تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ

____________________________________

الجنس ـ فإنه كان قبطيا (فَاسْتَغاثَهُ) أي استغاث واستجار بموسى (الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ) وهو الإسرائيلي (عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) بأن ينصره عليه ويعينه (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي دفع القبطي بالوكز وهو اللكم ، بجمع الكف (فَقَضى) موسى (عَلَيْهِ) أي أهلكه وأماته ، ثم (قالَ) موسى عليه‌السلام غاضبا على القبطي المقتول (هذا) الاختصام منه للإسرائيلي (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) فإنه هو الذي أمره بالاختصام فيما لم يكن له الحق ، حتى يؤدي به إلى هذه الحالة (إِنَّهُ) أي الشيطان (عَدُوٌّ) للإنسان (مُضِلٌّ مُبِينٌ) واضح العداء والإضلال ، وقد أضل القبطي حتى سبب له القتل.

[١٧] ولما قتل القبطي خاف من مكر فرعون وأن يقتص منه ، ولذا تضرع إلى الله سبحانه في أن يستر له هذا الأمر حتى لا يؤخذ به عند فرعون (قالَ) موسى عليه‌السلام ، مناجيا ، يا (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه ، ومنه يسمى التعدي ظلما ، إذ هو أن يعمل الإنسان ما لا ينبغي ، والمعنى إني وضعت نفسي في غير موضعها حيث جئت إلى هذه المدينة التي سببت لي هذه المشكلة (فَاغْفِرْ لِي) الغفران هو الستر ، ومنه تسمى المغفرة مغفرة لأنها تستر الذنب ، والمعنى فاسترني من كيد فرعون (فَغَفَرَ) الله (لَهُ) بأن ستره عن كيد فرعون ، وإن اطلع عليه ، لكنه لم يتمكن أن يقتص منه (إِنَّهُ) سبحانه (هُوَ

١٤١

الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ

____________________________________

الْغَفُورُ) الساتر كثيرا (الرَّحِيمُ) الذي يرحم الناس ويتفضل عليهم.

[١٨] وهناك شكى موسى ربه و (قالَ) يا (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) أي بما تفضلت علي من القوة حتى تمكنت من قتل بعض أعدائك (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً) وناصرا (لِلْمُجْرِمِينَ) وإنما سمي الناصر ظهيرا لأنه يأخذ ظهره في مقابل الأعداء والمعنى أني أشكر نعمة قوتك لي بأن لا أصرفها في مناصرة المجرمين.

[١٩] وشاع قتل موسى للقبطي (فَأَصْبَحَ) موسى (فِي الْمَدِينَةِ) التي قتل فيها القبطي (خائِفاً) من كيد فرعون (يَتَرَقَّبُ) أي ينتظر الأخبار حتى يعرف إلى أي مدى أثر هذا القتل ، وماذا يفعله القوم من عقاب موسى ، ومرّ على مكان في المدينة (فَإِذَا) به يرى (الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ) أي الاسرائيلي الذي طلب نصرة موسى (بِالْأَمْسِ) في حين كان يختصم مع القبطي (يَسْتَصْرِخُهُ) أي يطلب من موسى أن ينصره على قبطي آخر تخاصم معه ، والمعنى أن الاسرائيلي يختصم مع شخص آخر ويطلب من موسى أن ينصره على عدوه كما نصره بالأمس على ذلك القبطي المقتول (قالَ لَهُ) أي للاسرائيلي (مُوسى) عليه‌السلام محذرا له عن المخاصمة مع القبط الذين هم من الكثرة بمكان (إِنَّكَ) أيها الاسرائيلي (لَغَوِيٌ) أي ظاهر الغواية والخسران إذ من يقاتل كل يوم قبطيا في حكومتهم يخسر ـ بالآخرة ـ ويقع في كيدهم ، والغواية كما تطلق على العاصي لأنه خسر الآخرة ، كذلك تطلق على من يأتي بما

١٤٢

مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ

____________________________________

لا يحمد عقباه ، لأنه يخسر الدنيا (مُبِينٌ) أي ظاهر الغواية.

