تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

____________________________________

آخر ، كما قال (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) (١) (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أي حافظا لأعمال خلقه ، ومحاسبا ومجازيا عليها.

[٤١] ولما تزوج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زينب ، جعلت الألسنة المنافقة تلوك ، بأن الرسول تزوج زوجة ابنه ، فقال سبحانه (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) فهو ليس أبا لزيد حتى يكون التزويج بزوجته تزويجا بزوجة الابن ، وفي الآية أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليس أبا لرجالهم ـ وزيد من رجالهم ـ وليس فيها أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس أبا لأحد ، فإن القاسم والطيب والطاهر ، وإبراهيم ، كانوا أبناءه الصلبيين ، والإمامين الحسن والحسين عليهما‌السلام ، كانوا أبناءه بواسطة سيدة نساء العالمين (وَلكِنْ) كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (رَسُولَ اللهِ) فينفّذ ما أمره الله سبحانه (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) أي آخرهم ، قد ختمت به النبوة ، ولذا يلزم عليه أن يبطل كل ما يخالف الصلاح العام ، وليس كالأنبياء الذين تقدموا ، إن لم يمكن لهم إبطال أمر ، جاء بعدهم نبي أخر ليبطله ، ولذا كانت شرائعهم تتناسخ (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) لا يخفى عليه المصالح والمفاسد ، فلذا يأمر بالصالح ، ولا يخفى عليه قول المنافقين في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٤٢] ويأتي السياق بعد ذلك يربط القلوب بالله سبحانه ، حتى لا يتحرجوا من حكم يفرضه مهما كان خلاف المألوف لديهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) الأنفال : ٥٩.

٣٤١

اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ

____________________________________

هو تذكرة عند الأعمال ، حتى لا يزيغ الإنسان في قول ، أو عمل ، أو نيّة ، (ذِكْراً كَثِيراً) في مختلف أحوالكم وشؤونكم.

[٤٣](وَسَبِّحُوهُ) والتسبيح هو التنزيه له سبحانه لفظا أو قلبا أو عملا (بُكْرَةً) صباحا (وَأَصِيلاً) عصرا ، ولعل ذلك كناية عن دوام التسبيح واستمراره.

[٤٤] إن الله سبحانه يلطف بكم ويهديكم السبيل ، فمن اللازم أن تقابلوه بالمثل ، تذكروه وتسبحوه (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) والصلاة في اللغة العطف والميل ، كما قال الشاعر «صلّى على جسم الحسين سيوفهم» ومن المعلوم ، أن صلاته سبحانه ، الرحمة بالناس ، والمغفرة لهم (وَمَلائِكَتُهُ) أي تصلي ملائكته عليكم ـ ولا يكون ذلك إلا بإذنه ـ فالفضل يعود إليه تعالى أيضا ، وصلاة الملائكة عطفهم نحو البشر بطلب المغفرة والرحمة لهم وحفظهم عن الأخطار ، بقدر ما يأذن الله لهم (لِيُخْرِجَكُمْ) الله ، أيها المؤمنون (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) فإن دروب الحياة مظلمة لا يراها الإنسان حتى يسير فيها بسلام ، وإنما يقع في المشاكل والاضطرابات كالإنسان الذي يسير في الظلمة يقع في الحفيرة ، ويصطدم بالجدران ، وصلاته سبحانه ، وصلاة ملائكته ، توجب إنارة الطريق ، لأنه يرحم وبرحمته يحفظ الإنسان من الزلّة (وَكانَ) الله (بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) يرحمهم ويلطف بهم.

[٤٥] هذا للمؤمنين في الدنيا أما (تَحِيَّتُهُمْ) إذ يحييهم الله سبحانه (يَوْمَ

٣٤٢

يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧)

____________________________________

يَلْقَوْنَهُ) أي يلقون جزاءه وثوابه ، فهو (سَلامٌ) لفظي إذ يسلم الملائكة عليهم ، ويبعث الله من يقول للمؤمن ، إن ربك يقرؤك السلام ، ومعنوي فإن لهم السلامة من جميع الآفات والأخطاء ، إلى الأبد (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) أي ثوابا جزيلا يكرمهم.

[٤٦] ثم يخاطب القرآن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلطف به في مقابل ذلك العمل الشاق الذي قام به من زواج زينب (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ) على الناس (شاهِداً) تشهد عليهم ، ماذا صنعوا ، وماذا يصنعون؟ فإن الإنسان المعتدل يمكن أن يكون شاهدا ، لا الإنسان المنحرف (وَمُبَشِّراً) بالجنة والثواب ، لمن آمن وأطاع (وَنَذِيراً) بالنار والعقاب لمن كفر أو عصى.

