تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠)

____________________________________

[٣٠](أَإِنَّكُمْ) أيها القوم (لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) أي تفعلون معهم (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) فقد اشتهر عملهم الفاحش في القرى المجاورة ، وإن من يمر بهم يفعلون به ، ولذا ترك الناس المرور بمدنهم ، خوف الفضيحة (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ)؟ النادي هو محل الاجتماع ، مشتق من النداء ، لأن بعض الناس ينادي بعضا آخر للاجتماع والذهاب إليه ، فقد كانوا يتحابقون في النادي بغير حشمة واحترام ، ولعلّ أن نواديهم كانت مركزا لأنواع الفسوق ، كما هو الطبيعي في مثل تلك الأمة ، ونشاهد مثلها في زماننا هذا ، ومن المعلوم أن الاستفهام إنكاري (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) أي قوم لوط (إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا) وجيء إلينا (بِعَذابِ اللهِ) الذي تعدنا على كفرنا ومنكرنا (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك وما تقول بأن البقاء على الكفر والعصيان موجب للعذاب.

[٣١] عند ذاك (قالَ) لوط عليه‌السلام مناجيا ربه ، يا (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) بتعذيبهم ، ونجاتي منهم ، وقد دعا بذلك بعد ما يأس من اهتدائهم.

[٣٢] وقد استجاب الله دعاء لوط ، فأرسل جبرائيل ومعه ملكين آخرين لتعذيب أهل القرية ، وفي طريقهم إلى بلاد لوط مرت الملائكة على

٢٠١

وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ

____________________________________

إبراهيم عليه‌السلام (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ) جلسوا عنده في زيّ لم يعرفهم ، ثم عرفهم ، وزفّوا إليه (بِالْبُشْرى) أي البشارة بإسحاق ، وإن الله يرزقه ولدا من زوجته «سارة» بعد ذلك (قالُوا) أي الملائكة (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أي قرية قوم لوط ، وقد كانت قريبة من محل إبراهيم عليه‌السلام (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) كافرين مرتكبين للفواحش والمنكرات.

[٣٣](قالَ) إبراهيم عليه‌السلام للرسل (إِنَّ فِيها) أي في القرية (لُوطاً) وهو عبد صالح ، فكيف تهلكون القرية وهو فيها؟ (قالُوا) أي قالت الملائكة في جواب إبراهيم (نَحْنُ أَعْلَمُ) من غيرنا (بِمَنْ فِيها) فلا نريد إهلاك الجميع حتى لوط عليه‌السلام (لَنُنَجِّيَنَّهُ) أي نخلص لوط (وَأَهْلَهُ) المؤمنين بإخراجهم من القرية (إِلَّا امْرَأَتَهُ) فإنها تبقى لتعذب فيمن يعذّب لأنها فاسدة ظالمة كسائر القوم (كانَتْ) المرأة (مِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين لتعذب مع القوم ، من «غبر» بمعنى مضى ، كأنها تمضي فيمن يمضي.

[٣٤](وَ) تحركت الملائكة من عند إبراهيم قاصدين قرى لوط و (لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا) أي الملائكة (لُوطاً) عليه‌السلام (سِيءَ بِهِمْ) أي ساء لوط

٢٠٢

وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً

____________________________________

مجيء الرسل ، فإنه لم يعرفهم ابتداء وظنهم ضيوفا آدميين ، وقد كانوا أصحاب جمال ، فخاف لوط إن اطلع القوم أن يعملوا معهم الفاحشة (وَضاقَ) لوط (بِهِمْ) أي بسبب الرسل (ذَرْعاً) هذا تمييز ل «ضاق» أي ضاق من حيث الذرع ، وهو الطاقة ، وقد عرف القوم بمكان الضيوف ، وجاءوا لأخذهم وعمل الفاحشة ، فخاف لوط من الفضيحة ، وهناك أظهر الرسل حقيقة أمرهم (وَقالُوا) للوط (لا تَخَفْ) علينا ولا على نفسك (وَلا تَحْزَنْ) بما نفعله بالقوم من العذاب ، أو لا تحزن علينا ، فإنهم لن يصلوا إلينا ولا إليك (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) أي ننجيك من العذاب الذي يشملهم (إِلَّا امْرَأَتَكَ) الكافرة فإنا لا ننجيها بل نذرها مع القوم (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) من جملة الباقين لتعذب بعذابهم.

