ، أو الحكيم غير عالم ، قال في مجمع البيان : إنها نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبي الأعور السلمي ، قدموا المدينة ، فنزلوا على عبد الله بن أبيّ بعد غزوة أحد بأمان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكلموه ، فقاموا ، وقام معهم عبد الله ابن أبيّ ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وطعمة بن أبيرق ، فدخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا يا محمد ، أرفض ذكر آلهتنا ، اللات ، والعزى ، ومنات ، وقل أن لها شفاعة لمن عبدها ، وندعك وربك ، فشق ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عمر بن الخطاب : ائذن لنا يا رسول الله في قتلهم ، فقال : إني أعطيتهم الأمان ، وأصر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخرجوا من المدينة ، ونزلت الآية ، (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) من أهل مكة ، أبا سفيان ، وأبا الأعور ، وعكرمة ، والمنافقين ، ابن أبيّ ، وابن سعد ، وطعمة (١) ، وقيل : نزلت في أناس من ثقيف ، قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فطلبوا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ٤٩.

٣٠٢

وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣)

____________________________________

منه أن يمتعهم باللات ، والعزى سنة ، قالوا لتعلم قريش منزلتنا منك.

[٣](وَاتَّبِعْ) يا رسول الله (ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) من الأحكام والشرائع (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) أي أنت وأمتك ، ويأتي خطاب الرجل العظيم بالجمع ، باعتبار أتباعه معه (خَبِيراً) فيعلم من اتبع أمره ليجازيه عليه.

[٤](وَتَوَكَّلْ) يا رسول الله (عَلَى اللهِ) أي فوض أمرك إليه ، حتى لا يتمكن الأعداء من الوصول إليك ، ولا تخاف أحدا ، ولا ترجو أحدا (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فإنه قائم بأمرك وحفظك ، وحيث إن معنى «كفى» «اكتف» جاء متعديا إلى الفاعل بالباء.

[٥] وبمناسبة لزوم اتباع الوحي ، وعدم اتباع الكفار ، يأتي السياق ليقرر ، أنه لا يمكن للإنسان اتجاهان ، فليس له قلبان حتى يتجه بكل قلب إلى وجهة مضادة للوجهة الأخرى ، ولهذه العلة التي تقرر عدم إمكان اتجاهين يقرر السياق ، أن لا يمكن الجمع بين كون امرأة زوجة وأما ، أو كون رجل أجنبيا وولدا ، وبهذا يبطل أقوال وعادات جاهلية ، قال في المجمع : وقوله : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ) نزلت في أبي معمر جميل بن معمر بن حبيب النهري ، وكان لبيبا حافظا لما يسمع ، وكان يقول : إن في جوفي لقلبين ، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد ، وكانت قريش تسميه ذا القلبين ، فلما كان يوم بدر ، وهزم المشركون ، وفيهم أبو معمر ، وتلقاه أبو سفيان بن حرث ، وهو آخذ بيده إحدى نعليه ، والأخرى في رجله ، فقال له يا أبا معمر : ما حال

٣٠٣

ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ

____________________________________

الناس؟ قال : انهزموا ، قال : فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك ، فقال أبو معمر : ما شعرت إلا أنها في رجلي ، فعرفوا يومئذ أنه لم يكن له إلا قلب واحد ، لما نسي نعله في يده (١) (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) فإن كل إنسان له قلب واحد ، وذكر الرجل من باب المثال ، وإلا فالمرأة والطفل كذلك فلا يمكن أن يكون للإنسان اتجاهان ، اتجاه نحو الإيمان ، واتجاه نحو الكفر ، فيطيع الكفار ويطيع الله في آن واحد (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي) جمع التي ، والمراد بالأزواج الزوجات ، فإن زوج يطلق على الرجل ، والمرأة (تُظاهِرُونَ مِنْهُنَ) أي تقولون لهن «أنت عليّ كظهر أمي» فقد كانت العرب تطلق نساءها بهذا اللفظ ، فلما جاء الإسلام أبطل الطلاق به ، وإنما جعله موجبا للكفارة كما سيأتي تفصيله ، وكأنهم كانوا يقصدون أن الزوجة صارت كالأم ، فكما تحرم الأم تحرم الزوجة ، التي قيل لها هذا اللفظ (أُمَّهاتِكُمْ) فالزوجة لا تكون أما ، وإن قيل لها ألف لفظ (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ) جمع دعي ، وهو ما كان مرسوما عند العرب ، أن يتخذ الرجل الرجل ابنا له فكان له ما للأب والابن في جميع المزايا الاجتماعية (أَبْناءَكُمْ) فإن التبني لا يجعل الأجنبي ابنا ، وإن تعارف الاجتماع على ذلك ، وقد أبطلت هذه الآية الكريمة عادتين ، كانتا عند العرب لم يرتض بهما الإسلام ، في أنظمته

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٨ ص ١١٧.

