تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥)

____________________________________

[٢٣] قدّم موسى عليه‌السلام جواب قول فرعون «فعلت فعلتك» لأنه كان إلصاق تهمة القتل ، ومن البلاغة أن يقدم الإنسان جواب الأهم من كلمات الخصم ، لئلا يبقى ولو لمدة تعمل أثر الكلمات في أدمغة السامعين فيذهب بالموقف عن يد المتهم ، ثم رجع عليه‌السلام ليجيب عن كلامه الأول وهو امتنانه عليه بأنه ربّاه في قصره ، فقال (وَ) هل (تِلْكَ) التربية (نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ)؟ فإن تربيتك كانت من جهة (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي جعلتهم عبيدا مضطهدين ، حتى اضطرت أمي لإلقائي في البحر لنجاتي من السفاكين الذين جعلتهم لقتل كل ولد يولد لبني إسرائيل ، إنها ، بالأحرى ، عليك لا لك ، فلو لم تكن عبّدت بني إسرائيل لكفّلوني ، ولم يكون لك سبيل إليّ.

[٢٤](قالَ فِرْعَوْنُ) بعد أن انقطع عن المحاورة مع موسى حول التربية والجريمة (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) أيّ شيء هذا الذي تدعوني إلى عبادته ، وكأنه لم يقل «من» استخفافا.

[٢٥](قالَ) موسى عليه‌السلام في جواب فرعون : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومبدعهما (وَما بَيْنَهُمَا) من الإنسان والملك والحيوان والجماد وغيرها (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إن كنتم أصحاب يقين لعلمتم أن لهذه الأشياء ربّا ، وكأن في مقابل ذلك ، من لا يبالي ولا يهتم حتى لا يعلم الارتباط وأن لكل شيء مؤثرا ، ككثير من الجهال.

[٢٦](قالَ) فرعون (لِمَنْ حَوْلَهُ) من الوزراء والحكام (أَلا تَسْتَمِعُونَ)

٤١

قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨)

____________________________________

إلى مقالة موسى؟ إني أسأله ما جنس الإله؟ وهو يجيب بما فعل وأبدع ، وهذا الجواب ليس مرتبطا بالسؤال ، لكن موسى عليه‌السلام أراد بذلك أن يلقم فرعون الحجة ، فهل يتمكن أحد أن ينكر أن للكون إلها؟ أما جنسه فهو غير مرتبط بهذا المقام.

[٢٧] لكن موسى عليه‌السلام لم يأبه لاستخفاف فرعون ، وأخذ يسرد الحجج الدالة على وجوده سبحانه ، كي يركّز الألوهية في الأذهان ، ويتم الحجة ف (قالَ) ثانيا إن الله الذي أدعوا إليه (رَبُّكُمْ) أيها الملأ (وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) وفي هذا كان ردا على فرعون إذ كان يدعي أنه الرب ، فمن كان رب آبائكم هل هو فرعون؟ وهذا ما لا يقول به ، أم غيره؟ إذا ثبت بطلان ربوبية فرعون.

[٢٨] ولما رأى فرعون أن موسى غلبه في الحجة ، رماه بما يرمى به كل مصلح حين لا يقدر خصمه من إقامة المنطق ف (قالَ) فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ) والإضافة للاستهزاء (الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) وما يدعيه من الرسالة دعوى جنونية.

[٢٩] لكن موسى عليه‌السلام لم يهتم باتهام فرعون ، بل أخذ يفيض في الكلام ، مستدلا بالآيات الكونية على الله ، موجها أنظار الملأ إليها ف (قالَ) موسى إن الله هو (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) من أصناف الخلق (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي إن أعملتم عقولكم لعلمتم أن لهذه الأشياء ربّا وخالقا.

٤٢

قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤)

____________________________________

[٣٠] وهنا التجأ فرعون إلى التهديد ف (قالَ) مهددا لموسى عليه‌السلام (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي) بأن اعتقدت بإله آخر ودعوت إلى ذلك الإله (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) أي أسجنك جزاء لهذه العقيدة.

[٣١](قالَ) موسى عليه‌السلام (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) أي هل تحبسني حتى إذا جئتك بدليل واضح دال على نبوّتي؟.

[٣٢](قالَ) فرعون (فَأْتِ بِهِ) أي جيء بما تدعيه من الحجة والمعجزة (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك النبوة.

