التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

أما الإسلام فموقفه مغاير ، ونجد طبول الجهاد تقرع في معظم صفحات القرآن ، وقضى الرسول نفسه عمره محاربا شديد المراس ، وكذلك فعلت الصحابة ، ثم أمراء المؤمنين ، فالإسلام دين الجهاد ، فما سبب الخلاف بين الدينين علما أن كليهما سماوي منزل من عند الله؟

في الحقيقة أن لدى الصوفية كشفين ذوقيين ، أولهما يدعى المكاشفة ، والثاني يدعى المشاهدة ، فالمكاشفة للصفات ، وفيه يكاشف المراد بأن الله في الضدين ، وأن له الأبيض والأسود ، وأنه لا يخرج على إرادته مخلوق حتى ولا عصيان إبليس ، ولقد ذاق المسيح كأس الوصال هذه كشفا ، فأطلق شعاراته المشهورة في إفشاء السّلام.

وحقيقة الكشف الصفاتي مستمدة من ظهور الله من وراء حجب الخواطر ، وهجم ابن عربي هجومه الشهير حين قال : إن الوسوسة هي اسم أيضا وسماه الاسم البعيد ، ومن قبله قال عليه‌السلام : (القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء) ، فالتوحيد الصفاتي اقتضى جعل الناس في القبضة الإلهية القاهرة ، ومن هنا كان شعار الإسلام الشهير ألا وهو الإيمان بالقضاء خيرا وشرا من الله تعالى.

وتشدد أخلاق الصوفية على التسامح ، وتجد عندهم أقوالا تذكر بأن الصوفي هو الذي لا يرى في الناس من يرسل غضبه عليه ، ذلك لأن كل فعل هو لله تعالى ، وما دام الناس مظاهر الفعل فهم يؤمنون بأن ما يقع بإذن الله أولا ، وأن له حكمة ثانيا ، وأن على الصوفي أن يسلم ويخضع لهذه الحكمة السارية والظاهرة في التضاد ، وهذا ما فعله المسيح.

أما الكشف الآخر وسميناه المشاهدة ففيه يرى المراد كشفا أنه قد فني ، ذلك لأن الله تعدى الخواطر إلى الذات الجزئية ، فتجلى لها ، ففنيت الأنا ، وغرقت في بحر الألوهية الأكبر ، وتحقق المكاشف من ثم بأنه لا إله إلا الله ذاتا كبرى جامعة للتضاد أيضا وظاهرة بالأفعال.

وسئل الجنيد : ما النهاية؟ فأجاب : العودة إلى البداية ، والبداية في الجهاد ، ولقد ذكرنا ضرورة المجاهدة لفتق المعقولات ، وقلنا : لا تكون هذه المعقولات معقولات إلا بالتناقض ، وأن التناقض يقتضي الجهاد ، ولهذا خرج النبي من غار ذاته داعيا إلى حمل السيف إتماما للدعوة التوحيدية التي قضت بأن تكون الذات في جنة العلم المكنون ، ثم ترد أسفل سافلين بهبوطها إلى أرض الحواس والعناصر ، ثم يبدأ عروجها في سموات العلوم الروحانية بالسيف وعلى سلم التضاد والجهاد ، قال سبحانه : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١)) [مريم : ٧١] ، وسئل الإمام الصادق : وأنتم أيضا وردتموها؟ فأجاب : (جزناها أي جهنم وهي خامدة).

فالدعوة إلى حمل السيف هي إذن ضرورة كونية ، وتجد فلسفة هيغل من ألفها إلى يائها

٣٢١

تعزف موسيقى هذه الحرب على جميع الأصعدة وفي كافة المجالات ... في عالم العناصر والجماد والنبات والحيوان وأخيرا الإنسان.

فلا وجود بلا صراع ، ولهذا قال سبحانه : (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) [مريم : ٧١] فكأن الله هو الذي قضى على نفسه بحتمية الصراع هذه ونجد عبر التاريخ كثيرا من النقاد حاولوا الطعن على الإسلام لدعوته الجهادية هذه ، قائلين : إن الإسلام انتشر بقوة السيف لا بنور المحبة كما فعل المسيح ، وما علم هؤلاء أن الإسلام دين جامع للأديان كافة ، وخاتم لها ، وأنه انضوى تحته كل الأنبياء ، وأنه نصب صرحا وجوديا ضخما أساسه الأرض وسماؤه السماء ، وأن أرضيته يحكمها قانون الصراع الوجودي الحتمي الذي لا بديل له ، وأن سماءه السّلام ، وهو من نوع السّلام الذي دعا إليه المسيح ، بل هو جوهرة تاج ذلك السّلام.

٩٣ ، ٩٨ ـ (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨))

[التوبة : ٩٣ ، ٩٨]

الطبع كائن في الأزل ، وهو ما عبر عنه عليه‌السلام بقوله : (إن الله عزوجل خلق آدم ، ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية فقال : هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون) ، ونجد الآيات السابقة تتحدث عن هذا التفريق ، وكنا قد أوردنا مثالا للتفريق الأزلي سورة المنافقون ، كما أفضنا في الحديث عن دور الصراع الوجودي وحتميته التي تقتضي وجود فريقين متضادين ، فالصرح الإلهي قائم إذن على هذا التضاد ، ولما كانت صفة الله العدل ، علما أنه لا يتوجب عليه شيء ، فإن هذا العدل هو الذي جعل النار ، بردا وسلاما على إبراهيم ، كما جعل النار من جنس طبيعة الكفار الفاسقين ولهذا قال الضحاك : إن للكافر حفرة من النار يكون فيها ولا يعلم ، وأصحاب الصفات يعيشون هذه الحقيقة ، إذ البخيل ليس بخارج عن بخله ، وكذلك الفاجر والجبان ، فهذه كلها بمثابة حفر في النار يعيش أصحابها فيها ولا يعلمون. فالنار نار

٣٢٢

التضاد والصراع على الحقيقة ، ومن لا يعش الصراع الذاتي لا يشعر بالنار ولا بالإحراق ، ويسمي هذا المجاهدون جهادا أكبر ، إذ يرون في أنفسهم أكبر عدو لهم ، وقال عليه‌السلام : (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك).