٣٠٤

ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ

____________________________________

وتشريعاته ، قال في المجمع : نزلت في زيد بن شراحيل الكلبي من بني عبد ود ، تبناه النبي قبل الوحي ، وكان قد وقع عليه السبي ، فاشتراه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسوق عكاظ ، فلما نبيء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاه إلى الإسلام ، فأسلم وقدم أبو حارثة مكة ، وأتى أبا طالب ، وقال سل ابن أخيك ، فإما أن يبيعه ، وإما أن يعتقه ، فلما قال ذلك أبو طالب ، لرسول الله. قال : هو حر ، فليذهب حيث شاء ، فأبى زيد أن يفارق رسول الله ، فقال حارثة : يا معشر قريش اشهدوا إنه ليس ابني ، فقال رسول الله : اشهدوا إنه ابني فكان يدعى زيدا بن محمد ، فلما تزوج النبي زينب بنت جحش ، وكانت تحت زيد بن حارثة ، قالت اليهود والمنافقون : تزوج محمد امرأة ابنه ، وهو ينهي الناس عنها؟ فقال رسول الله : ما جعل الله من تدعونه ولدا ، وهو ثابت النسب من غيركم ولدا لكم. (١) (ذلِكُمْ) «كم» خطاب ، و «ذلك» إما إشارة إلى كل واحد من الأمرين «الظهار» و «التبني» أو إلى الأمر الثاني فقط (قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) فهو لفظ تقولونه ، لا يوجب حقيقة وواقعا (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) في أنه لا تصبح الزوجة أمّا ، والأجنبي ولدا بمجرد هذا اللفظ ، ولم يكن تبني الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزيد بمعناه الجاهلي ، حتى يقال : كيف يمكن أن يعمل الرسول شيئا غير ممضي من قبل الله سبحانه؟ بل للتشريف ، كما قال الإمام المرتضى : «محمد ابني من صلب أبي بكر» (٢) وهذا كان في مقابل طرد أبيه ، وسلبه شرفه الانتسابي ، فشرفه الرسول بالنسبة إلى نفسه من قبيل «سلمان منا أهل البيت» (٣) (وَهُوَ)

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ١٧٢.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤٢ ص ١٦٢.

(٣) بحار الأنوار : ج ١١ ص ٣١٣.

٣٠٥

يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)

____________________________________

سبحانه (يَهْدِي السَّبِيلَ) أي يرشد إلى الطريق الحق ، ويدل عليه.

[٦](ادْعُوهُمْ) أي ادعوا الأولاد (لِآبائِهِمْ) فقولوا «زيد بن حارثة» لا «زيد ابن محمد» (هُوَ أَقْسَطُ) أي أقرب إلى العدل ، وأفعل منسلخ عن معنى التفضيل ، وإنما يأتي بهذه الصورة ، لما يزعم البعض من أن طرفه الثاني ، عدل أيضا (عِنْدَ اللهِ) وإن كان عندكم لا قسط فيه ، أو العكس هو الأقسط (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا) أي تعرفوا (آباءَهُمْ) بأعيانهم وأسمائهم ، حتى تنسبوهم إليهم ، فقولوا يا أخ فإنهم إخوانكم (فِي الدِّينِ) إذ الآخرة هي العلقة الحاصلة بين طرفين ، بقرابة ، أو لسان ، أو وطن ، أو دين ، أو ما أشبه (وَمَوالِيكُمْ) أي عبيدكم ، إذا كانوا في الرق ، فقولوا يا مولاي ، وهذا مولى فلان (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) وحرج ، إذا قلتم «فلان ابني» للدعي (فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) سهوا وخطأ ، بعد النهي عن ذلك (وَلكِنْ) الجناح إنما يكون في (ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) بأن قصدتم هذا القول قصدا ، بعد أن نهى الله سبحانه عنه (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لمن عصى ، ثم ندم وتاب (رَحِيماً) بكم يتفضل عليكم بالرحم مضافا إلى الغفران.