[٢٠] واستعد موسى لتلبية الطلب وأن ينصر الاسرائيلي على القبطي (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ) موسى عليه‌السلام (أَنْ يَبْطِشَ) بالضرب (بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) أي بالقبطي الذي هو عدو لموسى وللاسرائيلي ، ظن الاسرائيلي أن موسى يريد أن يبطش به ، لا بالقبطي ، حيث سبق منه أن قال «إنك لغوي» (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) حيث قتلت ذلك القبطي؟ قاله على نحو الاستفهام الإنكاري ، ومن المحتمل إن هذا قول القبطي حيث اشتهر الخبر وعرف أن موسى هو قاتل القبطي (إِنْ تُرِيدُ) أي ما تريد (إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً) وهو الظالم ، وسمي جبارا ، لأنه يجبر الناس على المكروه (فِي الْأَرْضِ) كأن الإتيان بهذا اللفظ هنا لزيادة التشنيع ، فليس جبارا في مدينة ، أو محل خاص ، وإنما جبارا في الأرض (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ) يا موسى (مِنَ الْمُصْلِحِينَ) الذين يصلحون بين الناس ، وهذا تأكيد للجملة السابقة ، فتلك عقد إيجابي وهذا عقد سلبي.

[٢١] وإذ قد انتشر خبر قتل موسى رجلا من القبط ائتمر فرعون برجاله وقرروا قتل موسى قصاصا لما فعل (وَجاءَ رَجُلٌ) قد ورد أنه كان خازن فرعون وكان مؤمنا بموسى يكتم إيمانه تقية (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)

١٤٣

يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢)

____________________________________

أي آخرها (يَسْعى) أي يسرع ليصل إلى موسى لئلّا يلحقه القبض قبل إعلامه بالواقعة (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ) أي الأشراف ، وهم فرعون وحاشيته (يَأْتَمِرُونَ بِكَ) أي يتشاورون فيك ، ويأمر بعضهم بعضا (لِيَقْتُلُوكَ) قصاصا (فَاخْرُجْ) من هذه المدينة (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) وكأن الله سبحانه شاء ذلك لموسى حتى ينضج ، فإن الرئيس يحتاج إلى أكبر قدر من النضج حتى يتمكن من إدارة الأمة.

[٢٢](فَخَرَجَ) موسى عليه‌السلام (مِنْها) من مصر (خائِفاً) عن أن يلحقه الطلب (يَتَرَقَّبُ) خلفه هل يأتي ورائه أحد أم لا ، من المراقبة وهي ملاحظة الأمر لئلا يقع ما يحذره الإنسان (قالَ) ضارعا إلى الله سبحانه يا (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ، وهم فرعون وآله.

[٢٣](وَلَمَّا تَوَجَّهَ) موسى عليه‌السلام (تِلْقاءَ) أي حذاء ومقابل (مَدْيَنَ) أي صرف وجهه نحو «مدين» شعيب وهي مدينة سميت باسم أول من مدّنها وهو «مدين بن إبراهيم» ولم تكن تلك المدينة تحت سلطان فرعون وكان بينها وبين مصر ثلاثة أيام ـ كما ورد ـ (قالَ عَسى رَبِّي) أي لعل الله سبحانه (أَنْ يَهْدِيَنِي) ويرشدني (سَواءَ السَّبِيلِ) أي الطريق المستوي الموصل إلى المقصد ، بأن لا أضل حيث المتاهة

١٤٤

وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما

____________________________________

والهلاك ، وكان هذا دعاء منه بلفظ الخبر.

[٢٤] وطوي الليل والنهار حتى اقترب من المدينة (وَلَمَّا وَرَدَ) وصل موسى عليه‌السلام (ماءَ مَدْيَنَ) بئر كانت لهم يستقون منها أنعامهم ومواشيهم (وَجَدَ عَلَيْهِ) أي على الماء (أُمَّةً) جماعة (مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) أنعامهم ومواشيهم ، وحذف مفعول السقي لأنه لا حاجة إليه في موضوع الكلام (وَوَجَدَ) موسى عليه‌السلام (مِنْ دُونِهِمُ) أي من خلفهم (امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) ذاد بمعنى منع ، أي تمنعان أغنامهما عن الورود على الحوض فقد كرهتا الاشتراك مع الرجال ، وأن تختلط مواشيهما بمواشي القوم ، فكانتا تنتظران أن يذهب القوم ثم تسقيان الأغنام (قالَ) موسى عليه‌السلام لهما (ما خَطْبُكُما) أي ما شأنكما وما العلة في عدم إسقاء أغنامكما مع القوم؟ (قالَتا لا نَسْقِي) عند المزاحمة مع الرجال (حَتَّى يُصْدِرَ) من أصدر إذا رجعت عن الماء ماشيتهم (الرِّعاءُ) جمع راع ، وهو الذي يرعى الماشية ، أي ننتظر حتى يرجع الرعاة مواشيهم ، فيبقى فضول الماء في الحوض ، فنسقي أغنامنا ، ثم اعتذرتا عن إتيانهما وهما امرأتان قائلتين (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) لا يطيق أن يخرج ويتولى السقي بنفسه ، ولذا نحن نقوم مقامه.

