تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا

____________________________________

(إِلَيْهِمْ) أي إلى أهل سبأ ، والمراد إلى الملكة وقومها (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض كأنك راجع ، واستتر في محل تسمع كلامهم (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) أي ماذا يردون في جواب الكتاب ، ويقولون بينهم عنه؟

[٣٠] فمضى الهدهد بالكتاب وألقاه في مجلس بلقيس ، فأخذته وفضته وقرأته ثم (قالَتْ) لمن حضرها من الوزراء والأشراف (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) ويسمى الأشراف ملأ لأنهم يملئون العيون جلالا والصدور هيبة (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) أي رفيع ، فإن الكتاب الرفيع يكرم ويحترم.

[٣١](إِنَّهُ) أي الكتاب (مِنْ سُلَيْمانَ) النبي (وَإِنَّهُ) أي الشيء المكتوب فيه (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

[٣٢](أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) هاتان الجملتان كانتا كل ما في الكتاب الذي أرسله سليمان إلى بلقيس ، ومعناها ، آمركم أن لا تظهروا الكبر والعلو عليّ ، بعدم إطاعة أمري ، وآمركم أن تسيروا ـ أي الملكة ومن في حاشيتها ـ نحوي في حال كونكم مسلمين منقادين لي ، أو مسلمين لله تعالى.

[٣٣] ولما قرأت بلقيس الكتاب عليهم (قالَتْ) للأشراف والوزراء (يا أَيُّهَا

١٠١

الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤)

____________________________________

الْمَلَأُ) أي الجماعة (أَفْتُونِي) أي أشيروا عليّ (فِي أَمْرِي) أي الأمر المرتبط بي من التسليم لسليمان أو الحرب معه ، والفتوى الحكم بالصواب أي احكموا بالصواب في هذه القضية (ما كُنْتُ) أنا (قاطِعَةً أَمْراً) أجزم فيه برأيي وحدي (حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي تحضرون وتشيرون فعن رأيكم ومشورتكم أمضى في الأمر.

[٣٤](قالُوا) في جوابها (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) أي أصحاب قوة وقدرة وسلاح وجيش (وَأُولُوا بَأْسٍ) أي شجاعة (شَدِيدٍ) لا يغالبنا أحد فإن شئت أن لا تسلمي حاربنا وإن شئت أن تسلمي صالحنا (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أي مفوض إليك في القتال وعدمه (فَانْظُرِي) وفكري في أمرك (ما ذا تَأْمُرِينَ) أي ما الذي تأمريننا به لنمتثله؟

[٣٥](قالَتْ) في جوابهم ، إن الأصلح أن لا نحاربهم ، فإنا إذا حاربناهم وغلبوا علينا أذلّونا ف (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) أي مدينة ، والمراد دخلوها بالعنوة والغلبة (أَفْسَدُوها) بالإهلاك والتدمير والسلب والنهب (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) أي أهانوا أشرافها وكبراءها ، لأن الأشراف لا يخضعون لهم ، فلا بدّ لهم أن يذلوهم حتى يستقيم لهم الأمر (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) الظاهر إن هذا من تتمة كلام بلقيس ، فإن الإنسان غالبا يؤكد الكلام بالتصديق الإجمالي ، فإنك بعد أن تقص قصة تقول

١٠٢

وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ

____________________________________

«هكذا كان» وبعد أن تأمر أمرا «هكذا فأفعل».

وقد أراد بعض الذين بهرتهم الديمقراطية الغربية أن يطبق هذه الآية عليها ، بتقريب أن اللازم أن يكون للرئيس مجلس يراجعهم في شؤون الدول ، وهم يظهرون ما لديهم من قوة ومال وفكر ويكون المرجع الأخير هو الرئيس ، ولكن لا ربط لهذه الآية بذلك ، إذ إنما استشارت بلقيس الوزراء والأشراف ، وهذا هو المعتاد في كل حكومة ملكية وإن لم يكن لهم مجلس وبرلمان بالإضافة إلى ذلك حكاية عن عمل جماعة من عبّاد الشمس الكافرين ، ولا يدل على تقرير الله لهم.