٩٩ ـ (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩))

[التوبة : ٩٩]

القربة التقرب إلى الله وأصلها نزوع القلب إلى جهة الروح الذي هو بوابة الرحمة ، والرحمن من الرحمة ، ولهذا جاء في الآية : (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) والرحمة إنقاذ من نار التضاد بوضع حد للجهاد ، وعلامة هذا الحد الوصول إلى اليقين.

١٠٠ ، ١٠٨ ـ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨))

[التوبة : ١٠٠ ، ١٠٨]

الوصول درجات ، وتحدثت الآيات عن هذه الدرجات ، وكنا قد بينا أن درجة القربى هي المثلى ، ومثلها النبي بطلبه المقام المحمود ، حيث يقرب العبد من الله نجيا ، وإلى هذا المقام أشارت الآية المائة بمكانة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، والسابقون هم المختارون أزلا للقيام بدور التوحيد وهم موحدون في القدم ، قال الإمام علي رضي الله عنه : (إن الله اختص لنفسه من بعد نبيه من بريته خاصة علاهم بتعليته ، وسما بهم إلى رتبته ، وجعلهم الدعاة بالحق إليه ، أنشأهم في القدم أنوارا أنطقها بتحميده ، وألهمها شكر تمجيده ، وجعلها حججا

٣٢٣

على كل معترف له بمملكة الربوبية وسلطان العبودية وأشهدهم خلقه ، وولاهم ما شاء من أمره ، وجعلهم تراجم مشيئته وألسن إرادته عبيدا لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، يعلم ما بين أيديهم ، وما خلفهم ، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ، وهم من خشيته مشفقون).

والدرجة الثانية يحتلها التابعون بإحسان ، وهؤلاء هم أصحاب مقام الإحسان ، وهو الذي عرفه النبي عليه‌السلام : (أن تعبد الله كأنك تراه) ، وهؤلاء في الجنة بعد أن فازوا ... أما المنافقون الذين ورد ذكرهم في الآيات فهم ممن يصدق فيهم قول الإمام جعفر الصادق الناس كلهم بهائم إلا قليل من المؤمنين ، والمؤمن غريب.

١٠٩ ، ١١٠ ـ (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))

[التوبة : ١٠٩ ، ١١٠]

تأسيس البنيان على تقوى من الله ورضوان يعني اعتماد الضمير وحيا من الله تعالى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويصل العبد بربه ، ولا يؤيسه منه ، وهو معنى قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] ، فمن اتبع صوت ضميره عاش في رضى ، أما من رغب عن سماع ذلك الصوت ، واعتمد أناه لا غير ، فلقد أسس بنيانه على شفا جرف ، إذ منذا الذي يساعد الإنسان ويعاضده في هذه الحياة سوى هذا النور القديم الحكيم العليم الذي يهدي الإنسان الصراط المستقيم ويثبته عليه؟

١١١ ، ١١٢ ـ (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢))

[التوبة : ١١١ ، ١١٢]

الدعوة إلى قتل النفس ، وهذا القتل صنفان معنوي وحسي ، أما القتل المعنوي فلقد وصف بأنه الموت الأبيض وفيه فناء الصفات الإنسانية بردها إلى بارئها وتبرؤ الإنسان من ادعاء ملكيته لها ... ويلي هذا الموت الأسود ، وفيه فناء النفس ذاتها بردها أيضا إلى بارئها الذي هو الكل ، والذي هو الوارث يرث النفوس جميعها ، والعقبى هي الجنة وهي المكان الذي ينعم القلب فيه بوراثته درجة الكلية الإلهية حيث تخلع عليه الخلع الإلهية الملكية الصفاتية ، فإذا الوارث يوسف الحسن قد ورث خير الدارين ، واحتل مكانة الإنسان الكامل المتعين في

٣٢٤

يوسف بعد يوسف ، وكلهم آحاد أفراد كاملون جعلهم الله تاج الإنسانية وذريته للناظرين.

١١٣ ، ١١٧ ـ (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧))

[التوبة : ١١٣ ، ١١٧]

تفرق الآيات بين أولي القربى ، وتبين من هم أولي القربى حقا ، وفي سورة هود نجد نوحا يقول مناشدا ربه في ولده : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) [الآية : ٤٥] ، وكان جواب الله : (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) [هود : ٤٦] ، كما جاء في قصة الغلام الذي قتله العبد الصالح قوله تعالى على لسان العبد الصالح : (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) (٨٠) [الكهف : ٨٠] ، وتظهر الآيات أن ليست صلة الدم هي صلة القربى والرحم ، وأن الصلة الحقيقية هي الكائنة بين المؤمنين والمسلمين ، وأن الكافرين بعضهم أولياء بعض ، فلا عصبية في الإسلام ، ولا صلة عشيرة ، ولا حسب ، ولا أبوة ، ولا بنوة ، إلا ما كانت لله وفي الله وبالله ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (المسلم أخو المسلم) ، وقال المسيح عليه‌السلام : (جئت لأفرق بين الأب وولده والزوج وزوجته) ، ولقد شهد التاريخ الإسلامي أحداثا قتل فيها الابن أباه في الله ، كما تبرأ الوالد المسلم من ولده الكافر ، وتبرأ الولد المسلم من والدته الكافرة ، وحرم سبحانه الزواج من المشركات حتى يؤمن.

١١٨ ، ١٢٠ ـ (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠))

[التوبة : ١١٨ ، ١٢٠]

الثلاثة الذين خلفوا إشارة إلى الخاطر النفسي والخاطر الشيطاني بالإضافة إلى القلب الذي

٣٢٥

هو محل لهما ومستمع ، وضيق الأرض عليهم مصير الخواطر إلى سد يحول بين القلب والنور الإلهي فيضيق الصدر. والمعنى أن الخواطر ما دامت أصلا من الله فهي تنزع إليه بالفطرة ، وتجد الشيطان يعلن بعد فراغه من مهمته عودته إلى ربه وتنصله مما فعل بالمشركين كما قال : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ) [إبراهيم : ٢٢].

والتوبة أوبة الفرار من الله إلى الله ، والرغبة عنه رغبة إليه وفيه ، والحديث إشارة إلى العبارة الجامعة وهي كون الناس جميعا في الجامع ملحدين ومؤمنين ، وضالين ومهديين ، علموا ذلك أم جهلوا ، أقروا بذلك أم أنكروا.

