التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

دائما مصباحا يضيء طريقه في ظلام الليل ، فكيف يفعل به سوءا وقد كان دائما ممثل الخير؟

٧٤ ، ٧٦ ـ (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦))

[الكهف : ٧٤ ، ٧٦]

الغلام إشارة إلى النفس باعتباره الغلام صغيرا حدث السن مولودا من والديه ، والإشارة إلى النفس الجزئية المولودة من النفس الكلية والروح ، وقتل الغلام قتل النفس معنويا ، أي التضحية بها بعدم دعوى امتلاك الإنسان لها ، وهذا ما فعله إبراهيم لما دعي إلى ذبح ولده في الرؤيا فامتثل أمر ربه.

هذا على مستوى الجمع ، أما على مستوى الفرق والتجزئة فالنبي عليه‌السلام قال إن الغلام المذكور في الآية طبع كافرا ، والإشارة إلى أن النفس البشرية جبلت على الخطأ والمخالفة وطاعة الهوى والشهوة ، ولهذا سميناها من قبل النفس الترابية والنفس الدنية ، وسماها سبحانه النفس الأمارة.

وقضية الطبع السابق من القضايا التي تبناها أهل السنة والجماعة وعلى رأسهم الأشاعرة ، وزعيم مدرستهم أبو الحسن الأشعري ، ثم جاء من بعده حجة الإسلام وناصر مذهب أهل السنة الإمام الغزالي ، ونص الحديث الشريف جاء في صحيح مسلم وهو : (الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم ولد كافرا) ، وقال الإمام النووي : إن في هذا حجة بينة لأهل السنة لصحة أهل مذهبهم في الطبع والرين والأكنة والأغشية والحجب ، قال تعالى في الطبع : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (٣) [المنافقون : ٣] ، وقال : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) [الأنعام : ٢٥] ، وقال : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ) [البقرة : ٧] ، وقال : (جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) [الإسراء : ٤٥] ، وقال : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٩) [يس : ٩].

٧٧ ـ (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧))

[الكهف : ٧٧]

قلنا : القرية إشارة إلى البدن ، وأهل القرية على مستوى الجمع الكثرة من الناس باعتبار القرية الجسم الكلي ... أما باطنا فأهل القرية قوى البدن من حواس ومشاعر وهي كلها لا تطعم طالب العلم من علوم التوحيد شيئا لأنها مهيئة أصلا لتقبل الانطباعات الخارجية وتحويلها إلى المعقولات ، أي أن لها دورا محددا لا تجاوزه.

٥٤١

والجدار البدن ذاته ، وإقامته عودة الروح المرشد إلى التخفيف عن البدن مما عاناه من أداء الفرائض والنوافل ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوم الليل حتى تتورم قدماه بأمر من الله سبحانه كما قال : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)) [المزمل : ١ ، ٤] ، فالروح يشدد على البدن والنفس في امتثال أوامره لتحقيق القصد وهو دخول الجمل في سم الخياط أي سم التوحيد الجامع للضدين ، فإذا تحقق هذا للمعتكف في محراب الحقيقة فرج الله عنه وأراحه.

٧٨ ـ (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨))

[الكهف : ٧٨]

علم التأويل علم الراسخين في العلم ، وهو علم عزيز له قواعد وأصول ، وأصوله أصل واحد هو مشاهدة الجمع بعين الجمع فتكون للمشاهد رؤية جامعة بها ومن خلال منظارها يرى الكون كما قال البسطامي : أدخلني مدخلا رأيت الخلق كلهم فيه بين الإصبعين.

فمن لم يعش تجربة الكشف لا يمكنه أن يقوم بمهمة التأويل ، إذ التأويل التمييز بين المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والحديث عن علم التوحيد الجامع بين التناقضات ، ولهذا ربط سبحانه في قوله ابتغاء تأويله بين معرفته هو سبحانه التأويل وبين الراسخين في العلم الذين هم من عناهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (العلماء ورثة الأنبياء) ، ونص الآية : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [آل عمران : ٧].

