تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ

____________________________________

لأولئك الأقوام (مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) «الواق» أصله «واقي» من وقى ، بمعنى حفظ ، أي لم يكن لهم حافظ يحفظهم من بأس الله وعذابه ، وهؤلاء إن تمادوا في كفرهم وعصيانهم كان مصيرهم مصير أولئك.

[٢٣](ذلِكَ) العذاب الذي نزل بهم ، إنما كان لأجل كفرهم وتماديهم في العصيان بسبب أنهم (كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ) بالآيات البينات أي الواضحات ، والمعاجز الظاهرات الباهرات (فَكَفَرُوا) ولم يؤمنوا بعد إتمام الحجة (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) بذنوبهم ، بأن عذبهم وأهلكهم (إِنَّهُ) سبحانه (قَوِيٌ) يقوى على ما يريد (شَدِيدُ الْعِقابِ) فإذا عاقب أحدا تمكن من ذلك ، وعقابه شديدا أليما.

[٢٤] ثم مثل سبحانه لبعض أولئك الأمم الذين أهلكهم سبحانه ، بنقل قصة موسى وفرعون (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي مع آياتنا وأدلتنا ، كالعصا ، واليد البيضاء ، وغيرهما (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي دليل واضح ، فقد كان موسى عليه‌السلام مزودا بحجة قوية يحتج ويستدل للألوهية ، كما هو شأن الأنبياء عليهم‌السلام ، فلهم معاجز ، ولهم أدلة منطقية على إرشاداتهم.

[٢٥](إِلى فِرْعَوْنَ) الملك (وَهامانَ) وزيره (وَقارُونَ) الطاغي الذي كان مؤمنا ، ثم انحرف ، وإنما خص هؤلاء بالذكر ، لأنهم كانوا رؤساء

٦٠١

فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى

____________________________________

الكفار والمنافقين (فَقالُوا) عوض الإيمان (ساحِرٌ كَذَّابٌ) إنه يسحر في خوارقه ، كذاب كثير الكذب ، في ادعاءاته بوجود الإله ، وأنه رسوله ، وأن هناك دارا آخرة.

[٢٦](فَلَمَّا جاءَهُمْ) موسى عليه‌السلام (بِالْحَقِ) أي مع الحق الذي هو التوحيد والمعاد والشريعة (مِنْ عِنْدِنا) أي كان من طرفنا ، فإن الآتي بالحق ، قد يكون غير مرسل ، كالصلحاء والعلماء الذين يرشدون الناس (قالُوا) أي فرعون وهامان ، وأشراف القبط (اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) وهم بنو إسرائيل الذين آمنوا بموسى (وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) فقد أمر فرعون ، قبل ولادة موسى بقتل أبناء بني إسرائيل ، حيث أخبره منجم ، بأنه يولد في بني إسرائيل ولد يكون على يده ذهاب ملكه ، وأمر بعد نبوة موسى بذلك ، حيث أراد عدم كثرتهم ليقوى الصف المخالف ، كما كان يبقي النساء أحياء لاستخدامهن وإذلالهن ، لكن الله سبحانه منع عن ذلك بإرسال الضفادع والجراد والقمل والدّم ـ كما سبق ـ (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي أن ما يكيدون يضل ويضيع فلا يظهر له أثر مقصود.

[٢٧](وَقالَ فِرْعَوْنُ) لمن حوله من الأشراف (ذَرُونِي) أي اتركوني ، ولا تشيروا علي بالخلاف (أَقْتُلْ مُوسى) لأستريح منه ، وقد قال ذلك

٦٠٢

وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ

____________________________________

إظهارا لسطوته ، وإلا فقد أراد غير مرة ، قتل موسى ، فلم يتمكن (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) بما شاء ، فقد كان يخاف من دعوة موسى لله سبحانه ، بإنزال العذاب عليهم ، كما شاهد من قبل ، وهذا كما يقول أحدنا ، أفعل ذلك ، كائنا ما كان ، وقوله «ليدع» أمر يراد به الخبر ، أي وإن دعا ربه عليّ ، وإنما أريد قتل موسى ل (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) بأن يمنعكم عن عبادتي ، وعبادة الأصنام ، إلى عبادة الله (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) بأن يجهز الجيوش للحرب والقتال ، فقتله يريحنا من إفساده في ديننا أو دنيانا.

