تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥)

____________________________________

[٢٤](أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (آلِهَةً) بأن أعبد الأصنام ، عوض عبادة الله تعالى؟ وهذا استفهام إنكاري ، أراد التعريض بالقوم ، كيف يعصون الخالق ، ويعبدون الأصنام؟ (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ) أصله «يردني» ، فعل مضارع من «أراد» والنون للوقاية ، وياء التكلم ، محذوف ، لدلالة الكلام عليه ، أي إن إرادة الله أن يضرني (لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ) أي شفاعة الأصنام ـ الآلهة ـ (شَيْئاً) فإنها لا تشفع ، ولو شفعت لم تفد شفاعتها ، أو المعنى لا شفاعة لهم ، فتغني وتفيد ، على طريق السالبة بانتفاء الموضوع (وَلا يُنْقِذُونِ) أي لا ينقذونني عن الضرّ الذي أراده الله بي ، وقد أراد بهذا تنبيه القوم على ما هم كانوا يعترفون به في قرارة أنفسهم ، من أن الأصنام ، لا شأن لها إطلاقا ، حتى إن أقل شيء لا يصدر منها ، والإتيان بالجمع العاقل للأصنام ، لملاحظة وحدة السياق ، مع كلام القوم ، واعتقادهم بأنها تسمع وتعقل.

[٢٥](إِنِّي إِذاً) أي إذا عبدت الأصنام ، مع أنها لا تنفع (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي انحراف واضح لا شك فيه.

[٢٦](إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) أيها الرسل ، أو أيها القوم (فَاسْمَعُونِ) سماعا يفيدكم ، بأن تفعلوا مثل فعلي ، أو المراد ، فاشهدوا لي بهذه الشهادة ، فإني مؤمن بربكم الذي أوجدكم من العدم ، لا الأصنام.

٤٤١

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)

____________________________________

[٢٧] قالوا ، فاجتمع القوم ، وقتلوا حبيبا ، فنودي ، حين أن قتل من قبله تعالى ، و (قِيلَ) له (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) المعدة لك بسبب إيمانك (قالَ) وهو ميت بعد استشهاده ، كما ورد (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ).

[٢٨](بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) أي بغفران ذنوبي ، ليرغبوا في ثوابه ، ويدخلوا في الدين ، بترك الكفر والعصيان (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) الذين أكرمهم ، بالإضافة إلى الغفران بالثواب والجنة.

٤٤٢

تقريب القران إلى الأذهان

الجزء الثّالث والعشرون

من آية (٢٩) سورة يس

إلى آية (٣٢) سورة الزمر

٤٤٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

٤٤٤

وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ

____________________________________

[٢٩] ثم إن الكفار يجب أن يعلموا أن الله سبحانه إذا أراد إهلاكهم ، لا يرسل إليهم جنودا حتى يقاتلونهم ، فيرجون احتمال غلبهم على جنود الله ، حتى يقولوا إذا جاءت الجنود نتهيأ لها ، بل إن الله إذا أراد الإهلاك ، أرسل إليهم ملكا يصيح بهم صيحة واحدة تدمرهم ، حتى إنه ليس لهم مجال لحركة أو عمل ، فليعتبروا من قوم حبيب النجار ، فإن جماعة منهم بقوا على الكفر ، بعد إيمان الملك وحاشيته ، وأرسلنا عليهم جبرئيل ، أو ملكا آخر صاح بهم صيحة واحدة أو خلقنا صيحة في الفضاء ، أهلكتهم جميعا ، حتى لم يبق منهم حيّ (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ) أي قوم الرجل الذي جاء ، من أقصى المدينة يسعى (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد قتلهم له (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) من الملائكة ، يحاربونهم ، حتى تكون لهم فرصة المقاتلة ، واحتمال الغلبة (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) أي ليس شأننا ، إنزال الجند ، إذا أردنا إهلاك قوم ، أو كما ننزل فيما سبق ، لا ننزل في المستقبل ـ وهذا تهديد لكفار مكة ـ.

