تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ

____________________________________

النقيضان تغير وجه العالم ، فإن كلا من جمع النقيضين ، وتغير وجه العالم ، هكذا ، مستحيل ، إلا أن القضية صادقة للتلازم ، ومن هذا الباب قوله سبحانه (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ) يا رسول الله (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) من الأنبياء والرسل (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) بالله ، ودعوت معه غيره (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وحبط العمل بطلانه ، بأن لا يكون له ثواب ، أي لم يكن لك أجر على أعمالك الحسنة (وَلَتَكُونَنَ) حين أشركت (مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ، دنياهم وآخرتهم ، وتوجه الخطاب إلى الرسول ، وسائر الرسل ، لتنبيه الناس ، بأن الأمر هكذا ، حتى بالنسبة إلى أعظم الناس.

[٦٧](بَلِ اللهَ) وحده (فَاعْبُدْ) يا رسول الله (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لنعمائه.

[٦٨](وَما قَدَرُوا اللهَ) أي الكفار (حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه حق عظمته ، حيث جعلوا له شريكا ، وأنكروا قدرته على البعث ، والحال أنه قادر على كل شيء (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً) بجميعها ، وجميع ما فيها (قَبْضَتُهُ) والقبضة هي ما قبضت عليه بجميع كفك (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أن يوم القيامة تكون الأرض تحت قدرته سبحانه ، كالشيء الذي في قبضة الإنسان (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) أي ملفوفات بعضها حول

٥٨١

سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ

____________________________________

بعض ، وكلها في يده اليمنى ، وإنما قال «بيمينه» لأن اليمين أقدر على القبض ، وهذا من باب التشبيه ، يعني أن الكون كله تحت قدرته القوية ، حتى أن السماوات بالنسبة إليه ، كالثوب المطوي ، في يد أحد أفراد الإنسان ، وأن الأرض بالنسبة إليه ، كالشيء المقبوض في الكف ، وهذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس للتقريب إلى الذهن ، كما يقال : أن المملكة خاتم في إصبع فلان ، يراد قدرته الزائدة على إدارتها ، كقدرة الشخص على إدارة خاتمه ، وإنما قال «يوم القيامة» مع أن السماوات والأرض ، هكذا ، بالنسبة إليه ، قبل ذلك؟ لأن الكلام حول قدرة الله سبحانه ، على إعادة الأرواح إلى الأجساد ، في ذلك اليوم ، فالآية بصدد أن قدرته تعالى في ذلك اليوم ، بهذا القدر الهائل ، فكيف لا يقدر على بعث الناس ، وقد فهم ـ بالتلازم ـ بطلان الشركاء ، إذ الكون كله تحت قدرته وحده بلا شريك ولا ظهير (سُبْحانَهُ) أي أسبحه سبحانا ، وأنزهه تنزيها (وَتَعالى) أي أنه رفيع ، فإن الفعل منسلخ عن معنى الماضي ، كما في سائر صفات الذات (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عن الأصنام ، التي يشركونه بها.

[٦٩](وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) قد تقرر في البلاغة ، أن المضارع المتحقق وقوعه ، يؤتى بصيغة الماضي ، لإفادة أنه لمعلومية وقوعه ، كأنه قد وقع وانقضى ، والصور بوق ينفخ فيه إسرافيل مرتين ، مرة علامة لانقضاء العالم ، ورحيل الجميع منه إلى الآخرة ، وبذلك يموت الناس كلهم ، ومرة علامة ، لابتداء عالم الآخرة ، وبذلك يحيى الناس كلهم ، وهذا كالذي يصنعه أمير القافلة ، حين إرادة الرحيل ، وإرادة النزول ، من النفخ في البوق ، والمراد بهذا النفخ هنا هو الأول

٥٨٢

فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ

____________________________________

(فَصَعِقَ) أي مات (مَنْ فِي السَّماواتِ) من الملائكة وغيرهم (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من أفراد البشر وغيرهم (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) كالأملاك الأربعة ، جبرئيل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، وغيرهم ، والتفصيل في كتاب «البحار» (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ) أي في الصور نفخة (أُخْرى) حين إرادة ابتداء القيامة ، والشروع في العالم الآخر (فَإِذا هُمْ) أي البشر والملائكة ، وغيرهم (قِيامٌ) أي قائمون من قبورهم ، وهو جمع «قائم» (يَنْظُرُونَ) إلى المحشر ، منتظرين ماذا يفعل بهم؟ وقوله «فإذا هم» للدلالة على سرعة قيامهم عقيب النفخة ، فإن الإحياء فجائي.