[٤٧](وَداعِياً إِلَى اللهِ) فأنت تدعو إلى الإذعان بالله ، وإطاعته (بِإِذْنِهِ) فإن كل عمل يرتبط به سبحانه يحتاج إلى إذنه ، حتى الدعوة إليه (وَسِراجاً) أي مصباحا (مُنِيراً) يهتدى بك في الحياة ، كما يهتدى بالمصباح في ظلمة الليل.

[٤٨](وَبَشِّرِ) يا رسول الله (الْمُؤْمِنِينَ) الذين آمنوا وأطاعوا (بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) فإنه يتفضل عليهم بفضل عظيم ، هو إعطائهم خير الدنيا وسعادة الآخرة.

٣٤٣

وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها

____________________________________

[٤٩](وَلا تُطِعِ) يا رسول الله (الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) بأن تسمع بعض كلامهم ـ الذي يزعمون أنه في صالحك ، أو صالح المؤمنين ـ (وَدَعْ أَذاهُمْ) أي اترك أن تؤذيهم فيما يفعلون ضدك ، فإن كيدهم ضعيف يضمحل ، أو المراد لا تعتن بأذيتهم لك ، فإن أذاهم لا يضرك ، فلا ينبغي أن تعير له أهمية ، ولا يخفى أن هذا غير القتال ، فإن ذلك بالنسبة إلى الأمور العادية ، كالبذىء من القول ، لا بالنسبة إلى المناهج والخطوط والأنظمة (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) اجعله وكيلك في الأمور يجلب إليك الخير ، ويدافع عنك الضر والشر (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي كافيا ومتكفلا وحافظا ، وحيث أن الأصل «اكتف» جاء الباء في فاعل «كفى».

[٥٠] وبمناسبة قصة نكاح زينب وطلاق زيد لها ، يأتي السياق ليبين بعض أحكام الطلاق (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) أي زوجتموهن (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) أي من قبل الدخول بهن ، فإن المس كناية عن ذلك ، لا إنه بمعنى الإحساس (فَما لَكُمْ) أيها المؤمنون (عَلَيْهِنَ) أي على تلك المطلقات (مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) أي تستوفونها بالعدد ، فإذا طلقت المرأة قبل الدخول جاز لها أن تتزوج من ساعتها ، لعدم وجود حكمة العدة فيها ، فإن الحكمة ـ كما ذكروا ـ

٣٤٤

فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ

____________________________________

استبراء رحمها ـ وإن كان هذا حكمة ، لا علة تامة ـ (فَمَتِّعُوهُنَ) بما لهن عليكم من الحقوق الواجبة والمستحبة ، ومنها إعطائها المتعة ، فيما إذا لم يفرض لها فريضة ، وقد ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، أنه قال : في هذه الآية (فَمَتِّعُوهُنَّ) أي جملوهنّ بما قدرتم عليه من معروف ، فإنهن يرجعن بكآبة ووحشة ، وهمّ عظيم وشماتة من أعدائهن ، فإن الله كريم يستحي «أي يفعل فعل المستحي» ويحب أهل الحياء ، إن أكرمكم ، أشدكم إكراما لحلائله» (١) (وَسَرِّحُوهُنَ) أي أطلقوهن وأخرجوهن من حبالتكم بعد الطلاق (سَراحاً جَمِيلاً) بلا إيذاء ، وذكر معايب وإهانة ومنع حق ـ مما يعتاده الجهّال ـ وقد ذكروا ، إن رجلا أراد طلاق زوجته ، فقيل له : لماذا ، قال : هي زوجتي وإن الرجل لا يذكر معايب زوجته ، ثم طلقها ، فقيل له : الآن ، قل ما كان فيها من العيب ، فقد خرجت عن زوجيتك ، فقال : هي أجنبية ، وإن الرجل لا يذكر معايب النساء الأجنبيات.

[٥١](يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي) جمع التي (آتَيْتَ) أي أعطيت (أُجُورَهُنَ) أي مهورهن ، فإن المهر أجر على البضع ، ولقد كان الرسول أعطى نساءه الموجودات عنده وقت نزول الآية ، مهورهن ، فليس القيد احترازيا ، بل توضيحيا ، والآية ، في مقام بيان النساء المحللات للرسول ، فالمعنى أنه يحل لك طوائف من النساء ، هؤلاء النسوة ، الموجودات عندك والوصيفات ، وبنات العم والعمة ،

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٥٠٦.