٧٩ ـ (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩))

[الكهف : ٧٩]

ما فعل الخضر بالسفينة هو بقصد تحقيق التوحيد الجامع للتضاد ، فلو لم ير الخضر موسى فعل المخالفات ، وكيف يكون النقيض متمما لنقيضه وإلا لما سمي نقيضا ، لو لم يفعل هذا لظل الإنسان أسير فكره ، ولبقي يظن أنه هو مالك فكره ، والفكر مضلة ومتاهة ، وهذا ما وصفه الخضر بأنه ملك يأخذ كل سفينة غضبا ، فالناس الذين يظنون أنفسهم أحرارا يفعلون ما يشاؤون هم أسرى أفكارهم ، وأفكارهم ، يحكمها ملك واحد يمثل الجمع أو الفكر الكلي والذي يسوق الناس يمينا وشمالا ، وهو ما وصفه عليه‌السلام في حديث الساعة وأشراطها بأنه الأعور الدجال.

٨٠ ، ٨١ ـ (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ

٥٤٢

يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١))

[الكهف : ٨٠ ، ٨١]

قلنا : الغلام النفس الجزئية باعتبار ولادتها من النفس الكلية ، وأبواه الروح الفاعل والنفس المنفعلة ، وكلاهما مؤمن لأنهما صادران من الله وعنه إشعاعا دائما أزليا ، وقتل الغلام ضرورة خشية إرهاق الوالدين ، إذ جاء في الآية أن الغلام سيرهق أبويه طغيانا وكفرا.

فالنفس الجزئية بانفصالها الظاهري عن أبويها تمارس طغيان دعوى وجودها بذاتها وملكيتها لذاتها وهذا في حد ذاته عدوان على حقوق الأبوين وهو أيضا كفر أي حجاب ، لأن الأبوين لا يفارقان كما هو معلوم غلامهما ، والغلام صغير حدث ، والحقيقة أن النفس الجزئية لا تفارق أبويها قط ، وهي من دونهما مثل الطفل الصغير لا حول له ولا قوة ، والإنسان الذي يدعي القوة والمقدرة هو أعجز من رضيع في القماط لو رفع أبواه عنه أيديهما.

فالروح الأب يمده بالحياة ، والنفس الكلية الأم تمده بالفكر والغرائز والأحاسيس والانطباعات ، وتبديل الغلام دعوة المؤمن المهاجر إلى ربه أن يقتل نفسه معنويا كما سبق أن قلنا وذلك بحبسها أولا في الخلوة حتى يكشف الله الغمة أو يري المهاجر بصرا وبصيرة كيف أن نفسه لله وبالله وعن الله ، وأن الإنسان ليس له من الأمر شيء ، والتبديل ذاته رفع مستوى الإنسان صاحب النفس الجزئية إلى مستوى الكليات والإلهام الإلهي ثم التحلي بالصفات الإلهية.

٨٢ ـ (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢))

[الكهف : ٨٢]

الغلامان إشارة إلى العاقلتين النظرية والعملية ، وكلتاهما من نشاط الفكر ذاته الذي قلنا إنه يرتفع بالمدد الإلهي إلى مستوى الإلهيات ، وهذا الرفع هو المعراج النبوي الذي رقى بالنبي إلى أعلى عليين وقرب نجيا ، وما دام القلب الإنساني من عرش الله ، وما دام القلب قد وسع الله فإن أعلى عليين موجود أيضا في قلب الإنسان ، وهذا الحضور الإلهي في الكيان البشري هو الكنز الذي تحدث عنه العبد الصالح ، فالإنسان خلق ليكون خليفة ، وقد أهل مسبقا لبلوغ درجة الخلافة هذه التي ليست إلا عبادة الله بمعرفته ثم استخلاف الإنسان في الأرض ، وبلوغ الأشد سن بلوغ الكمال ، وكنا قد تحدثنا عن هذا الأمر من قبل ، فالإنسان قبل بلوغ الأشد طالب يتعلم في مدرسة الحياة ، حتى إذا استوفى حظه من التعلم انتقل إلى مرحلة استخراج الكنز ، ولهذا كانت حياة الإنسان ذات هدف وقصد ، والقصد التعلم من العالم الخارجي أولا ثم التعلم من العالم الباطني ثانيا ... والجدار هو العالم الخارجي المادي ، فالله ما خلق

