التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

سورة آل عمران

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الم (١))

[آل عمران : ١]

الألف الحرف الفاعل في كل اسم ، وهو بمثابة ظهور الحق بالخلق ، فلو لا الحق ما كان الخلق ، ولو لا فعله ما فعل الخلق ، فله الأمر من قبل ومن بعد ، ولما سئل البسطامي عن اسم الله الأعظم قال : هو لا إله إلا الله ، ثم لا تكون أنت هناك.

واللام انبساط الوجود بعد دحي أرض الانفعال لاستقبال الأمر الإلهي ، فالأمر بين الألف واللام ، وهو تحقق فعل كن المستمر في كل ساعة ودقيقة وهنيهة.

والميم التسليم بهذا الفعل الإلهي الوجودي الجامع الذي ظهر الوجود منه وبه وله ، وثمت لطيفة في كون سورة آل عمران تلي سورة البقرة ، فالأولى نزلت في النفس التي هي وجه الله الظاهر ومرآته وصورته كما جاء في الحديث : (خلق الله آدم على صورته) ، فسورة البقرة للاستقبال ، وسورة آل عمران البدء بممارسة الفعل في النفس وبالنفس ، والأمر الإلهي بين ظاهر وباطن ، وهذا السر هو ما أشارت إليه الحروف الثلاثة التي افتتحت بها سورة البقرة ، ثم سورة آل عمران ، فالله سبحانه فض ذاته عن طريق ممارسة الحروف الإلهية فعلها ، أي قواها ، أي معقولاتها ...

٢ ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢))

[آل عمران : ٢]

كل إله صورة ، وتخيلك شيئا هو تخيل إله ، والأصل ، كل الأصل ، المعقولات الإلهية التي لما خرجت إلى حيز الوجود كانت صورا ، ولحكمة فرق سبحانه الناس شيعا ، وجعل لكل منهم شرعة ومنهاجا ، إذ لو لا هذا الخلاف والاختلاف ما تميزت الصور ، ولا ظهرت ، ولا مارست قواها ... فالآلهة كثر باعتبار الصور ، وباعتبار أن العابدين كثر أيضا كثرة الصور .. لهذا السبب كانت نشأة الأديان السماوية وغير السماوية ، كما نشأت عبادة الأوثان والأفلاك وغير ذلك ، والمصور كله واحد باعتبار الحق الموحي ، حاشاه سبحانه أن يصدر خاطر إلا من القبضة الجبروتية الموحية.

ولقد فصل الأمر بين الذات والأسماء ، والصفات ، واقتضى التفصيل وجود اسم الإله باعتبار الصلة الواصلة بين الإله الذي يعبد والمألوه العابد ، فشطرا الحق والخلق اقتضيا وجود وجه عابد ووجه معبود ، ولهذا كثرت العبادات والآلهة المعبودة.

٦١

هذا على الوجه الظاهر ، أما الوجه الباطن فهو رد الصور إلى رب الصور ومخرجها من العدم إلى الوجود ، وعند التحقق بالمكاشفة يرى أن ما يرى من عالم الظواهر ذي الصور يقوم بالعين الواحدة أم الصور ، فهي أم الآلهة ، وهي ما تدعى أم الكتاب ، فعند الوصول إلى هذا الأفق يرى جبريل وقد سد الأفق ، أي يمتنع أن يوجد موجود إلا من قبل الموجد المصور.

فديانة التوحيد ترد الكثرة إلى الوحدة ، وترد الآلهة إلى الله ، ولهذا قال سبحانه : (لا إِلهَ ،) أي لا معبود ، إلا الله.

والحياة الصفة الأولى من الصفات الإلهية السبع ، فقبل أن يكون الله عليما مريدا قادرا سميعا بصيرا هو حي ، وترد كل مظاهر الحياة إلى هذه القاعدة الحية التي أوجدت كل كائن حي ، إذ لا بد من استناد إلى مصدر حي يقوم به كل حي ، وإلا فمن أين جاءت الحياة أصلا؟

وواضح أن المخلوق لم يخلق نفسه ، وواضح أن الطبيعة منفعلة ، فلا تكون خالقة نفسها ، ولا تكون حية بذاتها لأنها في الأساس عدم ، إذ ما أصل الحياة؟ ومن أين جاءت المادة الحية؟ وإذا وصلت الدراسات إلى اكتشاف أن الوجود المادي قد وجد من سديم أول ، فمن أين جاء هذا السديم الأول؟

والقيوم القائم بالأمر إذ أن الحياة تقتضي استمرارا لها وحفاظا على هذا الاستمرار ، ففي كل ساعة ونفس هناك ما يمسك الحياة لتبقى حية ، وأثبت العلم هذا بدوران الكهارب السالبة حول الكهارب الموجبة بفعل جاذبية غامضة لم يعرف لها أصل ، فهذا الجذب هو سر اتضاحه سبحانه بأنه قيوم ، شد السالب إلى الموجب ، وربط المنفعل بالفاعل ، وكلاهما وجه إلهي هو المسمى القيوم.

٣ ـ (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣))

[آل عمران : ٣]

القرآن والتوراة والإنجيل الكتب السماوية الثلاثة الداعية إلى التوحيد والتوراة أقدمها باعتبار كشف الفعل ، إذ في التوراة الدعوة إلى الإيمان بإله واحد فعال قهار لا شريك له ، ولقد أنزلت التوراة في زمن فرعون الذي ادعى الألوهية ، وفرعون رمز الأنا أو النفس الأمارة ، وكان ما كان في لقاء بين موسى وفرعون سنأتي على ذكره في حينه ، والمهم القول إن موسى دعا إلى عبادة الواحد صاحب الفعل لا الأنا.

والمسألة قديمة إذ أن ادعاء الربوبية هذا متأصل في الإنسان متجذر ، ومعظم الناس محجوبون ولا يعلمون ، يعلمون ظاهرا أنهم الفاعلون ، ويجهلون كيف يحركون ويتحركون ، وما سبب قدرتهم على التحريك ، والصوفية يقولون قولك يا أنا أعظم حجاب.

٦٢

أما الإنجيل فهو دعوة إلى توحيد الصفات ، وهو يلي توحيد الفعل ، وشعاره المحبة ، وتحقيق هذا الشعار قول عيسى عليه‌السلام : (أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم) ، فعيسى ابن مريم بعث إلى بني إسرائيل لإتمام ما بدأه موسى ، إذ بعد أن ينخلع الموحد من فعله ، ويعيده إلى الله ، ينخلع من ثم من صفته ، ويردها إلى الله أيضا ، ولما كانت الصفات متقابلة أو متفقة حينا ومتضادة حينا آخر كان من الضروري رد ثنوية الفرس القدامى إلى واحدية تجمع الخير والشر.