[٢٨](وَقالَ مُوسى) عليه‌السلام ـ وكأنه قال ذلك لما سمع بإرادة فرعون قتله ـ (إِنِّي عُذْتُ) من عاذ ، بمعنى لجأ (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) يا بني إسرائيل ، أو أيها القبط ، إن كان خطابه لهم (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) كفرعون الذي تكبر ولا يخاف المعاد.

[٢٩](وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ) بالله وبموسى (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي من ذويه ، وقد كان ابن عمه ، كما في بعض الأحاديث ، وكان اسمه حزقيل (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) عن فرعون وقومه (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ)

٦٠٣

وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨)

____________________________________

أي كيف تقتلون موسى ، وهو يقول أمرا لا يضركم؟ (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالأدلة الواضحة ، وهذا الكلام لا ينافي كتمان إيمانه ، فإن الخصوم دائما يظهرون فيما بينهم حقائق خصومهم ، ويعترفون بمزاياهم وفضائلهم (مِنْ رَبِّكُمْ) أي من طرف إلهكم وخالقكم ، وقد كان حتى فرعون يعترف بالإله في خلواته ، ولذا تضرع إليه سبحانه وقت انقطاع النيل (وَإِنْ يَكُ) موسى (كاذِباً) في دعواه النبوة (فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) أي أن ضرر كذبه يعود إليه ، لا إليكم ، فإن الكاذب يتضرر من كذبه (وَإِنْ يَكُ صادِقاً) فيما يقول (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) فإن موسى كان يعدهم بالهلاك والعذاب إن بقوا في كفرهم وطغيانهم ، وإنما قال «بعض» تلطفا في الخطاب ، وتوسعا في الكلام ، وكأنه قال ، أقل ما في الأمر ، أنه يصيبكم بعض ما يقوله موسى من نكال الدنيا وعذاب الآخرة ، ومعنى «يصيبكم» يصل إليكم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) بالألطاف الخفية الموجبة للسعادة الأبدية (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) أي متجاوز في العصيان حدّ المتعارف ، أو متجاوز حدود الشريعة كثير الكذب ، وقد أراد بهذا ، إما فرعون وقومه بمعنى أنكم إذا قتلتم موسى ، كنتم من المسرفين الكذابين ، الكثيري التكذيب لما يقوله موسى من الأمور المربوطة بالمبدأ والمعاد والشريعة ، وإما موسى عليه‌السلام ، بأنه إن كان موسى مسرفا كذابا ، لم يهده ربه ، وقد قال ذلك تأكيدا لقوله (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ).

٦٠٤

يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠)

____________________________________

[٣٠](يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ) والسلطة في هذا (الْيَوْمَ) في حال كونكم (ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) أي غالبين عليها ، فإن الإنسان صاحب السلطة يكون ظاهرا للناس يعرفوه ، ولا يخفى عليهم (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا)؟ من يمنعنا من عذاب الله ، إن جاءنا عند قتل موسى ، فإن هذا الملك يذهب ، ويحلّ محله العذاب ، وإنما قال «لكم الملك» إما تذكيرا بالنعيم ، في مقابل التخويف بالعذاب ، وإما لبيان ، أن أصحاب السلطة دائما أقرب إلى سخط الله ونكاله ، حيث أنهم يعصون كثيرا ، فإذا تجمعت حل بهم العذاب ، بخلاف غير أصحاب السلطة ، الذين هم بمعزل عن العصيان ، فيكون احتمال عقابهم أبعد ، وبعد هذا النصح كله (قالَ فِرْعَوْنُ) القاسي المظلم القلب (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) أي ما أشير عليكم إلا ما أراه صوابا في رأيي وفكري ، فقتل موسى صواب في نظري (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أي ما أرشدكم إلّا الطريق الذي هو صحيح ، وفيه الرشد والهداية.

[٣١](وَقالَ الَّذِي آمَنَ) من قوم فرعون وهو حزقيل (يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) أيها القوم إن تقدمتم إلى قتل موسى عليه‌السلام أن يصيبكم (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) أي الأحزاب التي عارضت الرسل وكفرت ، ولكل حزب يوم ، وإنما جمعهم المؤمن ، لبيان أن كل حزب ، خالف

٦٠٥

مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ

____________________________________

الرسل ، حقت عليه كلمة العذاب ، ثم فصل ذلك بقوله.