[٣٥](إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) التي أنت بها ، وهي «سدوم» (رِجْزاً) أي عذابا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله بالكفر والعصيان.

[٣٦] ثم خرج لوط والمؤمنون ليلا ، ونزل العذاب على أهل القرية (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها) أي أبقينا من القرية (آيَةً بَيِّنَةً) أي علامة واضحة ، وهي آثار منازلهم الخربة ، وأرضهم التي لا تنبت

٢٠٣

لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً

____________________________________

(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فإذا ذهب الإنسان من الحجاز إلى الشام ، أو رجع رأى أرضهم اليباب في الطريق.

[٣٧](وَ) أرسلنا (إِلى مَدْيَنَ) اسم قبيلة سميت باسم جدهم الأعلى «مدين» (أَخاهُمْ شُعَيْباً) فإن شعيب كان من نفس تلك القبيلة (فَقالَ) لهم (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده لا شريك له ولا تتخذوا الأصنام آلهة شركاء مع الله (وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) أي اعتقدوا به ، راجين لثوابه ، وذلك كناية عن طلبه لهم ـ فوق الاعتقاد بالقيامة ـ العمل الصالح لأجل لقائه (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) يقال «عثى» إذا أفسد فسادا كثيرا ، ولعل التأكيد ب «مفسدين» لإفادة أن لا يكون فسادهم عن قصد وتعمد ، أي لا تفسدوا في الأرض عامدين.

[٣٨](فَكَذَّبُوهُ) وقالوا له أنت تكذب في وحدة الإله ، ووجود اليوم الآخر ، وإنك رسول من قبل الله (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) صاح بهم جبرائيل صيحة رجفت واضطربت منها أجسامهم (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) التي ينبغي أن يكونوا في أمن وسلام فيها ، فإن الإنسان يصاب بالمكروه في الأسفار لا في الديار (جاثِمِينَ) من جثم ، بمعنى بقي بدون حركة ، وهو كناية عن موتهم من تلك الصيحة.

[٣٩](وَ) أهلكنا أيضا (عاداً) بعد ما أنذرهم النبي هود عليه‌السلام ، فلم يقبلوا

٢٠٤

وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩)

____________________________________

قوله (وَثَمُودَ) بعد ما أنذرهم النبي صالح فكذبوه (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ) يا كفار قريش ، بعض (مِنْ مَساكِنِهِمْ) الباقية في أطراف بلادكم ، فكان «حجر» بلاد ثمود في طرف الشام ، والأحقاف بالقرب من حضرموت يمن بلاد عاد (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) فكانت أعمالهم العصيانية مزينة في أعينهم ، والمزين هو الشيطان ، لأنه الذي يوسوس بالقبائح إلى الإنسان (فَصَدَّهُمْ) أي منعهم (عَنِ السَّبِيلِ) أي سبيل الله (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) يبصرون الأمور ويميزون بين الحق والباطل ، ومع ذلك ارتكبوا المعاصي فأهلكوا ، والمراد بهذا أنهم ، قد تمت عليهم الحجة.

[٤٠](وَ) أهلكنا (قارُونَ) الذي كان من قوم موسى ، ومرت قصته في السورة السابقة (وَفِرْعَوْنَ) الذي كان يقول أنا ربكم الأعلى (وَهامانَ) وزير فرعون (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) أي جاء إلى هؤلاء الثلاثة (مُوسى) النبي عليه‌السلام (بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الواضحات من العصا واليد ، وفلق البحر وغيرها (فَاسْتَكْبَرُوا) أي طلبوا الكبرياء (فِي الْأَرْضِ) ولم يخضعوا لأوامر موسى ، لما قد ظنوا أن في ذلك منافاة لمقامهم وعظمتهم (وَما كانُوا سابِقِينَ) أي لم يفوتنا ، تشبيه بمن يسبق الطالب في الفرار ، فلا يتمكن من اللحاق به ليعاقبه.