ويأتي توحيد الذات بعد توحيد الصفات ، وهذا التوحيد هو كشف الذات ، أو كشف الهوية القديمة الأزلية ، وتحقق هذا بنزول القرآن ، الذي هو رمز الذات الجامعة ، على النبي محمد ، وأنزله جبريل الذات المقابلة للذات الإلهية ، والتي سماها الصوفيون الحقيقة المحمدية ، وسمتها الفلاسفة القدامى العقل الفعال فهذه الذات المتعينة تقابل الذات المطلقة الصرفة القديمة المجردة من التعينات ، أي من كل ما ينسب إليها من صفات وأفعال ، ولما كانت الأفعال ، والصفات تقتضي التكثر ، وكانت الذات الصرفة منزهة عن التكثر ، خلق الله الذات المتعينة ، أو العقل الأول ، ليبدأ التكثر والانتشار.

٤ ـ (مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤))

[آل عمران : ٤]

الفرقان تفرق الذات المتكثرة المقابلة للذات الصرفة ، وتفرقها يقع عن طريق الأسماء والصفات ، وضرب لهذا مثل الشمس وأشعتها ، ولقد مثل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحقيقة بشطريها القرآن والفرقان ، فكان روحه القرآن ، وكان تعينه الفرقان ، ولهذا قال : (أنزل علي القرآن دفعة واحدة) ، أو جملة واحدة ، ثم قال له الله بعد ذلك : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) [الإسراء : ١٠٦] ، فالفرقان تفصيل القرآن ، أي بدء ممارسة الذات المتكثرة نشاطها وقواها عن طريق التعينات سواء على مستوى الجمع أو على مستوى التفصيل.

٥ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥))

[آل عمران : ٥]

كونه سبحانه عين الأشياء يجعله عليما بما في أرض المادة وسماء الروح ، والحقيقة أن هذه الأشياء موجودة به ، فلولاه ما كانت ، واستمرار قيامها به يجعلها ملكا له ، لا وجود لها بذاتها ، ولا لها من أمرها شيء.

٦ ـ (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))

[آل عمران : ٦]

الرحم الطبيعة ، والتصوير الطبع ، والأصل طبع للعالم الروحاني في العالم العياني ، إذ أن

٦٣

كل ما تقع عليه العين هو صورة كما أسلفنا القول ، والله سبحانه هو المصور.

وقوله : (كَيْفَ يَشاءُ) يعني علاقة المشيئة بما هو موجود ، فلا مشيئة لموجود إلا بالمشيئة الإلهية ظاهرا وباطنا ، وقرنت الآية بقوله سبحانه : (هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ،) والعزة المنعة وكون الأشياء في القبضة لا تغلب بكسر اللام ولا تغلب بفتح اللام ، وأما الحكمة فلأن كل مخلوق خلق لقصد وأداء دور معين وتحقيق هدف محدد ، ولهذا قال الإمام الغزالي : ليس في الإمكان أبدع مما كان.

٧ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧))

[آل عمران : ٧]

هذه الآية مفتاح القرآن ، ومن علم مدخلها ومخرجها ، أي فهمها ، علم مفاتيحها ، ذلك لأنه يفرق عندئذ بين الآيات المحكمات والآيات المتشابهات كما فعل الإمام الغزالي في كتابه «جواهر القرآن» ، لأن الإمام عند ما ذاق وكشف علم الأمر داخله وخارجه.

ولحكمة جعل سبحانه من القرآن الآيات المحكمات والمتشابهات ، فالبداية عروج من أسفل سافلين إلى عليين ، والمعراج سلم ذو درجات ، ولكل درجة يقف عليها ، ولهذا اقتضت الحكمة أن تخاطب النفس في رحلتها المعراجية حسب الحال الذي تكون فيه ، فهي حرة المشيئة ، إذا كانت في التقلب والتلوين ، وهي غير حرة إن أتاها اليقين ، وثمة درجات للعبودة تبدأ من خطابه سبحانه الناس بقوله : (يا عِبادِيَ) [العنكبوت : ٥٦] ، ثم ينتقل إلى التفريد فيخاطب المفردين قائلا : (يا عبدي) ، وهذه النقلة من الحرية إلى العبودية تقتضي أن يكون في كتاب الله ما يوافق الحالين ويؤيد الوجهتين ، ولهذا وجد الناس ، عارجين كانوا أم هابطين ، في كتاب الله ما يؤيدهم في جميع الأحوال ، ولو شاء الله أن ينزل مما عنده من أم الكتاب لفعل ، فظلت أعناق العباد له خاضعين ، ولكنه شاء أن يكون خلاف ليميز الخبيث من الطيب ، ولتفعل الأسماء فعلها ، وكذلك الصفات.

والوصول إلى اليقين هو بدء تعليم الله عبده العلم اللدني الذي هو علم التوحيد ، وجوهره معرفة الآيات المحكمات ، وما رفعت الصوفية القواعد من بيت علومهم إلا على أساس الإحاطة بعلم التأويل ، ولهذا قال سبحانه في هؤلاء إنهم راسخون في العلم ، يقولون إن كل ما جاء في كتاب الله من محكم ومتشابه هو من عند الله لاقتضاء الحكمة والتعليم.

٦٤

٨ ـ (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨))

[آل عمران : ٨]

الزيغ بعد الهوى العودة إلى سيطرة الخواطر عل القلب ، ومنها الخاطر الشيطاني ، والمهدي محفوظ من إلقاء هذا الخاطر بعد أن كشف الحق له سره فسلم منه.

٩ ـ (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))

[آل عمران : ٩]

اليوم الجامع العين الجامعة ، ومن هذه العين تشع الأسماء والصفات ، فالمعنى أن الكل في القبضة ، والكل مجموعون وإن بدوا متفرقين.

١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠))

[آل عمران : ١٠]

لا شيء يغني الإنسان إذا كفر ، إذ الكافر محجوب ، والمحجوب محجوب عن الرحمة الرحيمية ، فهو في كفره تائه في صحراء لا ماء فيها ولا شجر ، وكون الكافرين وقود النار يعني أن حركة الكافر هي نشاط النار نفسها ، إذ أن الحركة تتم عن طريق استماع الخواطر ، فيتبع الكافر الخاطر المضل فيبقى بعيدا عن ربه.

١١ ـ (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١))

[آل عمران : ١١]

آل فرعون رمز لأصحاب النفس الأمارة ، فكل من توسوس له نفسه ، ويستمع لها ، ولا يكون له نصيب من الهدى أو النور فهو مثل آل فرعون ، ولقد ادعى فرعون الربوبية ، وأنكر أنه عبد لله ، مثلما أنكر وجود الله.