[٣٦](وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ) أي إلى سليمان وقومه (بِهَدِيَّةٍ) لأصانعهم وأليّن جانبهم حتى لا يطمعوا في ملكي (فَناظِرَةٌ) أي أنظر وأنتظر (بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) أي بقبول أو ردّ ـ من جانب سليمان ـ يرجعون رسلي الذين أرسلهم مع الهدية.

[٣٧] ثم أرسلت رسولا بهدية (فَلَمَّا جاءَ) الرسول (سُلَيْمانَ) عليه‌السلام (قالَ) سليمان للرسول (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) على نحو الاستفهام الإنكاري؟ فإني لا أحتاج إلى مالكم ، و «تمدون» جمع المخاطب من فعل المضارع ، من باب الأفعال والهمزة للاستفهام والنون الثانية للوقاية ، وقد حذفت ياء المتكلم تخفيفا (فَما آتانِيَ اللهُ) أي أعطانيه من أنواع النبوة والملك والجاه (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) أي أعطاكم من أموال الدنيا (بَلْ أَنْتُمْ) أي من لا حظ له كحظي (بِهَدِيَّتِكُمْ) أي هدية

١٠٣

تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ

____________________________________

بعضكم إلى بعض (تَفْرَحُونَ) أما مثلي فلا يفرح بالهدية.

[٣٨](ارْجِعْ) أيها الرسول (إِلَيْهِمْ) إلى بلقيس وقومها فقل لهم إن لم يسلموا (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) أي لا طاقة لهم ولا قدرة لهم على دفعها (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) من مدينتهم ، إن بقوا مصرين على الكفر (أَذِلَّةً) جمع ذليل ، أي في حال كونهم أذلاء (وَهُمْ صاغِرُونَ) أي صغيروا القدر.

[٣٩] ورجع الرسول إلى بلقيس يخبرها بأمر سليمان عليه‌السلام ، وقد ذكر لها علائم كونه نبيّا ، لا ملكا فقط ولذا تجهزت بلقيس للمسير إليه حسب أمره «وأتوني مسلمين» ، وأخبر سليمان بأنها خرجت من اليمن مستعدة للسفر إليه حينذاك (قالَ) سليمان عليه‌السلام (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا) لمن حضر عنده من الأشراف والعظماء (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) أي كرسي بلقيس ، فلقد كان لها كرسي عظيم تجلس عليه (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي) أي تأتي بلقيس وأشراف قومها إليّ ، لأنها سافرت في عدّتها (مُسْلِمِينَ) أي في حال كونهم مسلمين ، ولعلّ وجه طلب سليمان عرشها أنه أراد أن يريها مقدرته على مثل ذلك الأمر الخارق ، حتى تذعن بنبوته ، وتصدق دعوته ، فكان من قبيل معاجز الأنبياء لإثبات الرسالة.

[٤٠](قالَ) في جواب سليمان عليه‌السلام (عِفْرِيتٌ) أي قوّي (مِنَ الْجِنِ)

١٠٤

أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا

____________________________________

الذين كانوا بحضرة سليمان (أَنَا آتِيكَ بِهِ) أي أجيء إليك بالعرش (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) أي مجلسك ، فإنه من الطبيعي أن يمتد جلوس الملوك إلى وقت الظهر ثم يقومون من محلهم للصلاة والراحة والغذاء ـ مثلا ـ.

ولقد كان ذلك العفريت يريد أن يطير فيأتي بالعرش بالطريق العادي لدى الجن (وَإِنِّي عَلَيْهِ) أي على إتيان العرش (لَقَوِيٌ) قادر على حمله (أَمِينٌ) آتيك به بدون خيانة.