[٣٢](مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ) الدأب العادة ، ومعنى ذلك ، أخاف عليكم ، مثل سنة الله في قوم نوح ، حيث أغرقهم سبحانه (وَعادٍ) قوم هود النبي عليه‌السلام (وَثَمُودَ) قوم صالح عليه‌السلام (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) من الأمم التي كذبت الأنبياء عليهم‌السلام (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) فلا تفعلوا ما تستحقون الظلم بأنفسكم.

[٣٣](وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) أصله «التنادي» مصدر باب التفاعل ، وإنما حذف الياء تخفيفا ، والمراد به ، إما يوم نزول العذاب ، فإن فيه ينادي كل إنسان ، صاحبه بالفرار والحذر ، وإما يوم القيامة ، حيث ينادي أهل النار أهل الجنة (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا) (١) وينادي أهل الجنة أهل النار(ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (٢)؟

[٣٤](يَوْمَ تُوَلُّونَ) عن العذاب ، فأين منه (مُدْبِرِينَ) بزعم أن الفرار ينجي من عذاب الله (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي لا يحفظكم من بأس الله أحد ، فإذا جاء العذاب ، لا يتمكن أن يمنع عنه مانع (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) بأن تركه في الظلمات ، حتى يفعل ما يشاء ، وقطع عنه الألطاف

__________________

(١) الأعراف : ٥١.

(٢) المدثر : ٤٣.

٦٠٦

فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ

____________________________________

الخفية ، بعد أن أرشده إلى الطريق ، فلم يقبل (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ليس له أحد يهديه ، بأن يفيض عليه من ألطافه الخاصة ، فاحذروا أن تكونوا من أولئك الزمرة.

[٣٥](وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ) بن يعقوب بن إبراهيم عليهم‌السلام (مِنْ قَبْلُ) أي قبل موسى عليه‌السلام (بِالْبَيِّناتِ) أي بالأدلة الواضحة ، فقد كان يوسف رسولا إلى أهل مصر ، بالإضافة إلى كونه ملكا ، وبعد يوسف ، امتدت السلطات الخيرة ، ثم المتوسطة ، ثم الشريرة ، حتى وصلت النوبة إلى فرعون ، حيث قال (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (فَما زِلْتُمْ) والمراد ، لم يزل آباؤهم (فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) من التوحيد ، فقد كان أهل مصر يعبدون الأصنام ، في ذلك الزمان ، ولذا قال يوسف ، لأهل السجن : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ) (١)؟ (حَتَّى إِذا هَلَكَ) أي مات يوسف ، وهلك يستعمل في مطلق الموت ، كما قال سبحانه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٢) وإن كان يتبادر منه ـ أحيانا ـ موت السيء (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) كأنكم استرحتم من موت يوسف ، كما يستريح المجرم من موت السلطان ، إذ يتمكن من إبداء إجرامه ، فأنتم ـ أيها القوم ـ مسرفون في الكفر والضلال ، قديما وحديثا ، فلم هذا الكفر ، ولم هذا الضلال؟ (كَذلِكَ) أي كما ترك

__________________

(١) يوسف : ٤٠.

(٢) القصص : ٨٩.

٦٠٧

يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)

____________________________________

الله سبحانه أسلافكم ضلّالا غير معتن بشأنهم ، لمّا لم يؤثر فيهم إرسال الرسول ، وإقامة الحجة (يُضِلُّ اللهُ) بترك لطفه عن (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) في الكفر والضلال (مُرْتابٌ) أي شاك في الله والمعاد والشريعة ، من ارتاب ، بمعنى شك.