٥٤٣

الإنسان عبثا ، والحياة ليست شؤما وسأما وفراغا وغثيانا كما يقول الوجوديون أمثال سارتر وكامو ... بل الحياة بناء متكامل يبدأ بالصعود من أسفل سافلين وهو الجهل والعيش في أسر الشهوات والغرائز ، وينتهي بالوصول رقيا وعروجا إلى الله الذي هو العقل والعاقل والمعقول كما تقول الصوفية ... وعليه فإن العقل يكون مادة خاما سماه الله في الحديث القدسي كنزا كما قال سبحانه : (كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني) ، وتبدأ مرحلة التعقل التي هي التفتيق ، فالإنسان يصبح عاقلا بالنظر حوله في ملكوت السموات والأرض ، وهذه المرحلة هي التي سميت في الفلسفة العاقلة العملية ، وسميت في الدين الشريعة والتشريع ، وإليها رمز بأحد الغلامين في الآية ، فالإنسان تميز عن الحيوان بعملية التعقل ذاتها ، وأنزل الله الشرائع تسديدا للقلب وتحقيقا للقصد من خلقه ، فالشريعة البداية إلى الحقيقة والمدخل ، ولا حقيقة من غير شريعة لأن من لا يرقى سلم الأخلاق لن يصل إلى الحقيقة ، وكل مذهب بني على غير أساس أخلاقي فاشل لأنه يفتقر إلى المقومات الأساسية لبناء الإنسان والحضارة الإنسانية ، لهذا تميزت الصوفية عن غيرها من المذاهب باعتمادها الشريعة أولا والمجاهدات ثانيا ، فالغلام هنا في طور التعلم ، والتعلم يفضي إلى تحقق المعقولات ، وتصاحب الشريعة غلام العقل الجزئي في رحلته هذه إلى أن تتم مرحلة تعلمه فينتقل إلى تعلم الحقيقة.

والحقيقة هي ما رمز إليها في الآية بالغلام الثاني ، وسميت في الفلسفة العاقلة النظرية ، وهنا تلتقي الفلاسفة ، المريدين المؤمنين من أبناء الشريعة ، فكل ينهل من هذا المورد ، والمورد كاف للجميع ... إلا أن الله خص خواصا من خلقه بنور يمكن من بلوغ الأشد لدى تعلم الحقيقة ، ولهذا امتدح ابن عربي الفلاسفة ، ولكنه قال فيهم أيضا : إنهم يخطئون ويصيبون وأكثر خطئهم في الإلهيات.

والإلهيات هي الكنز المدفون تحت الجدار ، وقال عنه ابن عباس : الكنز الذي كان تحت الجدار هو صحف مدفونة فيها علم ، والكنز لا يكشف إلا لأصحاب الكشف المصطفين ، فهاهنا ثمة درجة خاصة لأصحاب المعرفة الإلهية وسموا الإلهيين ، وهم يتميزون عن الفلاسفة بأنهم علموا الحقائق ذوقا وشربا وريا من عين اليقين التي كان العبد الصالح لسانها الناطق.

وقوله : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ،) يعني أن العبد الصالح عبد مأمور وليس له من الأمر شيء كما قال سبحانه لنبيه في موضع آخر ، وسبق أن قلنا : إن العبد الصالح هو الروح الكلي وسمي الخضر ، وقال مجاهد : سمي الخضر لأنه أينما صلى اخضر حوله ، وعن ابن عباس : أن موسى سأل ربه هل في الأرض أحد أعلم مني؟ قال : نعم ، قال يا رب من هو؟ قال :

٥٤٤

الخضر ، قال : فأين أطلبه؟ قال : على الساحل عند الصخرة التي يفلت عندها الحوت ، ولقد قال الخضر لموسى عند لقائهما : يا موسى خطر ببالك أنك أعلم أهل الأرض ، ما علمك وعلمي وعلم جميع الأولين والآخرين في جنب علم الله تعالى إلا أقل من الماء الذي تحمله الخطافة بمنقارها.

وجاء في كتب التاريخ أن الخضر كان في جيش ذي القرنين ، وكان على مقدمة الجيش فبلغ نهر الحياة ، وشرب من مائه فخلد ، وهو في الحياة إلى الآن ، وقال معقل في الصخرة التي كانت مكان اللقاء : هي الصخرة التي دون نهر الزيت وعندها عين تسمى ماء الحياة ، ولا يصيب ذلك الماء شيئا إلا عاد حيا ، والإشارات كلها إلى اسمه تعالى الحي لأنه لا حي بحق في الوجود سواه.