[٣٣](فَأَلْقى) حينئذ موسى عليه‌السلام على الأرض (عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ) أي حية عظيمة (مُبِينٌ) ظاهر واضح أنه ثعبان وليس شعوذة وسحرا.

[٣٤](وَ) أدخل يده في جيبه ، أو تحت إبطه ثم (نَزَعَ يَدَهُ) أي أخرجها من ذلك المكان (فَإِذا هِيَ) اليد (بَيْضاءُ) منيرة كنور الشمس (لِلنَّاظِرِينَ) إليها ، ولم يكن حديثا يسمع ، وإنما رأوها رأي العين.

[٣٥](قالَ) فرعون (لِلْمَلَإِ) أي الأشراف وسموا ملأ لأنهم يملئون العيون هيبة (حَوْلَهُ) أي الذين كانوا حوله (إِنَّ هذا) الرجل ، يعني موسى عليه‌السلام (لَساحِرٌ عَلِيمٌ) بالسحر والحيلة.

٤٣

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨)

____________________________________

[٣٦] وإنه إنما يدعي النبوة ويظهر السحر (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) أي مصر ، لأنه لو سيطر ، اضطر فرعون والملأ أن يفروا منه ، كما هي عادة الملوك لدى الانهزام بسبب سحره وهنا أراد فرعون أن يجلب انتباه الأشراف لئلا يميلوا إلى موسى ، أليس يريد إخراجهم من أرضهم؟ فاللازم أن يقفوا صفا واحدا ضده (فَما ذا تَأْمُرُونَ) أيها الأشراف ، أن نفعل ضد موسى؟

[٣٧](قالُوا) وقد خانوا موسى ، وصدقوا مقالة فرعون (أَرْجِهْ) أخره ، (وَأَخاهُ) أي أبقهما عندك (وَابْعَثْ) أرسل (فِي الْمَدائِنِ) أي المدن المرتبطة بك جماعة (حاشِرِينَ) يحشرون ويجمعون لك السحرة ، من «حشر» بمعنى جمع.

[٣٨](يَأْتُوكَ) أي الرسل الذين أرسلتهم لجمع السحرة ، يأتون إليك (بِكُلِّ سَحَّارٍ) أي كثير السحر (عَلِيمٍ) في علم السحر ، حتى يقابلوا موسى في سحره فإذا جاءوا وأظهروا تفوقا عليه بطل سحر موسى ، وانفضح أمام الناس ، وبطلت حجته ، فلم يتبعه أحد حتى يخشى منه.

[٣٩] وذهبت الرسل إلى البلاد وأخبروا السحرة بأن فرعون يطلبهم ويدعوهم إلى أن يحضروا أرض مصر (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ) جمع ساحر (لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي لوقت يوم خاص ، فإن «ميقات» اسم للزمان

٤٤

وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)

____________________________________

وللمكان ، والمراد باليوم المعلوم ، يوم الزينة ، فقد كان لهم يوم عيد يخرج فيه الجميع خارج المدينة ، للمعايدة.

[٤٠](وَقِيلَ) أي قال فرعون وملأه (لِلنَّاسِ) وهم أهل مصر (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) هذا طلب بصورة الاستفهام؟ نحو قوله (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) (١).

[٤١](لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) أي السحرة المعارضين لموسى ، والمراد باتباعهم عدم ترك دينهم إلى دين موسى ، فكنى عن ذلك باتباع السحرة ، لتقابله مع أتباع موسى عليه‌السلام (إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) على موسى وهارون.

[٤٢](فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ) وحضروا بين يدي فرعون (قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً) ، هل لنا أجر وجزاء عندك (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) على موسى وهارون؟

[٤٣](قالَ) فرعون (نَعَمْ) لكم الأجر والجزاء (وَإِنَّكُمْ) بالإضافة إلى ما تعطون من الجزاء (إِذاً) أي إذا غلبتم عليهم (لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عندي أقربكم إلى نفسي ، حتى تكونوا من خواصي ، فلكم المال والجاه معا.

__________________

(١) النازعات : ١٩.