١٢١ ، ١٢٦ ـ (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦))

[التوبة : ١٢١ ، ١٢٦]

كل خطوة على طريق الجهاد لها جزاء وجزاؤها كون الطريق تصعد من أرض الفساد إلى سماء الروح والحقيقة ، وسواء جوزي المجاهد في الدنيا أم لا فالمصير إلى جنة الروح حيث قطوف أشجار العلوم دانية في جنة عالية.

١٢٩ ، ١٢٦ ـ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

[التوبة : ١٢٩ ، ١٢٦]

لا سبيل إلى إنقاذ المشرك والكافر اللذين طبع الله على قلوبهما إذ الطبع سدّ كقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)) [يس : ٩] ، وعن حذيفة أنه قال : تسمونها سورة التوبة وهي سورة العذاب ، وكنا قد ذكرنا سبب عدم ابتدائها بالبسملة ، وللتسمية الرسولية لطيفة ذلك لأن الله قال في سورة الفلق : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِ

٣٢٦

الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢)) فعدّ سبحانه ما خلق شرا ، كما قال في قصة آدم عليه‌السلام : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [البقرة : ٣٦] ، فالهبوط إذن شر ، والخلق العياني شر لأنه يمثل البعد والإبعاد وهذا ما ذكرناه من قبل بقوله تعالى أسفل سافلين ، وذكرنا سبب قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] (أي جهنم ...) وعليه فالإنسان كان في الرحمة حين كان موضوعا اسمه الذر ، ثم أهبط إلى عالم الحسيات والعناصر والشهوات حيث فتن هناك ، ثم تولته الرحمة من جديد فلقنته كلمات الهدى فتاب الله عليه ، وأدخله في رحمته الرحيمية ، وهي تقريبه منه وشمله بأنواره ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمى سورة التوبة سورة العذاب لأنه كان ذا رؤيا أطلعته كشفا على قصة الإنسان في قرآن الوجود ، فالعذاب واقع ماله من دافع ، وعلى الإنسان أن ينجو من ضيق صدره ، بهذا الوجود الأرضي وتبرمه من الإقامة في هذا الهيكل الفاني ليلتحق بفلك ربه حيث الرحمة ممثلة في أنوار وصفها سبحانه بقوله : (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) [الحاقّة : ٢٢](لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١)) [الغاشية : ١١].

٣٢٧

سورة يونس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١))

[يونس : ١]

كل سورة تبتدئ بحرف هي مدخل إلى علم الحرف ، وهو علم فك المعقولات من عقالها بعد الطي والرتق ، فالحروف مدخل إلى الانتشار الكوني وبدء تفتق الروح نفسه في عالم هو التكثر ، والحروف أشارت إلى هذا الفتق ، إذ الألف هي البادئة والفاعلة في التفتق ، وهي بدء تحرك الأسماء وتحريكها ، ولهذا حذفت الألف من البسملة ... واللام بدء انتشار الأنوار الذرية التي ثبت علميا أنها كانت سديما أول انفجر فكون الأجرام ، والملاحظ في اللام أنها شبيهة بالألف مع انبساط قعرها حتى أشبه الحوض ، والحوض هو العرش النوراني الذري الذي هو قوام العالم الخارجي ... والراء من الرأي والرؤيا أي مقام العارف المحقق الذي رأى رأي البصيرة أن الحق هو الخلق ظاهرا ، وأن الخلق هم الحق باطنا ، وأن ليس ثمة إلا الله في هذا الظهور الإلهي السرمدي.

٢ ـ (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢))

[يونس : ٢]

الإشارة إلى صاحب الرؤيا ، وهو ههنا النبي عليه‌السلام الذي هو تجسيد وتعين الروح القديم صنو الحق ومرآته وأداة فعله وتكثراته.

والوحي الصلة الإلهية بين العبد ، المصطفى وربه ، والوحي هو صاحب الحجب الذي قال فيه عليه‌السلام : (إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه البصر من خلقه) ، فما من مخلوق إلا ويوحي إليه ، ولهذا قال سبحانه : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)) [الشّورى : ٥١].

فالوحي درجات وكلها من الحجاب ، فكل إنسان يوحى إليه ولكن من وراء حجاب هو حجاب الاسم أو حجاب الصفة ، وتذهب الأشاعرة والصوفية إلى درجة الفعل أيضا ، فيقولون إن الله هو الفاعل بواسطة جوارح الإنسان وشعار هذا الفعل قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧].

٣٢٨

٣ ـ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣))

[يونس : ٣]

الأيام الستة أيام إلهية فهي لا تدخل في نطاق الزماكان ، وتحديد زمان هذه الأيام مستحيل لأنه سبق أن تحدثنا عن نسبية الزمان الإنساني ، وأن هذا الزمان لا علاقة له بالزمان الإلهي ، ولا يمكنه تصوره.

والاستواء على العرش الاستواء على الوجود الظاهر استواء فاعلا قادرا قاهرا ، ولا يعلم هذا إلا المكاشفون ، وهم يرونه بعين البصيرة وعن طريق الوحي نفسه ، ولهذا تبعت الآية السابقة التي تحدثت عن الوحي.

٤ ـ (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤))

[يونس : ٤]

قوله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) يعني الآن لا في المستقبل ، إذ القول هنا محيط ، وهو من قبيل الإحاطة الإلهية بالأحداث الجزئية ، وهو من جنس القهر الإلهي للخلق ، إذ يفيد معنى الرجوع الاستواء الرحماني نفسه.

وقوله : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) يعني عملية التشخيص النورانية الظاهرة في أعيان الممكنات ، فالاسم استوى في العالم الظاهري شبحا ظاهرا واستواؤه ابتداء ، وعودته الاسم من الجسم الفاني إلى عالم الصور ، ثم استواؤه في ظهور عياني آخر هو معنى العودة ، فالعملية سيرورة في صيرورة ، وصيرورة في تجسيد للانهاية الإلهية التي هي مجموع هذه النهايات الآخذ بعضها برقاب بعض كما حلقات السلسلة ، لا بداية لها من نهاية عند النظر ، تحقيقا ، إلى هذا المشهد العظيم.