[٧٠](وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أي بعدله سبحانه ، كما يقال : أشرق البلد بنور فلان إذا أخذ بالزمام ، حيث أنه يعدل ويحسن في مقابل سالف الأيام ، التي كانت الأرض مظلمة ، بظلم الظالمين (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي وضعوا الكتاب في الوسط ، وهو كتاب أعمال العباد ، وكأنه كان قبل ذلك في زاوية بعيدة ، ثم أتى به للمحاسبة ، وهذا كما يقال للمحاسب : ضع الدفتر حتى نحاسب ، والكتاب اسم جنس يشمل كتب الخلائق كلهم (وَجِيءَ) في ساحة المحاكمة (بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) جاء بهم الله سبحانه ، ليحاكموا الأمم ، ويشهدوا عليهم ،

٥٨٣

وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ

____________________________________

فالمراد بالشهداء الذين يشهدون على العباد بما عملوا ، وهم صالحوا كل أمة ، إذ كانوا في وسط الأمة ناظرين إلى أعمالهم ، فيشهد الصالح الفلاني ، بأن القوم ، كانوا يضلون ، والصالح الفلاني ، بأن القوم كانوا يشربون الخمر ، وهكذا (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي حكم الله ، ومن جعله حاكما هناك «بينهم» أي بين الناس (بِالْحَقِ) والعدل بإعطاء كل ذي حق حقه ، بلا حيف ولا جور (وَهُمْ) أي الخلق (لا يُظْلَمُونَ) في الحكم بأن ينقص من حق ، أو يزاد اعتباطا.

[٧١](وَوُفِّيَتْ) أي أعطيت وافيا (كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي يعطى كل إنسان حسب أعماله وافيا ، فالمحسن يوفّى بالإحسان ، والمسيئ بالنكال (وَهُوَ) سبحانه (أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) في الدنيا ، فيجازيهم حسب ما علم ، بلا تغيير أو خطأ ، أو زيادة ونقيصة.

[٧٢](وَ) بعد تمام الحساب (سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ساقهم الملائكة بالجبر والعنف (إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) جمع زمرة ، وهي الفوج ، أي يساقون زمرة فزمرة ، وفوجا ففوجا ، كل فوج مشتمل على متشابهي الأعمال ، كالزناة والمقامرين ، وهكذا (حَتَّى إِذا جاؤُها) أي وصلوا إلى جهنم (فُتِحَتْ أَبْوابُها) لهم ، وهي سبعة أبواب ، حتى يدخل كل فوج من الباب ، المناسب بحالهم والمقرر لهم (وَقالَ لَهُمْ) أي لأولئك الكفار

٥٨٤

خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢)

____________________________________

(خَزَنَتُها) جمع خازن ، وهو الموكل بالشيء ، أي الموكلون بجهنم (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أيها المجرمون (رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي من جنسكم (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ) أي يقرءون على مسامعكم (آياتِ رَبِّكُمْ) أدلته وحججه (وَيُنْذِرُونَكُمْ) أي يخوفونكم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي من مشاهدة هذا اليوم وعذابه ، وهذا الاستفهام منهم ، إنما هو على وجه التقريع والتبكيت ، وإلا فالخزنة يعلمون ذلك (قالُوا) أي قال الكفار في جواب الخزنة (بَلى) قد جاءتنا رسل ربنا ، وخوفونا من هذا اليوم (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) فإنا قد كفرنا ، فثبت في حقنا ما قاله سبحانه ، بأن من كفر يعاقب بالنار ، وهذا ، كما يقول أحدنا «هكذا مصيري» في يأس وانقطاع ، وإنما لم يقولوا «علينا» مكان «على الكافرين» لإفادة ، أن سبب عذابهم ، هو كفرهم ، فهو حكم مع ذكر العلة.