[٢٥](فَسَقى) موسى عليه‌السلام الغنم (لَهُما) أي لأجلهما ، بأن ساق الغنم

١٤٥

ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ

____________________________________

حتى شربت من الحوض ، مع مواشي الناس (ثُمَّ تَوَلَّى) أي أعرض ورجع (إِلَى الظِّلِ) من حر الشمس ، وجلس تحته وهو متعب جائع (فَقالَ) يا (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) أي إني فقير محتاج لما تنزله إلي من أقسام الخير ، الطعام والمأوى والكنف المطمئن ، فقوله ، «لما» متعلق بقوله «فقير» و «من خير» للعموم ، لأن الإنسان الغريب الفقير الخائف يريد كل شيء ليهنأ ويستريح.

[٢٦] وقد كانت البنتان ترجعان كل يوم بعد مدة ، وقد رجعتا اليوم قبل الموعد المقرر ، فتعجب أبوهما من ذلك وسأل السبب؟ فأخبرتاه بقصة موسى عليه‌السلام فقال لإحداهما علي به (فَجاءَتْهُ) أي جاءت إلى موسى (إِحْداهُما) وفي بعض التفاسير أنها الكبرى (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) أي مستحية كما هي عادة النساء الخفرات إذا أردن الذهاب إلى رجل أجنبي للتكلم معه أو معاملته أو نحوهما ، ولما وصلت إلى موسى (قالَتْ) له (إِنَّ أَبِي) شعيب (يَدْعُوكَ) أن تأتي إليه (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) أي ليعطيك جزاء سقيك لأغنامنا ، وذهب موسى معهما (فَلَمَّا جاءَهُ) أي جاء موسى إلى شعيب (وَقَصَ) موسى عليه‌السلام (عَلَيْهِ) أي على شعيب (الْقَصَصَ) التي سبقت له من قتل القبطي وفراره من القوم لما أرادوا قتله وسائر أحواله في مصر (قالَ) شعيب له (لا تَخَفْ) بعد هذا ، فقد (نَجَوْتَ) وتخلصت (مِنَ الْقَوْمِ

١٤٦

الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ

____________________________________

الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ، يريد فرعون وآله.

[٢٧](قالَتْ إِحْداهُما) أي أحدى البنتين ، وقد ورد إن اسمهما «صفوراء» (١) (يا أَبَتِ) التاء عوض عن الياء ، كما قال ابن مالك :

وفي النداء أبت أمت عرض

بعد النداء ومن اليا ، التاء عوض

(اسْتَأْجِرْهُ) أي اتخذه أجيرا ، ولعلها أرادت إيجاره ليكفي عنهما شأن السقي (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي أن خير الأجراء الذي يكون قويا يتمكن من العمل ، أمينا لا يخون المستأجر ، وهذا تعريض بأن موسى قوي أمين ، كقولك : قبّل يد زيد إن خير يد تقبل يد العالم الورع ، تريد العريض بأن زيدا عالم ورع ، قال الإمام الكاظم عليه‌السلام : قال لها شعيب يا بنية هذا قوي قد عرفته برفع الصخرة ، والأمين من أين عرفتيه؟ قالت : يا أبت إني مشيت قدامه فقال : امشي من خلفي فإن ضللت فأرشديني إلى الطريق فإنا من قوم لا ننظر في أدبار النساء (٢).

[٢٨](قالَ) شعيب عليه‌السلام لما عرف موسى (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ) أي أزوجك (إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) اللتين رأيت سوادهما (عَلى أَنْ

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٣ ص ٥٨.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ١٩.