٥ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥))

[يونس : ٥]

الشمس الذات ذات النسب والإضافات ، وهي الحقيقة المحمدية الجامعة المنتشرة في الاتجاهات ، وممثلها في الأملاك جبريل الروح الأمين الذي لما ظهر للنبي سد الأفق ، والقمر قمر الصفات المنتشرة فهو النفس الكلية التي تقبل من الشمس الضياء ، وتعكسه نورا في الأسماء المتشخصة ، وتقدير القمر منازل إشارة إلى الأسماء ذاتها ، إذ الأسماء منازل ، وأعلاها درجة أسماء التنزيه ، ثم تليها أسماء التشبيه التي تنقسم إلى أسماء جمال وأسماء

٣٢٩

جلال ، فرؤية فعل الله جمالا خير من رؤية فعله جلالا ، إذ في الجلال القهر والبطش ، وهذه المنازل نزول للروح إلى القلب ليميز النور من الظلمة ، وليتعرف ربه بالظلمة أي بالجلال ، ثم يبدأ معراج رجوعه إلى الروح ، وعدد السنين تقلب القلب في القبضة من ارتداده أولا أسفل سافلين ، ثم صعوده بدءا من الندم ، فالتوبة ، فالزهد ، فالإخلاص ، فالتوكل ، فالرضا ، ثم الدخول في الرحمة والمغفرة ، قال جلال الدين الرومي إنني بدر والشمس أمامي دليل.

٦ ـ (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦))

[يونس : ٦]

اختلاف الليل والنهار تقلب القلب بين نور الروح وظلمات النفس ليتم عملية التفليق ، والتفليق بحاجة إلى آلات وعمليات ممثلة في ما خلق الله في السموات والأرض.

٧ ، ٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨))

[يونس : ٧ ، ٨]

الرضا بالحياة الدنيا الاكتفاء بملذوذات الحواس من مأكل ومشرب ومنكح وتبحبح في جنات اللذات الحسية دون مد العينين إلى آيات الله الباطنة ، قال فريد الدين العطار : كلكم كنتم قد ما رستم الأفعال التحتية ، وقد نمتم في وادي ذات الصفة.

٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩))

[يونس : ٩]

قوله : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) يعني أن الهدى يأتي من ناحية الإيمان وللأمر لطيفة إذ الإيمان نور ، وهو متفجر من عين الضمير ، فمن جهة ذلك النور وبواسطته يتم الهدى الذي هو اليقين الجامع المفجر لأنهار العلوم الإلهية في القلب ، قال عليه‌السلام : (إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له قفل قلبه).

١٠ ـ (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠))

[يونس : ١٠]

السّلام الأمن الجامع ، كما قال سبحانه في موضع آخر : (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ٤] ، قوله أيضا : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس : ٦٢] ، فوسط جحيم التناقضات هناك جنة السّلام الأبدية بعد أن تكون المعرفة قد تمت ، وانكشف الحجاب للمصطفين.

وعند ما يتم التعليم يكون جواب الموحدين أن الحمد الله رب العالمين ، عالم الروح وعالم

٣٣٠

المادة ، رب الخير والشر ، قال أبو عبد الله التروغبذي : إن الله وهب لكل عبد من معرفته مقدارا ، وحمله من البلاء على قدر ما وهب له من المعرفة ، لتكون معرفته عونا له على حمل بلائه ، وقال أيضا : العلم يورث الخوف ، والعلم يورث الوجل ، والعلم يورث السكينة والطمأنينة وذلك على قدر أحوال العبيد ومقاماتهم.

١١ ـ (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١))

[يونس : ١١]

أجل الشر حكم أسماء القضاء ولها أجل هي بالغته ، فكثيرون يتساءلون لم لا يتدخل الله ويضع حدا للظلم والطغيان ، وما علم هؤلاء أن للظلم والطغيان أجلا متى قضي بدأ الجانب الآخر من الأسماء عمله ، فاستوى الحق والعدل حاكما ظاهرا.

١٢ ، ١٣ ـ (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣))

[يونس : ١٢ ، ١٣]

الضر مس الإنسان الأذى من ناحية خواطر الوسوسة والسوء كقوله تعالى عن الشيطان : (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) [البقرة : ٢٦٨] فيفر القلب إلى ربه مستغيثا مستنجدا ، حتى إذا آمنه ربه بالتأييد النفثي نسي القلب ما كان فيه من ضيق وأذى ، وتبحبح في مجلسه قائلا أنا وأنا ...

١٤ ، ١٥ ـ (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥))

[يونس : ١٤ ، ١٥]

الخليفة هو وريث الله وأسمائه ، وأول خليفة لله كان آدم عليه‌السلام باعتباره تعين الصورة الأسمائية الجامعة ، وكنا قد قلنا في كتابنا فتح الوجود ، إن آدم من الأدمة وهي السمرة ، وهي لون وسط بين البياض والسواد ، والبياض لون النور ، والسواد لون عالم المادة ، فآدم هو الجسر المعلق بين العالمين ، والذي يلتقي فيه العالمان أو البحران ، فهو المحسوس ملطف ، والمعقول مكثف ، فهو الواسطة بين العالم والعالم ، ومن هنا استحق الخلافة.

وخلائف آدم الأنبياء والأولياء الكمل ، بهم يتعين النوع ولهذا يقال هم أشخاص النوع الآدمي وأفراده ، ولا بد في كل زمان من خليفة ، وقد يكون هنا الخليفة ظاهرا ، كابن عربي ،

٣٣١

وقد يكون باطنا مستورا كما كان كثير من أعلام الصوفية ، ومن أجل هؤلاء الخلفاء خلق الله الوجود باطنا وظاهرا ، إذ بهم وفيهم يرى الله نفسه وأسماءه وصفاته ، وبواسطتهم يتم عرض القوى والإمكانات ، ولهذا جاء في الحديث : (خلق الله آدم على صورته ... أو على صورة الرحمن).