[٤١] قال سليمان عليه‌السلام أريد أسرع من ذلك (قالَ) آصف بن برخيا وكان وزير سليمان وابن أخته ويعرف الاسم الأعظم لله سبحانه الذي إذا دعا به أجاب (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) والمراد الكتاب المخزون المكنون عند الله سبحانه ، الذي لا يطلع عليه إلا من شاء من الأنبياء والأئمة والصالحين (أَنَا آتِيكَ بِهِ) بالطلب من الله سبحانه باسمه الأعظم (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) ارتداد الطرف رجوعه بعد النظر إلى مكان ما ، فإن الإنسان إذا نظر إلى مكان ثم أراد أن يأخذ نظره منه إلى أمام رجله ، يقال ارتد إليه طرفه ، لأن الطرف رجع إلى نفسه بعد أن كان إلى محل آخر ، قال آصف هذا الكلام ودعا باسم الله الأعظم ، وإذا يرى سليمان أن عرش بلقيس حاضر أمامه.

(فَلَمَّا رَآهُ) أي رأى سليمان العرش (مُسْتَقِرًّا) في حال استقرار وثبات (عِنْدَهُ) بعد أن ارتد طرفه إلى قرب محلّه (قالَ هذا) الإحضار

١٠٥

مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ

____________________________________

(مِنْ فَضْلِ رَبِّي) ونعمه إليّ حيث وهب لي خليفة كآصف يتمكن من هذا العمل العجيب وقد كان سليمان قادرا على أن يحضره هو بالذات ، لكنه أراد إظهار فضل آصف على قومه ، وقد فضلني بهذا (لِيَبْلُوَنِي) البلاء الامتحان والاختبار ، أي ليمتحنني (أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) أي هل أشكره سبحانه على النعمة ، أم أكفر نعمته ولا أشكره؟ فإن الله سبحانه إذا منح أحدا نعمة كان اختبارا ليظهر هل أنه يشكر أم يكفر بالنعمة ـ لا ليعلم الله ، فإنه عالم ، بل ـ ليستحق المحسن الثواب والمسيء العقاب (وَمَنْ شَكَرَ) لله تعالى (فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) إذ فائدة الشكر تعود إليه بالذات (وَمَنْ كَفَرَ) ولم يشكر النعمة (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ) عن شكر الشاكرين (كَرِيمٌ) متفضل على عباده شاكرهم وكافرهم.

[٤٢](قالَ) سليمان عليه‌السلام (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) أي غيروا سريرها إلى حالة تنكرها ولا تعرفها ، إذا رأته ، وقد قيل أنه عليه‌السلام أراد بذلك اختبار عقلها وإنها هل تعرف أم لا ، ل (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي) إلى معرفة عرشها بفطنتها (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) قيل فنزع ما كان على العرش من الفصوص والجوهر وغيرت ألوان مواضعه الملونة ، فجعل ما كان أحمر أخضر وهكذا.

[٤٣](فَلَمَّا جاءَتْ) بلقيس إلى محلّ سليمان (قِيلَ) لها (أَهكَذا عَرْشُكِ)

١٠٦

قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣)

____________________________________

أي هل أن عرشك مثل هذا العرش الموضوع ها هنا؟ (قالَتْ) وقد أدركت بفطنتها الحقيقة (كَأَنَّهُ) أي كأن هذا العرش الموضوع (هُوَ) العرش الذي لي وخلفته ورائي جئتم به إلى هنا ثم قالت (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) بقدرة الله سبحانه ، وصحبة نبوة سليمان (مِنْ قَبْلِها) أي من قبل هذه الخارقة التي نشاهدها بالنسبة إلى العرش (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) بسليمان ، فلا نعجب من إتيان العرش إلى هنا.

[٤٤] ثم ذكر سبحانه ، إنها إنما أسلمت بعد كتاب سليمان ، وإلا فإنها كانت تعبد الشمس ، كما قال «الهدهد» (وَصَدَّها) أي منعها ـ سابقا ـ عن الإسلام (ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي عبادتها للشمس ، وإنما عبدت الشمس ل (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) أي نشأت فيهم وكانت منهم ، ولذا اعتقدت كما كان يعتقد قومها ، فإن للمحيط أثرا قاهرا على النساء.