[٣٦] ثم بين لهم كيف يقطع الله لطفه عن بعض الناس ، حتى يتيهون في الضلال والانحراف (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) أي يعاندون (فِي) البحث ، حول (آياتِ اللهِ) أي أدلته الدالة على وجوده وسائر صفاته (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) أي حجة (أَتاهُمْ) ذلك السلطان ، من عقل أو نقل ، فجادلهم عن الهوى ، لا عن الدليل والبرهان (كَبُرَ) ذلك الجدال (مَقْتاً) أي من حيث المقت ، فإن الغضب على ذلك المجادل كبير (عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) فالله يلعن المجادل ، والمؤمنون يبغضونه (كَذلِكَ) أي بهذا النحو من الطبع ، وهو ختم القلب على الكفر بعد أن جاء الهدى ، فجادل بدون الدليل (يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) فكبره عن الحق وتجبّره في الأرض ، أورث ، أن ختم الله على قلبه ، وقد سبق أن القلب قابل لكل شيء ، فإذا أعرض الإنسان عن الحق إلى الباطل ، يستمر إيحاء الباطل على قلبه في كل مناسبة ، حتى يكون الباطل ملكة له ، فلا يقبل الهدى أبدا ، لا بالاضطرار ، وإنما بالاختيار والنفرة عن الحق عنادا.

٦٠٨

وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ

____________________________________

[٣٧](وَقالَ فِرْعَوْنُ) بعد أن سمع مواعظ حزقيل ، وكأنّ هناك كان مجلس حوار بين حزقيل ، وبين القوم (يا هامانُ) وهو وزير فرعون (ابْنِ لِي صَرْحاً) أي قصرا مشيدا عاليا (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) بأن أصعد عليه ، وأنظر هناك في ملكوت السماوات.

[٣٨] ثم فسر «الأسباب» بقوله (أَسْبابَ السَّماواتِ) أي أسباب الاطلاع على السماوات ، وما فيها! فكما أن أسباب العز «السيارة» وأمثالها ، كذلك أسباب الاطلاع على السماوات «المرتقى العالي» و «المجهر» وما أشبه ، فإذا بني بعضه كان الرجاء أن يبلغ (فَأَطَّلِعَ) بالنصب لأنه جواب بالفاء ، أي إذا بلغت اطلعت (إِلى إِلهِ مُوسى) وقد قصد بهذا التمويه على الناس العوام ، بأنه إن كان موسى صادقا ، في أن له إلها خلق السماوات ، فإني قادر على الاطلاع عليه ومحاربته (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) أي أظن موسى (كاذِباً) وقد أراد بهذا الخداع للناس ، في أنه منصف مع موسى ، حتى يتورع أن يقال أنه علم كذبه ، بل يريد الاستطلاع هل صدق موسى أم كذب؟ وإن كان ظنه أنه كاذب.

ثم قال سبحانه (وَكَذلِكَ) أي كما زيّن لهؤلاء الكفار أعمالهم السيئة ، أو كما ذكر من حكاية أعمال فرعون وأقواله (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ) والمزين هو نفسه ، أو الشيطان (سُوءُ عَمَلِهِ) أي رأى عمله السيء حسنا (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) أي منع عن طريق الهداية والمانع له هو

٦٠٩

وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها

____________________________________

الشيطان ، أو نفسه الأمارة بالسوء (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ) ومكره الذي عمله لإطفاء نور موسى (إِلَّا فِي تَبابٍ) أي هلاك وخسارة واضمحلال ، من «تبّ» بمعنى هلك وخسر ، فلم ينفع كيده ، لإطفاء نور موسى عليه‌السلام.

[٣٩] ولما رأى حزقيل إصرار القوم على ضلالهم ، ألقى عليهم نصيحته الأخيرة (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) من قوم فرعون ، وكان يكتم إيمانه (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ) حذف ياء المتكلم تخفيفا ، وبقيت الكسرة ، دليلا عليه (أَهْدِكُمْ) جزم الفعل ، لأنه في جواب الأمر ، أي إن تتبعوني أهدكم (سَبِيلَ الرَّشادِ) ، أي طريق الرشد ، والمراد اتبعوا كلامي ، فإن فيه الهداية والرشد.

[٤٠](يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي الحياة القريبة ، و «دنيا» مؤنث «أدنى» (مَتاعٌ) أي مورد انتفاع قليل ، ثم يزول عن قريب (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) التي يستقر فيها الإنسان ، أبد الآبدين ، فلا تبيعوا آخرتكم بدنياكم ، لتزول الدنيا عن أيديكم بعد قليل ، وتخسروا الآخرة.