٣٤٥

وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ

____________________________________

وبنات الخال والخالة ، والمرأة التي تهب نفسها للنبي ، ثم بيّن سبحانه أن للرسول الخيار في حفظ بعض زوجاته ، وطلاقها ، كما بيّن سبحانه ، أن لا يحل له أن يأخذ فوق هذا العدد الموجود عنده من سائر النساء ، أو تبدل بعضا ببعض ، بأن تطلق من زوجاته ، ليأخذ مكانها امرأة أخرى ، وقد خصه الله سبحانه بجواز التسع ، حين كف عنده ، ونزلت آية (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (١) فتفضل الله سبحانه بإحلاله للرسول ، إبقاء جميع النسوة (وَ) أحللنا لك (ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أي الأمة ، وإنما سميت ملك اليمين ، لأن اليد اليمنى هي أكثر الأعضاء اكتسابا ، فيكون الثمن عليها والملك لها ـ مجازا ـ (مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) أي أعطاك الله من الغنيمة والأنفال ، وسمي فيئا لأنه يرجع إلى صاحبه الأصلي ، وهو الرسول ، وكأن المال في يد الكفار مغصوب ، فإذا رجع بأمر الله إلى المؤمنين كان فيئا ورجوعا إلى أصحابه الأصليين ، وقد كانت زوجة النبي ، مما ملكت يمينه مارية القبطية أم إبراهيم (وَبَناتِ عَمِّكَ) والمراد مطلق الأعمام (وَبَناتِ عَمَّاتِكَ) والاختلاف بين العم والعمة بالإفراد والجمع للتفنن في الكلام ، الذي هو من أبواب البلاغة (وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ) في اختلاف اللفظين ما تقدم (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) قال في المجمع : «إن المراد ببنات العمة ، نساء قريش ، وببنات الخالة نساء بني زهرة» (٢) ، ولعل التخصيص بهؤلاء النسوة ،

__________________

(١) النساء : ٤.

(٢) مجمع البيان : ج ٨ ص ١٧٠.

٣٤٦

وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً

____________________________________

لعدم وجود غيرهن عند الهجرة ، حتى تحل ، كما إن تخصيصهن يهاجرن معك ، لإفادة تحريم غير المهاجرات ـ ولم يعلم أن الحكم نسخ بعد ذلك ـ (وَ) أحللنا لك (امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) بأن قالت ، وهبت نفسي لك يا رسول الله ، فإنه يجوز له نكاحها ، والحلية بلفظ الهبة ، تخلص (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ) يا رسول الله (مِنْ دُونِ) سائر (الْمُؤْمِنِينَ) فلا يحل لهم النساء ، بلفظ الهبة (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي) أمر (أَزْواجِهِمْ) فإن المفروض للمؤمنين أن لا يتزوجوا فوق الأربع ، ولا أن ينكحوا بلفظ الهبة ، تمشيا مع نظام الصالح العام ، أما الرسول فقد استثنى له بعض الأحكام لظروف خاصة ، أحاطت به ، كما أنه وجب عليه أمور لتلك الظروف أيضا (وَ) قد علمنا ما فرضنا في (ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) حيث أبحنا لك الصفوة من الغنائم ، إذا كانت جارية ، ولم تبحها للمؤمنين ، ومعنى قد علمنا ، أن هذا الحكم ليس اعتباطا ، وإنما صادر عن علم وحكمة بالمصالح والمفاسد العامة والخاصة ، ثم بيّن ذلك بقوله (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) وضيق في أمر الأزواج ، فإن الرسول أكثر شغلا من أن يحرج عليه بعض الأمور الخاصة ، كما أنه يقع في ضيق ، إن أمر بطلاق ، أو فك بعض نسائه التسع (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لمن

٣٤٧

رَحِيماً (٥٠)