[٧٣] وحينذاك (قِيلَ) والقائل الخزنة (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أي ادخلوها من أبوابها (خالِدِينَ فِيها) أي في حال كونهم باقين فيها أبد الآبدين (فَبِئْسَ) ، هذا المحل ـ في جهنم ـ (مَثْوَى) أي محل إقامة (الْمُتَكَبِّرِينَ) الذين تكبروا في الدنيا عن الحق ، حتى صاروا إلى هذا المكان.

٥٨٥

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ

____________________________________

[٧٤](وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) أي خافوا في الدنيا عذابه ، فأطاعوه ، فيما أمر ونهى ، وإنما يساقون بإكرام وإعظام (إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) زمرة فزمرة ، كل فوج في أشكالهم ، فالمصلون صلاة الليل زمرة ، والتالون للقرآن زمرة ، وهكذا (حَتَّى إِذا جاؤُها) أي وصلوا إليها (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) ليدخل كل فوج من الباب المناسب لعمله المعدّ له ، وللجنة ثمانية أبواب والإتيان بالواو في «وفتحت» دون «فتحت» في الآية السابقة للتفنن الذي هو نوع من البلاغة (وَقالَ لَهُمْ) أي لأهل الجنة (خَزَنَتُها) جمع خازن ، وهو الموكل بالشيء (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) إما بقصد التحية ، وإما بمعنى ، أن السلامة من الآفات والبليات عليكم ، تظللكم دائما ، ولذا لم يقل «لكم» فإن «على» تفيد معنى الإحاطة والشمول (طِبْتُمْ) أي صرتم طيبين هنا بسبب أعمالكم الطيبة في دار الدنيا (فَادْخُلُوها) أي ادخلوا الجنة ، من أبوابها (خالِدِينَ) أي في حال كونكم ، دائمين فيها أبد الآبدين ، لا خروج لكم عنها ، وكان الإتيان بواو العطف في الجملتين ، لإيجاد فراغ في الذهن ، حتى يبقى منتظرا لأصناف الكرامة ، وألوان اللذة ، فليس الأمر ينتهي بقول الخزنة ، وإنما ، لـ «حتى» جواب طويل عريض باق مدى الأبد.

[٧٥](وَقالُوا) أهل الجنة بعد دخولها (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) أي

٥٨٦

وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ

____________________________________

صدق في وعده لنا بأنا إن عملنا صالحا أدخلنا الجنة (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) أي أرض الجنة ، نقلها إلينا ، كالميراث الذي ينقل إلى الوارث ، ولعل التعبير بلفظ الأرض ، لبيان أنهم جازوا أرض الجنة ، وغرفها ، حيث قالوا بعد ذلك (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي نأخذ المنزل من قصورها ، أيّ محل شئنا فما هو مقدر لنا ـ وفي ذلك إشارة إلى سعة قصورهم ، وأرض الجنة لكل إنسان ـ و «نتبوأ» من «تبوّأ» بمعنى اتخذ المنزل ، أصله «باء» إذا رجع ، إذ المنزل مرجع الإنسان ، كلما خرج عاد إليه (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) بالخيرات ، الجنة.

[٧٦](وَتَرَى) يا رسول الله ، أو أيها الرائي (الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) قد أحاطوا بعرش الله سبحانه ، والعرش هو موضع جعله الله سبحانه محلا تشريفيا ، أحاطه بعنايته ولطفه ، وجعله مصدر أمره ونهيه ، كما أن البيت الحرام في الدنيا محل تشريفي له سبحانه ، ذاك بالنسبة إلى الملائكة ، وهذا بالنسبة إلى البشر ، ويلتذ المؤمنين بهذه الرؤية ، كمن يلتذ إذا نظر إلى قصر الملك المحاط بالجيش ، ورجال التشريفات ، فإن الإنسان يتقوى روحيا إذا نظر إلى محل القوة والعزة ، وهم (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي ينزهونه عما لا يليق به بسبب الحمد ، فإذا قال الإنسان «سبحان الله» كان تنزيها فقط ، أما إذا قال «الحمد لله» كان تحميدا وتنزيها ، فإن وصف الممدوح بالجميل ، حمد وتنزيه له عن القبيح ، بخلاف التنزيه عن القبيح ، فإنه ليس حمدا ـ

٥٨٧

وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)

____________________________________

كما مر ـ (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي بين الناس (بِالْحَقِ) وهذا كموجز لما تقدم للتركيز عليه (وَقِيلَ) والقائل كل من هنالك (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وهذا هو منتهى أهل التقوى في الدنيا ، وأكرم به من عاقبة جميلة.