[٧] ثم يأتي السياق ليقرر الولاية العامة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويحيط أزواجه بهالة من الأمومة الروحية ومن ثم يقرر ولاية بعض الأقرباء لبعض ، بمناسبة

٣٠٦

النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ

____________________________________

ما تقدم من ذكر بعض الروابط الاجتماعية ، التي كانت قبل الإسلام بالنسبة إلى بنوّة الدعي ، وأمومة المظاهر منها ، فالدعي ليس ابنا ، وإنما الأمة أبناء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمظاهر منها ليست أمّا ، وإنّما زوجات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمهات (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فكما يحق للإنسان أن يتصرف في شؤون نفسه المباحة ، كأن يبقى ، ويذهب ، ويعمل ، وغيرها ، كذلك للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الحق ، بل أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى فإذا أمر الرسول بشيء ، وأراد الإنسان شيئا آخر لزم تنفيذ أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن هذه الآية الكريمة ، استنبط الفقهاء القاعدة الفقهية «الناس مسلطون على أنفسهم» (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) فما للأم من الاحترام والإكرام ثابت لزوجات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن تلك حرمة نكاحهن بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن المعلوم أن هذه الشرافة تتبع طاعة الله سبحانه فإذا خرجت بعضهن إلى معصيته تعالى لم يبق لها ذلك الشرف ، ولذا ورد إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي عليه‌السلام : يا أبا الحسن ، إن هذا الشرف باق ما دمن على الطاعة ، فأيتهن عصت الله بعدي بالخروج عليك ، فأطلقها في الأزواج ، وأسقطها من تشريف الأمهات ، ومن شرف أمومة المؤمنين .. ثم إن من المعلوم ، إن ذلك شرف خاص ، فلا يتعدى إلى أقربائهن ، حتى يكون هناك جد المؤمنين وعم المؤمنين ، وخال المؤمنين ، وخالة المؤمنين ، وهكذا (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) أي أن فيما كتبه الله سبحانه على المؤمنين ، أن أصحاب الرحم ، وهم الأقرباء بعضهم أولى ببعض ، في الإرث والولاية ، وسائر الأمور ، فلا توارث ، ولا ولاية ، إلا للأرحام ،

٣٠٧

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ

____________________________________

إلا بقدر ما بيّنه الشارع ، كولاية السادة ، والإمام ، وضامن الجريرة (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) فلا ولاية غير النصرة الإسلامية ، بين المؤمنين ، بأن يرث بعضهم بعضا ، سواء كانوا مهاجرين أم لا ، قال بعض المفسرين : إن المهاجرين لما ذهبوا إلى المدينة ، كان بعضهم ، إذا مات قسمت تركته بين سائر المؤمنين وهذه الآية جاءت لتمنع عن ذلك ، أقول : لم يعلم أن ذلك كان من باب الإرث ، بل يحتمل أنه كان من باب ولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العامة ، وإلا فلم يدل دليل ، على أن الوارث المسلم ، لم يكن يرث ليرث المهاجر المسلم ، حتى تكون هذه الآية ناسخة قوله «من المؤمنين» والله العالم ، (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا) أيها المؤمنين (إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) وهذا استثناء منقطع ، والمعنى ، إن الولاية للأقرباء ، إلا أن يفعل بعض المؤمنين بأصدقائه المؤمنين معروفا ، بأن يوصي لهم بشيء من ماله ، أو يوصي إلى أحدهم بأيتامه ، فإنه تنفذ هذه الوصية في الحدود المقررة في الشريعة (كانَ ذلِكَ) الحكم بأن أولي الأرحام ، أولى إلا أن يفعل الإنسان إلى أوليائه معروفا (فِي الْكِتابِ) المحفوظ عند الله سبحانه (مَسْطُوراً) قد كتب وقرر.