[٤٥] وقد أمر سليمان عليه‌السلام أن يبني لها «صرح» أي موضع منبسط من قوارير كالقصر ، وقد أجرى الماء تحت أرض الصرح بحيث كان يبدو أنه ماء واقف على الأرض ، ولعلّه أراد بذلك اختبار عقلها أيضا ، هل تعرف إنه صرح أم تظن أنه ماء ، وقيل أن الشياطين خافت أن يكون لها ولد منه ، فنفروا سليمان منها ، قائلين إن رجلها كرجل حمار ، فأراد سليمان أن يعرف صدق ذلك ، أقول : وإن صدق هذا ، لم يكن فيه دليل على إن سليمان أو بعض الرجال نظروا إلى ساقها ، فلعلّ سليمان كان قد أحضر نساء للنظر إلى ساقيها ، بدون أن يقلن لها اكشفي عن ساقك ، كما أنه ليس دليل على إن قول الشياطين أثّر في سليمان ، إذ هو عليه‌السلام أعلم منهم ، وإنما أراد الكشف للناس عن كذبهم بما تشهده النساء.

١٠٧

قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ

____________________________________

ولما جاءت بلقيس (قِيلَ لَهَا) والقائل بعض الخدم (ادْخُلِي الصَّرْحَ) وهو المحلّ المعدّ لاستقبالها (فَلَمَّا رَأَتْهُ) أي رأت بلقيس الصرح (حَسِبَتْهُ) أي ظنته (لُجَّةً) من الماء ، واللجة معظم الماء ، فاستعدت لخوضها بأرجلها (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) أي رفعت ثوبها عن رجليها ، لتدخل الماء ، ولا يبلل ثوبها (قالَ) سليمان ، أو بعض الخدم (إِنَّهُ) أي ما ترين ليس ماء ، ولعلهم أعلموا سليمان بأنها أخذت في كشف قدميها لخوض الماء ـ بظنها ـ (صَرْحٌ) أي قصر (مُمَرَّدٌ) قد مرّد وملّس ، ومنه يقال لمن لا شعر له ، أي هو مملّس (مِنْ قَوارِيرَ) جمع قارورة ، والمراد بها الزجاج ، وإذ دهشت الملكة من هذا الحادث جعلت تستغفر عن ذنبها ، فإن من عادة الإنسان طلب الغفران حين يدهش ويصاب بكارثة ، إذ يزول الكبرياء ، حينذاك (قالَتْ) مناجية ، يا (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بعبادتي للشمس في سالف الزمان (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فالإسلام لله تعالى ، لكنه مع سليمان النبي ، ولعلّ الإتيان بهذه اللفظة ، للاعتراف برسالته ، وأرادت أن تبدي اعترافها بالمبدأ والرسالة.

[٤٦] وبعد تمام قصة سليمان ، يأتي السياق ليبين طرفا من قصص سائر الأنبياء (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ) أي قبيلة ثمود (أَخاهُمْ) في النسب (صالِحاً) فقال لهم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده لا شريك له (فَإِذا هُمْ)

١٠٨

فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ

____________________________________

أي ثمود (فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) مؤمنون ، وكافرون ، وكل يخاصم الفريق الآخر يقول أنت على باطل وأنا على حق.

[٤٧](قالَ) صالح عليه‌السلام لمن بقي في الكفر (يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ) فقد كانوا يقولون لصالح عجّل علينا بالعذاب الذي وعدتنا إن بقينا على الكفر ، ـ على وجه الاستهزاء ـ فقال لهم صالح لم تطلبون عجلة العذاب (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي قبل التوبة ، وسمي العذاب سيئة لأنه يسيء إلى الإنسان ، والمراد ب «قبل الحسنة» ، عوض طلبكم الحسنة ، فإنه كثير ما يأتي قبل لا بمعنى الزمان ، بل بمعنى العوض (لَوْ لا) أي هلّا (تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) تطلبون غفرانه بسبب الإيمان والعمل الصالح؟ (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) لكي ترحموا بسبب الاستغفار.