١٦ ، ١٧ ـ (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧))

[يونس : ١٦ ، ١٧]

النبوة أمر عظيم ما تزال رقاب العباد لها خاضعين ، وقد أوردنا من قبل أمثالا أعلاما علماء هم ورثة الأنبياء كما عرفهم رسول الله ، وبينا كيف أن الغزالي وجلال الدين الرومي مثلا ظلا حتى سن الأربعين فقيهين عاديين ، فإذا هم بعد الكشف وبلوغ اليقين قد صارا علمين عالمين ، ومثلين عظيمين في تاريخ التصوف وعلوم الدين ، أما النبي فلقد ظل حتى قربت الأربعون رجلا عاديا تاجرا يتجر بمال زوجه خديجة ، فإذا هو يتحول من ثم إلى إنسان خارق ونبي محمل برسالة آمنت لها الملايين عبر القرون ، وإذا أقواله أمثال سائرة في الحكمة دنيا وآخرة ، وإذا الشريعة التي جاء بها رسالة جامعة خالدة استنبطت منها العلماء فقها ما يزال بحرا تغرف منه الأمم عبر العصور وعن هذه النبوة ، ومن مشكاة النبوة ، تحدثنا نحن في كتبنا ، ووضعنا تفسيرنا هذا ، داعين الناس في كل زمان ومكان إلى الرجوع إلى الفطرة الإنسانية التي أودعها الله كنوزه من العلوم مذكرين بأن ثمة مصدرا آخر للعلم والمعرفة هو بين أيدينا باستطاعتنا البحث عنه وكشفه والاستفادة منه فنكون بهذا قد حققنا غاية الله من خلقنا ، والله سبحانه هو القائل : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ١ ، ٥].

١٨ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨))

[يونس : ١٨]

قوله : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) يعني أن عابدي الصور يعلمون أن ما يعبدونه هو وسيلة إلى الله ، وأن الله هو الخالق البارئ الفاعل ، وأن هذه المعبودات هي للشفاعة فقط.

١٩ ـ (وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩))

[يونس : ١٩]

٣٣٢

الأمة الواحدة الجوهر الواحد الذي تفرعت منه الكثرة ، هذا الجوهر فيه الأسماء بالقوة وهو كتلة نورانية صادرة عن الذات الصرفة ، وهي ما سماها الإمام الغزالي المطاع ، والاختلاف تفتق الأسماء ، وبحكم تضادها حصل الاختلاف فالاختلاف مقدر أزلا ، إذ الشيء بضده يعرف.

والكلمة التي سبقت وعد إلهي بتخصيص أجل لدورة الأسماء ، إذ لا بد للاسم من أن يأخذ أبعاده ، ويمارس إمكاناته ، حتى إذ استنفد ما عنده ، ظهر غيره تعينا لحقيقته وإتماما لتحصيل الحاصل.

٢٠ ـ (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))

[يونس : ٢٠]

تتم الآية ما جاء في الآية السابقة وهو أن لكل شيء أجلا ، ولظهور النبي أجل وميقات ، كما قال سبحانه في موضع آخر : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) [الأعراف : ١٤٣].

٢١ ـ (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١))

[يونس : ٢١]

سبق وتحدثنا عن المكر الإلهي ونضيف قائلين إن ممثل الاسم الواحد أو الاسمين هو الإنسان ، فإذا مكر القلب فبحكم ما يعطي اسم الماكر مثلا أو المذل أو المنتقم ... في حين أن لله الأسماء جميعا ، فهو المتصرف في الأسماء أي الخواطر ، فيأتي الله القلب من باب خواطره نفسها ، فيمكر به من حيث لا يعلم ، فيظن الإنسان أن مكره مكره في حين أن لله المكر ، لأنه هو الجبار والقاهر ، ولا نفاذ لحكم ولا مشيئة إلا به وعن طريقه ، فبالمكر الإنساني تحقق المكر الإلهي ، فكان المكر الأول ظهورا للمكر الثاني ولو لاه ما كان للمكر الثاني أن يظهر ، فالناس يرون الأحداث ، ويظنون أنها أحداث خارجية بشرية ذات أسباب ، والعارفون يرون كل شيء من الله ، ولهذا قال الصديق : (ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله).

وقوله : (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) يعني كيف يكون القلب في القبضة ، إذ القلب وعاء المعنى ، وهو الجسر بين المعنى والمبنى ، وهو وعاء الجزء ، ولما كان لله المعنى والمبنى ، وكان له الجمع ، كان نشاط الجزء جزءا من نشاط الكل ، وما الجزئي إلا تحقق الكلي فافهم.

٢٢ ـ (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢))

[يونس : ٢٢]

٣٣٣

الفلك الوجود الحسي العياني فهو الهيكل الجامع العائم في بحر الهيولى الكلية ، وهذه الفلك تجري بأمر الله وأمره الريح بالإضافة إلى العوم نفسه كما قال سبحانه في موضع آخر : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [النّحل : ١٤] وقوله : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الإسراء : ٧٠].

والفرح بالفلك الفرح بالوجود وادعاء ملكيته عن طريق الأنية ، والريح العاصف مثل ريح الكشف ، والموج هجوم جند الله عن الإيمان والشمائل على القلب فإذا هو معرى من أنيته وخواطره ويمينه وشماله ، وإذا هو يتوجه إلى الله لينجيه من هول هذا الفناء المعنوي الذي لا يرى المكاشف فيه من حوله أحدا ، ولا يرى له ولا للناس وجودا حقيا بل وجودا إضافيا مسندا ملحقا قائما بالوجود الأصيل.

٢٣ ـ (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣))

[يونس : ٢٣]

البغي رجوع الكثيرين من السالكين من بعض طريق المكاشفات دون أن يتموا الهجرة إلى الله والحج إليه ، ويورد عبد الكريم الجيلي في كتابه «الإنسان الكامل» الكثير من الآفات التي يتعرض لها المهاجرون في الطريق حيث يضلهم الشيطان فيرجعون وهم لا طريقا قطعوا ولا ظهرا أبقوا.

٢٤ ـ (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤))

[يونس : ٢٤]

ما دامت الدنيا ميدانا لصراع الأسماء ، ومسيل تناقضات ، فلا ثبات فيها على حال ولا دوام لشيء ، ولهذا قال هيراقليطس : أنت لا تنزل في مياه النهر مرتين لأن الماء يتجدد من حولك باستمرار ، فمن المستحيل الإمساك بالساعة الراهنة ، كما من المستحيل استرجاع الساعة الفائتة ، ومشكلة الإنسان أنه يحاول تثبيت قدميه في أرض هذا العالم المترجرج ، ولهذا تكون خيبة أمله عظيمة كلما هزه هذا التغيير الدائم.