[٨] وبمناسبة ما كتب في الكتاب من حكم الولاية بين أولي الأرحام ، يأتي ما سطر فيه من أخذ الميثاق عن النبيين ، وعن المؤمنين ، فإن هذا الحكم ـ وهو أولوية أولي الأرحام ـ من مصاديق ذلك الميثاق العام ، فمن أعطى ذلك الميثاق العام ، لزم عليه الوفاء بهذا الميثاق (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ

٣٠٨

أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ

____________________________________

أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) والمراد به العهد الأكيد بالقيام بالدعوة والتبليغ ، وبعد ذكر هذا العموم يأتي ذكر بعض الأنبياء المعروفين (وَمِنْكَ) يا رسول الله (وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) وهؤلاء الخمسة هم أولوا العزم من الأنبياء الذين بعثوا إلى شرق الأرض وغربها ، وقد خصصوا بالذكر ، ليعلم أنهم مع جلالة قدرهم وعظم شأنهم ، قد أخذ منهم الميثاق في العمل بما يأمر الله سبحانه ، وأخذ الميثاق ، إنما كان قبل تحميلهم حمل الرسالة في عالم الذر (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) شديدا بالوفاء والقيام ، وذلك لأهمية هذا المنصب الخطير ، الذي لا يساويه منصب مهما عظم.

[٩] وقد فعل الله ذلك ، ليكون الناس مقطوعي العذر ، قد تمت عليهم الحجة ، حتى يكون الصادق من الناس ، معرضا للثواب ، والكافر معرضا للعقاب ، وهذا كما تقول : قد أخذت من المعاون العهد الأكيد بالقيام على مهمة المدرسة ، لأنجح الطلاب العاملين ، وأطرد الخاملين منهم ، تريد أن هذا العهد ، إنما كان ليقوم المعاون بالمهمة ، فتم الحجة على الطلاب (لِيَسْئَلَ) الله (الصَّادِقِينَ) في الإيمان والمنهج ، فإن المؤمن صادق ، والمطيع صادق إذ من يجعل مع الله شريكا ، أو يكفر به ، فقد كذب في عقيدته ، وقوله ، كما أن من يعصي ، قد كذب في عمله ـ فإن الكذب هو الخروج عن الحقيقة ، في قول أو عمل ـ (عَنْ صِدْقِهِمْ) أي عن عقيدتهم ، وقولهم وعملهم ، فيجازيهم

٣٠٩

وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ

____________________________________

بالجنات ، فإن السؤال ، إنما هو للجزاء (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ) بعد أن يسأل عنهم (عَذاباً أَلِيماً) أي مؤلما موجعا ، وقد تفنن السياق ، بذكر السؤال عن المؤمن والعقاب للكافر ، وحذف في الأول النتيجة ، وفي الثاني السؤال.

[١٠] ثم يذكّر الله سبحانه المؤمنين ببعض نعمه عليهم ، مما يقوي فيهم روح الإيمان ويستمروا على الصدق (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إما خاص بمن كان في الواقعة ، وإما عام شامل لكل المؤمنين باعتبار ، أن ذلك النصر عاد على الجميع بالخير (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) في قصة غزوة الأحزاب (إِذْ جاءَتْكُمْ) أيها المؤمنون (جُنُودٌ) من الكفار لتدميرهم (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) هبت عليهم حتى أكفأت قدورهم ، ونزعت فساطيطهم ، ورمت بالرمل والحصباء في وجوههم (وَ) أرسلنا (جُنُوداً) من الملائكة لإلقاء الرعب في قلوبهم (لَمْ تَرَوْها) بأعينكم (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) فإنه سبحانه أبصر أتعابكم وأعمالكم في حفر الخندق ، وتنظيم الجيش والعمل لأجل إنجاح المؤمنين ، وغير ذلك.

[١١] واذكروا (إِذْ جاؤُكُمْ) أي جاءكم جنود الكافرين (مِنْ فَوْقِكُمْ) أي فوق الوادي قبل المشرق ، وهم قريظة ونضير وغطفان (وَمِنْ أَسْفَلَ

٣١٠

مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١)

____________________________________

مِنْكُمْ) من قبل المغرب من ناحية مكة ، أبو سفيان في قريش ، ومن تبعه (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) من المؤمنين خوفا ، وزيغ البصر ميله عن كل اتجاه نحو اتجاه العدو ، فلا يكون كالبصر العادي يتحرك هنا وهناك (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) جمع حنجرة ، وهي منتهى الحلق ، وذلك لأن الإنسان الخائف تنفتح رئته فتضغط على قلبه ، فيصعد قلبه نحو الحنجرة (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) أي الظنون السيئة ، أو المراد الظنون المختلفة ، فظن المؤمنون النصر ، والمنافقون الهزيمة.