[٤٨](قالُوا) في جواب صالح عليه‌السلام (اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي تشأمنا بك وبمن على دينك من المؤمنين فأنتم شؤم علينا تجلبون لنا الفقر والقحط والمشاكل ، وأصل «اطير» تطير ، أدغمت التاء في الطاء ، وجيء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن (قالَ) لهم صالح (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي أن الشؤم أتاكم من عند الله حيث كفرتم وللكفر نكبة ومشاكل كما قال سبحانه (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (١) وقد كانت الأمم تتشاءم بالطائر الخاص ، كالبوم ، والغراب ، لما كان عندهم

__________________

(١) طه : ١٢٥.

١٠٩

بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ

____________________________________

مشهورا أن الإنسان إذا وقع نظره على الطائر الفلاني عند حاجة له فإنها لا تقتضي تأثّرا من ذلك الطائر ، ثم سمى كل تشاؤم بالشر طائرا ، وإن كان تشاؤما من الشخص أو حيوان بري ، واشتق منه «التطير» (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) أي تختبرون بالخير والشر ، فإن الفتنة بمعنى الاختبار ، كما قال تعالى (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (١) يعني ليس هذا الذي يصيبكم من المشاكل بسببي وإنما هي فتنة وامتحان لكم.

[٤٩](وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ) التي بها صالح ، وهي «الحجر» (تِسْعَةُ رَهْطٍ) أي تسعة أشخاص (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بإلقاء الفتن وتدبير المكر (وَلا يُصْلِحُونَ) لعلّ الإتيان بهذه الجملة لإفادة أنه لم يكن في عملهم إصلاح ، وإنما فساد محض.

[٥٠](قالُوا) أي قال بعض هؤلاء الرهط المفسدون لبعضهم الآخر (تَقاسَمُوا بِاللهِ) أي ليحلف بعضكم لبعض ، ف «تقاسموا» فعل أمر ، من باب التفاعل (لَنُبَيِّتَنَّهُ) أي لنقتلن صالحا (وَأَهْلَهُ) بياتا أي بالليل (ثُمَّ لَنَقُولَنَ) صباحا إذا ظهر قتله ورمينا بذلك ـ وإنما قالوا هذا لأنهم كانوا معروفين بالفساد فإذا حدث حادث رموا به فلا بد لهم من إحضار الجواب ـ (لِوَلِيِّهِ) أي ولي صالح الذي يطالب بدمه ، والمراد إما الحكومة أو ذووا رحمه أو من أشبههما (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ

__________________

(١) الأنفال : ٢٩.

١١٠

أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً

____________________________________

أَهْلِهِ) أي هلاك أهل صالح ، ويطلق الأهل على العائلة حتى الرئيس ، ومهلك مصدر ميمي ، أو اسم زمان أي زمان هلاكهم أو اسم مكان أي مكان الهلاك (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما نقول ، هكذا دبروا حيلة أن يفعلوا الفعلة ثم يقولوا لوليه هذه الجملة ليبرّءوا ساحتهم من القتل.

[٥١](وَمَكَرُوا) هؤلاء (مَكْراً) بتدبير هذه الخطة (وَمَكَرْنا مَكْراً) أي دبّرنا تدبيرا خفيا بحيث لم يعلموا به ـ فإن المكر هو التدبير الخفي لإلقاء الخصم إلى الهلاك ـ فقد أمر الله سبحانه بعذاب ثمود (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بمكر الله لهم ، فقد روي أنهم لمّا أرادوا قتل صالح وقعت عليهم قطعة من الجبل فهلكوا جميعا وأنجى الله صالح من أيديهم (١).

[٥٢](فَانْظُرْ) يا رسول الله أو كل من يتأتى منه النظر ، والمراد اعلم واعتبر (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ)؟ فهل مكرهم نفذ أم ردّ إلى نحرهم؟ (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) أي أهلكناهم (وَقَوْمَهُمْ) بأن صاح عليهم جبرائيل صيحة صاروا كهشيم المحتضر (أَجْمَعِينَ) حتى لم ينجح منهم أحد ، وبقي صالح ، والمؤمنون في سلامة وعافية.

[٥٣](فَتِلْكَ) التي يراها الرائي في طريقه من الحجاز إلى الشام وقد مرّ بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في غزوة تبوك (بُيُوتُهُمْ) وآثارها الباقية (خاوِيَةً) أي في

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٧ ص ٣٩٢.