٢٠٥

فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ

____________________________________

[٤١](فَكُلًّا) من تلك الأقوام ، وأولئك الأفراد الذين عتوا عن الحق ، ولم يطيعوا الأنبياء (أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) أي عذبناه حسب معصيته (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) وهي الحجارة ، وهم قوم لوط الذين أمطروا بالحجارة (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) وهم ثمود ، وأهل مدين ، حيث صاح بهم جبرائيل فأهلكوا من شدة وقع الصيحة في قلوبهم وعلى أرواحهم (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) فذهب في الأعماق ، وهو قارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) في البحر ، وهو فرعون وهامان وقومهما (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) في تعذيبهم بهذه الأنواع من العذاب من غير ذنب ، وبدون إتمام الحجة (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فقد ظلموا أنفسهم بالكفر والطغيان فرأوا جزاء أعمالهم.

[٤٢] ألا فليعتبر كفار قريش بهذه العبر ، وإلا أصابهم ما أصاب أولئك ، وماذا يتخذ الكفار من الآلهة؟ فهل هؤلاء الأولياء يقاسون بالله؟ كلا إنها أوهن من بيت العنكبوت ، ومثل هؤلاء الذين يتخذون الأصنام آلهة كمثل العنكبوت التي تبقى وتحرز نفسها بالبيت الضعيف الذي صنعته من خيوط واهية لا بقاء له ، ولا يقيها من شر الأعداء (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) وهي الأصنام التي كان المشركون

٢٠٦

كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ

____________________________________

يتولونها ، ويجعلونها أولياء لهم عوض أن يتخذوا الله وليا (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) لنفسها لتأوي إليه ، ويقيها الكوارث ، فكما أن بيت العنكبوت لا يفيدها شيئا ، كذلك أولياء هؤلاء لا يفيدونهم شيئا ولا يضرونهم في الدنيا ، ولا في الآخرة (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) التي تصنعها الحيوانات (لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) فإن بيتها يطير بنفح من وهنه وضعفه (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كان هؤلاء يدركون الواقع ، لعلموا أن أولياءهم كبيت العنكبوت الذي لا يغني شيئا.

[٤٣] فليعملوا ما شاءوا ، وليتخذوا من شاءوا أولياء ، فهم بعلم الله ، وسيجزيهم بما اقترفوا (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي أنه يعلم ما يعبد هؤلاء الكفار من الأصنام ، فهو يعلم دعوتهم ، كما يعلم معبوداتهم ، وهذا تهديد لهم ، كما تقول : أنا أعلم من تجالس ، تريد تهديده في هذه المجالسة (وَهُوَ الْعَزِيزُ) سلطانه ، فإذا أراد شيئا تمكن عليه (الْحَكِيمُ) لا يفعل شيئا إلا حسب المصلحة ، فتأخير إهلاك هؤلاء ، ليس عجزا ، بل عن حكمة وصلاح.

[٤٤](وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) الأشباه والنظائر التي نشبه بها بعض الأمور ، كتشبيه أولياء الكفار ببيت العنكبوت (نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) أي نذكرها لهم ، وقد سبق أنه يسمى «ضربا» باعتبار أنه يوجد اصطداما في الذهن ، مما

٢٠٧

وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ

____________________________________

يسبب تركيز المطلب وبقائه (وَما يَعْقِلُها) أي ما يفهم الأمثال (إِلَّا الْعالِمُونَ) فإن العلماء هم الذين تهز مشاعرهم الأمثال ، أما من سواهم ، مما لا فكر له ولا تدبير ، فيبقى جامدا لا حراك لذهنه.