____________________________________

خالف الأوامر ، ثم تاب ، كما وقع العصيان من بعض الأزواج ، في قصة غنائم خيبر (رَحِيماً) يتفضل بالرحم والنعمة على رسوله والمؤمنين ، روى عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، أنه قال : جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو في منزل حفصة ، والمرأة متلبسة متمشطة فدخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن المرأة لا تخطب الزوج ، وأنا امرأة لا زوج لي منذ دهر ، ولا ولد ، فهل لك من حاجة؟ فإن تك فقد وهبت نفسي لك ، إن قبلتني ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خيرا ، ودعا لها ، ثم قال : يا أخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله خيرا ، فقد نصرني رجالكم ، ورغبت فيّ نساؤكم ، فقالت لها حفصة : ما أقل حياءك وأجرأك وأنهمك للرجال؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كفي عنها يا حفصة ، فإنها خير منك ، رغبت في رسول الله ، فلمتيها وعبتيها ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمرأة : انصرفي رحمك الله ، فقد أوجب الله لك الجنة لرغبتك فيّ ، وتعرضك لمحبتي وسروري ، وسيأتيك أمري إن شاء الله ، فأنزل الله عزوجل ، (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً) (١) (٢) ، وعن الصادق عليه‌السلام ، قال : «تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخمسة عشر امرأة ، ودخل بثلاثة عشر منهن ، وقبض عن تسع ، فأما اللتان لم يدخل بهما ، ف «عمرة» و «السناة» وأما الثلاثة عشر اللواتي دخل فيهن ، فأولهن «خديجة» بنت خويلد ، ثم «سودة» بنت زمعة ، ثم «أم سلمة» واسمها هند بنت أبي أمية ، ثم «أم عبد الله» ثم «عائشة» بنت أبي بكر ، ثم «حفصة» بنت عمر ، ثم «زينب» بنت خزيمة بن

__________________

(١) الأحزاب : ٥١.

(٢) الكافي : ج ٥ ص ٥٦٨.

٣٤٨

تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ

____________________________________

الحارث أم المساكين ، ثم «زينب» بنت جحش ، ثم «أم حبيب» أرملة بنت أبي سفيان ، ثم «ميمونة» بنت الحارث ، ثم «زينب» بنت عميس ، ثم «جويرية» بنت الحارث ، ثم «صفية» بنت حيّ بن أخطب ، والتي وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و «خويلة» بنت حكيم السلمي ، وكان له سريّتان يقسم لهما مع أزواجه «مارية القبطية» و «ريحانة الخندقية» ، والتسع اللواتي قبض عنهن ، عائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ، وزينب بنت جحش ، وميمونة بنت الحارث ، وأم حبيب بنت أبي سفيان ، وصفية ، وجويرية ، وسودة ، وأفضلهن خديجة بنت خويلد ، ثم أم سلمة ، ثم ميمونة» (١).

[٥٢](تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) الإرجاء ، هو التأخير ، والمراد تبعد عن نفسك من تشاء من أزواجك (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) أي تجعل لها الإيواء ، بأن تقربها إلى نفسك ، قالوا : «وقد نزلت هذه الآية ، إثر إعراض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهن لما طالبن بغنائم خيبر ، وأغلظن له في القول ، فقد خيره الله سبحانه ، بين الابتعاد عن بعضهن والاقتراب منهن» (٢) (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) أي إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن ـ حسب اختيارك ـ وتضمها إليك فلا جناح عليك في ذلك (ذلِكَ) التفويض إلى مشيئتك في الإرجاء والإيواء (أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) أي يفرحن ، فإن من فرح ، قرت عينه ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٢٠ ص ٢٤٤.

(٢) راجع مستدرك الوسائل : ج ١٥ ص ٣١٠.

٣٤٩

وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ

____________________________________

ولم تضطرب هنا وهناك ، ليجد ملجأ ومستقرا (وَلا يَحْزَنَ) تأكيد لتقر أعينهن (وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) أي بالحكم الذي ساويت فيه جميعهن ، لأنك إن رجحت بعضا على بعض ، كان ذلك مثار سخط المرجوحة ، أما إذا سويت بينهن كلهن ، في ذلك ، وعلمن أنك تنظر إليهن بنظرة واحدة رضين جميعهن (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) خطاب عام ، لكنه يراد به هنا الرسول وأزواجه ، إذا وقع بينهما غضاضة ، يوسوس الشيطان في قلوبهن (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بما في قلوبكم ، لأنه يعلم كل شيء (حَلِيماً) يحلم عنكم فيما تنوون وتعملون مما لا يرضاه.

[٥٣](لا يَحِلُّ لَكَ) يا رسول الله (النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) هذه الأصناف المذكورة في الآيات المتقدمة (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَ) أي بهذه النساء (مِنْ أَزْواجٍ) بأن تطلق بعضهن ، وتأخذ مكانها امرأة أخرى ـ كما هو ظاهر السياق ، وقاله المفسرون ـ ووردت في بعض الروايات أن المراد أن يأخذ مما حرمته الآية في قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (١) (٢) وعلى هذا فالمراد تبديل نوع المحلل بنوع المحرم ، لا تبديل الشخص بشخص آخر ، وهناك قول آخر ذكره جوامع الجامع ، قال : قيل أن

__________________

(١) النساء : ٢٤.