هذا على مستوى الظاهر ، أما على مستوى الباطن فثمة حالان يعيشهما الإنسان ... الأول يعيشه قبل المكاشفة ، وفيه تكون الأنا مقابل العالم ، والأنا مقابل الهو الإلهية ، وهم الإنسان قطع المسافة الفاصلة بين الدنيا والآخرة ، والأرض والسماء ، والنهاية واللانهاية ثم إن

٣٣٤

العابدين الذاكرين المستغفرين معجبون بأفعالهم وعبادتهم ... أما الحال الآخر فهو مجيء اليقين ، وهو ظهور الروح في أفق الذات جزئية وكلية ، فإذا القيامة الصغرى للنفس الجزئية قد قامت ، وإذا الساعة الصغرى قد حلت ، وإذا الدنيا عاليها سافلها ، وإذا الله قد تجلى وتدلى وأسفر ، فتدكدك جبل البدن والأنا دكا حتى صار قاعا صفصفا ... وهذا ما عبرت عنه الآية بالأرض التي أخذت زخرفتها وازينت ، فإذا هي بعد إتيان أمر الله حصيد سراب يباب.

٢٥ ـ (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥))

[يونس : ٢٥]

دار السّلام هي جنة المأوى للعارفين الواصلين المكاشفين المتحققين بأن لا إله إلا الله ، وأن ليس في الوجود من وجود حق إلا الله ، والمصير إلى هذا المصير هو ما عبرت عنه الآية بالصراط المستقيم.

٢٦ ـ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦))

[يونس : ٢٦]

قال سبحانه في موضع آخر : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)) [يونس : ٦٢] ، وتقول الآية : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ،) والوصف لأصحاب الحقيقة الذين رأوا كما رأى فريد الدين العطار في «منطق الطير» : إن طيور الأرواح كلها هي نفسها الروح الكلي فهو الوجه الجامع الجميل الأصيل الباقي والخالد وما سواه أشباح ، ويصبح المكاشف من ثم خليل الله ، ووجهه وجه الله باعتبار الوجود الحقاني ، فإذا تم التحقق ، فكيف يرهق وجه الوراثة الإلهية قتر أو ذلة؟

٢٧ ـ (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧))

[يونس : ٢٧]

الذلة التي ترهق الذين كسبوا السيئات هي تمسكهم بالوجه الزائف ، والظل الذي لا أساس له ، واعتصامهم بأنية ليس لها من الوجود الحق إلا الظهور ، وهذا الاحتجاب هو مثل قطع من الليل المظلم غشيت وجوه المحجوبين المبعدين.

٢٩ ، ٢٨ ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩))

[يونس : ٢٩ ، ٢٨]

الشركاء المتشخصات الجزئية للأسماء ، وقد جابه بعضها بعضا بعد رفع الحجاب فإذا

٣٣٥

الأجزاء مدرجة في الواحد ، وإذا الواحد ظل الأحد ، وإذا كل من عليها فان ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.

٣٠ ـ (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠))

[يونس : ٣٠]

قوله : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) مكاشفة العيان الجزئي بعينه أو بصفته المستسرة ، وهي قديمة قدم الخالق ، كما قال الإمام الغزالي : إن المطاع أو الروح الأمين أو الكلي الجامع قديم قدم الخالق ... وبعد هذا الكشف يفنى القائم بغيره ، ويبقى القائم بذاته رب العالمين.

٣١ ، ٣٢ ـ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢))

[يونس : ٣١ ، ٣٢]

إخراج الحي من الميت خروج الروح الكلي من الروح الجزئي الذي هو ميت بالقياس إلى الروح الكلي المقوم ، فكل روح جزئي ميت ، ولد ميتا ، وعاش ميتا ، ومات ميتا ، وهذا كله من جراء عمى البصيرة التي قصرت عن أن ترى من هو صاحب الوجود الحق ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (موتوا قبل أن تموتوا) ، أي أميتوا روحكم الجزئي ليظهر فيكم روح الروح ، ولتروا بأعينكم عين العين كيف يرزقكم الصفات ، وكيف يدعوكم للعمل بدواعي يلقيها في قلوبكم ، وهذا الإحياء العلمي هو ما انطبق على الصديق لما قال فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من أراد أن ينظر ميتا يمشي على الأرض فلينظر أبا بكر).

أما إخراج الميت من الحي فهو عودة إلى إخراج الروح الجزئي من الروح الكلي ، وهذا الإخراج صدور وإشعاع ضرب أفلوطين وابن عربي مثلا له الشمس وأشعتها ، فمثل الإنسان والله مثل الميت والحي ، فما تحرك هذا الميت إلا باسم الله الحي.

٣٣ ـ (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣))

[يونس : ٣٣]

الكلمة الأصل الجامع وهي العين الجامعة التي فرقت الناس عيونا جزئية تشخصت عيانات ظاهرة ، ومن العيون عيون الجمال وعيون الجلال ، فالذين صنفوا أنهم فاسقون حكمتهم عيونهم فكانوا فاسقين ، ولهذا كان لله الطاعة والتقى والهدى والضلال والكفر والإيمان ... وكل هذه الأزواج ضرورة للكلمة القديمة حتى تعمل عملها عن طريق المتناقضات.

٣٤ ، ٣٦ ـ (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ

٣٣٦

يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦))

[يونس : ٣٤ ، ٣٦]

على الرغم من كل الدراسات الحديثة التي قامت بها العلماء والأطباء لمعرفة كيفية استجابة الأعصاب للأمر العقلي إلا أن هذا الأمر ظل سرا من الأسرار ، فالعالم كله ذو مبدأ عقلي ، ويفعل الإنسان ما يفعل وقد اعتاد فعله هذا ، ولكن دون أن يدرك عظمة سر التحريك العقلي للعصب ، حتى قال صوفي لعالم : أنت أكل الخبز لا تعرفه ، أنت لا تعرف كيف تبول ، فعند ما يريد الإنسان أن يبول فإنه يتهيأ ، ويعطي عقله الأمر للمثانة لتفتح ، فينفتح بوابها ، فيبول الإنسان ، أما ما جرى خلال هذه العملية فأمر ذو علاقة بالدماغ والتفكير ، ولقد ظل الدماغ نفسه وآلية التفكير مستعصيين على المعرفة والتحليل العلمي ، ولم يعرف حتى الآن كيف تنبه المراكز العصبية في الدماغ ، ولا كيف تختزن المعلومات فيه ، ولا كيف يتم ترميز هذه المعلومات التي وردت على شكل إشارات كهربائية في الخلايا العصبية.