[١٢] (هُنالِكَ) في تلك الوقعة (ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) امتحنوا واختبروا ليظهر الصادق منهم من الكاذب ، والصابر والجازع (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) أي حركوا بسبب الخوف تحريكا عنيفا ، في معتقدهم وأقوالهم ، وأعمالهم ، فكما أن الزلزلة تحرك الأجسام ، فالحوادث تحرك الأشخاص ، ومختصر القصة (١) في غزوة الأحزاب وتسمى الخندق يئس المشركون واليهود والقبائل من إمكان القضاء على الإسلام بانفرادهم فتفكروا في تجميع قواهم لضرب الإسلام فتجمعت عشرة آلاف مقاتل من قريش ، وبني سليم وأسد ، وفزارة ، وأشجع ، وغطفان ، عدا يهود بني قريظة ، ولما علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأمر استشار أصحابه في الأمر؟ فإن هذه القوة الهائلة ، لا يمكن الصمود أمامها ،

__________________

(١) قادة الإسلام للمؤلف.

٣١١

____________________________________

وأخيرا قرر الرسول عدم الخروج من المدينة ـ بإشارة سلمان الفارسي ـ بأن يحفر خندق حولها ، ويجعل للخندق جهة خاصة للقتال ، لئلا يحيط العسكر بالمسلمين ، فيبيدوهم عن آخرهم ، وقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عهد بحسن الجوار ، مع بني قريضة ، وهم يهود قرب المدينة ، لكن «الأحزاب» تمكنت من استمالة بني قريظة ، لنقض العهد ، وبذلك دخل في قلوب المسلمين رعب عظيم ، وبعد أن فرغ المسلمين من حفر الخندق ، أتتهم الجيوش كالسيل ، كما وصفها الله سبحانه «إذ جاءوكم .. إلى آخره» وبعد ما تم حفر الخندق ، خرج الرسول في ثلاثة آلاف من المسلمين ، ليواجهون الأحزاب وبينهما الخندق ، وطال الأمر بين الطرفين بضعا وعشرين ليلة ، لم يكن بينهما إلا الرمي ، فإن الأحزاب لم يقدروا على العبور ، والمسلمين لم يشاءوا ذلك وبعدها ، جاء عمرو بن عبد ود ، وعكرمة بن أبي جهل ، وجماعة آخرون ، من أقوى شجعان الأحزاب ، فعبروا الخندق من مضيق كان فيه ، ثم أخذوا يجولون ، ويصولون ، يطلبون المبارزة من المسلمين ، لكن المسلمين قد أخذتهم الرهبة فلم يجرأ أحد منهم على الإقدام ، فأنشأ عمرو بن عبد ود ،

ولقد بححت من النداء

بجمعكم هل من مبارز

إلى آخر الأبيات ، وهنا قام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، يستأذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمبارزته ، ولكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يأذن له ليمتحن بعض المسلمين ، وأخيرا أذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام ، فخرج الإمام من معسكر المسلمين ، يريد مبارزة عمرو وأنشد يقول في جوابه :

٣١٢

____________________________________

لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نية وبصيرة ، والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى صوتها بعد الهزاهز

ولما تقابل الإمام ، وعمرو ، قال له الإمام : إنك كنت تقول في الجاهلية ، لا يدعوني أحد إلى ثلاث ، إلا قبلت واحدة منها؟ قال عمرو : أجل ، قال الإمام ، فإني أدعوك إلى الشهادتين ، قال عمرو : يا ابن أخي أخر هذه عني ، قال الإمام : والثاني ، أن ترجع من حيث أتيت «أي تترك الحرب وترجع إلى أهلك» قال عمرو : ولا تحدث قريش بهذا أبدا ، قال الإمام : والثالثة أن تنزل من على فرسك ، فتقاتلني ، فقبل عمرو ذلك ، لكن امتلأ عمرو رعبا من الإمام وتبادلا السيف ، فأصاب سيف عمرو رأس الإمام فشجه ، فغضب الإمام ، وضرب عمرو ضربة أسقط رجليه ، فخر على الأرض ، وعلت الغبرة ، ومدّ الطرفان أعناقهما ، ليروا الغالب من المغلوب ولما انجلت الغبرة ، رأوا الإمام جالسا على صدر عمرو ، وكبّر الإمام تكبيرة عالية ، وبهذا المنظر والتكبير ، قويت قلوب المسلمين ، وتزلزلت قلوب الكافرين ، ثم قطع الإمام رأس عمرو ، وأقبل به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقتل بعض آخر ممن اقتحم الخندق ، وفرّ الباقون ، وتشتت كلمة الأحزاب ، وألقي الرعب في قلوبهم ، ولم يطيقوا إدامة الحصار ، وتخلت عنهم الأعراب ، وبنو قريظة ، ولذا تفرقوا من أطراف المدينة إلى مكة ، وسائر محالهم ، وقد كان قتلى المسلمين ستة ، وقتلى الكفار دون العشرة ، ومرّ الأمر بسلام ، وزادت قوة المسلمين المعنوية ، إلى حد هائل ممّا يئس