٤٥

قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦)

____________________________________

[٤٤] واجتمع الجميع في يوم الزينة ، واصطف الطرفان ، فهنا موسى وهارون ، وهناك فرعون بملئه والسحرة وسائر النظارة (قالَ لَهُمْ) أي للسحرة (مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) تحداهم عليه‌السلام بذلك ، بأن يأتوا بما عندهم من أنواع السحر حتى يبطلها ، وليس هذا طلبا حتى يقال : كيف يطلب النبي السحر وهو حرام؟

[٤٥](فَأَلْقَوْا) أي السحرة (حِبالَهُمْ) جمع حبل (وَعِصِيَّهُمْ) جمع عصا ، فقد صوروا الحبال والعصي بصورة الحيّات ولونوها وطلوها بالزئبق وغيره ، بحيث تتحرك فيظن الناس أنها حيات وثعابين (وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) حلفوا بذلك ، وأصل الحلف أن الإنسان يبدي ما في ضميره مبينا أنه مؤكد عنده بسبب ربط كلامه بشيء عظيم واقعا ، أو عند الاجتماع ، وكأنه يريد أن يبين أن مسلمية ما يقول كمسلمية ذلك الشيء العظيم ، والعزة هي القوة والغلبة (إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) زعما منهم أن موسى لا يقدر على ما قدروا عليه.

[٤٦](فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ) أي ألقاها من يده (فَإِذا هِيَ) تنقلب حية عظيمة (تَلْقَفُ) أي تأكل بالتهام (ما يَأْفِكُونَ) أي إفكهم وهو الكذب ، لأن حياتهم كانت مكذوبة لا حقيقة لها.

[٤٧](فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) فإنهم قد رأوا الحق في موسى عليه‌السلام

٤٦

قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ

____________________________________

وعصاه ، إذ هم أهل خبرة بالسحر ، وعلموا أن عصاه ليست بسحر ، فاندهشوا بحيث ملكهم الأمر وألقوا أنفسهم للسجود لله سبحانه إظهارا لاستسلامهم وخضوعهم ، والإتيان ب «ألقي» مجهولا ، للدلالة على دهشتهم حتى كأنهم لم يسجدوا اختيارا ، وإنما اضطرارا من أنفسهم ، فقد حدث في حالة ألقتهم إلى السجود.

[٤٨](قالُوا) أي السحرة (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) صدقنا بأنه الإله ، لا فرعون والأصنام.

[٤٩](رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) وإنما عطفوا بذلك ، لئلا يتوهم أن مرادهم برب العالمين هو «فرعون» إذ فرعون كان يقول أنا ربكم الأعلى.

[٥٠] وعند ذلك سقط فرعون في يده ، إذ ظهرت غلبة موسى أمام الجماهير فتوجه إلى السحرة مهددا لهم (قالَ) كيف (آمَنْتُمْ لَهُ) أي لرب العالمين ، أو لموسى (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) وقد كان فرعون يرى نفسه فوق الكل حتى أنه لو أراد أحد الإيمان كان اللازم أن يستأذنه ، ثم أراد أن يموه الأمر على السذج فقال (إِنَّهُ) أي موسى (لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فهو أستاذكم ومعلمكم وقد تواطأتم أنتم وموسى على هذا الأمر ، بأن يأتي هو بسحر فوق سحركم حتى تظهروا للناس أنه نبي وتسيطروا على الأمر (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) العقاب الذي يحل عليكم ، ثم فسر ما هدده بقوله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي اليد من جانب والرجل من جانب ، وهذا أبلغ في التنكيل

٤٧

وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢)

____________________________________

من قطعها من طرف واحد (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) والصلب هو أن يعلق الجسم بعمود طويل إما بدق الجسم عليه بالأوتاد ، أو بربطه بالحبل ونحوه ، فيموت فورا أو بعد زمان.

[٥١](قالُوا) أي قالت السحرة المؤمنون في جواب فرعون (لا ضَيْرَ) أي لا ضرر علينا مما تفعله بنا ، يقال : ضاره يضيره ضيرا ، بمعنى يضره ضررا ، ف (إِنَّا إِلى رَبِّنا) الله (مُنْقَلِبُونَ) راجعون إلى ثوابه ولطفه فيجازينا على إيماننا وصبرنا بما هو خير لنا من الدنيا ، ومن المعلوم أن الإنسان لا يعد الألم القليل لفوائد كثيرة ضررا ، قال بعض المفسرين : إن فرعون لم يقدر على قتل أحد من السحرة ، وقد ورد أن جمعا آمنوا بموسى فحبسهم مع السحرة ، حتى أرسل الله على آل فرعون الجراد والقمل والضفادع ، فأطلق سراحهم.