[٤٥] إن كل ما يذكره سبحانه للحق لا للهو ، ومنه ضرب المثل ، فقد (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) فلم يكن خلقهما لأجل اللعب واللهو ، فكيف من يخلق الأشياء بالحق يأتي بالمثل لعبا؟ إذ فعل الواحد بعضه يشبه بعضا؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في خلق الكون (لَآيَةً) دالة على وجود الله وصفاته (لِلْمُؤْمِنِينَ) لأنهم المنتفعون بهذه الآية ، وإن كان كونه علامة عامة لجميع العقلاء ، فكيف يتخذ الكفار من دونه أولياء؟

[٤٦](اتْلُ) أي أقرأ يا رسول الله (ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) أي القرآن (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي أدّها بحدودها وآدابها (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) الفحشاء صفة للمعصية المقدرة ، وهي أعظم من المنكر لاعتبار كونها فاحشة في الحرمة متعدية للحدود تعديا كثيرا ، من فحش بمعنى تعدى ، والمنكر كل عصيان ينكره العقل والشرع ، وإنما كانت الصلاة ناهية عن المنكرات ، لأنها ـ باستمرارها ـ تولد في الإنسان ملكة الخوف من الله الموجب لاجتناب المعاصي (وَلَذِكْرُ

٢٠٨

اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥)

____________________________________

اللهِ) بأن يكون الإنسان متذكر لله سبحانه دائم الأوقات ، حتى لا يصدر منه عصيان إطلاقا ، لخوفه منه تعالى (أَكْبَرُ) من الصلاة ، لأن الصلاة من إحدى مصاديق الذكر ولوازمه (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) أيها البشر ، فاعملوا الطاعات ، ولا تعملوا المعاصي ، فإنكم تحت اطلاعه وعلمه ، لا يفوته شيء من أعمالكم ، ولعل المراد بهذه الآية ، إعلام النبي ، بأنه يستمر في عمله ودعوته ، فلا يهتم بما يفعله المشركون والعصاة ، إنه مأمور بالسير فمن شاء تبعه ، ومن لم يشأ بقي في كفره وضلاله.

٢٠٩
٢١٠

تقريب القران الى الأذهان

الجزء الحادي والعشرون

من آية (٤٧) سورة العنكبوت

إلى آية (٣١) سورة الأحزاب

٢١١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

٢١٢

وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦)

____________________________________

[٤٧] ولما ذكر سبحانه لزوم الدعوة إليه سبحانه ، وتقدم قسم من الاحتجاجات مع المشركين ، بين كيفية دعوة أهل الكتاب ، وخصهم بالذكر لأنهم أكثر خطرا على الدعوة الإسلامية من المشركين ، فإنهم إن ثارت حفيظتهم عملوا عملهم في هدم الإسلام ، فقال سبحانه (وَلا تُجادِلُوا) أيها المسلمون ، والجدال الاحتجاج مع الخصم في مطلب مختلف فيه (أَهْلَ الْكِتابِ) وهم اليهود والنصارى والمجوس (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي بالطريقة التي هي أحسن الطرق ، بأن تكون بعيدة عن آثار الغضب ، قريبة إلى النصفة ، قوية في الحجة ، برفق ولين (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بالاعتداء في البحث والإفراط ، فإن أخذ طرف اللين ، وجانب الرفق ، يوجب تقوية جانبهم ، فإنه مباح أن تكون المجادلة حينئذ بالمثل (وَقُولُوا) لهم عند الجدل (آمَنَّا) نحن المسلمين (بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا) وهو القرآن (وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) وهو التوراة أو الإنجيل ـ مثلا ـ (وَإِلهُنا) نحن المسلمين (وَإِلهُكُمْ) أنتم أهل الكتاب (واحِدٌ) فلا نعبد إلها لا تعبدونه (وَنَحْنُ لَهُ) لذلك الإله (مُسْلِمُونَ) قد خضعنا وأنقذنا ، وإذ كان لنا ولكم أمور مشتركة ، فلنجتمع عليها ، وندع الأمور المفرقة ، ككون البشر الفلاني ابن الله ، ونحو ذلك وهذا مثل قوله سبحانه : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) (١)

__________________

(١) آل عمران : ٦٥.