١٢ ـ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢))

[آل عمران : ١٢]

تتم الغلبة الحقانية عن طريق الأسماء ، فالاسم الخافض والاسم الضار والاسم المنتقم وغيرها الأسماء القاهرة تفعل فعلها في المظاهر فتحشرها وتسوقها إلى جهنم البعد ، وتبقيها في قبضة الذل أبدا.

١٣ ـ (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))

[آل عمران : ١٣]

٦٥

الفئة التي تقاتل في سبيل الله مثل القلب في توجهه إلى النور المشع عن الروح ، والفئة الكافرة ، مثل القلب وهو في أسر النفس الأمارة ، وتقاتلهما حق مفروض مثل قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة : ٢٥١] ، ورؤية الكافرين المؤمنين مثليهم رأي العين ناجم عن كون المؤمنين يأخذون عن الروح ما يثبتهم في القتال وذلك بواسطة ما يقذف في القلب من مدد الخاطر الإلهي والخاطر الملكي ، فالمؤمن قوي والكافر ضعيف ، لأن الأول يأخذ من النور ، والثاني لا يأخذ إلا من نفسه ، وأولو الأبصار من تفتحت عين بصيرتهم فعلموا علم الخواطر ، وهو علم عزيز كان سيده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم الإمام الغزالي الذي فصل القول فيه في باب عجائب القلب في كتابه «الإحياء».

١٤ ـ (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤))

[آل عمران : ١٤]

حب الشهوات توجه القلب إلى النفس ، وما تزينه له من التعلق بزينة الحياة الدنيا وطلب ما فيها ، والخيل المسومة إشارة إلى ما يركب القلب من خواطر ، والأنعام إشارة إلى العلوم المحصلة عن طريق الفكر والحواس إذ يرتبط وجود الأنعام بالنتاج من اللبن والصوف واللحوم وكلها داخلة في باب العلوم الظاهرية ، ولهذا تبع الأنعام ورود الحرث ، أي الزرع ، ووصف سبحانه هذا كله بأنه متاع الحياة الدنيا دون الآخرة.

١٥ ـ (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥))

[آل عمران : ١٥]

الجنات جنات الروح وهي عطايا القلب المنور بنور ربه ، والأنهار العلوم اللدنية النازلة من سماء الغيب على مرآة القلب ، والأزواج المطهرة ظهور سر الأسماء الحسنى ، فتبرز المعقولات وفق نمط وترتيب وتشكيل يمكن المجتبين من فهم المعرفة الإلهية ، والرضوان الرضا وهو داخل في مقامات الصوفية ، وخلاصة الرضا عن الله عزوجل معرفة أن كل ما خلق الله جميل ، وأنه ما خلق شيئا إلا لحكمة.

والبصير صفة لله ، يعلم بها عبده عن طريق إحاطته بعينه ، إذ كل عين إنسانية هي عين إلهية للظهور ، فكون الله سبحانه في إنسان يجعله سبحانه بصيرا بالعبد من خلال نعت الإنسان نفسه.

١٦ ـ (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦))

[آل عمران : ١٦]

٦٦

قالت الصوفية : وجودك ذنب لا يقاس به ذنب ، فالذنب دعوى الأنية ، والإيمان بملك الأنية دون ردها إلى الله وكونها وجه الله ، ولهذا كانت تتمة الآية الوقاية من عذاب النار ، أي من عذاب الظهور.

١٧ ـ (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧))

[آل عمران : ١٧]

الاستغفار بالأسحار التوجه إلى الله قبيل طلوع فجر اليقين والوقت كله مخصص للدعاء والإخلاص في الدعاء.

١٨ ـ (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

[آل عمران : ١٨]

شهود الله أنه لا إله إلا هو إحاطته سبحانه بالأسماء والصفات أي العيون ، ولا وجود إلا وجوده ، فكل له داخرون ، والشهادة الإلهية بمثابة القبضة الجامعة والإحاطة ، أما شهود الملائكة فشهود المعقولات لذاتها ولخالقها ، فالمعقولات البرزخ الفاصل بين المادة والغيب ، فهي جسر بين العالمين ، ولهذا كانت الملائكة شفافين مجردين ، والمعقول هو بين منزلتين ، فالخير لا يكون خيرا إلا باستناده إلى أصل مجرد نابع منه ، ولولاه ما كان هو خيرا أصلا ثم يتبع وجود هذا الخلق الشفاف خلق كثيف ليظهر الشفاف به ، وهكذا فالمعقول مشاهد للكثافة من جهة ، وللشفافية من جهة أخرى ، وأولو العلم أصحاب اليقين والكشف الذين يطالعون الغيب من خلال ارتسام حقائق المعقولات في صور لطيفة يرونها في اليقظة والمنام وشهود هذه الحقائق يؤدي بالتالي إلى شهود الله الذي لا يرى من دون حجاب المعقولات ، فهو هي وهي هو ، وهو ليس هي ، وهي ليست هي ، بسبب الإشعاع والصدور الدائم ، والقيام بالقسط إعطاء المعقولات حقها من التجريد وما فيه من قيم جمالية وحقية مثل كونه سبحانه الحكيم العليم السميع البصير.

١٩ ـ (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩))

[آل عمران : ١٩]

الإسلام الدين الجامع ، ولهذا كان الجامع رمز التوحيد ومكان العبادة في الإسلام ، والدين الجامع لوحة المعقولات الموازية للعالم الحسي من دون ملاصقة ولا مفارقة ، فالإسلام بهذا المعنى الجمع والعبادة الحقة حتى وإن توجه القلب يمينا وشمالا.

وفصلت الصوفية القول في كيفية كون الله معبودا في كل صورة معبود من خلال صدور الخواطر من العين الجامعة وتوجهها إلى المعبود ، والاختلاف بين الذين أوتوا الكتاب

٦٧

تحريف الكلام عن مواضعه ، إذ الأصل دين التوحيد ، وهو موجود في كل دين دعا إليه نبي من الأنبياء منذ عهد آدم ، إلا أن الناس تعلقوا بالمظاهر ونسوا الأصل الظاهر ، ونظروا إلى الكثرة وغفلوا عن الوحدة الكائنة وراء الكثرة.

٢٠ ، ٢٤ ـ (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤))

[آل عمران : ٢٠ ، ٢٤]

إسلام الوجه لله التسليم بوجود العين الجامعة لكل الجزئيات وهذا التسليم هو الهدى ، وعدم التسليم هو التولي عن الله إلى العالم ، وقوله : (بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) [آل عمران : ١٥] كونه سبحانه يعلم كل عين بما هي عليه وكونها صفة ومحل ظهور.

٢٥ ـ (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))

[آل عمران : ٢٥]

اليوم هو اليوم الجامع ، وهو يوم دائم خالد خارج عن حدود الزمان والمكان ، وصفه سبحانه بقوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج : ٤].