(٢) مستدرك الوسائل : ج ١٤ ص ٣٦١.

٣٥٠

وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢)

____________________________________

التبدل المحرم ، هو ما كان يفعل في الجاهلية ، يقول الرجل للرجل بادلني بامرأتك ، وأبادلك بامرأتي ، فينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه ، ويحكى «أن عيينة بن حصين ، دخل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده عائشة من غير استئذان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عيينة أين الاستئذان؟ قال : يا رسول الله ما استأذنت على رجل قط منذ أدركت ، ثم قال : من هذه الجميلة إلى جنبك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذه عائشة بنت أبي بكر «ولعله قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك خوفا ، من أن يظن به الظنون» قال عيينة : أفلا أنزل لك من أحسن الخلق ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد حرم ذلك ، فلما خرج قالت عائشة : من هذا يا رسول الله؟ فقال أحمق مطاع ، وإنه على ما ترين لسيد قومه» (١)! (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) بأن توصف المرأة للرسول ، فتقع في قلبه لما وصف له من حسنها ، وهذا ليس غريبا ، فقد جرت العادة أن الآباء ، أو من إليهم ، يصفون بناتهم أمام العظماء للمشاورة في أمر نكاحهن ، أو نحو ذلك (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) بأن كانت أمة ، فإنها تحل لك ، ولعل إتيان هذه الجملة ، مع أنها كانت مذكورة سابقا ، لئلا يتوهم ، أن «لا يحل لك النساء» قد نسخ ذلك الحكم السابق (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) مراقبا محافظا ، فمن خالف له أمرا عاقبه وجازاه بما عمل.

[٥٤] وبمناسبة ذكر الرسول ، وبعض أحكامه العائلية ، يأتي السياق ليبين بعض الأحكام الخاصة به ، وإن كان ذلك أدبا عاما بالنسبة إلى سائر

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ٢٣٨.

٣٥١

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ

____________________________________

الناس (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) ولعل هذا كان بمناسبة دخول عيينة دار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون الاستئذان ، وعلى أي ، فدخول دار الرسول بحاجة إلى أن يأذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكم (إِلى طَعامٍ) أي دخولا لطعام أضافكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) يقال أنى الطعام يأني إذا بلغ النضج في الطبخ ، أي غير منتظرين نضجه وطبخه ، والمعنى لا تدخلوا بيت الرسول بغير إذن وقبل نضج الطعام انتظارا لنضجه ، فيطول لبثكم ومقامكم عنده (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا) في وقت الدعوة ، لا قبل الوقت ، كأن يذهبوا من الصباح انتظارا لطعام الظهر (فَإِذا طَعِمْتُمْ) أي أكلتم الطعام (فَانْتَشِرُوا) أي اخرجوا وتفرقوا ، فلا تبقوا بعد الطعام في البيت اعتباطا (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) عطف على (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) أي في حال كونكم لا تبقون بعد الطعام تحدثون ليؤنس بعضكم بعضا بحديثه (إِنَّ ذلِكُمْ) إشارة إلى ما نهى عنه في هذه الآية ، من الدخول بغير استئذان ، أو الإسراع في الذهاب قبل نضج الطعام ، والجلوس بعد ذلك متحدثين ، و «كم» للخطاب (كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) لأن له أعمالا تنافي جلوسكم فيتأذى بجلوسكم ، كما يتأذى بدخولكم داره بدون الإذن (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) في أن يجابهكم بالإخراج ، أو الزجر والنهي (وَاللهُ