[٥٢](إِنَّا نَطْمَعُ) أي نرجو (أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا) السالفة من الكفر والسحر والعصيان ، حيث (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) بموسى عليه‌السلام وبما دعانا إليه ، فإن أول الناس إيمانا أعظم أجرا ، لما يتوجه إليه من الخطر والضرر الذين لا يتوجهان إلى سائر المؤمنين من بعده.

[٥٣](وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى) بعد ما أطلق فرعون عن بني إسرائيل وسائر المؤمنين (أَنْ أَسْرِ) أي سر ليلا إلى خارج مصر (بِعِبادِي) أي مع عبادي المؤمنين (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي أن وجه الأمر بالسير ليلا ، إنكم

٤٨

فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦)

____________________________________

إن سرتم نهارا يتبعكم الطلب ليحولوا بينكم وبين الخروج من مصر ، أو هذا إخبار بأن فرعون يتبعهم فليعلموا ذلك سلفا.

[٥٤] وحيث تقابل قومي موسى وفرعون من حيث المؤمنين بالطرفين ، تفكر فرعون لصد الناس عن الإيمان بجمع الجيش لمحاربة موسى (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ) جمع مدينة ، أي البلاد التي كانت تحت سلطته (حاشِرِينَ) أي أناسا حاشرين ، من حشر بمعنى جمع ، أي جماعة يجمعون المال والعسكر ، لتهيئة حرب تبيد موسى والمؤمنين به معا.

[٥٥] قال فرعون لمن حوله (إِنَّ هؤُلاءِ) أي موسى والمؤمنين به (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) أي عصابة من الناس قليلة ، فإن شرذمة كل شيء بقيته القليلة ، وفي بعض التفاسير أنهم كانوا ستمائة ألف ، فقد أراد التقليل لهم والتنقيص من شأنهم.

[٥٦](وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) يقال غاظه أي أغضبه ، أي أغضبونا حيث خالفوا معنا في الطريقة ، وهكذا يقول المتكبرون دائما وكأنهم هم المحور حتى أن إغضابهم يوجب النكال والتدمير.

[٥٧](وَإِنَّا لَجَمِيعٌ) أي جماعة (حاذِرُونَ) أي خائفون شرهم ، من «حذر» بمعنى خاف واستعمل الحزم في الأمور.

[٥٨] وخرج موسى عليه‌السلام وقومه ليلا من مصر ، واتبعهم فرعون بعد ما عرف خروجهم بجيشه الجرار ، يريد حربهم أو إرجاعهم ، وهكذا أخرج الله

٤٩

فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١)

____________________________________

فرعون من البلاد كما قال (فَأَخْرَجْناهُمْ) أي فرعون وآله (مِنْ جَنَّاتٍ) أي بساتين (وَعُيُونٍ) جمع عين ، أي : العيون الجارية في أراضيهم وبساتينهم.

[٥٩](وَكُنُوزٍ) جمع كنز ، وهو المال المخبأ ، أي عن أموالهم الثمينة التي اختزنوها (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) مقامهم المتصف بالكرامة ، لأنهم كانوا يكرمون في ذلك المقام.

[٦٠](كَذلِكَ) الأمر قد كان (وَأَوْرَثْناها) أي تلك النعم من الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم (بَنِي إِسْرائِيلَ) المؤمنين بالله ، فإن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر وصاروا فيها سادة.

[٦١] وبعد بيان تلك الخاتمة ـ فورا ـ يأتي السياق لبيان القص ة كيف صار الطرفان ، وهل تلاقيا (فَأَتْبَعُوهُمْ) أي أتبع فرعون وآله ، لموسى والمؤمنين (مُشْرِقِينَ) أي حين شروق الشمس وظهور ضوئها ، بعد أن خرج موسى والمؤمنون ، ليلا ، وساروا مسافة طويلة ، ووصل موسى والمؤمنون إلى البحر ، وها هم يرون فرعون بجيشه يتبعهم ، فما ذا يصنعون؟

[٦٢](فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) أي تقابل جمع موسى مع جمع فرعون ، بحيث رأى كلّ صاحبه (قالَ أَصْحابُ مُوسى) في خوف واضطراب (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي سيدركنا جماعة فرعون ولا طاقة لنا بهم ، فإنهم لم

٥٠

قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥)

____________________________________

يكونوا حملوا السلاح للمقاتلة.