١١١

بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥)

____________________________________

حال كونها خاوية ، أي خالية منهدمة (بِما ظَلَمُوا) أي بسبب ظلمهم أنفسهم بالكفر والعصيان (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإهلاك (لَآيَةً) على بأس الله سبحانه (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يعلمون الأمور ، أما الجهّال فإنّهم لا يدركون العبر والعظات.

[٥٤] أهلكنا الكفار (وَأَنْجَيْنَا) من العذاب (الَّذِينَ آمَنُوا) بصالح (وَكانُوا يَتَّقُونَ) المعاصي والآثام.

[٥٥] ثم يأتي السياق لبيان قصة لوط (وَ) اذكر يا رسول الله (لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) منكرا عليهم العصيان (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) والمراد بها اللواط؟ أي كيف تلوطون ، والفاحشة ، صفة لمقدر ، أي الفعلة الفاحشة وسميت فاحشة لأنها تفحش وتتجاوز الحد ، من فحش بمعنى تجاوز الحد (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي والحال أنكم تعلمون أنها فاحشة.

[٥٦](أَإِنَّكُمْ) أيها القوم (لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) أي تعملون مع الرجال (شَهْوَةً) إما مفعول أو تمييز ، وأصلها ما تشتهيه النفس (مِنْ دُونِ النِّساءِ) فقد تركوا نساءهم ، واشتغلوا بالرجال ، إن ذلك ليس لقضاء الشهوة ، وإلا كانت النساء أحسن (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) ما في هذا العمل من الإثم والعقاب.

١١٢

تقريب القران الى الأذهان

الجزء العشرون

من آية (٥٧) سورة النمل

إلى آية (٤٦) سورة العنكبوت

١١٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

١١٤

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى

____________________________________

[٥٧](فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) للوط (إِلَّا أَنْ قالُوا) أي قال بعضهم لبعض (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) أي لوط وآله ـ وقد مرّ إن «آل فلان» يطلق عليه وعلى آله ، تغليبا ـ (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي مدينتكم (إِنَّهُمْ أُناسٌ) أي جماعة (يَتَطَهَّرُونَ) عن إتيان أعمالنا ، وكان هذا على وجه السخرية.

[٥٨](فَأَنْجَيْناهُ) أي أنجينا لوطا (وَأَهْلَهُ) بناته اللاتي كنّ معه (إِلَّا امْرَأَتَهُ) التي كانت تساعد القوم على أعمالهم الفاسدة (قَدَّرْناها) أي هكذا جرى تقديرنا بالنسبة إليها إنها (مِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين في القرية لتعذب بعذابها.

[٥٩](وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) أي على أهل القرية (مَطَراً) من الحجارة (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي بئس المطر مطر الذين أنذروا فلم ينفع فيهم الإنذار.

[٦٠] وبعد ذكر جملة من أحوال الأمم السالفة وكيف أن الله عذبهم لما تمردوا عن الأوامر يرجع السياق إلى الرسول وحاله مع قومه وكيفية تبليغهم (قُلِ) يا رسول الله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الذي وفقنا للإيمان ، ونجاة المؤمنين وهلاك الكافرين (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) أي تحية

١١٥

آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ

____________________________________

على الرسل المتقدمين الذين اصطفاهم الله سبحانه واختارهم لوحيه ، ومعنى «السلام» أن يكونوا سالمين في تلك الدار من الأخطار ، وإن غلب معنى التحية عليه ، عند العرف (آللهُ خَيْرٌ) هنا همزتان ، أحدهما للاستفهام ، والثانية همزة «أل» وإذا اجتمعت همزتان جاز أن تخفف أحدهما في صورة مدّ ، أي : هل الله خير (أَمَّا يُشْرِكُونَ) أي الأصنام التي يشركونها بالله تعالى؟ وقد تقدم أن الله كيف نجى المؤمنين ، وأهلك من كان يعبد الأصنام ، وعلى هذا فالجواب ـ الطبيعي ـ بعد تلك المشاهدات : أنّ الله خير.