٣٥٢

لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ

____________________________________

لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) أي أنه سبحانه لا يترك إظهار الحق حياء ، نقل في المجمع في سبب نزول الآية : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنى بزينب بنت جحش وأولم عليها ، قال أنس : أو لم عليها بتمر وسويق ، وذبح شاتا ، وبعث إلى أمي أم سليم بحيس في تور من حجارة ، فأمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أن أدعوا أصحابه إلى الطعام ، فدعوتهم فجعل القوم يجيئون ويأكلون ويخرجون ، ثم يأتي القوم ، فيأكلون ويخرجون ، قلت : يا نبي الله قد دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه ، فقال ارفعوا طعامكم ، فرفعوا طعامهم ، وخرج القوم وبقي ثلاث نفر يتحدثون في البيت ، فأطالوا المكث ، فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقمت معه لكي يخرجوا ، فمشى حتى بلغ حجرة عائشة ، ثم ظن أنهم قد خرجوا ، فرجع ورجعت معه ، فإذا هم جلوس مكانهم ، فنزلت الآية» (١). أقول : وإن كانت الآية خاصة ، إلا أنها عامة المفاد ، إذ ما اشتملت عليه أدب رفيع ، بالنسبة إلى عدم الدخول بلا استئذان ، وعدم الدخول قبل الوقت ، وعدم المكث بعد الطعام ، ولذا قال بعض العلماء : هذا أدب أدّب الله به الثقلاء (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَ) أي سألتم نساء النبي (مَتاعاً) أي شيئا تحتاجون إليه (فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) بأن يكون فاصلا بين الرجل ، وبين المرأة المسؤولة ، وهذه الآية تفيد وجوب الحجاب ، لعدم الخصوصية لنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعدم الخصوصية في سؤال المتاع (ذلِكُمْ) أي السؤال من وراء الحجاب (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) إذ الرؤية مثار الخواطر الشيطانية

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٨ ص ١٧٣.

٣٥٣

وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤)

____________________________________

والوساوس النفسية ، والمراد الطهارة من الريبة والشك والوسوسة (وَما كانَ لَكُمْ) ايها المسلمون (أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) أي لا يحق لكم أذاه بمخالفته أوامره ، أو قصد سوء بالنسبة إلى نسائه بعد وفاته ، وهذا توطئة وتمهيد لقوله تعالى (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ) أي زوجات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد وفاته (أَبَداً) إلى آخر العمر ، فلسن كسائر النساء ، إذا انقضت العدة جاز نكاحهن (إِنَّ ذلِكُمْ) أي الإيذاء ونكاح الأزواج بعد وفاته (كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) في الإثم والعصيان ، فقد ورد أنه لما نزل قوله تعالى (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) (١) غضب طلحة ، فقال يحرم محمد علينا نساءه ، ويتزوج هو بنسائنا ، لئن أمات الله محمدا لنركضن ـ أي نتحركن ـ بين خلاخيل نسائه ، كما ركض بين خلاخيل نسائنا ، فأنزل الله عزوجل (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ).

[٥٥](إِنْ تُبْدُوا) أي تظهروا أيها المسلمون (شَيْئاً) من هذه المنهيات على لسانكم ، بأن تقولوا نتزوج نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَوْ تُخْفُوهُ) بأن تقصدوه في صدوركم بدون إظهار (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) يعلم ظواهركم وبواطنكم ، وسيجازيكم على ما اقترفتم من الآثام ، وقد

__________________

(١) الأحزاب : ٧.

٣٥٤

لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥)

____________________________________

روي أن حكم تحريم زوجات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جرى بعده فيمن لم يمسها الرسول ، ولم يدخل بها.

[٥٦] ولما نزل قوله تعالى ، (إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) قال الآباء والأبناء والأقارب ، ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب ـ يا رسول الله؟ ـ فأنزل الله سبحانه (لا جُناحَ عَلَيْهِنَ) أي لا حرج على نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فِي) عدم التستر من (آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَ) ويشملان الأجداد والأحفاد (وَلا إِخْوانِهِنَ) ولعله أعم من الأعمام والأخوال ، لأنهم إخوان الآباء والأمهات (وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَ) فلا بأس لهن أن يراهن هؤلاء الرجال ، فيما تعارف رؤيته (وَلا نِسائِهِنَ) أي النساء المؤمنات ، في قبال اليهودية والنصرانية ، والمجوسية ، والمشركة ، فقد قالوا أنه لا يجوز التكشف لديهن ، لأنهن يصفن لأزواجهن (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) أي الوصائف المملوكات لهن ، وإن كن غير مسلمات ، فإنهن تحت السيطرة ، ولا مجال لهن لينقلن للكفار محاسن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَاتَّقِينَ) يا نساء النبي (اللهَ) بترك معاصيه ، والإتيان بطاعته (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) أي شاهد لا يغيب عنه شيء ، فمن أطاع أو عصى علم بما فعل.