٣١٣

وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ

____________________________________

الكفار ، من النيل منهم بعد ذلك.

[١٣](وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) الذين أظهروا الإسلام ، وأبطنوا الكفر (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) والمراد بهم ضعاف الإيمان ، وإن لم يصلوا إلى حد النفاق ، والمراد بالقلوب «النفوس» فإن الأخلاق المنحرفة ، ضعف ومرض في القلب ، كما أن أنواع العاهات ضعف ومرض في البدن (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) من النصرة على الأعداء (إِلَّا غُرُوراً) من «غار» وإنما سمي غرورا مبالغة ، كأن الوعد قطعة من الغرور ، من قبيل «زيد عدل» ، قال ابن عباس : إن المنافقين قالوا : يعدنا محمد أن يفتح مدائن كسرى وقيصر ، ونحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء هذا والله الغرور (١).

[١٤] وإذ قد اشتد الخوف بالمسلمين ، قال عبد الله بن أبيّ المنافق لأصحابه : ليس لكم هنا محل ، فقوموا نرجع إلى المدينة ، وجاء بعضهم إلى الرسول يستأذنوه معتذرين ، بأن بيوتهم في المدينة ، ليست بحريزة ، فيخافون عليها اللصوص (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ) أي جماعة (مِنْهُمْ) أي من المنافقين ، والذين في قلوبهم مرض (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) فقد كانت المدينة تسمى «يثربا» قبل هجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم سميت بمدينة الرسول ، ثم «المدينة» (لا مُقامَ لَكُمْ) أي لا محل لإقامتكم هنا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ١٩٣.

٣١٤

فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ

____________________________________

خارج المدينة بتوقع الظفر على الكفار (فَارْجِعُوا) إلى المدينة ، حتى لا يصيبكم ما يصيب محمدا والمسلمين من الكفار ، فقد زعموا أن الكفار يغلبون المسلمين لا محالة (وَيَسْتَأْذِنُ) أي يطلب الإذن ، في الرجوع إلى المدينة (فَرِيقٌ مِنْهُمُ) أي من أولئك المنافقين (النَّبِيَ) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم بنو حارثة ، وبنو سلمة (يَقُولُونَ) للرسول في عذرهم للانصراف (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي ليست حصينة ، من عور إذا نقص ، ومنه الأعور ، ويقول الله سبحانه في تكذيب عذرهم (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) أي كذبوا في عذرهم ، إن بيوتهم لم تكن عورة يخشى عليها من اللصوص والأعداء ، فقد كانت حريزة حصينة (إِنْ يُرِيدُونَ) أي ما يريد هؤلاء المستأذنون (إِلَّا فِراراً) من الحرب وهربا من القتال وأتعابه.

[١٥] ثم يمثل الله سبحانه نفسية هؤلاء المنافقين ، بأنهم كانوا بحيث إذا دخل الأعداء المدينة ثم طلبوا من هؤلاء الشرك ، وأن يكونوا معهم في صف واحد مقابل المسلمين ، لأسرعوا في إجابتهم ، فكيف لم تكن بيوتهم عورة ، حينذاك ، وبيوتهم عورة ، حين كانوا مع المسلمين؟ (وَلَوْ دُخِلَتْ) المدينة ، أو البيوت (عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء المنافقين (مِنْ أَقْطارِها) أي من جوانبها ، بأن ظفر الكفار ، ودخلوا بيوت هؤلاء من جوانبها (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) أي سأل الكفار الغازون هؤلاء المنافقين ، أن يشركوا ويكونوا معهم في صف قبال الرسول وأصحابه

٣١٥

لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦)

____________________________________

(لَآتَوْها) أي لأعطوا هؤلاء المنافقون الكفار ما أرادوا من الفتنة ، وانضموا تحت لوائهم (وَما تَلَبَّثُوا بِها) أي ما مكثوا وتريثوا في قبول الفتنة ، كأنهم باقون فيها ، لم يرفضوا ولم يقبلوا كالإنسان الماكث بالمدينة ، في مقابل من خرج من الفتنة بالجزم ، إما بالقبول أو الرفض (إِلَّا يَسِيراً) فإنهم لم يكونوا يترددون في قبول الفتنة ، إلا في زمان قليل ، ثم يفتتنون بقبول الشرك والدخول في صف الأحزاب المشركة.