[٦١](أَمَّنْ) أصله «أم» «من» فأدغمت إحدى الميمين في الثانية (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي ما تشركون خير أم خالق السماوات والأرض (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ) أي جهة العلو (ماءً) وهو المطر (فَأَنْبَتْنا بِهِ) بذلك الماء ، وهذا من الالتفات من الغيبة إلى التكلم وهو فن من فنون البلاغة (حَدائِقَ) جمع حديقة ، وهي مجتمع الورود والأشجار (ذاتَ بَهْجَةٍ) أي منظر حسن يبتهج به من رآه ويسر ويفرح (ما كانَ لَكُمْ) أيها الناس (أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي أنتم لا تتمكنون من إنبات أشجارها ، لو لا أن الله أنبتها فلا يزعم زاعم أنه هو الذي ينبت حيث يحرث ويكدّ ويسقي ، إنه سبب ضعيف ، وإنما الذي ينبت هو الله سبحانه (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي هل هنا لك في الكون إله آخر مع الله سبحانه؟ وهذا استفهام إنكاري ، يأتي بعد الإلفات إلى صنع الله

١١٦

بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ

____________________________________

سبحانه (بَلْ) ليس معه إله وإنما هؤلاء المشركون (هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) يجعلون غير الله عدلا لله تعالى.

[٦٢](أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) أي مستقرا لا تميل ولا تضطرب وتصلح للسكنى لما هيّئ فيها من الوسائل (وَجَعَلَ خِلالَها) أي وسطها وفي مسالكها (أَنْهاراً) من الماء تجري لسقي الأرض والإنسان والحيوان (وَجَعَلَ لَها) أي للأرض (رَواسِيَ) جمع راسية ، وهي الجبال التي حفظت الأرض من التفكك والاضطراب ، فإن الأرض كرة تسبح في الجو ، ولو لا الجبال التي هي كالأوتاد الحافظة للخشبات المتعددة من التفكك ، لتفككت الأرض وانتشرت في الفضاء (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) أي بحر الملح والمراد به بحار الدنيا ، وبحر العذب المراد به المياه الجارية العذبة (حاجِزاً) أي مانعا من شقوق الأرض حتى لا يختلط بعضها ببعض ـ كما تقدم في سورة الفرقان ـ (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ)؟ صنع ذلك أو بعض ذلك ، أم هو الله وحده؟ فلما ذا تشركون؟ (بَلْ) ليس إله مع الله وإنما (أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر الناس (لا يَعْلَمُونَ) إنه ليس إله مع الله ولذا يشركون به.

[٦٣](أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) اضطرّ فعل متعد ، يقال اضطر زيد خالدا ، فخالد مضطر بصيغة المفعول (إِذا دَعاهُ) وإنما جيء باسم «المضطر»

١١٧

وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

____________________________________

مع إنه سبحانه يجيب كل من دعاه ، لأن إجابة المضطر أوقع وألزم حيث إنه لا علاج له ولا ملجأ يلجأ إليه ، والمراد إجابة دعائه وكشف ضره وحاجته (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) النازل بالشخص من فقر ومرض وسجن وغيرها ، ثم إما المراد كشف سوء المضطر ، فيكون كعطف بيان ، أو كشف مطلق الأسواء ، فيكون تأسيسا لا تأكيدا ، وهنا نكتة لا بأس بالتنبيه عليها ، وهي أن بعض الأخيار ، سلكوا هذه الجملة من الآية سلك الختوم تفؤلا ، واتباعا لما ورد من «خذ القرآن ما شئت لما شئت» فقراءتها من باب التعريض ، لا من باب الطلب ، حتى يقال ، إنها عدل لما يشركون ، ولا دعائية لها ، فليست مثل (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) (١) فهذا من قبيل ما لو قال أحد الكرماء : أنا الذي أطعم الجائع ، فجاء جائع يريد إشباعه ، فإنه يقول : «أنا الذي أطعم الجائع» يريد التعريض به حيث إن هذا الكلام صدر منه (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي تخلفون آباءكم في ديارهم وأعمالهم ، فمن غير الله سبحانه يهلك قرنا ويخلف قرنا آخر مكانه ، ويفني جيلا ويجعل جيلا آخر خلفا له؟ (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يفعل ذلك؟ كلا! ولكن (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي قليل تذكركم واتعاظكم ، لأنكم لا تتفكرون ولا تعتبرون ، و «ما» زائدة ، لتأكيد القلة.