٢١٣

وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ

____________________________________

[٤٨](وَكَذلِكَ) أي كما أنزلنا على موسى وعيسى عليهما‌السلام الكتاب (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ) الذي هو القرآن ، فالكتب كلها منزلة من عند إله واحد ، لغاية واحدة ، وإنما التحريف حصل من أهواء قوم قد ضلوا أو أضلوا (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ) أي أعطيناهم (الْكِتابَ) بأن كانوا حقيقة من أهل الكتاب لا من أهل الأهواء والتعصب (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بهذا الكتاب الذي أنزل إليك (وَمِنْ هؤُلاءِ) الكفار الذين في مكة (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي بالقرآن (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) ينكرها ، ولا يعترف بها (إِلَّا الْكافِرُونَ) الذين كفروا بالله ، ولا يريدون الحق ، سواء كانوا في زي أهل الكتاب ، أو في زي المشركين وإلا فالأدلة الدالة على صدق هذا الكتاب متوفرة ، فما يمنعهم عن الإيمان ، إلا بالكفر والجحود؟

[٤٩] وقد حفظنا هذا القرآن عن كل شبهة ، لمن أراد الحق والإنصاف ، فقد جعلنا الرسول أميّا لم يختلف إلى معلم قط ، فلم يكن القرآن محل شبهة أن يكون الرسول تعلم قبلا ثم جاء به (وَما كُنْتَ) يا رسول الله (تَتْلُوا) وتقرأ (مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل القرآن (مِنْ كِتابٍ) فلم يكن الرسول قارئ حسب الموازين الاجتماعية ، وإن كان يعرف القراءة بإلهام الله تعالى (وَلا تَخُطُّهُ) أي لم تكن تكتب الكتاب (بِيَمِينِكَ)

٢١٤

إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا

____________________________________

أي بيدك ، وإنما خصّ اليمين ، لأنه الغالب في الكتابة (إِذاً) أي لو كنت تقرأ أو تكتب (لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي لوجد المبطلون طريقا للتشكيك في القرآن ، ولقالوا إنما جمعه مما تعلمه سابقا ، وإنما قال «المبطلون» لأن الارتياب أيضا في ذلك الوقت كان في غير محله إذ إن الكاتب القارئ ، لا يتمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن.

[٥٠] إذن لم يكن القرآن مجموعا من علوم سابقة تعلمها الرسول ، ثم جاء بها بهذه الصورة (بَلْ هُوَ) أي القرآن (آياتٌ بَيِّناتٌ) واضحات في كونها خارقة من عند الله سبحانه ، لا من صنع بشر ، وتأليف إنسان (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) فمن كان عالما ، يعلم أن هذا القرآن ، لا يمكن أن يأتي به بشر ، فقوله «في صدور» متعلق ب «بينات» أي أنها واضحة عند أهل العلم ، أما الجهّال ، فإنهم لا يميزون بين المعجز ، وبين المؤلف ، كما لم يميزوا بين عصا موسى ، وسحر السحرة ، وبين إحياء عيسى وطب الأطباء (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) وينكرها ، بل يقول إنها مختلقة اختلقها الرسول (إِلَّا الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم بالانحراف عن منهج الحق ، فتمسكوا بالافتراء لإطفاء نور الإسلام.

[٥١](وَقالُوا) أي الكفار (لَوْ لا) أي هلّا ، ولماذا ما (أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) خارقة ، كخارقة العصا ، واليد البيضاء؟ فإنه لو كان نبيا لأتى بمثل ما أتى موسى ، فقد أعرضوا عن القرآن المعجز الباقي ، إلى طلب معجزة مادية مؤقتة (قُلْ) يا رسول الله ، في جوابهم (إِنَّمَا

٢١٥

الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١)

____________________________________

الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) فإذا شاء أنزلها ، وإن لم يشأ لم ينزلها ، أما ما يكفي للحجة ، فقد أتيتكم به ، وأما للمعاند ، فلا تكفي حتى تلك الآيات المادية (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي منذر واضح إني من قبل الله تعالى ، أما كيفية المعجزة ، فهو سبحانه أعلم بمصالح العباد ، وقد كان هؤلاء معاندون ، وإلا ألم يكفر الناس بموسى (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) (١) ثم إن الله خصّ كل نبي بآية تناسب زمانه ، وزمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كان زمن الفصاحة والبلاغة ، كان المناسب له الإتيان بهذا الجنس من الإعجاز ـ كما قرر ذلك في علم الكلام مفصلا ـ.