وإيفاء النفس ما كسبت إعطاء كل ذي عين حقها من الصفة والمعقول إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

٢٦ ـ (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦))

[آل عمران : ٢٦]

الملك الوصول إلى عين اليقين ، والشرب من هذه العين ، والشارب هو الملك على الحقيقة ، وبه يعتز صاحبه لأنه يعلم من الله ما لا يعلمه أحد ، وما لا يراه أحد ، قال يعقوب لبنيه : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٦٢] ، هذا من وجهة نظر الباطن ، أما من وجهة نظر الظاهر فالملك ممثل اسمه المالك ، أو اسمه القوي ، أو اسمه القادر ، وكل هذه الأسماء تدخل في باب العزة ، فللاسم وجهان وجه مالك ، ووجه مملوك ، فإن كانت العزة وجه لاسم فالذل هو الوجه المقابل ، ويمثله تعين خارجي لكلا الوجهين ، فهذا عزيز في

٦٨

الناس والله المعز ، وذاك ذليل والله المذل ، وأنشد الشافعي :

ما شئت كان وإن لم أشأ

وما شئت إن لم تشأ لم يكن

خلقت العباد على ما علمت

ففي العلم يجري الفتى والمسن

على ذا مننت وهذا خذلت

وهذا أعنت وذا لم تعن

فمنهم شقي ومنهم سعيد

ومنهم قبيح ، ومنهم حسن

٢٧ ـ (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧))

[آل عمران : ٢٧]

الليل الروح والنهار المادة ، ويجوز قلب الآية فيكون النهار هو الروح والليل عالم المادة نظرا لأن هذا العالم كثيف ، والإيلاج دخول الروح في المادة وفعله فيها ، فلا روح من غير مادة ، ولا مادة من غير روح ، وكلاهما يمثلان اسمي الله الظاهر والباطن ، فلا موجود سواه تنزه عن الحلول والكيف والاتصال والانفصال ، قال ابن عربي : العبد حق مشهود في خلق متوهم ، فالخلق معقول ، والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود ، وما عدا هذين الصنفين فالحق عندهم معقول والخلق مشهود.

وإخراج الحي من الميت خروجه سبحانه من ميت الأحياء ، وهو ما يرمز إليه بالولادة الباطنة المعنوية لكونه سبحانه باطن كل حي ، فهو الحي الخارج من المادة الميتة من دونه ، وخروج الميت من الحي تشكل بنية المادة من الروح ، وقد ثبت هذا علميا بكون الوجود المادي قد انبثق من انفجار سديم قديم ، قال الجرجاني في تعريفاته : التأويل صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه موافقا بالكتاب والسنة مثل قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) [الأنعام : ٩٥] إن أراد إخراج الطير من البيض كان تفسيرا ، وإن أراد إخراج المؤمن من الكافر ، أو العالم من الجاهل كان تأويلا ، ويقول في المؤول ما ترجح من المشترك بعض وجوهه بغالب الرأي ، لأنك متى تأملت موضع اللفظ وصرفت اللفظ عما يحتمله من الوجوه إلى شيء معين بنوع رأي فقد أولته إليه.

والرزق رزقان الرزق الروحاني وهو خاص بالأنبياء والورثة والعلماء ، وهو العلم الإلهي خص به سبحانه أكابر الناس ، والرزق الثاني الرزق المادي ، وهو موضوع لحكمة وصفها سبحانه قائلا : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) [الزّخرف : ٣٢] ، فالحياة وعمارتها تقتضيان وجود رئيس ومرؤوس ، وكبير وصغير ، وغني وفقير.

٦٩

٢٨ ـ (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨))

[آل عمران : ٢٨]

الخطاب موجه إلى تعينات شطر الأسماء المزدوجة كالضار النافع ، والرافع الخافض ، وعلى صاحب الاسم دفع الشطر الثاني من الاسم لأن من التضاد إظهارا للقيمة والمعنى ، فبوجود الضر تبرز قيمة النفع ، وفي عالم الطبيعة يتحقق التوازن البيئي عن طريق الصراع ، وكذلك في مجال الحياة الإنسانية ، فلا بد من دفع الناس بعضهم بعضا إظهارا للقيم وإبرازا للمعقولات.

وثمت لطيفة في قوله سبحانه : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ ،) إذ أنه سبحانه بعد أن تحدث عن الإيمان والكفر ، أورد ذكر نفسه ، لأن نفسه التي هي مشع الأنوار ومسقطها جامعة للضدين ، وهذه حقيقة فصلت الصوفية القول فيها ، وكان من أبرز من تحدث عنها العارف بالله المحقق عبد الكريم الجيلي في كتابه «الإنسان الكامل» حيث أبان كيف تكون النفس الإلهية ، التي هي الإنسان الكامل ، جامعة لكل ما يظهر على مسرح الوجود.

وأول السلوك المجاهدة ، وآخرة التحذير من النفس الإلهية ، وهذا وارد في مجال المجاهدة أيضا ، فعند بدء الجهاد تكون النفس صاحبة أنية ، أي أن لصاحبها المجاهد وجودا ، ووجوده قوله أنا وأنا ... ومن دون هذا الوجود الجزئي لا يمكن تحقق الجهاد الذي هو دفع للجزئيات سواء على صعيد الإنسان أو على صعيد الحيوان ، وعند الوصول إلى أفق النفس الإلهية لا بد من اتخاذ الحذر ، إذ أن على المجاهد أن يضحي بنفسه الجزئية في سبيل خلود النفس الكلية كما ضرب لهذا مثل هو تضحية إبراهيم بولده ، وافتدى بكبش أي بالنفس الحيوانية أو الروح الحيواني ، والذي هو سر النفس الجزئية ، وعند ما يقبل السالك المجاهد التضحية بنفسه ، أي يقدمها إلى الله صاحبها ، يرد الله عليه وجوده بعد أن يكون قد أقر بأن ما هو له هو لله ، وأن وجوده الجزئي هو وجود إلهي هو عليه ضيف ، ويكون العوض روح القدس الذي يتخلل النفس الجزئية فيبلغ المجاهد مرتبة الأولياء الكاملين.

٢٩ ـ (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩))

[آل عمران : ٢٩]

أشار الله سبحانه إلى الصدور لا إلى الرؤوس أو الأيدي ، لأن الحقيقة هي في الصدر ، والصدر من الصدور ، والأصل إشعاع الأسماء أو الصفات عن شمس الذات ، وهو إشعاع

٧٠

إلهي ، والله فوقه قاهر ، ولذلك قال سبحانه إن صاحب الاسم ، أي تعينه ، معلوم لربه سواء أبدى ما في صدره أو أخفاه.