[٦٣](قالَ) موسى عليه‌السلام (كَلَّا) لا يدركونا ، ثقة منه عليه‌السلام بنصر الله تعالى (إِنَّ مَعِي رَبِّي) أي معي نصرته ولطفه (سَيَهْدِينِ) أي سيرشدني إلى طريق النجاة.

[٦٤](فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) وهو البحر الأحمر الذي وصلوا إليه ، فضرب موسى عصاه على البحر كما أمر الله سبحانه (فَانْفَلَقَ) البحر أي انشق ، وظهر فيه اثني عشر طريقا بين كل طريقين حاجز من الماء ، وظهر القعر يابسا (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ) أي كل قطعة من البحر ، التي كانت حاجزة بين طريق وطريق (كَالطَّوْدِ) أي الجبل (الْعَظِيمِ) جبل من الماء ممتد عبر البحر ، وطريق ، ثم جبل وطريق ، وهكذا إلى اثني عشر طريقا وسيعا جافا في قلب البحر.

[٦٥](وَأَزْلَفْنا) أي قربنا ، من زلف بمعنى قرب (ثَمَ) أي هناك ، نحو البحر (الْآخَرِينَ) أي فرعون وقومه ، قربناهم إلى البحر ، فإنهم اقتربوا ليحاربوا موسى ومن معه ، ونسبة الإزلاف إليه سبحانه ، لأنه هو الذي أمر موسى بالخروج ، فهو السبب الأول لإخراج فرعون.

[٦٦] ولما وصل فرعون إلى البحر ، ورأى أن موسى وأصحابه في وسطه ، دخل البحر ليدرك موسى (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) حيث

٥١

ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ

____________________________________

وصلوا إلى ساحل البحر سالمين ، حين وصل فرعون بجيشه منتصف البحر.

[٦٧](ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) بأن أمرنا ماء البحر أن يرجع إلى محله ، فتلاطم الماء وانصبّ على فرعون وجيشه فغرقوا.

[٦٨](إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي تقدم من نصرة موسى على فرعون (لَآيَةً) أي دلالة على نصرة الله للمؤمنين على الكافرين ، أو دلالة على الله وصفاته وسائر شؤونه (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر الناس (مُؤْمِنِينَ) مصدقين بهذه الآيات ، أو أن آل فرعون رأوا تلك الآية فما آمنوا ، فلا تستوحش يا رسول الله من عدم إيمان قومك.

[٦٩](وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَهُوَ الْعَزِيزُ) في سلطانه الغالب ، كما غلب على فرعون وقومه (الرَّحِيمُ) بخلقه ، ومن رحمته سبحانه أنه ، يمهلهم ، مع كفرهم ومعاصيهم ، حتى إذا لم يبق أمل في إيمانهم أهلكهم ، أو المراد أنه عزيز غالب على الأعداء ، رحيم عطوف بالمؤمنين.

[٧٠](وَاتْلُ) يا رسول الله ، أي اقرأ (عَلَيْهِمْ) أي على الناس (نَبَأَ إِبْراهِيمَ) أي خبره ، وفيه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعظة للعرب الذين كانوا من نسله ، حتى ينظروا إلى جدهم ، ويتبعوا طريقته.

[٧١](إِذْ قالَ) أي في زمان ، والمراد تلاوة هذه القطعة من قصته (لِأَبِيهِ) آزر ، والمراد عمه ، فإن العرب تسمي العمّ أبا ، لأنه بمنزلة الأب

٥٢

وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤)

____________________________________

(وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ) أي أيّ شيء هذا الذي تعبدونه من دون الله؟ قال ذلك على وجه الإنكار.

[٧٢](قالُوا) في جواب إبراهيم عليه‌السلام (نَعْبُدُ أَصْناماً) جمع صنم (فَنَظَلُّ لَها) لتلك الأصنام (عاكِفِينَ) نعكف عليها ونقيم في عبادتها.