[٥٢](أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) أي ألا يكفي هؤلاء الكفار ، دليلا على صدقك ونبوتك (أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ) الذي هو القرآن (يُتْلى عَلَيْهِمْ) ويقرأ لديهم ، فلا يتمكنون من الإتيان بأقصر سورة منه ، مع أنهم فصحاء بلغاء؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإنزال للكتاب (لَرَحْمَةً) حيث يقرر القرآن مناهج السعادة للبشر (وَذِكْرى) تذكر البشر ، بما أودع فيهم من الفطرة بالنسبة إلى المعارف والآداب ، وأصول الاجتماع (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وإنما خصهم ، لأنهم هم المنتفعون بالقرآن ، وإلا فالقرآن ذكرى لجميع البشر ، وهل بعد هذا الكتاب العظيم ، يطلب

__________________

(١) القصص : ٤٩.

٢١٦

قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ

____________________________________

منك الكفار أن تأتيهم بآية مادية ، لا تقرر للحياة منهجا ، ولا تذكر الإنسان تذكيرا؟

[٥٣](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الذين يناقشون في نبوتك ويطلبون الخوارق المادية للإيمان برسالتك (كَفى بِاللهِ) أي كفى الله ، وإنما جيء بالباء ، لأنه بمعنى اكتفى فلان بالله (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) فالنزاع الذي بيني وبينكم حول رسالتي ، يشهد الله لي ، وذلك لأنه أجرى هذه الخارقة ـ وهو القرآن ـ على لساني ، ولو كنت كاذبا لتمكن كل فصيح أن يأتي بمثله ، ولا مجال ، لأن تقولوا إن الله لا يعلم بادعائك هذا ، حتى يرد عليك ويمنعك ، فإنه (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكيف لا يعلم بي ، وبادعائي (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) بأن عبدوا الأصنام ، وجعلوها آلهة (وَكَفَرُوا بِاللهِ) بأن أنكروه أو أشركوا به (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا أنفسهم ، فعوض أن يعطوا النفوس ، ليحصلوا على الجنة ، أعطوا النفوس فحصلوا على النار ، حتى ابتليت نفوسهم ، كالخاسر الذي يذهب رأس ماله ، وحيث إن طرف كلام الرسول كان المشركين الذين ينكرون التوحيد ، والرسالة ، والمعاد ، جاءت الآيات معترضة لكل ذلك ، فلا يقال أي ربط بإنكارهم للرسالة التي كان التعرض عليها في أول الآية ، مع الذين آمنوا بالباطل؟

[٥٤](وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) يا رسول الله (بِالْعَذابِ) أي يطلبون عجلة العذاب

٢١٧

وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ

____________________________________

لأنفسهم ، فإنهم كانوا يقولون للرسول ، إن كان حقا ، فادع ربك أن ينزل علينا العذاب ـ استهزاء ـ لأن يقولوا ، حيث لم تقدر على إنزال العذاب ، فأنت كاذب ، لا اتصال لك بالله (وَلَوْ لا أَجَلٌ) ووقت قدّره الله لهم (مُسَمًّى) قد سمّي ذلك الوقت في اللوح المحفوظ (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) الذي استحقوه ، فإنه سبحانه قدّر لهم أجلا ، للامتحان ، ولإيمان بعض الكافرين ، لذا ترى أنه لو عجل على كفار مكة العقاب ، فات إيمان جماعة منهم آمنوا بعد ذلك (وَ) لا يستبطئ الكفار العذاب ، فإنهم إن بقوا على كفرهم (لَيَأْتِيَنَّهُمْ) العذاب (بَغْتَةً) أي فجأة بدون سابق إنذار ، وذلك عند مماتهم ، أو عند حرب الرسول لهم ، وقتلهم وأسرهم ، أو ما أشبه ، كما ابتلى جماعة منهم بأنواع الأمراض المهلكة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بوقت إتيان العذاب حتى يأخذوا حذرهم.