[٤١](مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) أي مثل تلك السيئة ، بلا زيادة

٦١٠

وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١)

____________________________________

عليها (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) مصدق بالله ورسله ، واليوم الآخر ، بأن صحت عقيدته وعمله (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) جزاء لإيمانهم وتصديقهم ، وعملهم الصالح (يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) فلا يعدّ ما يعطون من الأجر والثواب ، وإن كان كل شيء عنده بحساب وعدّ ، لا يغيب عن علمه شيء ، فآمنوا واعملوا الصالحات ، أيها القوم ، حتى تنالوا ذلك الثواب العظيم ، ولا تكفروا حتى تدخلوا في النار ـ وقوله ، فلا يجزى إلا مثلها ، لبيان لطفه سبحانه ، وللمقابلة ، وإلا فلم تكن هذه الخصوصية في معرض الكلام ـ.

[٤٢](وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ)؟ «ما لي» كان في الأصل استفهاما عن النفع العائد إلى الشخص ، ثم استعمل في كل استفهام ، بعلاقة ، الجزئي والكلي ، كما يقال : ما لي أراك حزينا؟ أي لماذا تحزن ، والمعنى ، أخبروني كيف صرتم هكذا حتى إني أدعوكم إلى ما فيه نجاتكم من عذاب الدنيا والآخرة (وَ) أنتم (تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) بأن أشرك بالله ، وأعصي حتى أستحق النار ، وكأن المؤمن خرج هنا من كتم الإيمان ، وجعل يحاورهم بصفته مؤمنا ، ولذا قال سبحانه «فوقاه الله» كأنهم أرادوا قتله لما علموا إيمانه.

٦١١

تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣)

____________________________________

[٤٣] ثم بين دعوتهم له بقوله (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ) بأن لا أعتقد بوحدانيته (وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي أجعل الصنم ـ الذي لا علم لي بكونه إلها ـ شريكا لله تعالى ، وقوله (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فإن من علم أن شيئا ليس بإله ، فإنه لا يعلم ألوهيته ، ولعل الإتيان بهذا التعبير ، لعدم جرح عواطفهم ، حتى يتألبون عليه (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ) الغالب في سلطانه ، لا كالصنم الذي لا حول له ولا قوة (الْغَفَّارِ) فإنكم إذا آمنتم به غفر ذنوبكم.

[٤٤](لا جَرَمَ) «جرم» بمعنى قطع ، ويستعمل مع «لا» بمعنى حقا ، لأن الحق لا قطع فيه عن الواقع ، كالكذب الذي فيه قطع عن الواقع إلى الخيال والوهم (أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) من الأصنام (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا) فإنها لا تدعو أحدا لا في الدنيا (وَلا فِي الْآخِرَةِ) بل الله هو الداعي إلى عبادته وطاعته ، أو المراد أنه لا يستجيب دعوة الداعي ، لا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، فأي نفع في عبادته (وَأَنَّ مَرَدَّنا) أي رجوعنا ، مصدر ميمي ، من «ردّ» بمعنى رجع (إِلَى اللهِ) فكيف نترك طاعته ورجوعنا إليه؟ (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) الذين أسرفوا في الكفر والعصيان ، وتجاوزوا الحدّ (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) الملازمون لها.

[٤٥] ثم هددهم ، بأنهم إن لم يقبلوا كلامه يأتيهم يوم يذكرون فيه مقالته

٦١٢

فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)

____________________________________

حيث لا ينفعهم التذكر (فَسَتَذْكُرُونَ) أيها القوم (ما أَقُولُ لَكُمْ) من النصائح يوم يأخذكم العذاب ، أو يوم القيامة (وَ) أما أنا ، ف (أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) أي أكل أموري إليه حتى لا يمسني السوء منكم (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فهو يبصرني ويتمكن على نجاتي.

[٤٦] وقد أراد القوم به سوء ، إذ همّ فرعون بقتله ، لكن الرجل ، فرّ من بين أيديهم إلى جبل (فَوَقاهُ اللهُ) أي حفظه الله من (سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) فإن مكرهم ، كان يشتمل على نتائج سيئة من قتله وما يلازم القتل من الإيذاء والإهانة وما أشبه (وَحاقَ) أي أحاط وحل (بِآلِ فِرْعَوْنَ) والمراد هو وآله ، فقد ذكرنا سابقا ، أنه قد يقال «آل ـ فلان» ويراد هو وآله (سُوءُ الْعَذابِ) بالغرق في البحر في الدنيا.