[٧٣](قالَ) إبراهيم عليه‌السلام يريد إبطال عملهم ، وأن عبادتهم لها في غير موقعها (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) أي هل تسمع هذه الأصنام كلامكم ودعاءكم؟ (إِذْ تَدْعُونَ) إياهم.

[٧٤](أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) بجلب خير لكم؟ (أَوْ يَضُرُّونَ) بإيقاع ضرر عليكم؟

وإذ كان الجواب على ذلك بالسلب والنفي ، فلما ذا تعبدون ما لا يسمع ولا يضر ولا ينفع؟.

أقول : ولم يكن للقوم أن يقولوا : نعم ، في الجواب ، إذ ذلك يحتاج إلى دليل ، كما أنه ليس للقوم النقض على إبراهيم بأن الله أيضا كذلك ويطلبوا الدليل ، إذ الآثار تدل على المؤثر فهناك ما لا يحصى من الأدلّة على أن في الكون قوة خارقة تضر وتنفع وتخلق وتميت وتعطي وتمنع ، وما ذاك إلا الله سبحانه.

[٧٥](قالُوا) في جواب إبراهيم ، إنما ليس لنا دليل على ألوهية هؤلاء ، وإنما نعبدها تقليدا (بَلْ وَجَدْنا آباءَنا) وأجدادنا (كَذلِكَ) الذي نفعل من عبادة الأصنام (يَفْعَلُونَ) فقلدناهم الأمر.

٥٣

قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي

____________________________________

[٧٦](قالَ) إبراهيم عليه‌السلام معلنا براءته من الأصنام بعد أن اعترف القوم بأنهم لا دليل لهم (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) من الأصنام.

[٧٧](أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) المقدمون عليكم ، «وأنتم» للماضي ، أي الأصنام التي تعبدونها أنتم وكان آباؤكم يعبدونها.

[٧٨](فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) فقد جعل الأصنام كالأعداء ، لأنه كما يضر العدو ، تضر الأصنام ، فإن عبادتها تورث النار والخزي ، والإتيان بضمير العاقل للأصنام بقوله «فإنهم» جريا على ما يراه القوم من عقلها ، وتنسيقا للكلام الدائر بينه وبينهم (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) حيث إن قوله «ما كنتم» عام يشمل جميع معبوداتهم ، وقد كانوا يعترفون بالإله ، استثنى عليه‌السلام عن قوله «عدو» الله سبحانه ، فإنه الرحيم الخليل لإبراهيم دون سائر الأصنام.

[٧٩] ثم أخذ عليه‌السلام يصف الله سبحانه بالصفات التي هي له ، وفيه تعريض بالقوم ، بأنّ أصنامكم لا تضر ولا تنفع (الَّذِي خَلَقَنِي) أخرجني من العدم إلى الوجود (فَهُوَ يَهْدِينِ) أي يهديني طريق السعادة ، كما خلقني ، كما قال سبحانه (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (١).

[٨٠](وَالَّذِي هُوَ) لا غيره (يُطْعِمُنِي) أي يعطيني الطعام ، وسائر الناس

__________________

(١) طه : ٥١.

٥٤

وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣)

____________________________________

وسائط ، وإلا فالمطعم الحقيقي هو الله الذي خلق الطعام (وَيَسْقِينِ) الماء إذا عطشت.

[٨١](وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أي يشفيني من المرض فهو الشافي حقيقة ، وإنما الطبيب وسيلة.

[٨٢](وَالَّذِي يُمِيتُنِي) إذا انقضى أجلي (ثُمَّ يُحْيِينِ) يوم القيامة للبعث والحساب وسقوط ياء المتكلم في هذه الأفعال تخفيفا ، لوضوحها بالإضافة إلى حصول التناسق بحذفها.

[٨٣](وَالَّذِي أَطْمَعُ) أي أوجد (أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) والأنبياء معصومون ، إلا أنهم يعدون حتى عملهم بالمباحات خطايا ، إذا ما يعرفون من مقام الله وعظمته يقتضي أن يكونوا دائما في خدمته ، حتى لا يشتغلوا بنوم أو أكل أو مباشرة ، أرأيت لو جاءك إنسان كبير ، وأنت وسخ الثياب تعتذر منه وتخجل ، وإن لم يكن ذلك سيئة ، وكنت مضطرا إلى هذه الثياب؟ (يَوْمَ الدِّينِ) أي في يوم الجزاء.