[٣٠](إِنْ كانَتْ) أي ما كانت كيفية إهلاك أولئك القوم (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) صاح بهم الملك ، أو بخلق الصيحة في الفضاء (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) أي ساكنون ، قد ماتوا ، من الخمود ضد الاشتعال ، كأنهم قد أطفئوا في أثر الصيحة.

[٣١](يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) الحسرة هي الندامة ، فالمعنى أيتها الندامة على العباد ، احضري فهذا وقتك ، كما قالوا في مثل «يا ويله» و «يا عجبا» أو

٤٤٥

ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)

____________________________________

المعنى ، يا قوم أتحسر حسرة ، ومن المعلوم إن الله سبحانه لا يتحسر بمعناها في البشر ، وإنما المراد نتيجة الحسرة ، كما في سائر الصفات ، كالغضب والرضى ، وما أشبه ، ولذا قالوا خذ الغايات ، واترك المبادئ (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ) «من» «لتعميم» النفي (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يضحكون منه ، ويجعلونه محلا للسخرية ، وحيث كان الكلام في السابق ، حول مواجهة الأقوام للأنبياء ، بالأذى والتكذيب ، جاء السياق لبيان عموم الأذى ، وإنه كان من شعبة السخرية.

[٣٢](أَلَمْ يَرَوْا) هؤلاء الكفار المعاصرون للرسول ، ومعنى الرؤية العلم ، على نحو الاستفهام التقريري ، أي ألم يصل علمهم (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) أي قبل هؤلاء (مِنَ الْقُرُونِ) كعاد وثمود ، وقوم لوط ، والقرن يسمى الجيل والأمة ، باعتبار تقارن أعمارهم (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ) أي أن تلك القرون إلى هؤلاء (لا يَرْجِعُونَ) فقد أخذهم العذاب ، فلم تبق منهم باقية؟ فليعتبروا بأولئك ، وليعلموا أن مصير هؤلاء إن بقوا على كفرهم وتكذيبهم مصير أولئك.

[٣٣](وَإِنْ كُلٌ) أي ما كل تلك الأقوام (لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) «لما» بمعنى إلّا ، أي إلا أن الجميع يحضرون لدينا يوم القيامة للحساب والجزاء ، ولعل «كل» باعتبار كل قوم ، و «جميع» باعتبار كل فرد من كل قوم.

[٣٤] ثم كيف يكفر هؤلاء بالله سبحانه ، وأمام أعينهم ، آثاره الظاهرة ،

٤٤٦

وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ

____________________________________

وأعلامه الباهرة؟ (وَآيَةٌ) أي علامة دالة على وجود الله (لَهُمُ) أي لهؤلاء المنكرين وجود الله سبحانه (الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) التي لا نبات فيها ، ولا حركة (أَحْيَيْناها) بالإنبات بواسطة المطر ، أو سائر المياه (وَأَخْرَجْنا مِنْها) من تلك الأرض الحبوب ، فإن (حَبًّا) يراد به الجنس ، والحب ، كالحنطة ، والشعير ، والأرز ، وغيرها (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) أي من ذلك الحب ، والمراد بعضه ، لأن بعضه الآخر ، يكون نصيب الحيوانات والطيور.

[٣٥](وَجَعَلْنا فِيها) أي في الأرض (جَنَّاتٍ) أي بساتين (مِنْ نَخِيلٍ) جمع نخل ، وهو ما يعطي التمر (وَأَعْنابٍ) جمع عنب ، وأطلق العنب على شجرته باعتبار السبب والمسبب ، وإنما خصّا بالذكر لكثرة أقسامهما خصوصا في تلك البلاد (وَفَجَّرْنا) أي أخرجنا (فِيها) في تلك الأرض الميتة ، أو في تلك الجنات (مِنَ الْعُيُونِ) جمع عين ، وهي محل خروج الماء العذب من الأرض.