[٤٧] وما في البرزخ ، ف (النَّارُ يُعْرَضُونَ) أي آل فرعون (عَلَيْها) على النار (غُدُوًّا) صباحا (وَعَشِيًّا) عصرا ، بأن يعذبون كل يوم مرتين ، مقابل المؤمنين ، الذين لهم رزقهم بكرة وعشيا ، وهذا عذاب برزخهم (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي إذا قامت القيامة ، يقال للملائكة الموكلين بهم (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) أي هو وآله (أَشَدَّ) أنواع (الْعَذابِ) لكفرهم وطغيانهم ، فقد نتج تمردهم تعذيبهم في العوالم الثلاثة.

٦١٣

وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ

____________________________________

[٤٨] وبمناسبة الحديث ، عن عمل فرعون واتباع قومه له ، بدون تبصر واهتداء ، يأتي السياق لنقل جملة من حوار أهل النار (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ يَتَحاجُّونَ) أي يتخاصم الرؤساء والأتباع (فِي النَّارِ) في الآخرة (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ) عقيدة وإمكانية ، وهم الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) من القادة والرؤساء ، أي تكبروا عن قبول الحق (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ) معاشر الرؤساء (تَبَعاً) جمع تابع ، كخدم جمع خادم ، أو مصدر من قبيل «زيد عدل» ، فقد كنا نسمع أوامركم ، ضد الدين والشريعة (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا) أي دافعون عنا (نَصِيباً) وقسما (مِنَ النَّارِ) التي أحاطت بنا؟

[٤٩](قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) في جواب الضعفاء (إِنَّا كُلٌ) أي كل واحد منا ومنكم (فِيها) أي في النار ، فلسنا خالين من العذاب ، حتى نتحمل بعض عذابكم (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) بأن يتحمل كل جزاء ما عمله من شرك وعصيان.

[٥٠] ثم إنهم يتوجهون إلى الملائكة الذين هم موكلون بالنار (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ) بصورة عامة ، من الأتباع والمتبوعين (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) جمع

٦١٤

ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

____________________________________

خازن ، وهو الحافظ ، والمراد بهم الملائكة ، الذين يتولون أمور أهل جهنم (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) حتى نستريح ، ولو قليلا ، وإنما يقولون ذلك لأنهم لا يطمعون في انقطاع العذاب.

[٥١](قالُوا) أي قال الخزنة في جوابهم (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ)؟ أي بالحجج القاطعة الواضحة ، ثم عاندتم ولم تقبلوا (قالُوا) أهل النار في الجواب (بَلى) جاءونا ، فلم نقبل (قالُوا) أي قالت الخزنة لهم بعد هذا الاعتراف (فَادْعُوا) أنتم ، حتى يخفف الله عنكم ، فإنّا لا ندعو وذلك لعلم الخزنة ، بأن الدعاء لا يفيد (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي ضياع وبطلان ، فلا تفيد دعوتهم شيئا.

[٥٢] ثم يرجع السياق إلى قصة الرسل ، ومن يعاندهم (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كما نصر سبحانه ، حيث نرى ، أنّ الدين واضح ظاهر ، بينما معاندوا الأديان ، ليس لهم إلا الخسران ، وقد نصر سبحانه ، عيسى ، وموسى ، ومحمدا ، وإبراهيم ، وغيرهم ، من الرسل عليهم‌السلام بالأتباع الكثيرين ، وعلوّ الاسم والاحترام ، ففي دنيا اليوم ، ونفوسها «ثلاثة آلاف مليون وخمسة عشر مليونا» (١) أكثر من

__________________

(١) كان ذلك في وقت كتابة الكتاب أما الآن فنفوس العالم أكثر من ذلك.

٦١٥

وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣)

____________________________________

ثلثي العالم متدينون ، وهل النصرة فوق هذا؟ وهل كان مقصد الرسل والمؤمنين بهم أكثر من هذا؟ ، أما من يتصور أن النصرة معناها ، أن لا يقتل الرسول ـ أو المؤمنون به في ساحة حرب ، وأن لا يهان ، فقد اشتبه ، ألا ترى أنه يقال : انتصرت الدولة الفلانية على الدولة الفلانية ، وإن ذهب شبابها ضحايا ، وأموالها نهبا ، حين لم تسقط ، ولم يستول عليها الأجنبي ، ولم تمح عن الخارطة؟ (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) جمع شاهد ، كأصحاب وصاحب ، والمراد يوم القيامة ، وهم الذين يشهدون على الناس ، بالإيمان والكفر والإطاعة والعصيان.