٥٨٨

(٤٠)

سورة غافر

مكية / آياتها (٨٦)

وتسمى أيضا بسورة «المؤمن» لاشتمالها على لفظي «غافر» و «مؤمن» ، وهي كسائر السور المكية ، تعالج قضايا العقيدة في أصولها الثلاث ، الألوهية ، والرسالة ، والمعاد ، ولما ختمت سورة «الزمر» بالحمد لله رب العالمين ، ابتدأت هذه السورة بذكر صفاته سبحانه ، التي بها استحق الحمد.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله ، المستجمع لجميع صفات الكمال ، شعارا للمؤمن في مقابل شعار الكفار الذين كانوا يبتدئون «باسم اللات» ونحوه ، وشعار النصارى الذين يبتدئون باسم «الأب والابن وروح القدس» وهكذا سائر الكفار والمنحرفين ، وقد اعتادوا في زماننا أن يقولوا «باسم الشعب» في الحكومات الديمقراطية .. (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، وصفان من مادة واحدة ، إفادة لقوة الرحمة ، في ذاته سبحانه ، كما قال (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (١).

__________________

(١) الأعراف : ١٥٧.

٥٨٩

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

____________________________________

[٢](حم) «حاء» و «ميم» وجنسهما من سائر حروف الهجاء ، هي مادة هذا القرآن الذي يعجز البشر عن الإتيان بمثله ، أو هو رمز بين الله ورسوله ، أو أن معناه ، الحميد المجيد ، فهو ابتداء بعد البسملة ، باسمين من أسمائه سبحانه ، على طريق الرمز ، أو غير ذلك.

[٣](تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي هذا هو إنزال القرآن (مِنَ) قبل (اللهِ الْعَزِيزِ) الغالب سلطانه (الْعَلِيمِ) الذي يعلم كل شيء ، فيعلم الصالح من غيره ، أو أن «تنزيل الكتاب» مبتدأ «من الله» خبره.

[٤](غافِرِ الذَّنْبِ) صفته ، ل «الله» أي أنه سبحانه يغفر ذنوب عباده ، وهذا على نحو القضية الطبيعية ، لا أن معناه أنه سبحانه ، يغفر كل ذنب (وَقابِلِ التَّوْبِ) جمع توبة ، كدوم جمع دومة ، أو مصدر من تاب يتوب توبا ، والمعنى إن من تاب ورجع إليه سبحانه ، قبل توبته ، ولم يرده عن بابه خائبا (شَدِيدِ الْعِقابِ) لمن كفر وعصى (ذِي الطَّوْلِ) الطول هو الإنعام الذي تطول مدته (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا شريك له (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع في المعاد ، فهو إله واحد له الفضل ، يغفر لمن استغفره ، ويعاقب من عصاه ، وبيده العاقبة.

[٥] وإذ كان الإله واضحا وجوده وصفاته ، من الآيات الكونية ، فإنه (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) الدالة على وجوده وصفاته (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا)

٥٩٠

فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ

____________________________________

فإنهم يخاصمون حول أصل وجود الإله ، أو صفاته ، وإلا فالمصنف لا بد وأن يستدل من الآيات الكونية على وجوده سبحانه (فَلا يَغْرُرْكَ) يا رسول الله (تَقَلُّبُهُمْ) أي تقلب الكفار وتصرفهم (فِي الْبِلادِ) بالعزة والتجارة ، بأن يوجب هذا التصرف للمشاهد شكا في أنه لو كان هناك إله لأخذهم أخذ مقتدر ، وضيّق عليهم المسالك ، فهو يغتر ، ويخدع ـ عن الحقيقة ـ بهذا التقلب والتصرف ، فالخطاب ، وإن كان حسب الظاهر متوجها إلى الرسول ، إلا أنه في الحقيقة لإيقاظ الناس عامة ، أو أن المخاطب هو العام ، أي «لا يغررك أيها الناظر إلى الكفار».