[٣٦] وإنما فعلنا ذلك (لِيَأْكُلُوا) أي ليأكل البشر (مِنْ ثَمَرِهِ) أي من ثمر النخل وما أشبه ، وتوحيد الضمير باعتبار كل واحد واحد (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) أي لم تعمل كل عمل ، من تلك الأعمال أيدي هؤلاء ، فإنهم ، وإن عملوا ، ولكنهم أسباب ضعيفة ظاهرية ، وإنما الخالق

٤٤٧

أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها

____________________________________

المكون هو الله تعالى : (أَفَلا يَشْكُرُونَ) الله ، بإعطائهم هذه النعم المتواترة؟

[٣٧](سُبْحانَ الَّذِي) منصوب بفعل مقدر أي أنزهه تنزيها ، وأسبحه تسبيحا (خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) المراد بالأزواج الأصناف ، أي أن من خلق هذه الأصناف الكثيرة الموجودة في العالم ، منزه عن الشريك والنقص ، بل هو الواحد الذي لا نقص فيه (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) بيان «الأزواج» أي خلق أزواج النبات وأصنافه (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) خلق الأزواج ، ذكرا وأنثى (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) من الجن والملائكة ، وما في بطون الأرض ، وقعر البحر ، وأجواء السماء ، وأصناف النجوم وغيرها.

وستأتي الإشارة إلى خلق الأنعام ، ولعله لذا لم يذكر هنا.

[٣٨](وَآيَةٌ لَهُمُ) أي دلالة على وجود الله ، وسائر صفاته ، لهؤلاء المنكرين لله سبحانه (اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) فكأنّ النهار كان جلدا على جسم الليل ، فإذا جاء الليل ، كأنّه سلخ النهار من الليل ، حتى يبدو الليل ، كما يسلخ جلد الشاة منها ، فيبدو جسمها ، فهو كقولنا «لحم الشاة نسلخ منه الجلد» (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) داخلون في الظلام.

[٣٩](وَالشَّمْسُ تَجْرِي) كل يوم ، لأن يأتيهم بالنهار (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) أي

٤٤٨

ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)

____________________________________

إلى محل قرار لها ـ عند الناس ـ وهو تحت الأرض ، أو إلى وقت قرار لها ، وهو يوم القيامة (ذلِكَ) الإجراء (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) في سلطانه ، فما أراد كان (الْعَلِيمِ) بالمصالح ، فيعمل ما فيه صلاح البشر والكون.

[٤٠](وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ) أي قدرنا له (مَنازِلَ) ففي كل يوم في منزل ، فإن للقمر ثمانية عشر منزلا ، كما ذكر علماء الفلك ، أو المراد المنازل المرئية من هلال وقمر وبدر ، في أحوالها المختلفة زيادة ونقيصة (حَتَّى عادَ) القمر في آخر الشهر (كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) العرجون هو العذق اليابس المقوّس ، فإن القمر في آخر الشهر يعود كما بدأ هلالا ضعيفا مقوسا.

[٤١](لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها) أي لا تتمكن (أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) في سيرها فإن الشمس تقطع دورة الفلك في سنة كاملة ، والتي يقطعها في شهر ، أو أن حركاتهما في أفلاكهما نظّمتا بحيث لا يصطدم أحدهما بالآخر ، وهذا بيان لحكمة الله سبحانه ، في أنه نظمهما ، بحيث لا يتلاقيان ، ويسببا فساد الأنظمة الكونية (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) بأن يأتي الليل قبل تقضي وقت النهار ، كالإنسان الذي يسبق الآخر الذي يأتي حتى يلحقه ، ثم يترادفان في المسير حتى يتقدم ذلك المتأخر ، فإن الليل لا يزاحم النهار في أفق واحد ، حتى يرى الإنسان ليلا ونهارا في حال واحد ، ثم يتقدم الليل ، ويتأخر النهار ، وهذا كناية عن دقة التنظيم الذي لا يتزلزل (وَكُلٌ) من الشمس والقمر (فِي فَلَكٍ) ومدار خاص (يَسْبَحُونَ)