ولما كان الإنسان قد مارس قواه هذه بالفطرة إلا أن السؤال يبقى هو : كيف يفكر الإنسان ، وكيف يتحول الفكر إلى عمل ، ولماذا وكيف تميز الإنسان عن الحيوان بالوعي ... وإذا كان عالم الحيوان ، بل وعالم النبات والجماد ، يحكمه قانون واحد كما تكشف الدراسات ، فمن هو واضع هذا القانون ، ومن هو منفذه ، ثم كيف اقتبس الإنسان قوة التفكير هذه وممن جاءته؟

أسئلة مالها من جواب إلا أن يقف الإنسان أخيرا أمام قوة كونية إلهية خلاقة دراكة فعالة ، لها الأمر ، وما يفعله الإنسان يفعله بوساطة هذه القوة ، فهو مستثمر لقوة وجدها فيه بالمصادفة ، وهو مع هذا غافل عن حقيقة كونه إنسانا واعيا ومخلوقا فاعلا ثانيا ، وكائنا جاء من عدم ثالثا ، ثم احتل هذه المرتبة السامية بين المخلوقات.

وفي عالم الصحافة كتبت ذات مرة أشيلا أو ستراند : كل امرئ يعلم أن الصوفيين واللدنيين يلحون كثيرا على الفكرة التي تقول إننا جميعا نرتبط ببعضنا بعضا ، وقال وولف ميسنغ تبدو مقدرتي على الرؤية في المستقبل مناقضة للتصور المادي للعالم ، بيد أن سبق العلم لا ينطوي على شيء لا يدرك أو خارق للطبيعة فإلى جانب المنهج العلمي والتطبيق لتحصيل المعرفة ، توجد أيضا معرفة مباشرة هي سبق العلم ، وذلك لأننا لا نملك سوى أفكار مبهمة حول معنى الزمان وعلاقات الزمان بالمكان ، وصلات الماضي والحاضر والمستقبل ، بحيث تبدو لنا تلك المعرفة في الوقت الحاضر غير قابلة للتفسير ، طبيعي أن حرية الإرادة موجودة ، لكن توجد أيضا محاور كبرى ، والمستقبل يتألف من متعاقبات عن الماضي والحاضر ، وثمة

٣٣٧

شبكات ارتباطية نظامية بينهما ، وأوالية هذا الارتباط لا تزال طي الغيب بالنسبة إلى الكثيرين من الناس ، لكني أعلم علم اليقين من جهتي أنها موجودة.

أما عن ظاهرة التكينيزيا ، وهي تحريك الأشياء بقوة الذهن ، فقد كتب الدكتور غريغوري رازدان رئيس قسم علم النفس في كوينز كوليج في نيويورك معرفا مجلة لايف الأميريكية على حالة لامرأة روسية اسمها روزا كوليشوا ، بعد أن فحص هذه المرأة في أثناء رحلة قام بها إلى روسيا : هذا نموذج عن الظواهر التي رفض الإنسان غريزيا تصديقها ، غير أني توصلت إلى رأي قاطع بصدد الرؤية غير البصرية أنها اكتشاف حقيقي ، والمعروف أن روزا هذه كانت قادرة على قراءة نص بمجرد لمسه بأطراف أصابعها ، وعيناها معصوبتان ، وعلى تعرّف الألوان والنور بيديها ، والتجارب التي أجريت على روزا جاوزت مسألة حبيبات الصبغيات للألوان ، إذ وضعت الأوراق الملونة تحت الزجاج ، كما قرأت نصوصا مكتوبة ونوطات موسيقية من خلال ألواح زجاجية ، كذلك لم تعتمد روزا على تباينات الحرارة الطفيفة المميزة للألوان ، فالدكتور شاخر عمد إلى تسخين لوحات الألوان الباردة كالأزرق والبنفسجي ، وإلى تبريد لوحات الألوان الساخنة كالأحمر ، ولكن هذا التعديل في الحرارة لم يؤثر قط على روزا ، وكتب معهد البيوفيزياء لأكاديمية العلوم في موسكو تقربرا حول مقدرة هذه المرأة الخارقة.

وهناك ظاهرة السيكوكينيزيا ، وتفترض وجود تأثير للفكر على المادة من مسافة ، والوسيطة السيكوكينيزية تليا تجذب الأشياء إليها بالنظر حتى السجائر والخبز اللذين لا يجذبان من قبل المغناطيس ، وهي قادرة على تغيير اتجاه البوصلة ، وعلى أن تجعل قطع الخبز تقفز إلى فمها ، وقد خضعت لكل الفحوص التي تثبت أنها لا تحمل في طيات جسمها مغناطيس أو أي جهاز مساعد ، وتفصل تليا بين صفار البيضة وبياضها ، وبدهي أنه من المستحيل تحريك بيضة أو رفعها عن السطح الموضوعة عليه بواسطة سلك أو مغناطيس ، وكتب الدكتور تولتسكي أستاذ كرسي الفيزياء في جامعة موسكو : تبدو لي عروض التكينيزيا التي قدمتها ميخائيلوفا طبيعية فهل من الممكن أن توجد قوى ما هي بالكهرطيسية ولا بالجاذبية ، وقادرة في الوقت نفسه على تحريك الأشياء ، بل اعتقد بصفتي فيزيائيا أن احتمالا كهذا وارد.

وإمكانية تنويم الناس وإيقاظهم تخاطريا عن مسافة أمتار أو آلاف الكيلومترات هي التجربة السوفياتية الكبرى التي زف نبأها علانية في مطلع الستينات ، وبطلها شخص اسمه بلا تونوف ، وكان يقدم عروضا على المسرح من هذا النوع ، وقد أقدم أثناء انعقاد المؤتمر الروسي القومي لعلم النفس العصبي على تنويم الراقصة الشابة الآنسة م بواسطة التخاطر في قاعة غاصة بالباحثين العلميين ، أما سيريوس فكان يسقط صوره الذهنية على فيلم من نوع بولارائيد.