[٦] فإنهم إنما يتقلبون بمهلة الله لهم حتى يستنفدوا كل أمرهم ، وتظهر ضمائرهم ، وهناك الأخذ الشديد ، كما كان يفعل سبحانه بالأمم السابقة ، فقد (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل كفار مكة (قَوْمُ نُوحٍ) رسولهم نوحا عليه‌السلام (وَ) كذبت (الْأَحْزابُ) أي الأمم الذين تحزبوا على الرسل ، رسلهم (مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد قوم نوح ، كعاد وثمود وقوم لوط وقوم إبراهيم ، وغيرهم (وَهَمَّتْ) أي قصدت (كُلُّ أُمَّةٍ) من تلك الأمم المكذبة (بِرَسُولِهِمْ) قصد سوء (لِيَأْخُذُوهُ) أي يأخذوا الرسول ، للحبس أو القتل أو النفي (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) أي خاصموا رسلهم بمجادلات ومحاورات باطلة ، حول الألوهية والرسالة والمعاد (لِيُدْحِضُوا) أي يبطلوا (بِهِ) أي بسبب الجدال الباطل (الْحَقَ)

٥٩١

فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ

____________________________________

الذي أتى به الأنبياء (فَأَخَذْتُهُمْ) أي أخذت تلك الأمم بالعقاب ، بعد أن لم يبق رجاء في هدايتهم (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي عقابي لهم؟ وحذف ضمير المتكلم تخفيفا ، وهذا تهديد لكفار مكة ، بأنهم ، إن تمادوا في غيهم ، كان مصيرهم ، كمصير أولئك الأقوام ، والاستفهام تقريري للإيقاظ والإلفات.

[٧](وَ) كما ثبتت كلمة العذاب على أولئك الأمم الذين كذبوا الرسل (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي ثبتت كلمة ربك بالعذاب ، بأن قال «سأعذبهم» وستنطبق هذه الكلمة عليهم (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة ، يا رسول الله (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) إما بمعنى ، لأنهم أصحاب النار ، فلذا ثبت في حقهم عذاب الدنيا ، أو «أنهم» تأكيد «حقت» فيكون التشبيه في «كذلك» من حيث أصل العذاب ، وإن كان المراد بالعذاب في الأمم السابقة عذاب الدنيا والآخرة ، وفي هذه الأمة في الآخرة فقط.

[٨] إن أقرب الملائكة إلى الله سبحانه منزلة هم مؤمنون بالله ، فكيف لا يؤمن هؤلاء؟ وأنهم يستغفرون للمؤمنين ، فمن آمن فاز باستغفارهم ، فليستبشر المؤمنون (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) وهم جماعة من الملائكة ، خلقهم الله سبحانه ، واضعين العرش على أكتافهم ، زيادة في الهيبة والجلال ، كما لو شاهد الإنسان سرير ملك محمولا على جماعة من الأشراف ، ومن الواضح أن الملائكة

٥٩٢

وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧)

____________________________________

لا يتأذون بذلك ، كما أن العرش إنما هو محل شرّفه الله سبحانه ، لا أنه محله ؛ فإنه منزه عن المكان (وَمَنْ حَوْلَهُ) أي حول العرش من الملائكة (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي ينزهون الله سبحانه ، تنزيها بالمدح ، فإن من قال زيد ـ مثلا ـ شجاع كان حامدا له ومنزها له عن الجبن ، بخلاف من قال أنه ليس بجبان ، فإنه تنزيه فقط (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بربهم معترفين بوحدانيته ، وسائر صفاته ، ولعل تأخير الإيمان ، عن التسبيح لأجل أن فيهم أظهر ، فإذا رآهم أحد ، سمع منهم التسبيح ، أما الإيمان فإنه يعلم بالملازمة (وَيَسْتَغْفِرُونَ) أي يطلبون من الله الغفران (لِلَّذِينَ آمَنُوا) من أهل الأرض ، بأن يغفر الله لهم زلاتهم ، وما أسلفوا من الكفر والعصيان ، ويقولون ، إذ يريدون الاستغفار للمؤمنين ، يا (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً) أي وسعت رحمتك كل شيء ، فارحم المؤمنين واغفر لهم (وَعِلْماً) فإنك تعلم أنهم مطيعون ، وإنما يزلهم الشيطان ، أو المراد ، نطلب منك الغفران على علمك بزلاتهم ، كما يقال «على علمك فاعف» يعني مع أنك عالم نطلب العفو ، في مقابل طلب العفو من الذي لا يعلم ، فإنه أسرع عفوا ، إذ لا يعلم بالتفاصيل (فَاغْفِرْ) يا الله (لِلَّذِينَ تابُوا) عن الكفر والعصيان (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي طريقك الذي هو الإسلام (وَقِهِمْ) أي واحفظهم ، من «وقى» «يقي» والأمر «ق» فالواو عاطفة (عَذابَ الْجَحِيمِ) حتى لا يعذبوا بها.