٤٤٩

وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ

____________________________________

كالذي يسبح في الماء بكل سهولة ويسر ، والإتيان بضمير العاقل ، إما من باب أن لهما عقلا ـ وذلك غير بعيد ـ ويؤيده ما ورد في الدعاء من خطاب القمر ، ب «أيها الخلق المطيع» وإما من جهة أنه حيث نسب إليهما السباحة ، وهي من فعل العاقل ، ناسب الإتيان بضمير العاقل.

[٤٢](وَآيَةٌ) أي دلالة دالة على وجود الله سبحانه ، وسائر صفاته (لَهُمْ) أي لهؤلاء الكفار ، أو البشر عامة (أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) أي نسلهم ، ولعل نسبه الحمل إلى الذرية ، مع أن الحمل عام للآباء والأبناء ، إن الذرية أحوج إلى الحمل فإن الإنسان الكبير ، يمكن أن يعبر مضايق البحار بالسباحة ، وما أشبه ، أما الذرية فلا علاج لسيرهم إلا بالسفينة (فِي الْفُلْكِ) أي السفينة (الْمَشْحُونِ) من «شحن» إذا ملأ ، بمعنى السفينة المليئة بالناس والأثاث ، ومعنى «حملنا» جعلنا الماء بحيث يمكن أن يحمّل عليه ، بمثل السفينة المملوءة ، فمن جعل ذلك يا ترى؟ إنه هو الله تعالى القادر على كل شيء ، فبينما القطعة الصغيرة من الحجر تعوم في الماء ، لتسير على ظهره السفينة المحمّلة بالأثقال.

[٤٣](وَخَلَقْنا لَهُمْ) أي للبشر ، أو للذرية (مِنْ مِثْلِهِ) أي من مثل الفلك (ما يَرْكَبُونَ) عليه في البر من الأنعام التي تحمل أثقالهم إلى البلاد النائية.

[٤٤](وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) في البحر ، حين كانوا راكبين في السفينة ، وذلك بتهييج الرياح والعواصف ، أو ما أشبه (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) أي فلا أحد

٤٥٠

وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ

____________________________________

يغيثهم ، إن أردنا إغراقهم (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) أي لا يخلصون من الغرق ، إذا أردناه ، ولعل الفرق بين الأمرين ، أن الصريخ أعم من المنقذ ، فالصريخ من يترحم عليهم ، سواء قدر على إنقاذهم أم لا.

[٤٥](إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) أي لا منقذ لهم ، إلا رحمنا بهم وفضلنا عليهم ، فإنه هو الذي بنجيهم من مخاطر البحر (وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) أي ولأجل أن يبقوا أحياء مدة عمرهم حسب تقديرنا ، إلى حين يوافيهم الأجل ، أي أنقذناهم رحمة وإمتاعا.

[٤٦](وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) لهؤلاء الكفار الذين يشاهدون هذه الآيات الدالة على قدرتنا ، وسائر صفاتنا (اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) أي ما أمامكم من الآخرة ، فلا تعصوا حتى يحل عليكم عذاب ذلك اليوم (وَما خَلْفَكُمْ) فإن الإنسان العاصي يعاقب في الدنيا في مستقبل عمره بالعيش الضنك ، كما قد يبتلي أولاده بما صنع ، وهذا هو «ما خلف الإنسان» لأن الإنسان يخلف الدنيا وراءه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لكي يرحمكم الله تعالى ، فلا يؤاخذكم بسيئات أعمالكم ، وجواب «إذا» محذوف تقديره «أعرضوا» ولم يقبلوا ، وقد استدل لذلك بقوله.