٣٠ ـ (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠))

[آل عمران : ٣٠]

استيفاء النفس الجزئية حظها من الاسم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وعند انكشاف الأمر يجد المكاشف أن مالديه موافق لصاحب العين الذي هو رب الأسماء ، كما يجد حقيقة أمره وأنه لربه ذاتا واسما وصفة ، فعمل السوء قولك يا أنا ، والأمد البعيد الذي يود صاحب الأنية أن يكون بينه وبين ادعائه هو تبرؤه مما هو فيه ، ولهذا تبع هذا في الآية قوله تعالى ثانية :(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ).

٣١ ـ (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١))

[آل عمران : ٣١]

غفران الذنوب قبول رد الأنية إلى الله ، وتبري العبد من الحول والطول ، لأنه بعد رد الوجود إلى صاحب الوجود يكون الفعل التالي التبري من الاسم والصفة.

٣٢ ـ (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢))

[آل عمران : ٣٢]

الله الذات الصرفة ، والرسول الذات المتعينة أي النفس الكلية ، وإطاعتهما حق ، وإلا فالإنسان محجوب ولهذا سمي كافرا.

٣٤ ـ (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤))

[آل عمران : ٣٤]

قلنا : آدم الجمعية الأسمائية التي هي النفس الكلية المنشقة من العقل الأول ، ونوح هو صاحب الأسماء المزدوجة ، ولهذا كان مع نوح في الفلك من كل زوجين اثنان ، وآل إبراهيم وآل عمران العائلة المقدسة ، وهي هنا الوحدة خلال التكثر ، وتكثرها في عالم العيان كائن من كوى الحواس الباطنة والظاهرة ، فالعائلة رمز تلك الحواس ، واصطفاء العائلة تخصيص الحواس بشرف التكليف الإلهي وحمل الرسالة الإلهية التي هي العلم ، فالعائلة هنا بمثابة النوع ، وأفرادها أفراد النوع ، والنوع كله ممثل في جسم كبير ذي أعضاء وحواس ، وعلى هذا الجسم الكلي تحمل الأسماء والصفات ، وإليه ترجع الإشارات والرموز ، والناس دود على عود هو هذا النوع عائم في يم الوجود المطلق.

٧١

٣٥ ، ٣٦ ـ (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦))

[آل عمران : ٣٥ ، ٣٦]

امرأة عمران النفس الكلية عند المخاض ، والأنثى التي وضعتها النفس الجزئية التي هي مظهر للنفس الكلية ، وقوله : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) يعني كون النفس في الحالين الكلي والجزئي منفعلة سالبة قابلة لا فاعلة موجبة كالذكر ، ومريم النفس العذراء بعد خلاصها من ظلمات رحم الطبيعة وشوائبها ، وإعاذتها من الشيطان وصول النفس الجزئية إلى شاطئ السّلام حيث النجاة من خواطر السوء والوسوسة.

٣٧ ـ (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧))

[آل عمران : ٣٧]

الرب الذي تقبل مريم الاسم الذي يربى النفس الجزئية ، إذ الرب من المربي ، ومربي كل نفس الصوت الجواني أو الوحي كقوله سبحانه : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) [الشّورى : ٥١] ، أو الإلهام كقوله سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [الشمس : ٧ ، ٨] ، والإنبات الحسن كون النفس في حال إلهام الخاطر الملكي أو الضمير ، فمريم محفوظة من إلقاء الشيطان ، وزكريا العقل بشطريه النظري والعملي ، فالنفس بين عالمين العقل الذي هو القوة الفكرية في الدماغ من جهة ، والإلهام الجواني الذي هو الحدس من جهة عالم الروح.

وسؤال زكريا مريم عن رزقها سؤال الفكر النفس عن العلوم التي أنزلت عليها من الروح ، فانتقشت صورها المجردة في مرآة القلب ، بعد أن اعتكفت النفس في محراب اللانهاية ، أي دخلت الخلوة وحبس الحواس ، فالمحراب بوابة المطلق وكوة مطلقة على عوالمه ، وجواب مريم جواب النفس بأن هذه الصور المعقولة هي من عند الله ، لا من العالم الخارجي ، إذ أن الخلوة تفضي إلى الجلوة ، أي إلى جلاء صفحة النفس لترتسم فيها المعقولات ، والإشارة إلى العلم اللدني الوهبي الذي هو ضرب آخر من التعليم لا يعتمد العالم الظاهري ولا الحواس الظاهرة ، بل يتوجه إلى الباطن حيث الله المعلم الأكبر يرزق من يشاء من علومه بغير حساب قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له قفل قلبه) وقال سبحانه منبها على قيمة القلب : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤].

٧٢

٣٨ ، ٣٩ ـ (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩))

[آل عمران : ٣٨ ، ٣٩]

لما رأى زكريا الفكر بشائر هذا العلم الوهبي دعا ربه أن يكثره منه ، فنادته ملائكة المعقولات المرتسمة على شاشة مخيلته أن الله يبشره بولادة معنوية علمية جديدة هي يحيى ، ويحيى من الحياة ، فيحيى لم يخلق من عدم ، ولم يدخل في نظاق فعل كن ، بل هو روح خالدة قديمة مشعة عن خالقها أزلا وأبدا ، ووصف يحيى بأنه سيد ، أي رئيس أي معلم لا يدخل في مدرسة التعلم من المعلومات الخارجية ، كما وصف بأنه حصور لا يأتي النساء اللواتي هن من القوابل الممكنات من عالم الإمكان ، أي لا حاجة للروح في العالم الظاهري ، لأن النساء من الانفعال ، وكل ما في العالم ممكن منفعل ، والروح فاعل ، والعالم ظهوره.

٤٠ ـ (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠))

[آل عمران : ٤٠]

سؤال زكريا ربه أنى يكون له غلام سؤال الأنا الجزئية الخالق كيف تولد منها الأنا الكلية وهي جزئية مخلوقة خاضعة لحكم الزمان ، والمكان ، وهذا ما أشارت إليه الآية بالقول وقد مسني الكبر ، أي أنى للفكر الذي حصل ما حصل من العلوم عن طريق النظر في المعقولات المستخلصة من محسوسات عالم العيان أن يتابع تحصيله لعلوم هي من نوع آخر تخرج عن نطاق الزمان والمكان ، ورمزت الآية إلى هذا العجز عن التحصيل العلمي بالقول : (وامرأتي عاقر) ، أي النفس الحيوانية التي هي أصل العالم الظاهري وشاشته ... وكان جواب الحق أنه يفعل ما يشاء ، وأنه إذا شاء أن يعلم عبده علم الغيب فعل.