[١٦] وكيف يولي هؤلاء الدبر ، ويرون الفرار من الجهاد (وَ) الحال أنهم (لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل الخندق (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) فإنهم لما بايعوا النبي حلفوا أن ينصروه وأن يقفوا في صفه ، وأن لا يسلموه لعدوه (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) أي يسأل عنه يوم القيامة ، ماذا فعلوا بعهده ، هل وفوا أم نقضوا؟

[١٧](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المنافقين الذين يريدون الفرار خوف القتل (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ) في تأخير آجالكم (إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ) بأن خفتم الموت خوفا (أَوِ الْقَتْلِ) بأن يغلب الأعداء فيقتلوكم ، فإن آجالكم إن حضرتم أخذتكم ولو في غير ساحة القتال ، وإن لم تحضر لم يأخذكم الأجل ، ولو في ساحة القتال (وَإِذاً) أي إذا فررتم من الموت أو القتل (لا تُمَتَّعُونَ) في الدنيا (إِلَّا قَلِيلاً) فإن مدة الحياة

٣١٦

قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا

____________________________________

قليلة تنقضي وتنصرم بسرعة.

[١٨](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الذين يريدون الفرار إن فراركم غير مفيد ، فإن أراد الله بكم سوءا جاءكم ، ولو في بيوتكم ، وإن أراد بكم رحمة جاءتكم الرحمة ، ولو في ساحة القتال ، فما فائدة الفرار؟ (مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ) أي يحفظكم من أمره وبأسه (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) موتا أو قتلا أو عذابا؟ (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) من ذا الذي يتمكن أن يحول بينكم وبين الرحمة ، التي يريدها الله بكم؟ فكل شيء من طرفه سبحانه ، ولا يتمكن أحد من تغيير أمره (وَلا يَجِدُونَ) أي هؤلاء الذين يريدون الفرار (لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي سواه (وَلِيًّا) يلي أمورهم ويتولى شؤونهم (وَلا نَصِيراً) ينصرهم ، ويغلبهم على أعدائهم.

[١٩] ثم هدد الله سبحانه الذين يثبطون غيرهم عن الجهاد بقوله (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ) وقد ، إما للتحقيق ، قالوا فإنها تدخل ـ أحيانا ـ على المضارع ، بمعنى التحقيق ، لا التقليل الذي هو الأصل فيه ، وإما للتقليل للإشارة إلى أن احتمال علم الله بتعويقهم كاف ، في أن ينتهوا ، كما تقول لمن تريد تهديده : يمكن أن أعلم عملك ، تريد أن الإمكان كاف في انقلاعه عن عمله السيئ (الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) والمعوق هو المثبط غيره عن الجهاد بتخويفه من الأعداء (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) أحزابهم من المنافقين (هَلُمَّ إِلَيْنا) أي أقبلوا إلينا نتنحى عن القتال ناحية ، ولا نوقع

٣١٧

وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ

____________________________________

أنفسنا في التهلكة (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) أي يحضرون القتال (إِلَّا قَلِيلاً) فيما إذا أجبروا وخافوا على سمعتهم ، أو حضروه ، رياء ، بخلاف المؤمنين ، فإنهم أسرع شيء إلى القتال ، وكيف لا يحضرون ، وهم يعلمون إن قتلوا أو قتلوا كان جزاءهم الجنة؟