١٤٧

تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ

____________________________________

تَأْجُرَنِي) أي تكون أجيري ، فإن الأجير يؤجر نفسه للمستأجر في مقابل ثمن يأخذه ، والثمن هنا كان تزويج البنت ، فقد جعل شعيب عليه‌السلام مهر بنته عمل موسى عليه‌السلام له (ثَمانِيَ حِجَجٍ) جمع حجة ، وهي العام أي تعمل لي ثمان سنوات ، وثمان حجج ظرف زمان ، أي تكون أجيري في هذه المدة (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً) بأن عملت لي عشر سنوات ، مقابل تزويجي لك ابنتي (فَمِنْ عِنْدِكَ) أي أن السنتين الزائدتين تفضل من عندك ، لا واجب عليك ، وإن كنت راغبا في ذلك ، والمعنى من عندك تفضلا لا من عندي إلزاما (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) في هذه السنوات الثمان ، بأن أكلفك ما يشق عليك من الخدمة (سَتَجِدُنِي) يا موسى لدى معاشرتك لي (إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في السيرة والمعاشرة ، وقيل للصالح صالح ، لأنه يصلح للدنيا والآخرة ، ثم إن الظاهر من الآية كون ذلك كان جائزا في شريعة شعيب ، بأن يكون المهر للأب ، ويحتمل أن يكون «على» بمعنى الشرط ، وإنما كان المهر شيئا آخر ، وعلى أي حال فقد كان ذلك لموسى عليه‌السلام نعمة كبري حيث يجد الزوجة ، والأهل والمأوى ، والمعيشة ، وقد ورد أن موسى وفي بأبعد الأجلين ، وإنها كانت هي التي ذهبت تدعوه إلى أبيها (١).

[٢٩](قالَ) موسى عليه‌السلام في جواب شعيب (ذلِكَ) التزويج ، بمقابل عشر

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ١٣ ص ٣٧.

١٤٨

بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا

____________________________________

سنوات (بَيْنِي) بأن أعمل أنّا (وَبَيْنَكَ) بأن تزوج أنت ، وكأن هذه الجملة لإبرام العهد ، بمعنى أنّا لا نخرج عن ذلك الذي قلنا ، إذ لو خرج أحدهما عن الشرط فكأنه لم يصر بين الطرفين ، وإنما طرف مربوط بالموفى ، وطرف آخر مقطوع لا يرتبط بأحد (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) أي المدتين وهما ثمان ، وعشر سنوات (قَضَيْتُ) وعملت بطبقه (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أي ليس ظلم علي بأن أكلف أكثر من ذلك الذي أريد ، ولا أطالب بالزيادة (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي نكله في أن يشهد المعاقدة بيننا ، حتى نعلم أنه وسط وشاهد ، فمن أراد الخلف كان خلفا مع الله ، إذ هو الموكّل في الأمر ، حسب توكيلنا له.

[٣٠] وتزوج موسى عليه‌السلام بالبنت ، وخدم شعيب عشر سنوات (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) ووفى بما وعد من خدمة شعيب ، هاجت به العاطفة نحو أمه التي خلفها في مصر ، فاستأذن شعيبا أن يزور أمه ، فأذن له ، فخرج من «مدين» (وَسارَ بِأَهْلِهِ) أي مع زوجته ، ولعلهما كانا يسيران في اختفاء لئلا يظفر بهما فرعون ، وفي ذات ليلة إذ الهواء بارد ، والليلة مظلمة ، أخذ زوجته الطلق ، فاحتاج إلى الغذاء والتدفئة وحينذاك (آنَسَ) أي رأى ما يوجب الأنس ، وهو اطمئنان النفس وفرحها (مِنْ جانِبِ الطُّورِ) وهو صحراء في الشام (ناراً) تشتعل ، فسر بذلك لأنه قصد أن يذهب إليها ، ظانا إن لها أهلا ، فيستعين بهم في حل مشكلته (قالَ) موسى عليه‌السلام (لِأَهْلِهِ) أي لزوجته (امْكُثُوا) أي الزموا

١٤٩

إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ

____________________________________

مكانكم لا تسيروا منه ، حتى إذا رجعت لا أضل محلكم ، والإتيان بضمير الجمع لقصد الاحترام ، كما هو الشائع في كلام المتأدبين. (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أرى هناك نارا تشتعل ، أذهب إليها (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها) أي من النار (بِخَبَرٍ) لنذهب إلى أهلها ، ونستعين بهم في أمرنا ، أو نسترشدهم الطريق (أَوْ) آتيكم ب (جَذْوَةٍ) أي قطعة (مِنَ النَّارِ) إذا لم يمكن السير إليها ، لمحذور كعدم حسن الطريق أو ما أشبه (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي تستدفئون بها.