٤١ ـ (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١))

[آل عمران : ٤١]

الأيام الثلاثة التي أمر الفكر بألا يكلم الناس فيها إلا رمزا الإشارة إلى علم الحقيقة نفسه الذي هو علم ثقيل ، وصفه سبحانه بأنه قول ثقيل ، وهذا العلم مصون محفوظ ، لا يجوز إظهاره لكل وارد ، وإظهاره يجب أن يكون عن طريق الإشارة والرمز ، إذ أن كتاب الله رمز وإشارة كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لكل آية من آيات القرآن ظهر وبطن ، ولكل حرف حد ، ولكل حد مطلع) ، وقال القشيري : ظهره ما يفهم من ألفاظه ويسبق الذهن إليه ، وبطنه المفهومات اللازمة للمفهوم الأول ، وحده ما ينتهي عنده غاية إدراك الفهوم والنقول ، ومطلعه ما يفهم منه

٧٣

على سبيل الكشف والشهود من الإشارات الإلهية ، فالمفهوم الأول ، الذي هو الظهر ، للعوام والخواص ، والمفهومات اللازمة للمفهوم الأول الذي هو البطن ، للخواص فقط ، والحد للكاملين منهم ، والمطلع لخلاصة أخص الخواص كأكابر الأولياء ، وكذلك الحكم في الأحاديث القدسية والكلمات النبوية له ظهر وبطن وحد ومطلع.

فالحقيقة خصت بأهلها إذا ، وفي الأمثال لا تجعلوا الحكمة في غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.

٤٢ ، ٤٣ ـ (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))

[آل عمران : ٤٢ ، ٤٣]

الخطاب موجه إلى النفس وأمرها بالسجود والركوع ، وثمة لطيفة في الآية ، وهي أن الحق أمر مريم بأن تسجد ثم تركع ، ومعلوم في الصلاة أن الركوع يسبق السجود ، فالأمر هنا صدر من الجمع إلى التفصيل ، ففي الجمع كانت النفس الجزئية في أحضان النفس الكلية التي هي وجه الله وصورته ، فالنفس الجزئية بهذا المقام ساجدة لله ، أي مسلمة حقيقتها له ، مثلها مثل أمها النفس الكلية ، ويكون هذا قبل التعين ، أي قبل السيرورة الزمانية ، فإذا حدث التعين ، وبدأ سير الزمن ، كان على النفس أن تركع ، أي أن تتبع صفتها واسمها ، أي طبيعة استعدادها ، فهي بهذا داخلة في مجال الجبروت حيث عالم النسب لا عالم الذات.

٤٤ ـ (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤))

[آل عمران : ٤٤]

الأقلام الأسماء المشعة عن الحق ، وهي من الأنوار الشريفة المساعدة ، فكل خاطر صادر إلى النفس هو من فعل قلم يخط في رق النفس خاطرها ، ولهذا قلنا إن النفس مدرجة في الجبروت ، والاختصام بين الأقلام اختصام بين الأسماء التي قلنا إن صفتها التضاد والانشطار والازدواج.

٤٥ ـ (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥))

[آل عمران : ٤٥]

بعد تعيين النفس الجزئية وإتمام تحصيل العلم من عالم العيان عن طريق التجريد تأتي البشرى من عالم الذات حيث يقول الله موحيا إلى النفس إنه يبشرها بكلمة منه ، والكلمة العقل النوراني ، أي نور كالنور الذي رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إنه رأى ربه ، وقلنا الرب المربي ، فالخطة كلها تهدف إلى إتمام التعليم النفسي عن طريق التكليم الذاتي ، ولقد مثل هذا الآية بالولادة ،

٧٤

والولادة خروج شيء من شيء ، ولما كان الأمر باطنيا فالولادة خروج الحقيقة الذاتية من باطن النفس ، ورمز إليها بالمسيح أي الممسوح بالنور.

٤٦ ـ (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦))

[آل عمران : ٤٦]

اختلفوا في تكليم المسيح الناس ففي الآية هو يكلمهم في المهد وكهلا ، وللأمر لطيفة أيضا ، فالتكلم حادث في المهد باعتبار الحقيقة الذاتية تولد من باطن النفس ، فهي هنا بحكم وجودها في مهد ، أما التكليم في الكهولة فلأن الحقيقة قديمة قدم الخالق ، فمثلها مثل الكهولة التي هي وسط بين الرجولة والكبر ، ومثلها أيضا كمثل صلاة العصر التي هي صلاة وسطى بين ما يسبقها من صلوات النهار وبين ما يتبعها من صلوات الليل ، فالكهولة رمز للبرزخ بين المادة والروح.

٤٧ ـ (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧))

[آل عمران : ٤٧]

سؤال مريم وعجبها كمثل سؤال النفس عند التبشير أن كيف يتم الأمر ، أي التعليم ، والنفس قد استوفت حظها من التعلم في الحياة الحسية ، وأخذ الفكر كل ما يمكنه أخذه من المعقولات المجردة ، وإلى هذا أشير في الآية بأن مريم لم يمسسها بشر ، أي أن النفس في حال الولادة الذاتية لا تمسسها البشرية أي ماله علاقة بعالم المادة ، وهذا في حال التعلم والتكليم من العجب بل من المحال ، فالإنسان إما أن يتعلم من طريق النظر إلى الخارج ، وإما أن يتعلم عن طريق التفكر أي النظر إلى الداخل بمساعدة الحواس الباطنة كالتخيل والذاكرة ... أما أن يحصل التعلم من غير هذا الطريق ولا ذاك فمستحيل ، وكان جواب الله أنه يخلق ما يشاء ، أي يفعل ما يشاء ، وإذا قضي الأمر الإلهي بالتعلم العرفاني قيل له كن فكان.

٤٨ ـ (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨))

[آل عمران : ٤٨]

المسيح هنا إشارة إلى القلب الذي تنور بأنوار الروح ، فهو تعين مثل تعين أمه مريم ، وتعليمه تعلم القلب من قبل الروح الفاعل بالوحي والإلهام.

٤٩ ـ (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩))

[آل عمران : ٤٩]

بنو إسرائيل رمز أهل العالم الظاهري ، أو مظاهر الاسم الظاهر ، وما فعله المسيح هو

٧٥

بمثابة ما يقدمه القلب ، المنور من العلوم الإلهية ... إذ ورد أن المسيح يخلق من الطين كهيئة الطير ، فينفخ فيه فيكون طيرا ، والإشارة إلى جبلة العناصر من الهيولى وتركيبها ، وهو أمر يذكر الإنسان بخلقه من علقة ، ثم من مضغة ، ثم ينفخ فيه الروح ، فالإنسان نصفه من طين ونصفه من روح ، أو هو نار ونور ، وفي الآية أن المسيح يخلق من الطين كهيئة طير ، أي أن خلق العلقة والمضغة يكون على حال يناسب أن يكون محلا للروح ، وهذا ما عبر عنه بقوله كهيئة الطير ، إذ أن الطير رمز الروح ، وسمي فريد الدين العطار كتابه منطق الطير.