٥٩٣

رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)

____________________________________

[٩] يا (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ) أي أدخل المؤمنين (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي بساتين إقامة ، من «عدن» إذا أقام (الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) على ألسنة الأنبياء ، ولعل هذا الدعاء بمعنى أثبتهم على الإيمان حتى يدخلوا الجنان ، وإلا فالله سبحانه ، يفي بوعده حتما ، فلا حاجة إلى الطلب ، أو أنه على طريق الضراعة والانقطاع (وَ) أدخل الجنات (مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي نسلهم ، ليكمل أنسهم بذلك ، فإن الإنسان ، عند أحبائه آنس ، ومعنى من صلح ، من آمن وعمل صالحا (إِنَّكَ) يا رب (أَنْتَ الْعَزِيزُ) القادر على ما تشاء (الْحَكِيمُ) في أفعالك تفعلها ، حسب الصلاح والحكمة ، ولقد كان من الصلاح ، أن وعدتهم بالجنة ، فأكمل ذلك لهم ، بإدخالهم فيها.

[١٠](وَقِهِمُ) أي احفظهم ، يا رب من (السَّيِّئاتِ) حتى لا يعملوا في الدنيا ما يوجب سخطك ، وعلى هذا فجملة (وَمَنْ تَقِ) مستأنفة للمشابهة ، أو المراد قهم جزاء السيئات ، أو أنواع العذاب التي هي سيئات ، وعلى هذا فجملة «ومن تق» تتمة (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ) أي تحفظه من جزاء المعاصي (يَوْمَئِذٍ) أي في الآخرة (فَقَدْ رَحِمْتَهُ) رحمة عظيمة (وَذلِكَ) أي حفظهم من العذاب هناك (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز مثله.

٥٩٤

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ

____________________________________

[١١] وإذ يرون الكفار النار ، وجزاء أعمالهم في الآخرة ، يغضبون على أنفسهم ، لم فعلوا ما يستحقون به هذه النار والنكال؟ فيناديهم الملائكة أنّ غضب الله عليكم بسبب أعمالكم أشد من غضبكم على أنفسكم! وهذا لتأليمهم روحيا ، فإن الإنسان إذا علم غضب الملك العظيم عليه يتألم كثيرا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ) من قبل الملائكة يوم القيامة (لَمَقْتُ اللهِ) أي غضب الله عليكم (أَكْبَرُ) أي أشد وأكثر (مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي من غضبكم على أنفسكم ، وذلك المقت (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أي إن هذين المقتين ، إنما كانا من وقت دعيتم إلى الإيمان فكفرتم.

[١٢](قالُوا) وهم معترفون أذلاء ، قد رفع عن أعينهم الغشاء ، يا (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) موتا حين كنا ترابا ، وموتا بعد الحياة الدنيوية ، أي جعلنا ميتا مرتين ، والإماتة بالنسبة إلى الموت الترابي ، وإن كان خلاف المنصرف ، إلا أنه غير بعيد ، بالنسبة إلى ما ورد في أحوال الإنسان ، حيث لا موت جديد ، بعد الموت الدنيوي ، وما ورد أنه بالنسبة إلى الرجعة ، فالظاهر أنه من باب المصداق ، وإلا فالكفار كلهم لا يحبون الرجعة ، وظاهر الآية أنه بالنسبة إلى الكلي (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي حياتين ، حياة بالتولد في الدنيا ، وحياة بعد الموت في القيامة ، وإنما يقول الكفار ذلك خضوعا وتخشعا ، كالمجرم الذي يعترف بذنبه تخشعا ، ويريدون بذلك اعترافهم ، بأن أزمّة الأمور بأيدي الله سبحانه

٥٩٥

فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ

____________________________________

(فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) ، حيث كفرنا بك وعصينا (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) من حالة القيامة والنار ، إلى الدنيا لنعمل صالحا (مِنْ سَبِيلٍ)؟ وهذا طلب بتأدب خوفا ووجلا من الطلب الصريح.