[٣١](فَلَمَّا أَتاها) أي وصل موسى قرب النار (نُودِيَ) والمنادي هو الله سبحانه ، بأن خلق الصوت فسمعه موسى عليه‌السلام (مِنْ شاطِئِ) أي جانب (الْوادِ الْأَيْمَنِ) صفة للشاطئ ، أي الجانب الأيمن من وادي سيناء (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) أي القطعة من الأرض التي بوركت بنزول الوحي فيها (مِنَ الشَّجَرَةِ) التي كانت ثابتة هناك (أَنْ يا مُوسى) بيان ل «نودي» أي كان النداء هو ؛ يا موسى (إِنِّي) المتكلم معك (أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي خالقهم ومربيهم.

[٣٢](وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) أي اطرحها على الأرض من يدك ، وقد ورد أن عصاه كانت من الجنة ، وأعطاها شعيب له حينما أراد السفر ، فألقاها موسى من يده ، وإذا بها انقلبت حية عظيمة تسرع في الحركة والقفز

١٥٠

فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ

____________________________________

(فَلَمَّا رَآها) موسى عليه‌السلام (تَهْتَزُّ) وتتحرك (كَأَنَّها جَانٌ) وهي الحية السريعة الحركة ، وقد كان التشبيه بها ـ مع إنها كانت كبيرة ـ لأجل سرعة حركتها ، فإن الحية الصغيرة أسرع حركة من الكبيرة ـ كما قالوا ـ (وَلَّى) أي أعرض عن الحية ، وأخذ يسرع في الهرب منها (مُدْبِراً) فقد أعطاها قفاه ووجهه إلى جانب الصحراء ، راكضا للفرار منها (وَلَمْ يُعَقِّبْ) لم يرجع إليها ، ولم ينظر ، كما هو شأن الخائف الفار ، إنه لا يرجع ولا ينظر عقبه ، لئلا يلحقه ـ في هذه الفترة ـ الطلب وحينذاك نودي (يا مُوسى أَقْبِلْ) إلى نحو الحية (وَلا تَخَفْ) من ضررها (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) من شرها ، فإنها معجزة لك وليست حية تؤذي.

[٣٣] ثم نودي ثانيا (اسْلُكْ) أي أدخل يا موسى (يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي في شق ثوبك الأعلى من طرف النحر (تَخْرُجْ) اليد حين تخرجها (بَيْضاءَ) مشرقة كالشمس (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي بدون أن يكون ذلك البياض من قبيل بياض البرص ، وإنما قيد بهذا القيد لاعتياد أن بياض اليد ، أو سائر الجسم إنما هو من البرص ، وقد ورد إنه إذا أراد إرجاع الحية عصا ، أخذها ، وإذا أراد إرجاع اليد إلى حالتها السابقة ، أدخلها ثانيا في جيبه ، فإذا أخرجها صارت كالسابق (وَاضْمُمْ) يا موسى (إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) وقد أخذ يرتعد ويرتعش من خوف

١٥١

فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً

____________________________________

الموقف ، فنودي أن يضم يديه إلى نفسه كالطائر الذي يضم جناحيه ، فإن ذلك موجب لشدة الأعصاب فلا يرتعش الإنسان فالمراد من «جناحك» يدك ، ومعنى «من الرهب» لأجل الخوف الذي عرض عليك.

(فَذانِكَ) أي العصا ، واليد البيضاء ، وإنما جيء بالمذكر باعتبار المشار إليه ، وهو «برهان» (بُرْهانانِ) اثنان ، وخارقتان تدلان على نبوتك ، والكاف في «ذانك» للخطاب (مِنْ رَبِّكَ) أي من طرفه سبحانه (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي جماعته (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) خارجين عن طاعة الله ، ولذا احتيج إلى بعث الرسول إليهم ، وتزويده بالخارقة ليكون أقرب إلى التصديق.

[٣٤](قالَ) موسى عليه‌السلام يا (رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً) وهو القبطي الذي قتله حينما تخاصم مع الإسرائيلي (فَأَخافُ) إن ذهبت إليهم لأدعوهم (أَنْ يَقْتُلُونِ) أي يقتلونني قصاصا.

[٣٥](وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) فقد كانت في لسان موسى عقدة ، من جراء أن جعل الجمر على لسانه في صغره ـ في قصة تقدمت ـ وقد دعا موسى عليه‌السلام أن يزيلها بقوله : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) فأزالها سبحانه (فَأَرْسِلْهُ مَعِي) رسولا (رِدْءاً) أي معينا لي

١٥٢

يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا

____________________________________

على تبليغ رسالتك ، يقال فلان ردء فلان ، أي ظهره ومعينه وناصره (يُصَدِّقُنِي) فيما أؤديه من الرسالة (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) أي يكذبونني فيما أدعيه من الرسالة ، والخوف يطلق على المقطوع ، كما يطلق على المشكوك والمظنون.