٣٣٨

وكان وولف ميسنغ الذي أوردنا رأيه في الظاهرات الميتانفسية يستلقي في نعش من البلور ، ويضع نفسه في حالة تخشب ، ولمدة ثلاثة أيام من كل أسبوع كان يرقد في التابوت بلا حراك كالجثة ، والتخشب حالة غير طبيعية يعلق فيها التنفس وخفقان القلب والظاهرات المنظورة للحياة ، ويقدم المتمرسون على اليوغا عروضا مدهشة في التخشب.

ولقد اقتحم ميسنغ عزبة ستالين في كونيتسفو ، وكان هذا الأمر يعدل اليوم التسلل خفية إلى أقبية فورت كنوكس حيث يحتوي على ذهب الولايات المتحدة ، ونجح ميسنغ بأن أوحى بأنه بيريا الوزير المعروف رغم أنه لم يغير من شكله ولا وضع نظارات.

٣٧ ، ٣٨ ـ (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨))

[يونس : ٣٧ ، ٣٨]

القرآن حجة الله على خلقه ، كما قال الجاحظ : القرآن كتاب لا تنقضي عجائبه ، وكل الكتب التي سبقت نزول القرآن والكتب التي تبعته أصابت ، وأخطأت ، وحرفت ، وعدلت ، وانتقدها العلم الحديث إلا هذا الكتاب الذي ظل كما نزل محفوظا وقانونا جامعا أزليا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وبيان هذا الكتاب فاجأ أرباب البيان من شعراء وخطباء عرب هم أهل الفصاحة واللسن ، فأصابهم الدهشة والبهت ، وظلت أعناقهم لهذه المعجزة البيانية خاضعين ، وليس على الأرض كتاب درس وعولج ما جاء فيه من قضايا وكتب عنه ما كتب مثل القرآن ، فهو كتاب المسلمين الأول ، والمسلمون يعدون اليوم خمس سكان الأرض.

وتتجلى عظمة القرآن في أنه ليس شعرا وليس نثرا كالنثر العادي ، بل كتاب له أسلوبه وعرضه ، ومدخله ومخرجه وظهره وبطنه وقصصه وتاريخه ومعالجته القضايا الاجتماعية والسياسية والنفسية والفقهية التي تهم الإنسان حيثما كان.

وللقرآن موسيقاه الخاصة وهي ما تسمى موسيقى الكلمة ، ونضيف موسيقى الروح أيضا ، فكما ذكرنا ما قاله الفيثاغوريون عن العدد عشرة المقدس ، وكون الموسيقى ذات علاقة بهذا العدد باعتبار السلم الموسيقي عددي والفواصل النغمية الكبرى يمكن التعبير عنها في نسب الأعداد الصحيحة التي مجموعها عشرة ، وكون الموسيقى روح الكون .. فإن للقرآن صلة أيضا بهذه الموسيقى الكونية باعتماده الحروف التي هي أعداد أيضا رتبت ونسقت وصنفت وتتابعت من قبل الروح الفاعل الذي هو روح الموسيقى ، فتجد القرآن بهذه الصلة بالروح القابل مسموعا

٣٣٩

ومحبوبا ومفهوما من قبل العامة والخواص والصغير والكبير والأمي والمثقف والعالم والجاهل بل والأعاجم الذي يقرؤونه فلا يكادون يفقهون إلا القليل مما جاء فيه ، وهم مع هذا ينفعلون ويتأثرون ويهتزون ، وتفيض أعينهم من الدمع لدى قراءتهم له وترنمهم بهذه الموسيقى الخفية المشعة من الكلمات والحروف بحيث تنفذ إلى الوجدان مباشرة قبل أن تخاطب الفكر والعقل.

والقرآن أبدي يتجدد تأثيره كل يوم حتى إن الإنسان ليقرأه ويعيد قراءته طوال حياته فلا يمل منه ، ويجد في كل قراءة حلاوة ، وصفة كهذه لا توجد في الكتب إلا بنسب مختلفة في حين تبلغ نسبته في القرآن حدا يبلغ المعجزة ، وكم من أناس ولدوا وعاشوا وماتوا وليس لهم سمير ولا صاحب ولا خليل إلا القرآن.

وللقرآن الفضل الأول والأخير في حفظ اللغة العربية من الاندثار والزوال كما حدث لمعظم اللغات القديمة ، فلو لاه لحلت محل العربية الفصحى اللهجات المحلية التي لا يوجد لها حصر والتي تتغير مع الأيام حتى لتجد هذه اللهجات تكاد أحيانا أن تكون غريبة تماما عن الفصحى ، وقد داخلها ما دخلها من الكلمات الأعجمية والمستجدة.

والقرآن أصل اللغة ، فقواعد اللغة رفعت أصلا على أسس من القرآن ، وما من دارس للعربية متخصص ، حتى وإن كان غير مسلم ، إلا ويعتمد القرآن اعتمادا مطلقا ، وينطلق منه أساسا لتعلم العربية.

ولا يزال هذا الكتاب وسط الأمواج الخافضة الرافعة المبعدة المقربة يعلو فوق كل مد ويتأبى على كل جزر ، وبقيت أسسه وأصوله جبلا شامخا منيعا هو منارة للإنسان وحمى وملجأ لكل مستجير باحث عن الحقيقة.

ولو كان القرآن من عند غير الله لما ثبت كل هذه القرون ، في وجه تقلبات الأيام التي ما تزال تأتي كل حين بجديد ، فتدك صروحا شامخات ، وتقيم صروحا جديدة ، وتقترح وتصحح وتصوب ، حتى إذا جاء المد عاد الجديد قديما والصواب خطأ إلا هذا الكتاب الإلهي الذي يعلو فوق كل زمان.

٣٩ ـ (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩))

[يونس : ٣٩]

تأويل القرآن من التحديات التي جاء الله بها الناس ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما من آية من آيات القرآن إلا ولها ظهر وبطن ، ولبطنه بطن إلى سبعه أبطن) ، وسئل الإمام علي : هل خصكم رسول الله بشيء دون الناس؟ فأجاب : (لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في

٣٤٠