[٤٧](وَما تَأْتِيهِمْ) أي تأتي هؤلاء الكفار (مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) كالمعجزات التي يأتي بها الأنبياء ، والآيات التي تظهر في الكون ،

٤٥١

إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً

____________________________________

وكالآيات المنزلة بقصد التشريع ، وما أشبه (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) يعرضون عن تدبرها ، والعمل بموجبها ، وإنما هم قد ركبوا أهواءهم ، وعملوا بما توحي إليهم أنفسهم وتقاليدهم ، وبهذا يخسرون الدنيا والآخرة ، ويلقون في العذاب.

[٤٨](وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي لهؤلاء الكفار (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من المال (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) الذين يأمرونهم بالإنفاق (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ)؟ على نحو الاستفهام الاستنكاري ، أي لماذا نطعم من لا يشاء الله إطعامه ، إذ لو شاء إطعامه ، تمكن من إطعامه؟ وقد أرادوا بذلك الفرار ، عن بذل بعض أموالهم ، ثم يقولون للمؤمنين مستهزئين (إِنْ أَنْتُمْ) أي ما أنتم أيها المؤمنون (إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي انحراف واضح ، حيث تأمروننا بالإنفاق لمن لا يريد الله إطعامه.

[٤٩] وقد كان المؤمنون ينذرون الكفار ، بأنهم إن لم يؤمنوا ، عاقبهم الله إما في الدنيا أو في الآخرة (وَ) لذا كان الكفار (يَقُولُونَ) منكرين قولة المؤمنين (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذي تعدوننا به من نزول العذاب بنا إن بقينا على الكفر (إِنْ كُنْتُمْ) أيها المؤمنون (صادِقِينَ) فيما تقولون؟

[٥٠](ما يَنْظُرُونَ) أي ما ينتظر هؤلاء الكفار (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) تصاح

٤٥٢

تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١)

____________________________________

بهم بإذن الله ، كما صيحت بالأقوام السابقين (تَأْخُذُهُمْ) وتهلكهم ، فهل يريد هؤلاء تلك الصيحة؟ وهذا الكلام من باب الإهانة لهم ، وبيان أن أمرهم يسير جدا ، حتى أن صيحة واحدة تكفي لإبادتهم (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي تأخذهم الصيحة في حال كونهم ، يختصمون في أمورهم ، فتأخذهم على غرّة وغفلة من أمرهم ، من «خصّم» أصله «اختصم».

[٥١](فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) فإذا أخذتهم الصيحة بغتة ، لم يقدروا على الإيصاء (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) إذا أخذتهم الصيحة خارج بيوتهم ، فإن اختصامهم معناه أنهم في الأسواق ، وفي محل أعمالهم وأشغالهم ، ويحتمل ، أن يراد ب «الصيحة» النفخة الأولى ، فإن إسرافيل ينفخ في الصور ، فيهلك جميع البشر ، دفعة واحدة ، كما ورد في الأحاديث ، أي أنهم لا يؤمنون ، حتى تأخذهم الصيحة على نحو الاستفهام الإنكاري.

[٥٢] وبهذه المناسبة ، يأتي السياق ، لبيان بعثهم بعد موتهم ، فقد رأينا ، كيف ماتوا ، بصيحة خارقة ، أو بقبض روحهم ، بواسطة عزرائيل ، الذي هو شبيه بالصيحة ، أو بنفخ إسرافيل ، فلننظر إلى حشرهم (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) هو شبيه بالبوق ، ينفخ فيه إسرافيل ، حين يريد الله إحياء الناس للقيامة والمعاد (فَإِذا هُمْ) أي فإذا بالكفار بغتة وفجأة (مِنَ الْأَجْداثِ) جمع جدث ، وهو القبر (إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) والمراد

٤٥٣

قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً

____________________________________

الموضع الذي قرره الله سبحانه للحشر والحساب ، وإلا فلا مكان له سبحانه ، فهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، لتقريب الذهن ، ومعنى ينسلون ، يخرجون سراعا إلى الموقف ، فإن النسول هو الإسراع في الخروج.