[٣٦](قالَ) الله سبحانه ، في جواب طلبه (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ) أي نقويك (بِأَخِيكَ) فنجعله نبيا معك ، وهذه استعارة تشبيها بشد بعض الأشياء إلى بعض الموجب لتقوية الجمع حتى لا يؤثر فيها الكسر ، ونسبة الشدّ إلى العضد لأن الإنسان يعمل بيده ، والعضد مظهر القوة في اليد ، ولو قيل سنشد يدك ، كان بعيدا عن الذوق (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) أي سلطة وسيطرة على فرعون وقومه ، بالحجة والبرهان ، (فَلا يَصِلُونَ) أي فرعون وقومه (إِلَيْكُما) بالإيذاء بسبب ما تزودان به من آياتنا الخارقة كالعصا ، واليد ، وغيرهما ، وهذا في جواب قول موسى (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)(أَنْتُما) يا موسى وهارون (وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا) من المؤمنين (الْغالِبُونَ) على فرعون وأتباعه.

[٣٧] ورجع موسى عليه‌السلام إلى أهله يخبرهم بما كان من أمر النار ، وقد سهل الله لهم الأمر ، حتى سارا ووصلا إلى مصر ، وأخبر هارون بقدوم موسى ، إذ كان في ذلك الوقت في مصر ، فأوحى الله إليه وجعله نبيّا ، ثم جاءا إلى فرعون (فَلَمَّا جاءَهُمْ) أي فرعون وقومه (مُوسى) وأخوه (بِآياتِنا)

١٥٣

بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا

____________________________________

الدالة على نبوته (بَيِّناتٍ) أي واضحات ظاهرات (قالُوا) عن الآيات ما هذا الذي أتيت به من أنواع الخارقة (إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) أي أنت اختلقته ونسبته إلى الله سبحانه ، وليس هناك إله أعطاك هذه الأمور (وَما سَمِعْنا بِهذا) الذي تقوله من وجود الإله ، وما أعطيته دليلا على نبوتك (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي لم يظهر فيهم بمثل هذا ، حتى ينقل إلينا ، ونسمعه ، فهو أمر جديد مختلق.

[٣٨](وَقالَ مُوسى) في جواب تكذيبهم (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) فإن هذا من عند الله ، وليس افتراء ، وهو هداية لا سحر ، والله يعلم ذلك ، ولو كان افتراء وضلالا حال بيني وبينه حتى لا أكون سببا للإضلال (وَ) ربي أعلم ب (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) وهذا تعريض بهم بأن العاقبة الحسنة لنا لا لكم (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يفوزوا بعاقبة الدار ، وقوله عليه‌السلام «ومن تكون» تهديد ، يعني إنكم إن لم تؤمنوا تكون عاقبتكم سيئة ، ونسبة العاقبة إلى الدار من باب النسبة إلى المكان مجازا ، والمراد عاقبة الإنسان في الدار ، أو المراد آخر الدار ، فالنسبة حقيقة.

[٣٩] ولما انقطع فرعون عن الاحتجاج مع موسى التفت إلى قومه يحفظهم عن السير مع موسى ويقويهم ليبقوا على باطلهم (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا

١٥٤

الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩)

____________________________________

الْمَلَأُ) الأشراف من قومي (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) فلا إله إلا أنا ، ثم توجه إلى وزيره هامان فقال (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) أي أجج النار واصنع الآجر ، فإن الطين سواء أو قد تحته أو فوقه طبخ وصار أقوى في البنيان (فَاجْعَلْ لِي) أي ابن لي (صَرْحاً) أي قصرا عظيما مشيدا من الآجر ، ليكون أقوى استحكاما (لَعَلِّي) اصعد عليه و (أَطَّلِعُ) أي أشرف من فوق القصر (إِلى إِلهِ مُوسى) فقد أراد أن يلبس على العوام أن إله موسى في الأرض فإذا صعد الإنسان السطح العالي أشرف عليه حتى يراه ويعرف مزاياه (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) أي أظن موسى (مِنَ الْكاذِبِينَ) في مقاله أن للكون إلها ، وأنه رسوله ، والإتيان بلفظ «لأظنه» ، للتلبيس على الناس بأنه منصف حتى أنه لا يقول الكلام الخشن ، بل الكلام المنصف المريد العثور على الواقع.