أما إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فهو بمثابة شفاء الفكر والحواس الطالبة للحقيقة ، وهديه وهديها إلى صراط الحقيقة نفسها ، والإنباء بما يأكل الناس وما يدخرون في بيوتهم إنباء بحقيقة ما حصلته الحواس من العالم الخارجي ، فالمعلومات التي تم استخلاصها وظفر بها الفكر لها أصل سابق عليها هو الروح الفاعل نفسه ، فالمعقولات ليست صور العالم الخارجي فقط ، بل لها صور ثابتة في عالم الغيب سماها أفلاطون مثلا ، وسمتها الصوفية الأعيان الثابتة.

وهناك علم للصوفية اسمه التخاطر ، وقد اشتهروا به ، وقد ضرب الله مثلا المسيح في قدرته على معرفة ما يأكله الناس ويدخرونه في بيوتهم ، وفي عهد الصحابة ، صاح أمير المؤمنين عمر وهو على المنبر يخطب الناس يا سارية الجبل الجبل ، وكان سارية يقود جيش المسلمين ، وكان أمامه جبل بالفعل ، فسمع نداء عمر ، وانتبه وقصد الجبل ، وأنقذ بهذا جيش المسلمين ، وسمع الجنيد عن شاب يتكلم على الخواطر ، وكان يصحبه ، فقال : إيش هذا الذي ذكر لي عنك؟ فقال له : إعتقد شيئا ، فقال له الجنيد : اعتقدت ، فقال الشاب : اعتقدت كذا وكذا ، فقال الجنيد : لا ، فقال فاعتقد ثانيا ، قال : اعتقدت ، فقال الشاب : اعتقدت كذا وكذا ، فقال الجنيد : لا ، قال : فاعتقد ثالثا ، قال : اعتقدت ، قال الشاب : هو كذا وكذا ، قال : لا ، فقال الشاب هذا عجب ، وأنت صدوق ، وأنا أعرف قلبي ، فقال الجنيد : صدقت في الأولى والثانية والثالثة ، لكن أردت أن أمتحنك ، هل يتغير قلبك؟

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرى أصحابه في الصلاة وهم خلفه كما يراهم أمامه ، ورأى بيت المقدس عيانا وهو بمكة ، ورأى قصور الشام وأبواب صنعاء ومدائن كسرى وهو بالمدينة يحفر الخندق ، ورأى النجاشي بالحبشة لما مات ، وهو بالمدينة فخرج إلى المصلى وصلى عليه.

هذا العلم بالغيب يسمى الفراسة ، وقال عليه‌السلام اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه يرى بنور ربه ، وقيل إن الشافعي ومحمد بن الحسن جلسا في المسجد الحرام ، فدخل رجل ، فقال محمد أتفرس أنه نجار ، فقال الشافعي أتفرس أنه حداد ، فسألاه فقال كنت حدادا وأنا اليوم

٧٦

أنجر ، وكان بين أبي زكريا النخشبي وبين امرأة سبب ، قبل توبته ، فكان يوما واقفا على رأس أبي عثمان الحيري ، فتفكر في شأنها ، فرفع أبو عثمان إليه رأسه وقال : ألا تستحي؟

وفي أخبار الصوفية قال أبو سعيد الخراز : دخلت المسجد الحرام ، فدخل فقير عليه خرقتان يسأل شيئا ، فقلت في نفسي : مثل هذا كلّ على الناس ، فنظر إلى وقال : اعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ، قال : فاستغفرت الله في سري ، فناداني وقال : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ، وقال إبراهيم الخواص : كنت في الجامع ، فأقبل شاب طيب الرائحة ، حسن الوجه ، حسن الجرمة ، فقلت لأصحابنا : يقع لي أنه يهودي ، فكلهم كره ذلك ، فخرجت وخرج الشاب ، ثم رجع إليهم ، فقال : إيش قال الشيخ في؟ فاحتشموه ، فألح عليهم ، فقالوا : قال إنك يهودي ، فجاء ، فأكب على يدي ، فأسلم ، فقلت : ما السبب؟ قال : نجد في كتابنا أن الصديق لا تخطئ فراسته؟ فقلت أمتحن المسلمين ، فتأملتهم ، فقلت : إن كان فيهم صديق ففي هذه الطائفة ، فلبست عليكم ، فلما اطلع هذا الشيخ علي ، وتفرسني ، علمت أنه صديق.

٥٠ ـ (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠))

[آل عمران : ٥٠]

التصديق بالتوراة التصديق بكشف الفعل وهو مخصص للخواطر ، فالمسيحية التي هي علم الباطن تلقي ضوءا على الخواطر وشعبها ، وتردها إلى حقيقة واحدة هي حقيقة التوحيد الجامعة للضدين الخير والشر معا.

أما ما أحل المسيح ، وهو بعض ما حرم على بني إسرائيل ، فهو وارد في علم الخواطر نفسه ، إذ في بداية مكاشفة هذا العلم فإن على صاحب القلب المنور أن يفرق ويميز بين خواطره عن طريق الجهاد ، ومن أجل الوصول إلى معرفة ضروب الخواطر فرض الله الجهاد ، وألزم المؤمنين كلمة التقوى بأن جعلهم مع خواطر النور كالخاطر الإلهي والخاطر الملكي ، وحرم عليهم أن يكونوا مع الخاطرين النفسي والشيطاني.

هذا في باب الجهاد ، ولكن بعد كشف الفعل والوصول إلى كشف الصفة فإن الدين يضع عن القلب بعض أثقاله ، ومنها التحقق من أذى خاطري الوسوسة دون إرشاده إلى أصلهما النوارني ، فيسلم القلب من هذا الأذى ، ولا يعود لخاطري الوسوسة من تأثير فيه.

٥١ ، ٥٢ ـ (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢))

[آل عمران : ٥١ ، ٥٢]

٧٧

إحساس الكفر توجه القلب إلى جهة النفس الدنيوية حيث الدنيا وزينتها ، والحواريون كلمات الله التامات التي تؤيد القلب في توجهه إلى النور.

٥٣ ـ (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣))

[آل عمران : ٥٣]

الشهداء هم الذين رأوا الله ظاهرا بكل شيء ، والشهادة الحقة أن تشهدوا أن لا إله إلا الله ، ونزيد على ذلك أن لا تشهد إلا الله من غير ذكر الآلهة ، لأن المشاهد الحقيقي يشاهد الله في الآلهة ، فالآلهة صور أسماء ، والأسماء لله.

٥٤ ـ (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤))

[آل عمران : ٥٤]

المكر مكر الحواس في توجهها مع القلب والنفس إلى جهة الطبيعة الظلمانية ومكر الله حاصل من حيث حصول مكر الحواس والنفس ، إذ لله الأمر من قبل ومن بعد سواء توجه القلب إلى جهة الظلمة ، أو إلى جهة النور ، إذ كل له داخرون.