[٨٤] ثم توجه إبراهيم عليه‌السلام إلى الله بالدعاء قائلا (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) فإن كون الإنسان حاكما في الأرض حكومة مشروعة لا يكون إلّا لله سبحانه ، فإذا منحه لأحد كان حاكما شرعيا ، وإن لم يمنحه كان غاصبا لا حق له فيه (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي اجعلني في زمرتهم ومعهم.

٥٥

وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)

____________________________________

[٨٥](وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ) أي ثناء جميلا صادقا (فِي الْآخِرِينَ) أي الأمم التي تأتي من بعدي ، فيثنون عليّ ثناء صادقا ، بأن أكون قدوة لهم ، فالمراد باللسان الثناء ، بعلاقة الحال والمحل ، والمراد بالصدق أن يكون الثناء صدقا ، في مقابل الثناء الكاذب وقد أجاب الله سبحانه دعاء إبراهيم ، فقد مرت عشرات القرون ، والأمم كلهم يثنون على إبراهيم ، ويذكرونه بتجلة وإكبار.

[٨٦](وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) أي الذين يرثونها كالإرث الذي ينتقل إلى الإنسان.

[٨٧](وَاغْفِرْ لِأَبِي) بأن تهديه إلى الحق حتى يستحق الغفران (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) المنحرفين الذي ضلوا الطريق ، والمراد «بأبي» عمه آزر ، وإلّا فقد كان أبوه عليه‌السلام مؤمنا راشدا.

[٨٨](وَلا تُخْزِنِي) من الخزي ، وهو أن يترك الإنسان لشأنه حتى يذل (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي يوم القيامة ، وهذا أيضا كما تقدم في قوله عليه‌السلام «خطيئتي».

[٨٩](يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ) لإنجاء الإنسان من الهلكة ، وإسعاده بالجنة (وَلا بَنُونَ) يدافعون عن الإنسان ، ويهيئون له المكان الحسن الوثير.

[٩٠](إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي لا ينفع شيء إلا القلب السليم ،

٥٦

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا

____________________________________

وهذا استثناء منقطع ، وقد ذكرنا وجهه سابقا ، وأنه استثناء عن أصل المطلب ، لا عن المطلب بقيوده ، والمراد بالقلب السليم ، القلب السالم عن المعاصي والآثام ، وإنما نسب إلى القلب لأنه مبعث الخيرات والشرور.

[٩١](وَ) يوم (أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي قربت ، إما قربا زمانيا ، لأن أيام الدنيا انقضت ، وجاء دور الآخرة ، وإما قربا مكانيا ، فإنّ الأرض تكون ساحة الحشر ، والجحيم تظهر في أطباقها ، والجنة ـ التي لا تبعد أن تكون في أعالي الفضاء ـ تقرّب إلى الأرض ليراها المؤمنون (لِلْمُتَّقِينَ) الذين كانوا يتقون المحارم في الدنيا.

[٩٢](وَبُرِّزَتِ) أي أظهرت ، والمظهر هو الله سبحانه (الْجَحِيمُ) وهي جهنم ـ مؤنثة سماعا ـ (لِلْغاوِينَ) من غوى ، بمعنى ضل ، أي الضالين الذين أغواهم الشيطان ، فعملوا الكفر والعصيان.

[٩٣](وَقِيلَ لَهُمْ) أي للغاوين (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) أي أين ذهبت الأصنام التي كنتم تعبدونها؟

[٩٤](مِنْ دُونِ اللهِ) أي عوض عبادة الله (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) بدفع العذاب عنكم ، في هذا اليوم (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) هم لأنفسهم بأن لا يكونوا حصب جهنم.

[٩٥](فَكُبْكِبُوا) أي جمعوا ، بمعنى دفعوا وطرح فيها بعضهم فوق بعض

٥٧

فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠)

____________________________________

(فِيها) أي في الجحيم (هُمْ) أي الآلهة (وَالْغاوُونَ) أي الكفار الضالون الذين كانوا يعبدونها ، أو المراد ب «هم» هؤلاء عبدة الأصنام وسائر الغاوين كالطبيعيين ومن إليهم.