٣٥٥

إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ

____________________________________

[٥٧] ولما كان الكلام حول تعظيم النبي وتوقيره ، وبعض أحكامه يأتي السياق ليبين تعظيم الله سبحانه له والذي هو فوق كل تعظيم (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) والصلاة بمعنى العطف واللطف ، ومن المعلوم أن صلاة الله على الرسول ، رحمته ولطفه به ، كما أن صلاة الملائكة عطفها وطلب رحمتها من الله له (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) باللفظ والعمل (وَسَلِّمُوا) عليه (تَسْلِيماً) بلفظ السلام ، والتسليم لأوامره ، سئل الكاظم عليه‌السلام ، ما معنى صلاة الله ، وصلاة ملائكته ، وصلاة المؤمن؟ قال : «صلاة الله رحمة من الله ، وصلاة الملائكة تزكية منهم له ، وصلاة المؤمنين دعاء منهم له» (١) ، وسئل الصادق عليه‌السلام كيف نصلي على محمد وآله؟ قال : «تقولون صلوات الله وصلوات ملائكته وأنبيائه ورسله وجميع خلقه على محمد وآل محمد والسلام عليه ورحمة الله وبركاته» (٢) ، أقول : والظاهر كفاية الصيغ المعهودة اللهم صل على محمد وآل محمد وسلم عليهم أو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو الصلاة والسلام عليك يا رسول الله ، وعلى آلك الطاهرين ، وأمثالها.

[٥٨] الناس مأمورون بالصلاة والسلام على الرسول ، فما هو حال من يؤذي الرسول؟ (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) بترك أوامره ، والسعي في إطفاء نوره ، وهدم أحكامه ، وإيذاء أوليائه ، فإن الله سبحانه منزه عن أن

__________________

(١) تأويل الآيات : ص ٤٥١.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٧ ص ١٩٦.

٣٥٦

وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً

____________________________________

يؤذى ولكن هذا من باب التشبيه (وَرَسُولَهُ) وأذية الرسول ، إما في جهة التشريع ، كما لو سعى شخص في إبطال أحكام الرسول ، وإما في جهته الشخصية كما يؤذي بعض الناس بعضا (لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بأن بعّدهم عن الخير ، وعذّبهم ؛ أما في الدنيا فإنه (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (١) وأما في الآخرة ، فإنه سبحانه يظهر لعنهم والبراءة منهم (وَأَعَدَّ لَهُمْ) في الآخرة (عَذاباً مُهِيناً) يهينه ويذله عوض ما كان يؤذي ، وقد ورد في علي وفاطمة عليهما‌السلام «إن من آذاهما فقد آذى الرسول ، ومن آذى الرسول ، فقد آذى الله» (٢).

[٥٩](وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) باعتبار كل واحد ، كما قالوا في البلاغة : إذا قيل باع القوم أمتعتهم بالقوم أريد به أن كل واحد باع متاعه بواحد منهم ، والأذية أعم من اللسانية والعملية (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) أي من غير أن يعمل المؤمنون والمؤمنات عملا يستحقون به الأذى ، كما لو عملوا ما يستحق الجلد ، أو الاغتياب ، أو الإرداع (فَقَدِ احْتَمَلُوا) أي الذين يؤذون (بُهْتاناً) البهتان هو الكذب على الغير ، ولعل تسمية الإيذاء بهتانا باعتبار ، أن الإيذاء يظهر منه

__________________

(١) طه : ١٢٥.

(٢) راجع بحار الأنوار : ج ١٧ ص ٢٧.

٣٥٧

وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩)

____________________________________

الاستحقاق لمن يؤذي ، والحال أنه غير مستحق (وَإِثْماً مُبِيناً) أي عصيانا ظاهرا ، ومن هذا يظهر أنه كان في المدينة من يفعل ذلك بالنسبة إلى المؤمنين ، وهذا غالبا في كل أمة نامية ، فإن هناك أفراد يتولون أذاهم منهم ومن غيرهم.

[٦٠] وبمناسبة تقدم الحديث عن النساء والتنصيص على حجاب زوجات الرسول في قوله (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) يأتي السياق لنص عام على وجوب التحجب على كل امرأة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) أي نسائك (وَبَناتِكَ) فقد كانت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة عليها‌السلام ولعل بعض بناته الأخر ، كانت في الحياة (وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) جمع جلباب ، وهو ما كانت المرأة تجعل على رأسها ، فقد أمرن ، بأن يقرّبن الجلبات نحو أنفسهن ، وهو الوجه والرقبة والصدر ، فإن الجلباب ، يدنى من هذه المواضع (ذلِكَ) الإدناء للجلباب ليكون لهن زيّ خاص (أَدْنى) أي أقرب إلى (أَنْ يُعْرَفْنَ) بأنهن عفائف نجيبات (فَلا يُؤْذَيْنَ) فإن عادة الفساق ، دائما ، حتى في زماننا هذا أن يتعرضوا إلى المرأة المتبذلة بظهور وجهها وشعرها ، أما إذا كانت متسترة عرفت بالستر والنجابة ، ولم يتعرض لها الفساق (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) يغفر ما يصدر منهن ، بدون تعهد وقصد ، فإن المرأة مهما كانت محجبة ، لا بد وأن يظهر بعض مفاتنها في نادر الأوقات (رَحِيماً) يتفضل بالرحمة ـ فوق