[١٣] لكن لا مجال لهم في الخروج ، ويقال : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) (١) (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (٢) ثم يقال لهم (ذلِكُمْ) العذاب الذي حل بكم ، و «كم» خطاب (بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ) وإنه لا إله إلّا هو ، كما كان يدعوه المؤمنون (كَفَرْتُمْ) وأنكرتم أن يكون واحدا (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ) أي بالله (تُؤْمِنُوا) بالآلهة المتعددة كما كان يفعل المشركون (فَالْحُكْمُ) أي فصل هذه القضية ، والحكم عليكم في الآخرة بالنار والعذاب (لِلَّهِ الْعَلِيِ) الرفيع الذي لا شريك له ، فهو أرفع من كل شيء (الْكَبِيرِ) الذي لا أكبر منه ، في ذاته وصفاته.

[١٤] ثم يأتي السياق ليبين بعض آياته سبحانه الدالة على وجوده ، وسائر صفاته (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) أي أدلته الكونية ، الدالة على ذاته وصفاته ، ومعنى الإرائة إيجادها ، كالليل والنهار والمطر ، أو إلفاتكم إليها ، وإن كانت مستقرة ثابتة (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ) أيها البشر (مِنَ السَّماءِ

__________________

(١) المؤمنون : ١٠١.

(٢) الأنعام : ٢٩.

٥٩٦

رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ

____________________________________

رِزْقاً) وهو المطر الموجب لكل رزق ، أو المراد أنه سبحانه يقدر في السماء أرزاقكم ، فينزل الأمر به من هناك (وَما يَتَذَكَّرُ) أي يلتفت (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي يتوب ، فإن التذكر المفيد ، إنما هو تذكر التائب دون غيره.

[١٥](فَادْعُوا) أيها البشر (اللهَ) وحده (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي في حال كونكم توجهون عبادتكم إليه ، وتجعلون دينكم له دون غيره (وَلَوْ كَرِهَ) إخلاصكم وتوحيدكم لله (الْكافِرُونَ) فلا تبالوا بهم.

[١٦] إنه سبحانه (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي يرفع درجات الناس في الجنة ، فبيده الملك والملكوت ، ومثله يحق أن يعبد دون سواه ، أو إن المعنى أنه سبحانه صاحب درجات رفيعة ، والمراد بالدرجات الصفات ، فهو ذو العلم الرفيع والإحسان الرفيع ، والحلم الرفيع ، وهكذا ، فلا يبلغ شأنه شيء من الأصنام ، أو غيرها ، حتى يجعل شريكا له ، وهذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس (ذُو الْعَرْشِ) فله عرش السلطة ، وحده بلا شريك ومنازع (يُلْقِي الرُّوحَ) أي الحياة للبشرية ، التي هي الوحي ، فقد شبه الوحي بالروح ، تشبيها بالروح الذي به حياة الإنسان ، وفي الوحي حياته الواقعية من العمى والضلالة ، أو المراد الروح لنبوة الشخص (مِنْ أَمْرِهِ) أي أن الإلقاء صار من أمره لا جبر له فيه ، إذ قد يلقى الإنسان شيئا مجبورا من أمر غيره (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهم الأنبياء عليهم‌السلام ، ومشيئته سبحانه باعتبار صلاحية النبي لذلك ،

٥٩٧

لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧)

____________________________________

لمؤهلاته النفسية (لِيُنْذِرَ) الله بسبب الإلقاء ، أو ينذر الرسول (يَوْمَ التَّلاقِ) أصله «التلاقي» حذف الياء تخفيفا ، حيث يلتقي فيه أهل السماء بأهل الأرض ، كما عن الصادق عليه‌السلام (١).

[١٧](يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي ظاهرون من قبورهم (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ) أي من الناس (شَيْءٌ) فكل شيء منهم من الأجساد ، والأعمال ، والنوايا ، منكشفة لديه سبحانه ، ويقول الله سبحانه ، حينذاك (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ تقريعا للذين اغتصبوا الملك في الدنيا ، ولمن أشركوا بالله بزعم أن لله شريكا في الملك ، ويأتي الجواب من قبله أو قبل صلحاء الناس والملائكة (لِلَّهِ الْواحِدِ) الذي لا شريك له (الْقَهَّارِ) الذي يقهر الكون حسب ما يشاء.