[٥٥](يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي إن هؤلاء ، إنما يطلبونك يا رسول الله ، بأن تجعل لهم العذاب في الدنيا ، فلنأخذ أنهم لم يعذبوا هنا ـ لبعض المصالح ـ فهل لهم إفلات عن عذاب جهنم؟ كلا (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) مشتملة عليهم بحيث لا مفرّ لأحد منهم ، منها ، وسيلاقونها ويعذبون فيها بأنواع العذاب.

[٥٦] إن عذاب جهنم ليحيط بهم في (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) ويسترهم

٢١٨

مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧)

____________________________________

(مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) فهم في وسط النار المحيطة بهم (وَيَقُولُ) الله لهم (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء أعمالكم فقد أسند ما للمسبب إلى السبب ، إذ العمل سبب العذاب.

[٥٧] وإذ رأينا جزاء الكافرين فلننظر إلى المؤمنين كيف يجازون ، وقد كان الكفار يؤذونهم وهم في مكة ، ويخاف المؤمنون إن بقوا هناك أن يقتلوهم ـ كما قتلوا ياسرا وسمية ـ وإن خرجوا أن يقتلوهم ، لئلا ينشروا الدعوة خارج البلاد ، ولذا عقّبوا جعفرا حين ذهب إلى الحبشة ، فخاطبهم سبحانه بقوله (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) فأنتم عبادي ، وهذه أرضي واسعة أمامكم (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) ولا تشركوا بي شيئا ، فإن تمكنتم من عبادتي في بلادكم ، فهو ، وإلا فاخرجوا منها إلى حيث تتمكنون من عبادتي فيها.

[٥٨] وإن خفتم من القتل والموت عند الهجرة؟ فهوّنوا على أنفسكم ذلك ، أليس مصير كل إنسان إلى الفناء؟ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي تذوق الموت حتما «من فاته اليوم سهم لم يفته غدا» فلا تخافوا من الموت ، إن احتملتم لقائه في هجرتكم (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) فنجازيكم على حسن أعمالكم ، وهذان سببان محفّزان لعدم مبالاة المؤمن بالموت ، الأول ، أن الموت يدرك الإنسان لا محالة ، والثاني ، أنه يرجع إلى الله الذي أعد له كل ثواب وجزاء حسن.

٢١٩

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ

____________________________________

[٥٩] وهناك الجنة التي فيها ما تشتهي الأنفس ، وتلذ الأعين (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله وما جاء به (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) بأن عملوا بالأوامر ، واجتنبوا النواهي (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أي لننزلنهم (مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) يتخذونها مبوّء ، ومحلّا لسكناهم ، وغرف جمع غرفة ، وهي العالية من البناء المشرفة على الأرض (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فإنها جارية على الأرض ، فهم فوقها (خالِدِينَ فِيها) أي في حال كونهم دائمين في تلك الجنة والنعمة (نِعْمَ) ذلك (أَجْرُ الْعامِلِينَ) الذين عملوا بالطاعة ، واجتنبوا المعصية ، أي أنه أجر حسن.

[٦٠] ثم وصف العاملين بأهم الصفات التي يحتاج إليها الإنسان الذي وقع في فتنة واختبار (الَّذِينَ صَبَرُوا) على دينهم ، وإن لاقوا صنوف الأذى (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يفوضون أمورهم إليه ، ويوكلونه في مهامهم.

[٦١] وإذ أمر المسلمين بالهجرة ، وذكر لهم أن خوفهم من الموت ـ المحتمل للمهاجر ـ لا ينبغي أن يعبأ به ، بيّن أن ما يخافه المهاجر ، من اختلال أمر معيشته ـ حيث إن الإنسان في غربته عن وطنه ، لا يتمكن من تحصيل المعاش ـ أيضا مما لا ينبغي أن يعتنى به ، أليس الله هو الرازق للدواب التي لا تعرف تحصيل الرزق؟ فهو قادر على أن يرزق المهاجرين ، حينما ينقطعون عن موارد أرزاقهم ، التي كانت مهيأة في أوطانهم (وَكَأَيِّنْ) هي بمعنى «كم» الخبرية ، أي وكم (مِنْ دَابَّةٍ)

٢٢٠