[٥٣](قالُوا) لما رأوا أهوال القيامة (يا وَيْلَنا) يا هلاكنا ، احضر فهذا وقتك ، أو يا قوم ، ندعو على أنفسنا بالويل (مَنْ بَعَثَنا) أي أقامنا (مِنْ مَرْقَدِنا) محل رقدتنا ، والرقدة هي النوم ، والمراد من قبورنا ، ثم يقولون (هذا) البعث هو (ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) في دار الدنيا ، فلم نك نصدّقه (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) أي الأنبياء عليهم‌السلام ، الذين أخبروا بذلك ، فلم نك نصدقهم ، فالآن نشاهد صدقهم ، وهم في القبر ، لم يكونوا نياما ، وإنما قالوا ذلك ، باعتبار ، أن قبرهم قد خلص ، وصاروا إلى حال آخر ، إذ حيوا كما كانوا في الدنيا.

[٥٤] وليس أمر البعث صعبا على الله سبحانه (إِنْ كانَتْ) أي ما كانت بعثتهم (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) صاح بها إسرافيل في الصور النفخة الثانية (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) ترد أرواحهم إلى أجسادهم ، ويحضرون في موقف الحشر للحساب والجزاء.

[٥٥](فَالْيَوْمَ) أي يوم القيامة (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) بأن يزاد في سيئاته ،

٤٥٤

وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)

____________________________________

أو ينقص من حسناته (وَلا تُجْزَوْنَ) أيها البشر (إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فجزاء كل حسب عمله ، أو المراد إن الأعمال تجسّم فكل يرى عمله.

[٥٦] قد رأينا أحوال أصحاب النار ، وأنهم يدعون بالويل ، فلننظر إلى أحوال أهل الجنة (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) الذين صدقوا بالله ، وبالرسول ، وبالمعاد (الْيَوْمَ) أي في ذلك اليوم (فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) قد شغلهم النعيم ، الذي لا عين رأت مثله ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ومعنى فاكهون ، فرحون ، ناعمون ، متنعمون.

[٥٧](هُمْ وَأَزْواجُهُمْ) من حور العين ، أو حلائلهم الدنيوية ، أو أشكالهم من سائر صنوف المؤمنين (فِي ظِلالٍ) هي ظلال أشجار الجنة وقصورها (عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة ، وهي السرير الذي يصنع للعروس (مُتَّكِؤُنَ) فهم في كمال راحة ، فإن الاتكاء أفضل أحوال الجالس.

[٥٨](لَهُمْ فِيها) أي في الجنة (فاكِهَةٌ) هي ثمر أشجار الجنة (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أي يتمنون ويشتهون ، يقال ادّع عليّ ما شئت أي تمنّ.

[٥٩] ولهم بالإضافة إلى كل ذلك النعيم الجسماني نعيم روحي ، وهو (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) أي يقول الرب الرحيم لهم قولا ، هو

٤٥٥

وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)

____________________________________

سلام ، فإنه سبحانه يحيّيهم بالسلام.

[٦٠](وَ) في القيامة يقال للكفار (امْتازُوا) أي انفصلوا عن جماعة المؤمنين (الْيَوْمَ) أي في هذا اليوم (أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) فكونوا على حدة ، وذلك لإهانتهم ، فإن المجرم إذا كان بين أناس آخرين لا تزدريه العيون ، بخلاف ما إذا انفصل عنهم.

[٦١] ثم يقال لهم من قبله سبحانه (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) أي ألم آمركم وأعاهدكم على لسان الأنبياء (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) أي لا تطيعوه فيما يأمركم (إِنَّهُ) أي الشيطان (لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة ، فلما ذا عبدتموه ، وأطعتموه ، حتى تردوا هذا المورد؟.