٣٥٨

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ

____________________________________

الغفران ـ على المطيعات ، وإنما قال «من جلابيبهن» لأن المرأة ترخي بعض جلبابها ، أقول : قد ذكر بعض المفسرين كلاما حول كون الآية ، إنما هي بالنسبة إلى الحرائر ، لا الإماء ، لكن إطلاقها ، وحكمة الإسلام في الحجاب ، بأن لا تمازح المرأة مهما كانت ، ينفيان هذا التفصيل الذي لم يعلم وجهه ، ثم أن الظاهر من الآيات والروايات ، لزوم الحجاب بستر الوجه ، وقد كانت سيرة المسلمات ، منذ زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذا ، ولذا استثنى وجه المرأة حالة الإحرام ، إلى غير ذلك من الشواهد ، حتى جاء الغربيون وانهزم أمامهم بعض المسلمين الأغراء ، فقالوا : بأن الحجاب موجب لخنق المرأة ، وعدم ازدهار الحياة ، كل ذلك لإشباع الشهوات الدنيوية ، وهناك وجدوا عملاء ينفذون الأوامر بالحديد والنار ، حتى وقعت المرأة المسلمة ضحية هذه الأهواء ، ولم تنج من هذه الكوارث ، إلا زمرة قليلة من الصالحات ، والله غالب على أمره.

[٦١] ثم هدد سبحانه الذين يؤذون الرسول والمؤمنين ، والذين كانوا يتعرضون للمؤمنات بأنهم إن لم يتركوا أعمالهم ، أمر الرسول بتأديبهم (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) أي لئن لم يمتنع المنافقون عن الإيذاء والتعرض (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهو ضعف إيمان ، يسبب أن يخالف بعض الأوامر ، وإن لم يكن منافقا ، فمثلا قد يكون الشخص يشرب الخمر ، لأنه منافق ، لا يعتقد بالرسول إطلاقا ، وقد يكون معتقدا بالرسول ، لكنه يجد الشرب ، فيشرب لا النفاق ، بل لعدم مبالاة (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) يقال أرجف إذا دبّر المكائد ، ونشر

٣٥٩

لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢)

____________________________________

الأكاذيب ، لأنه يوجب بعمله تزلزل الناس ورجفهم ، والمرجف يمكن أن يكون غير الأولين ، باعتبار أنه يحب نشر الأخبار ، وتتبع الآثار ، كما يشاهد الإنسان في كل مجتمع هذه الألوان الثلاثة من الناس (لَنُغْرِيَنَّكَ) يا رسول الله (بِهِمْ) والإغراء تسليط الشخص على غيره ليؤذيه ويهينه ويعاقبه ، يقال أغرت الحكومة الشرطة على فلان وبفلان ، إذا أمرتهم بمعاقبته ومطاردته ، والمراد نسلطك يا رسول الله عليهم ، ونأذن لك في عقابهم (ثُمَ) إذا أغريناك بهم ، لم يطيقوا العقاب ، وصاروا مضطرين للهروب من المدينة (لا يُجاوِرُونَكَ فِيها) أي لا يبقون بجوارك في المدينة (إِلَّا قَلِيلاً) أي زمانا قليلا.

[٦٢] ثم بيّن بعض أنواع الإغراء بقوله (مَلْعُونِينَ) أي في حال كونهم يلعنون ويطردون (أَيْنَما ثُقِفُوا) أي في كل مكان وجدوا (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) فلا يبقى أحد منهم سالما من الطرد والقتل ، والإتيان بباب التفصيل ـ الدال على التكثير ـ باعتبار قتلهم جميعا ، وإبادتهم كل فرد فرد.

[٦٣](سُنَّةَ اللهِ) منصوب على المصدر أي سن الله ذلك سنة ، والمراد أن أخذ المنافقين المرجفين وأمثالهم من سنن الله وطرائقه (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي مضوا سابقا فقد كان سبحانه يأمر الأنبياء بمطاردة المنافقين والمرجفين (وَلَنْ تَجِدَ) يا رسول الله (لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) فإنه سبحانه

٣٦٠