[١٨](الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) فالمحسن يجزى بالإحسان ، والمسيء بالإساءة (لا ظُلْمَ) على أحد (الْيَوْمَ) فلا ينقص من ثواب المحسن ولا يزاد على عقاب المجرم (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يعني إن الآخرة قريبة ، أو إن حساب الخلائق في ذلك اليوم ، يكون سريعا ، فلا مجال للّف والدوران ، كما في الدنيا ، حتى يحتمل المجرم التملص.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧ ص ٥٩.

٥٩٨

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩)

____________________________________

[١٩](وَأَنْذِرْهُمْ) يا رسول الله ، أي خوّفهم من العذاب (يَوْمَ الْآزِفَةِ) من أزف بمعنى دنى ، ويسمى يوم القيامة ، بالآزفة لدنوها ، والآزفة ليست رفعة لليوم ـ في المقام ـ وإنما مضاف إليها ، نحو يوم القيامة (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) فإن الإنسان إذا خاف كثيرا حدثت فيه الحرارة الزائدة ، ولذا تنتفخ الرئة ، وتكبر لجلب الهواء الكثير لتبريد القلب ، فتضغط على القلب ، وترفعه عن موضعه ، فيأتي قريب الحنجرة (كاظِمِينَ) أي في حال كونهم امتلأوا غما وغيضا ، لكنهم كظموه وأخفوه ، فلم ينطقوا بشيء خوفا ورعبا ، يقال : كظم فلان غيظه إذا أخفاه (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان من صديق هناك ، إذ أصدقاؤهم في الدنيا يفرون منهم (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) فإن هناك لا شفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ، والإتيان ب «يطاع» لبيان النتيجة ، أي لا خلاص لهم ، وإلا فهناك لا شفيع لهم إطلاقا.

[٢٠] وقد علم سبحانه جميع أعمالهم ونياتهم ، فيجازيهم حسب الأعمال (يَعْلَمُ) تعالى (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي خيانة العين ، بأن تنظر إلى ما حرمه الله تعالى ، وإنما سمي خيانة ، لأنها تنظر بسرقة وخيانة ، لئلا يعرف الناس أنه نظر إلى الشيء الفلاني (وَ) يعلم (ما تُخْفِي الصُّدُورُ) وتنويه فهو مطلع على النيات ، وإنما نسب الاختفاء إلى الصدور ، لأن القلب في الصدر.

٥٩٩

وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ

____________________________________

[٢١](وَاللهُ يَقْضِي) ويحكم في يوم القيامة (بِالْحَقِ) فهو القاضي الوحيد هناك (وَ) الأصنام (الَّذِينَ يَدْعُونَ) أي يدعونهم المشركون آلهة (مِنْ دُونِهِ) من دون الله (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) إذ لا حكم لهم هناك ، لا بحق ، ولا بباطل ، والإتيان ، للأصنام بضمير العقلاء ، لتوحيد السياق بين كلام أصحابها ، وكلام الله والمؤمنين (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ) الذي يسمع كل شيء (الْبَصِيرُ) الذي يرى كل مرئي ، أما الأصنام فهي جمادات ، لا تسمع ولا تبصر ، فكيف تتمكن أن تحكم؟

[٢٢](أَوَلَمْ يَسِيرُوا) أي يذهبوا ويسافروا ، هؤلاء الكفار (فِي الْأَرْضِ) هنا وهناك (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم السابقة ، الذين كذبوا أنبياءهم ، كقوم هود وصالح ولوط وغيرهم ، مما بقيت آثارهم الخربة في البلاد والصحاري (كانُوا هُمْ) أي أولئك الأقوام (أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الكفار (قُوَّةً) في أبدانهم (وَ) أكثر (آثاراً فِي الْأَرْضِ) أي عمارة وبناء وزراعة وصناعة ، جمع أثر وهو الذي يبقى بعد الإنسان أثرا له ، وعلامة منه فلما كفروا ، لم تفدهم قوتهم وآثارهم ، بل (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أي عاقبهم ، وأنزل عليهم العذاب بسبب ذنوبهم كفرهم وعصيانهم (وَما كانَ لَهُمْ) أي

٦٠٠