[٥٣] ثم بين وصفا لذلك اليوم ، يناسب حال الكفار ـ الذين كان الكلام حولهم ـ (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) أي أن اعتذارهم من الكفر والعصيان ، لا يفيدهم في دفع العذاب عنهم ، وليس كالدنيا حيث ينفع المعتذر عذره (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي البعد والطرد عن رحمة الله وفضله (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي الدار السيئة ، من إضافة الصفة إلى الموصوف.

[٥٤](وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسَى الْهُدى) أي الهداية ، التي بها يهدي الناس إلى الحق ـ وهذا رجوع إلى قصة موسى عليه‌السلام ، التي سبقت ، وتسلية للمؤمنين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) أي أعطينا التوراة إرثا لهم ، باعتبار الكتب السابقة ، فكأن كتاب الله الذي فيه شريعته شيء واحد ، يتوارثه المؤمنون جيلا بعد جيل ، وإن كان ذا قوالب متعددة ، كالتوراة والإنجيل والقرآن.

٦١٦

هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥)

____________________________________

[٥٥](هُدىً) أي لأجل هدايتهم إلى الحق وإرشادهم طريق السعادة (وَذِكْرى) أي ولأن يكون مذكرا بالله وبرسله وبالمعاد ـ مما يكمن في فطرة كل إنسان ، بصورة إجمالية ـ (لِأُولِي الْأَلْبابِ) ، أي أصحاب العقول جمع لب ، وهو العقل.

[٥٦](فَاصْبِرْ) يا رسول الله على أذى قومك ، فإن مصيرك ومصير المؤمنين ، كمصير موسى ، الذي غلب على فرعون ، ومصير بني إسرائيل ، الذين علا كعبهم على أعدائهم (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بنصرتك ، وإهلاك الكفار (حَقٌ) مطابق للواقع ، لا كذب فيه ، (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) فإن الأنبياء كانوا يعدّون اشتغالهم بالأمور الدنيوية الضرورية ذنبا ، ألا ترى ، أن من أصابه وجع الرجل ، حتى لا يتمكن من جمعها ، إذا اضطر إلى أن يبسطها في مجلس أمام أناس محترمين ، اعتذر منهم ، وطلب عفوهم؟ مع أن عمله ذاك ضروري ليس باختياره ، وهكذا أشغال الأنبياء الدنيوية ، أمام الله سبحانه ، وإن كانوا مضطرين إليها كل اضطرار تقويما للبدن ، فإنه بنظرهم ذنب ، أمام الله الذي ينبغي أن لا يشغل عنه الإنسان ، ولو طرفة عين ، وهناك قول ، بأن الآية على طريقة «إياك أعني واسمعي يا جارة» (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي نزهه بالحمد ، فإن الإنسان إذا أثنى على الله بالعلم مثلا ، كان حمدا وتنزيها عن الجهل ، في آن واحد (بِالْعَشِيِ) وهو من زوال الشمس إلى الليل (وَالْإِبْكارِ) من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والمراد الاستمرار

٦١٧

إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ

____________________________________

على الاستغفار والتسبيح.

[٥٧](إِنَ) الكفار (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) أي يخاصمون الرسول والمؤمنين في إبطال آيات الله وأدلته الكونية ، وخوارق الأنبياء (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) أي بغير دليل (أَتاهُمْ) من عقل ، أو شرع ، وإنما يجادلون عبثا واعتباطا بعد ما تم عليهم الحجة (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) أي ليس احتجاجهم ، وخصامهم ، إلا لأجل أن في صدورهم ، تكبرا عن قبول الحق ، ولكن (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) أي لا يبلغون ما يريدون من العظمة التي تمنعهم عن قبول الحق ، فإن الله سبحانه يذلّهم ، حتى لا يبلغوا كبرياءهم ، ومن غريب الأمر ، أن الإنسان يرى كل متكبر عن الحق هكذا أنه يظن إن هو قبل الحق يهان ، ويجرح كبرياءه ، فلا يقبل ، بل يتكبر ، زعما بأنه ، إن فعل ذلك يصل إلى عظمة ، وارتفاع في المجتمع ، والأمر دائما خلاف ذلك ، فالحق يعلو ، والمتكبر يذل (فَاسْتَعِذْ) يا رسول الله (بِاللهِ) من شر هؤلاء الكفار المتكبرين ، أو من الابتلاء ، بمثل هذا النحو من الكبر الصادف عن الحق (إِنَّهُ) تعالى (هُوَ السَّمِيعُ) لقولك واستعاذتك (الْبَصِيرُ) بما يجول في خاطرك ، وما أنت عليه من الخضوع للحق ، والقبول له.