وقوله : (خَيْرُ الْماكِرِينَ) يعني أن المكر كله هدفه إظهار الدين كله ، وهذا معنى التوحيد السماوي الذي قضى على ثنوية الفرس وقولهم بوجود إلهين ، إله الظلمة وإله النور ، فليس في الوجود إلا الله ، والظلمة الوجه الكثيف لنوره اللطيف ، ووجودها ضروري لإظهار النور.

٥٥ ، ٥٨ ـ (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨))

[آل عمران : ٥٥ ، ٥٨]

قضية توفي عيسى عليه‌السلام ورفعه إلى الله من القضايا الكبيرة الفاصلة بين المسيحية والإسلام ، والحقيقة أن عيسى ممثل روح الله ، أو تعينه ، ولهذا تم خلقه بأن نفخ الله في رحم أمه من روحه ، فخلق عيسى من الروح ، إظهارا للروح ، وظهوره في صورة هو ما اختلف فيه ، ففي كتاب الله جاء أن الله قال لعيسى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ،) والوفاة استيقاء الحق حقه من الخلق ، فعيسى باعتباره روح الله ، لا يجوز أن يموت لأن الروح خالد سواء تعين في صورة أم لم يتعين ، فعيسى توفي أولا ، ثم رفعه الله إليه ، وللأمر لطيفة فالعامة تقول عن خروج الروح الحيواني من الجسم وفاة ، وهذا صحيح باعتبار خروج الروح من شيء ، ولكن حال عيسى بالذات مختلف فروح عيسى ليس الروح الحيواني المدبر للجسد ، وإن تعين في جسد ، وإلى هذه الحقيقة اللطيفة أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : (أنا حي في قبري) ، وقال الجنيد : العارفون لا

٧٨

يموتون بل ينتقلون من دار إلى دار ، فالروح الحيواني يموت عند مفارقة الجسد الذي يدبره ، لكن الروح الإلهي ، كلي ، ومثله عيسى لما تعين به ، مثلما تعين روح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودل هذا قوله سبحانه : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) أي مخرجك من أرض الطبائع إلى سماء الروح.

وقوله سبحانه : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) معناه بلوغ الفلك الأسنى حيث الكلمات التامات خالدات كما الأعيان الثابتة ، ولهذه الكلمات التي مثلها الحواريون الغلبة على الكافرين المحجوبين.

هذا على مستوى الباطن ، أما على صعيد الظاهر فلقد كان الحواريون قلة مستضعفين ، وكان النفوذ والقوة للروم واليهود ، فجاء أمر الله ، وانتشر الحواريون في الأرض ، وفتحوها شرقا وغربا ، وكانت النتيجة انتشار المسيحية وانتصارها على الوثنية الرومانية والإسرائيلية المحرفة إلى يومنا هذا ، فالله غالب على أمره ، يفعل ما يشاء ، فعال لما يريد ، إذ شاء أمرا أنفذه ، سبحانه إنه على كل شيء قدير ، وما من دين أنزل من السماء وظهر في الأرض إلا وكان في ابتداء أمره ، ضعيفا مستضعفا محاربا ، من قبل الطغاة ، ثم يحكم الله أمره ، فإذا الضعف ينقلب قوة ، وينتشر دين الله وينتصر ، قال سبحانه في موضع آخر : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣)) النصر].

٥٩ ، ٦٠ ـ (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠))

[آل عمران : ٥٩ ، ٦٠]

أشارت الآية إلى كيفية خلق عيسى عليه‌السلام ، فكل خلق إنساني لا بد من تزواج بين نطفة الرجل وبويضة الأنثى ، إلا أن عيسى كان مثل آدم لم يخضع لهذا القانون ، وتم خلقه مباشرة بالنفخ في الرحم باعتباره الروح هو الفاعل سواء تم ذلك عن طريق التزاوج العادي ، أو عن طريق النفخ المباشر ، أي التأثير الروحي في المادة ، ويذكرنا الأمر بالعقيدة الأشعرية القائلة والمذكرة أن النار مثلا لا تسبب الإحراق ، وإنما هي سبب ، ومسبب الأسباب هو الذي يحدث الإحراق ، وهو الله تعالى ، قال سبحانه : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [الشورى : ٤٩ ، ٥٠] ، فالتزاوج ونقل الصفات عن طريق الجينات والمورثات والحفاظ على الحسب والنسب كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس) ... كل هذا من فعل الله عزوجل ، ولو رد الأمر إلى الطبيعة أو إلى رغبة الإنسان الفرد فكيف يمكن المحافظة

٧٩

على النسبة الضرورية بين الذكور والإناث ، ومن هو القائم على هذا النظام إن لم يكن الله ، وكيف يفسر خروج التوأمين الحقيقيين ، اللذين خرجا من بويضة واحدة ، كيف يفسر خروجهما متشابهين بحيث لا يميز التوأم عن الآخر؟ ومن المصور الذي رسم في الرحم وجهي التوأمين فكانا صورة واحدة لها الوجه نفسه والعينان والشعر والطول والصحة والصوت حتى أن الوالدين لا يكادان يميزان ولدهما عن الآخر؟

٦١ ـ (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١))

[آل عمران : ٦١]

الأبناء والنساء والأنفس إشارة إلى الحواس ظاهرة وباطنة بالإضافة إلى الروح والقلب والنفس ، وقوله سبحانه : (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) إلخ ... يعني كون الوجود وسطا بين الحق والخلق ، فلا حق بلا خلق ، ولا خلق بلا حق ، ولا حواس إن لم تؤيد بقوى الروح ، ولا حواس إن لم يكن ثمة ما تؤثر فيه وتفعل فيه أو تنفعل به من عالم العيان.

٦٢ ، ٦٣ ـ (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣))

[آل عمران : ٦٢ ، ٦٣]

قوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) يعني أن لا حقيقة إلا الحقيقة الجامعة بين الحق والخلق ، ولهذا تبع هذا قوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ ،) إذ ما دام الأمر ذا علاقة بالإله فالنظر يكون إلى وجه المعقولات الطالبة للمحسوسات والعكس ، فهاهنا فعل الإله والآلهة ، ثم عند رد الجميع إلى عين الجمع تفنى الآلهة ، ويبقى الله الواحد الأحد ، الفرد الصمد الذي يصمد إليه كل الممكنات.

٦٤ ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤))

[آل عمران : ٦٤]

دعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بالكلمة الجامعة لكل ما جاء في الأديان السماوية ، وخلاصة هذه العبادة عبادة الله ، وعدم الإشراك به ، وألا يتخذ الناس أربابا من دون الله ، أي أن لا يتعلقوا بعيون الممكنات ، أو حتى بمثل المعقولات من دون ردها إلى الله وهذا معنى الإسلام.

٦٥ ، ٦٨ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما

٨٠