[٩٦](وَ) كبكب فيها (جُنُودُ إِبْلِيسَ) من اتبعه من ولده وولد آدم وعصاة الجن (أَجْمَعُونَ) حتى لا يبقى منهم أحد خارج النار.

[٩٧](قالُوا) أي قال هؤلاء الذين في النار (وَ) الحال أن (هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) يخاصم بعضهم بعضا.

[٩٨](تَاللهِ) قسم بالله ، والتاء تأتي غالبا لأمر مستنكر أو غريب (إِنْ) أي إنه ، ف «إن» مخففة حذف اسمها (كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي واضح ظاهر.

[٩٩](إِذْ نُسَوِّيكُمْ) الخطاب للأصنام ، والإتيان بضمير العاقل ، باعتبار جعلهم مخاطبين (بِرَبِّ الْعالَمِينَ) بمعنى إذ سويناكم بالله ، وجعلناكم عدلا له ، فعبدناكم من دونه ، وهكذا يتبرّأ المشركون هناك من الأصنام.

[١٠٠](وَما أَضَلَّنا) عن طريق الحق ، إلى عبادتكم (إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) أي كبرائنا الذين أجرموا فأغرونا عن الحق.

[١٠١] ثم يتضرع المشركون إلى الناس كي ينقذوهم من العذاب قائلين في صورة استفهام واستعطاف (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) يشفعون لنا كي

٥٨

وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥)

____________________________________

ننجو من العذاب؟

[١٠٢](وَلا صَدِيقٍ) أي ولا من صديق (حَمِيمٍ) أي ذي قرابة فإن الحميم هو القريب الذي ترده ويردك؟ والمعنى هل ليس لنا شافع من الأباعد أو صديق من الأقارب؟

[١٠٣](فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) يتمنون أن يكون لهم رجوع إلى الدنيا ، من «كرّ» إذا رجع (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) حتى إذا متنا ثانيا فزنا بالنعيم وتخلصنا من الجحيم.

[١٠٤](إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكرناه من قصة إبراهيم عليه‌السلام (لَآيَةً) أي دلالة على وحدة الله سبحانه وسائر صفاته وشؤونه والمعاد ، أو حجة على هؤلاء القوم الذين يتمسكون بإبراهيم ويعتبرونه نبيا وجدا لهم (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر هؤلاء الذين عاصروك يا رسول الله ، أو أكثر أولئك الكفار في زمن إبراهيم (مُؤْمِنِينَ) مصدقين ، وإنما راكبون رؤوسهم يعاندون في الأمر.

[١٠٥](وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَهُوَ الْعَزِيزُ) في سلطانه الغالب على أمره ، وبعزته يأخذ الكفّار وينتقم منهم (الرَّحِيمُ) بعباده المؤمنين فينصرهم ، أو رحيم بالكفار فلا يعاجلهم بالعقوبة.

[١٠٦] ثم انتقل السياق من قصة إبراهيم عليه‌السلام إلى قصة نوح شيخ المرسلين فقال سبحانه : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) وإنما دخلت التاء في

٥٩

إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠)

____________________________________

كذبت ، باعتبار الجماعة ، كما قال ابن مالك :

والتاء مع جمع سوى السالم من

مذكر كالتاء مع إحدى اللبن

ففي غير الجمع السالم يجوز إدخال التاء باعتبار الجماعة ، وإنما قال «المرسلين» لأنّ تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع الأنبياء.

[١٠٧](إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ) وسماه أخا ، لأنه كان من قبيلتهم (أَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله؟ أي أفلا تخافون من العذاب في تكذيبي وإصراركم على الكفر والعصيان؟

[١٠٨](إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من قبل الله سبحانه (أَمِينٌ) على الرسالة فيما أقول لكم.

[١٠٩](فَاتَّقُوا اللهَ) بتوحيده ، وإطاعته (وَأَطِيعُونِ) أي أطيعوني فيما آمركم وأنهاكم.

[١١٠](وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على البلاغ والإرشاد (مِنْ أَجْرٍ) «من» زائدة دخلت لتعميم النفي أي لا أطلب منكم أجرا وجزاء على الرسالة (إِنْ أَجْرِيَ) أي ما أجري (إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) فهو الذي يعطيني جزائي وأجري.

[١١١](فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) كرّر تأكيدا.

٦٠