[٢٠] وإن هؤلاء المنافقين الذين يعوقون الناس ، ولا يحضرون الحرب ، يكونون (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أيها المؤمنون الصادقون ، وأشحة جمع شحيح ، بمعنى البخيل ، أي أنهم بالنسبة إليكم بخلاء ، لا يبذلون مالا ولا نفسا (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) بأن تجمعت الأعداء ، ووجب الجهاد (رَأَيْتَهُمْ) أيها الرسول ، أو أيها الرائي (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) أي تتقلب من هنا وهناك كما هي عادة الخائف ، يدور بعينه ليجد ملجأ وملاذا ، وإنما يكفي النظر إلى الرسول ، أو إلى المؤمنين ، ليرى ماذا يأمر ، ويقولون : هل ما ينفعهم حتى يستريحوا؟ أم ما يزيد خوفهم؟ حتى يفكروا في النجاة والخلاص ، فيكثرون النظر ، لئلا يفوتهم شيء (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) وهو الذي قرب موته وغشيته أسبابه ، فإنه يكثر النظر هنا وهناك يتطلب علاجا ومناصا (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) وجاء الأمن والغنيمة (سَلَقُوكُمْ) أيها المؤمنون ، وسلق ، بمعنى صاح ورفع صوته (بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي أنهم تكلموا معكم حول جهادهم المزعوم ، وحول حصتهم من الغنائم ، وحديد ضد الكليل أي ألسنة ذرية بليغة ، في جهر وصياح وجرأة ، كأنهم كانوا كل شيء ، وهكذا

٣١٨

أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ

____________________________________

دائما الجبناء يعملون قليلا ويقولون كثيرا (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي الغنيمة ، فهم بخلاء غاية البخل ، أن يذهب ويفوتهم شيء من الغنيمة ، التي ما اشتركوا فيها (أُولئِكَ) الذين تلك صفاتهم ، وهم المنافقون في كل زمان (لَمْ يُؤْمِنُوا) إيمانا من الأعماق ، وإنما تظاهروا بالإيمان نفاقا (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي أبطل ما عملوا من الأعمال الظاهرية ، لأنها لم تصدر من الإيمان (وَكانَ ذلِكَ) الإحباط لأعمالهم (عَلَى اللهِ يَسِيراً) فإنه لا يجازيهم ، لا يتمكن أحد منهم من معارضته ، كما كانوا يتمكنون من معارضة المؤمنين في الدنيا.

[٢١] إن هؤلاء المنافقين (يَحْسَبُونَ) أي يظنون (الْأَحْزابَ) التي جاءت لقتال المسلمين (لَمْ يَذْهَبُوا) ولم يرجعوا ، وقد ظنوا ذلك لجبنهم ، فإن الإنسان الجبان يخيل إليه أن الخوف بعد باق لم ينكشف (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) مرة ثانية ، بأن يرجعوا إلى القتال (يَوَدُّوا) أي هؤلاء المنافقون (لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) أي يكونون في البادية مع الأعراب ، ومعنى «بادون» ظاهرون ، فكأن الإنسان الذي في المدينة مستور أما في الصحراء ، فهو ظاهر باد (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي أخباركم هل غلب المؤمنون أم الكفار؟ وهكذا يكون الأناس الجبناء يحبون أن يكونوا بمعزل عن الحوادث ، وإنما يجترون بالأخبار ، لقتل

٣١٩

وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ

____________________________________

الوقت ، وإملاء فراغ حياتهم ، بعكس الشجعان والعاملين الذين لا يحبون إلا المعارك والمقام (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) حين رجوع الأحزاب ، ويكونون هم ـ حسب رغبتهم ـ في البادية (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) أي قتالا قليلا لمجرد الرياء والسمعة ، لا عن إيمان وعقيدة.

[٢٢] واللازم على المؤمن أن يقتدي بالرسول ، كيف يجاهد ويصبر في المعارك (لَقَدْ كانَ لَكُمْ) أيها المسلمون (فِي رَسُولِ اللهِ) أي في سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصبره وعنائه في الله (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) مقتدى صالحا ، بحيث يراه الناس فيعملون كما يعمل ، والأسوة من الاتساء «كما أن القدوة من الاقتداء» بمعنى الاقتداء ، والمتابعة (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي يرجو ثواب الله ونعيمه ، ويرجو أن يكون في اليوم الآخر من الفائزين ، و «لمن» بدل من «لكم» والرسول أسوة حسنة لمطلق الناس ، وإنما من كان يرجو الله يتأسى ، فكان أسوة له ، إذ الانتفاع بهذا المقتدى عائدا إليه (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) فإن من ذكره سبحانه ترسخ في كيانه ، الخوف من الله سبحانه ، فيطيع أوامره ، ويقتدي برسوله ، فيما عمل وسار.

[٢٣](وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) الذين تحزبوا لقتال الرسول ، وإبادة الإسلام (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) فقد روي إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٢٠