[٦٢](وَ) ألم أقل لكم (أَنِ اعْبُدُونِي) وحدي (هذا) أي عبادتي (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لا انحراف فيه ، ولا عوج ، يوصلكم إلى خير الدنيا وسعادة الآخرة ، فلما ذا تركتم عبادتي؟.

[٦٣](وَلَقَدْ) رأيتم في الدنيا ، أن الشيطان قد (أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا) أي خلقا (كَثِيراً) دعاهم إلى الضلالة ، فقبلوا منه وانحرفوا (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) إن الشيطان يضلكم إن اتبعتموه ، كما أضل جماعات كثيرة من جنسكم؟ وهذا استفهام إنكاري ، يعني أنكم بعد ما رأيتم إضلال الشيطان ، لجماعات منكم ، كيف اتبعتموه؟.

٤٥٦

هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)

____________________________________

[٦٤] وإذ قد انحرفتم ، ولم تسمعوا العظة ، والنصيحة ، ف (هذِهِ) التي تشاهدونها (جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) في الدنيا ، فلم تكونوا تصدقون بها.

[٦٥](اصْلَوْهَا) أي ادخلوها ، لا زمين لها ، من صلى ، بمعنى لزم الشيء (الْيَوْمَ) أي في هذا اليوم (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم.

[٦٦] وهناك يشرع الكفار في الجدال والكذب ظانين أن ذلك ينجيهم ، كما كانوا يفعلون في الدنيا ، فيحلفون بالله كذبا ، قائلين (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (١) ولكن كذبهم لا ينطلي هناك (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) أي نضع الختم على فمهم ، لئلا يتمكنون من النطق (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ) بأن نقدر أيديهم على الكلام ، فتشهد الأيدي بأعمالها التي اقترفتها جرما وعصيانا (وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بما كان يعمل هؤلاء المجرمون ، فمثلا تقول اليد «إني سرقت» ، وتقول الرجل «إني مشيت إلى الزنى» وهكذا يفضحون هناك ، حيث لا مخلص لهم ، عن مثل هذه الشهادة الدامغة ، وفي آية أخرى (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (٢).

[٦٧] ولا يظنن هؤلاء الكفار ، أنا لا نتمكن من النكال بهم في الدنيا ، فإنا

__________________

(١) الأنعام : ٢٤.

(٢) فصلت : ٢٢.

٤٥٧

وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ

____________________________________

إنما نمهلهم هنا ، وإلا فنقدر على مسخهم ، وإنزال مختلف صنوف العقاب بهم جزاء على أعمالهم (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) أي لأعميانهم ، يقال طمس على عينه إذا محاها حتى لم يبق منها أثر (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) تسابقوا على الصراط ، أي الطريق ، فإن العميان حين يتسابقون لسلوك الطريق ، يرى الإنسان منظرا مضحكا (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي كيف يبصرون الطريق بعد العمى ، حتى لا يصطدم بعضهم ببعض ، ولا يسقط بعضهم بعضا؟

[٦٨](وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ) والمسخ تبديل الإنسان حيوانا ، كما مسخ اليهود قردة (عَلى مَكانَتِهِمْ) التي هم فيها ، في ذلك الطريق الذي تسابقوا فيه (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا) أي يمضون إلى مقصدهم (وَلا يَرْجِعُونَ) أي لا يتمكنون من الرجوع ، فهم في قبضتنا ، حتى إنّا نتمكن أن نعميهم أو نمسخهم في لحظة ، ومع ذلك لا نفعل بهم ذلك رحمة وإمهالا لهم لعلهم يرجعون.