[٥٨] وكيف يتكبر هؤلاء الكفار ، وهم يرون حولهم السماوات والأرض ، وخلقهما ، أكبر من خلقهم؟ والإنسان العاقل ، إذ رأى نفسه وسط هذا الكون الفسيح ، لا بد وأن يتضاءل ، ويعترف بصغر نفسه (لَخَلْقُ

٦١٨

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها

____________________________________

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بما فيهما من عجيب الصنع ، وصفوف الخلق (أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) ولعل التعبير بأكبر ، لأن خلق الإنسان أدق ، ولذا لما خلق الله الإنسان ، قال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١) (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك لأنهم لا يتفكرون ، والإنسان إذا لم يتفكر في الكون يغتر بنفسه ويتكبر.

[٥٩] إن الكفار كالأعمى ، حيث أغلقوا بصائرهم عن الإدراك ، والتفكر ، والمؤمنين كالبصير ، لأنهم فتحوا منافذ عقولهم ، فأدركوا الحقائق (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) كما هو واضح لكل ذي عقل (وَ) لا يستوي (الَّذِينَ آمَنُوا) بالله واليوم الآخر ، وما يلزم الإيمان به (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الصالحة (وَلَا الْمُسِيءُ) الذي أساء بالكفر والعصيان (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) «ما» مصدرية ، أي قليل تذكرهم لهذه الحقيقة ، وهي عدم استواء الكافر والمؤمن ، والمحسن والمسيء ، أو أن «ما» مصدرية ، أي قليل تذكرهم لهذه الحقيقة ، وهي عدم استواء الكافر والمؤمن ، والمحسن والمسيء ، أو أن «ما» تأكيدية.

[٦٠](إِنَّ السَّاعَةَ) أي القيامة (لَآتِيَةٌ) تأتي قطعا (لا رَيْبَ فِيها) أي

__________________

(١) المؤمنون : ١٥.

٦١٩

وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠)

____________________________________

ليست محل ارتياب ، وإن ارتاب فيها المبطلون ، وهذا كما نقول «لا شك أن هذه شمس» وإن شك فيها السوفسطائيون (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) بإتيان الساعة لكفرهم ، أو عدم رسوخ الإيمان في أعماقهم.

[٦١] وإذ جرى حديث الإيمان والمتكبرين عن قبوله ، يأتي السياق لتوجيه الناس إلى الله سبحانه بالدعاء والضراعة إليه ، وأن من تكبر عنه ، فجزاؤه النار ، فالإيمان والدعاء ، كلاهما توجه إلى الله ، والاستكبار عن الإيمان وعن الدعاء كلاهما ابتعاد عنه ، وهنا مناسبة أخرى ، أن لا ييأس الكافر والعاصي ، فإن أبواب الدعاء بطلب التوبة ونحوه مفتوحة (وَقالَ رَبُّكُمُ) أيها الناس (ادْعُونِي) اطلبوا حوائجكم ، صغيرها وكبيرها (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) «استجب» مجزوم جوابا للأمر ، أي إن تدعوني ، أستجب لكم (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) ومن جملتهم من يستكبر عن الدعاء ، إذ الدعاء قسم من العبادة ، فإن العبادة اعتراف الإنسان بسيادة الله ، والعمل طبقه ، والدعاء قسم منه (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ) في الآخرة ، ولذا جيء ، ب «السين» (داخِرِينَ) من دخر ، بمعنى ذل وصغر ، وهم صاغرون ، في مقابل تكبرهم ، في الدنيا عن الدعاء ، ولا يقال : كيف قال سبحانه (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وإنّا نرى أن كثيرا من الأدعية لا تستجاب؟ فإن الجواب ، أن القضية طبيعية ، أي أن من طبيعة الدعاء أن يستجاب ، كسائر القضايا ، فلو

٦٢٠