[٦٤](أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ) أي يرشدكم إلى طرقكم ومقاصدكم (فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) حيث تقطعون الصحراء أو البحار في الليالي المظلمة. إنه

__________________

(١) البقرة : ٢٠٢.

١١٨

وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤)

____________________________________

هو الله الذي يهديكم بما جعل للطرق من علائم بالكواكب ، والقمر ، ومهب الرياح ، ومعالم الجبال ، وغيرها ، وإنما خصّ الظلمات بالذكر ، مع أن الهادي في النهار هو الله أيضا ، لشدة الحاجة في الليل المظلم إلى الهادي ، وهناك يدرك الإنسان حاجته إلى الاهتداء أكثر من إدراكه في النهار (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ) الجامعة للسحاب والمثيرة له من أطراف السماء (بُشْراً) أي لأجل البشارة (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي أمام رحمته التي هي المطر؟ (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يفعل ذلك بالاستقلال أو بالإشراك؟ كلا! (تَعالَى اللهُ) أي أن الله أعلى ـ وليس في الفعل معنى الماضوية ، وإنما يفيد معنى المادة فقط ـ (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عن الأصنام التي يشركونها بالله ، أو تنزّه عن شركهم ، على أن «ما» مصدرية.

[٦٥](أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي ينشأ الخلق ويوجده من كتم العدم (ثُمَ) يميته ثم (يُعِيدُهُ) حيّا يوم القيامة للحساب والجزاء؟ وقسم من الكفار وإن لم يكونوا يعترفون بالإعادة ، لكن قسما آخر منهم كاليهود والنصارى يعترفون بذلك مع أنهم مشركون (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بإدرار المطر (وَالْأَرْضِ) بإنبات النبات؟ (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يفعل ذلك؟ (قُلْ) يا رسول الله للمشركين (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي هاتوا حجتكم على الشرك ، وإن هناك إلها مع الله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

١١٩

قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ

____________________________________

في دعواكم تعدد الآلهة وإن الأصنام شريكة لله سبحانه في الألوهية.

[٦٦](قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء ، إن كان هناك شريك مع الله لزم أن يعلم الغيب إذ لا يكون الإله جاهلا ، لكن (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ) من الملائكة (وَالْأَرْضِ) من البشر (الْغَيْبَ) الذي غاب عن الحواس (إِلَّا اللهُ) وحده ، وإنما يعلم الأنبياء والأئمة ومن إليهم بعض الغيب بإرادة الله وتعليم الله لهم ، كما قال سبحانه (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (١) ولا منافاة بين الأمرين بأن لا يعلم الغيب أحد إلا الله ، وأن يعلم غير الله الغيب بدلالة الله ، أو يقال : إن المراد بالغيب في الآية مطلق الغيب ـ كما هو مقتضى كون «الغيب» جنسا محلى باللام ـ وهذا لا يعلمه أحد (وَما يَشْعُرُونَ) هذه المعبودات (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أيّ وقت بعثهم ، فكيف يمكن أن يكون إلها ما لا يعلم الغيب ، وما لا يعلم وقت بعثه؟

[٦٧] وبمناسبة الحديث عن عدم شعور المعبودات بالآخرة ووقت بعثها يأتي الكلام حول إنكار الكفار لها ، كما ينكرون التوحيد ، والرسالة (بَلِ) إضراب عن الكلام الماضي الذي كان يدور حول الشرك وتعدد الآلهة إلى كلام مستأنف حول القيامة (ادَّارَكَ) أصله «تدارك» من باب «التفاعل» أدغمت «التاء» في «الدال» وجيء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن ، والتدارك هو متابعة الشيء للشيء ، يقال : تدارك

__________________

(١) الجن : ٢٧ و ٢٨.

١٢٠