[٤٠](وَاسْتَكْبَرَ هُوَ) أي فرعون (وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ) أي ترفعوا أنفسهم فوق مقدارها (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي ترفعا بالباطل ، في مقابل ترفع الإنسان عن الدنايا ، فإنه ترفع بالحق (وَظَنُّوا) بأن لم يكونوا متيقنين بل ظانين (أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) في الحشر حتى نحاسبهم على أعمالهم.

١٥٥

فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١)

____________________________________

[٤١](فَأَخَذْناهُ) تعظيم للعذاب ، وتحقير له حتى كأنه يؤخذ باليد (وَجُنُودَهُ) الذين ظاهروه على الكفر والطغيان (فَنَبَذْناهُمْ) أي طرحناهم ـ بكل مهانة كمن يأخذ جرادة ويطرحها في مهلكة ـ (فِي الْيَمِ) أي في البحر ، وهو البحر الأحمر في مصر الموجود إلى الآن (فَانْظُرْ) يا رسول الله ، أو كل من يتأتى منه النظر ، والمراد بالنظر الاعتبار والعلم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ، وهذا تصديق لقوله تعالى : (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (١).

[٤٢](وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) جمع إمام ، أي مقتدون للناس ، ونسبة الجعل إليه سبحانه باعتبار أنه خلقهم وهيئ الأشياء والأسباب لهم ، ولم يمنعهم منعا تكوينا عن أعمالهم (يَدْعُونَ) الناس (إِلَى النَّارِ) فإن الدعوة إلى الكفر والمعاصي دعوة إلى النار ، وهذا كما يقول الملك «جعلت فلانا مثالا للعصيان ومحلا للمتمردين» يريد أنه لم يضرب على يده ولم يأخذه (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) عن النار ، فإنهم يدخلونها أذلاء ، كما لم ينصروا هنا عن الغرق ، بل أغرقوا في اليم ، فليعلم أتباعهم إنهم معذبون في الدنيا والآخرة.

__________________

(١) الأنعام : ١٣٦.

١٥٦

وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)

____________________________________

[٤٣](وَأَتْبَعْناهُمْ) أي أردفنا بعقبهم (فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) بأن أمرنا المؤمنين بلعنهم والبراءة منهم ، وجعلناهم بعداء عن الخير والسعادة طرداء عن الرحمة (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) فهنا لك لهم القبح والخزي والعار والمقت والنار.

[٤٤] ثم يأتي السياق ليؤكد سنّة الله في إهلاك الكافرين ، كما أهلك فرعون ومن قبله (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) حيث كذبوا أنبياءهم ، مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم والمراد بإتيان الكتاب : الإرسال ، أي كان إرسال موسى بعد إهلاك المجموع المكذبين (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) أي في حال كون الكتاب براهين تبصر الناس أمور دينهم ودنياهم ، وإنما أوتي بلفظ الجمع ، باعتبار الجمل التي في الكتاب (وَهُدىً) يهدي إلى الحق (وَرَحْمَةً) موجبا لرحمة الناس ، فإن من عمل بالكتاب يرحمه‌الله سبحانه (لَعَلَّهُمْ) أي لعل قوم موسى (يَتَذَكَّرُونَ) ما أودع فيهم من الفطرة حول الأصول والآداب ، فقد أودع في فطرة الإنسان المبدأ والمعاد والرسالة ـ إجمالا ـ كما أودع فيه حسن الأشياء الحسنة وقبح الأشياء القبيحة.

[٤٥] وإنك يا رسول الله إنما تنقل هذه القصص بوحي من الله ، وإلا لم

١٥٧

وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا

____________________________________

تكن حاضرا في تلك الأزمنة حتى تشاهدها بعينك ، ثم تحكيها ، وإنما هي دالة على أنك نبي ، وإلا فمن أين يعلم من لم يقرأ ولم يكتب ولم يشهد وقت القصة ، التفاصيل والمزايا؟ (وَما كُنْتَ) يا رسول الله (بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) أي بجانب الجبل الواقع في طرف الغرب وهو جبل طور الذي كلم الله فيه موسى وأعطاه التوراة (إِذْ قَضَيْنا) أي أرسلنا وعهدنا (إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) بإعطائه الكتاب والشريعة (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) الحاضرين في ذلك الزمان مع بني إسرائيل لتعرف عن مشاهدة قضايا موسى عليه‌السلام التي تنقلها في القرآن.