[٦٩] وهل يظن هؤلاء أنّا لا نقدر على مسخهم ، أو طمس عيونهم؟ فلينظروا إلى الشباب كيف نبدلهم إلى شيوخ لا يقدرون على شيء ، بعد القوة والنضارة ، فمن يقدر على ذلك ، وهم يرونه كل يوم يقدر على المسخ والطمس (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) أي نعطيه عمرا كثيرا (نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) أي

٤٥٨

أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ

____________________________________

ننكس قواه وخلقته ، فيصير بعد القوة ضعيفا ، وبعد العقل خرفا ، وبعد النضارة ذابلا ، وبعد العلم جاهلا ، وهكذا ، فهو راجع إلى حالة الطفولة (أَفَلا يَعْقِلُونَ) هؤلاء الكفار إن من يقدر على هذا التنكيس ، قادر على ذلك التنكيس ، بالطمس والمسخ؟

[٧٠] وقد كان الكفار يقولون ، إن محمدا شاعر ، وإن القرآن شعر ، فرجع السياق إلى ما بدأ : حيث قال (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) قائلا (وَما عَلَّمْناهُ) أي ما علمنا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الشِّعْرَ) فليس القرآن شعرا (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أن يقول الشعر من عند نفسه ، ثم ينسبه إلى الله سبحانه ، وقد رووا إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا ينشد الشعر إطلاقا ، حتى أنه إذا أراد أن يقرأ شعرا ، بدّله حتى يخرج عن كونه شعرا ، فقال ذات يوم بدل «كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا» ب «كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا» أما ما ورد من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : «أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب» (١) ، فلم يثبت أنه قرأه على طريقة الشعر ، فلعله لم يقف على «كذب» (إِنْ هُوَ) أي هذا الذي يقرأه من قبله تعالى (إِلَّا ذِكْرٌ) للناس (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) واضح ، وليس بشعر ، والمراد بالذكر ، إنه يذكّر الناس خالقهم الذي نسوه ، بعد ما أودع في فطرتهم ، ولعل الإتيان ، ب «الذكر» لأن الشعر كان في الغالب لهوا وتشبيبا ، فالذكر مقابل له.

[٧١](لِيُنْذِرَ) الله بواسطته ، أو لينذر الرسول ، أو لينذر القرآن (مَنْ كانَ

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩ ص ١٤٠.

٤٥٩

حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ

____________________________________

حَيًّا) في أنه يسمع ويعقل ، مقابل الإنسان الميت ، الذي لا ينفعه الإنذار ، وإنما شبّه بالميت ، لأنه والميت سواء ، في عدم الاجتناب عن الشيء المخوف (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) أي يثبت القول بالعذاب (عَلَى الْكافِرِينَ) بأن يتم عليهم الحجة ، ففائدة القرآن ، هداية العقلاء ، وإتمام الحجة على الكفار.

[٧٢](أَوَلَمْ يَرَوْا) أي هؤلاء الكفار المنكرون لله تعالى (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ) أي لمنافعهم (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) كناية عن تفرده سبحانه بالخلق ، والنسبة إلى «اليد» للتشبيه بالمحسوس تأكيدا لعدم الاشتراك في خلقها (أَنْعاماً) جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) فهم أنها ملكوها ، بفضلنا وإحساننا؟ فمن يا ترى خلق لهم هذه الأنعام غيرنا؟

[٧٣](وَذَلَّلْناها لَهُمْ) أي سخرناها لهم ، حتى صارت منقادة ذليلة تطيعهم ، فلو كانت الأنعام ، كسائر السباع ، أو الحشرات ـ حتى مثل الفأر ـ فمن يا ترى كان يمكنه تسخيرها وتذليلها؟ (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) أي من تلك الأنعام لفائدة الركوب كالإبل (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) أي ومنها لفائدة الأكل ، كالبقر والغنم.

[٧٤](وَلَهُمْ) للبشر (فِيها) في تلك الأنعام (مَنافِعُ) كلبس أصوافها وأوبارها ، وإشعال فضلاتها ، وما أشبه ذلك (وَمَشارِبُ) جمع

٤٦٠