[٤٦] ولكن إخبارك إنما هو عن الوحي ، وإنما أوحينا إليك لأن الرسل قد انقطعوا ، ورجعت الناس إلى الضلالة ، فأرسلناك وأوحينا إليك بهذه الأخبار (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) وأجيالا جديدة بعد عهد النبوات السابقة (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي ابتعد عنهم قضايا تلك الأزمنة السابقة ، لأن تطاول عمر الأجيال يستلزم نسيان الأنباء القديمة التي تدل على نصرة الله للأنبياء وإهلاكه للظالمين ، فقوله «تطاول» من باب إقامة السبب مقام المسبب ، لأن المراد به «نسيان الأمور السابقة».

وحيث أن هذا الجيل المعاصر لك ، لا يعلمون الأمور ، وينكرون الألوهية الصحيحة والمعاد وأرسلناك إليهم لتذكرهم ، وتذكرتك عن الوحي ، وإلا لم تكن أنت مع موسى ، ولا مع قومه (وَما كُنْتَ) يا رسول الله (ثاوِياً) أي مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) شعيب ، حتى (تَتْلُوا

١٥٨

عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)

____________________________________

عَلَيْهِمْ) على أهل مكة (آياتِنا) التي سبقت في أهل مدين ، حتى تكون أخبارك عن قضايا مدين لأنك شاهدتها بعينك وكنت مقيما في تلك المدينة في زمان شعيب (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) لك وبالوحي نعلمك تلك القضايا حتى تقرأها على قومك حجة على صدقك ، ولقائل أن يقول فمن أين يعلم أهل مكة صدق الرسول؟ والجواب إنهم يعلمون ذلك باستحضار الأخبار من أهل الكتاب ، كما قال (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) (١).

[٤٧](وَما كُنْتَ) يا رسول الله (بِجانِبِ الطُّورِ) الذي صار موسى فيه نبيا (إِذْ نادَيْنا) موسى فقد كان لموسى ميقاتان ، الأول حين أرسل رسولا إلى فرعون والثاني حين أرسل إليه الكتاب بعد إهلاك فرعون وخروجهم من مصر (وَلكِنْ) كان إخبارك عن تلك الأحوال (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) تفضل بها عليك حيث جعلك رسولا ، وعلى أمتك حيث أرسلك إليهم (لِتُنْذِرَ قَوْماً) هم أهل مكة ، تخوفهم من الكفر والمعاصي (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) فإن جيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبعث فيهم نبي قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ما أودع فيهم من الفطرة فيرجعوا عن غيّهم وضلالهم ، بسبب القرآن الهادي لهم إلى ما

__________________

(١) النحل : ٤٤.

١٥٩

وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى

____________________________________

أودع في فطرتهم.

[٤٨] ثم قال سبحانه إنه لو لا عدم إتمام الحجة على هؤلاء من قومك لما أرسلناك إليهم ، أما حيث إنهم ابتعدوا عن النبوات السابقة ، وغمرهم الجهل ، أرسلناك إليهم (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ) أي تصيب قومك (مُصِيبَةٌ) من العقاب بسبب ما (قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الكفر والمعاصي (فَيَقُولُوا) محتجين على الله في أن عاقبهم بدون إتمام الحجة : يا (رَبَّنا لَوْ لا) أي هلا (أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) يدعونا إلى الحق حتى لا نعصي فنستحق العقاب (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) وما أنزلت وأمرت (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وجواب «لو لا» محذوف أي لو لا عدم تمام الحجة عليهم ، لم نرسلك ، أما وإنهم لم تتم الحجة عليهم لبعدهم عن الأنبياء ، فقد أرسلناك وها هم يعاندون ولا يؤمنون ، وهناك قول آخر بأن جواب «لو لا» «لجعلنا لهم العقاب» إنهم كانوا يقولون هكذا لو لم نرسل ، وعذبناهم ، فها نحن قد أرسلنا ، ولم يؤمنوا.

[٤٩](فَلَمَّا جاءَهُمُ) أي جاء أهل مكة (الْحَقُ) الذي هو الرسول والقرآن (مِنْ عِنْدِنا) حيث أرسلنا الرسول وأنزلنا القرآن (قالُوا) تبريرا لموقفهم ضد الرسول (لَوْ لا) أي هلا (أُوتِيَ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى)؟ لو كان هذا نبيا لأتى بمثل معاجز موسى من فلق البحر

١٦٠