٨٣ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣))

[الكهف : ٨٣]

ذو القرنين الاسكندر ولم يكن نبيا ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (العلماء ورثة الأنبياء) ، وقال ابن عربي : ما أنا نبي ولا رسول ولكني وارث ولآخرتي حارث ، والملاحظ أن قصة ذي القرنين تبعت قصة العبد الصالح الذي علم موسى ، علم التوحيد ، فصار موسى عالما إلهيا ... وما دمنا بصدد الحديث عن الإنسان الكلي أو الإنسان الكامل باعتبار هذا الإنسان جوهر الإنسانية وتعينها الجامع ، وما دام سبحانه سمى إبراهيم أمة ، أي أنه يعدل أمة ، ويرجح بعلمه أمة ، فإن ذا القرنين هو المرتبة التي بلغها موسى بعد أن علم علم التوحيد ، ولتسمية الاسكندر ذا القرنين نكتة ... ذلك أننا قلنا من قبل إن الإنسان هو المخلوق المصطفى ليكون جسرا بين الحق والعالم الخارجي ، وفي قلبه فضت المعقولات الإلهية فظهر العلم الإلهي الذي كان مضمرا ففتق ، ولهذا قلنا : إن الإنسان يجمع بين القديم والمحدث ، والأزلي والفاني ، والديمومة والصيرورة وهذه الازدواجية هي ما رمز إليها بالقرنين أو النعلين اللتين أمر موسى بخلعهما لما نودي من جانب طور نفسه ، فمعنى ذي القرنين أنه الإنسان المتأله الذي احتل منصب الخلافة بحق ، وصار ممثل آدم وولده من أهله ، ولهذا سجل التاريخ أن الاسكندر غزا العالم ، وفتحه شرقا وغربا ، فهذا التعين للكلي في إنسان جزئي وارد كما تعين النور القديم في شخص النبي عليه‌السلام ، فكان جبريل النور الذي نفخه الله فيه.

وما يقع في التاريخ من أحداث هو إخراج العلوم التي تكون بالقوة ثم تكون بالفعل ، وفي هذا المجال صال الفيلسوف هيغل وجال ، وقال : إن التاريخ ليس إلا ميدان لفعل الروح ، وإن إرادة الروح تتحقق في الأحداث الجارية ، وقال أيضا إن للروح خبثا سماه الله من قبل مكرا ومكرا خفيا ، ومكره هو تحقيق ما يريد بواسطة أفراد النوع ، فيكون نابليون مثلا ومن خلال هذا المنظور ممثلا لإرادة القاهر فوق عباده وتعينا لاسمه الجبار.

٥٤٥

فلا خلاف إذا قلنا : إن ذي القرنين كان إنسانا من لحم ودم أيضا ، ولا نقول إن ثمة خلافا بين الإشارات الواردة في القرآن وبين الأحداث والشخصيات التي تحدث عنها القرآن ، فما يقع على مسرح الوجود هو عينه ما يخرج من بطنان الروح الحقي ، وما الإنسان إلا أداة لتحقيق القصد من اتصافه سبحانه بصفاته الإلهية أي بكونه الحي العليم المريد القادر السميع البصير المتكلم ، فالوجود العياني تمثيل وإخراج ما كتب أزلا في كتاب اللوح المحفوظ ، والنبي عليه‌السلام قال : (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر) ، وقد سئل يوما : أرأيت يا رسول الله دواء نتداوى به ، هل يرد من قدر الله؟ فقال : (هو من قدر الله) ، ولما وصل عمر بن الخطاب الشام سمع أن بها الطاعون ، فأمر رجاله بالرجوع ، فسأله صحابي : أفرارا من قدر الله يا عمر؟ فقال : (نفر من قدر الله إلى قدر الله).

٨٤ ، ٨٥ ـ (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥))

[الكهف : ٨٤ ، ٨٥]

التمكن لذي القرنين مثل قوله سبحانه في يوسف : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) [يوسف : ٢١] ، فالأنبياء والأولياء العارفون مكن لهم في الأرض ، وذلك لأنهم بلغوا مركز الدائرة ، فصارت الدائرة الأسمائية كلها ملكهم ، فلا أحد مكين عند الله وفي العالم إلا ممثل الإنسان الكامل وخليفة الله الأسماء الإلهية نفسها ، ولهذا رأينا العبد الصالح يأتي أفعالا تبدو ظاهرا خيرا وشرا ، وهو فوق الخير والشر ، وبالتالي فإن خليفته مستخلف في الأرض يفعل ما يشاء بإذن ربه وبأمره.

٨٦ ـ (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦))

[الكهف : ٨٦]

مغرب الشمس العالم المحسوس ، لأن الشمس رمز الذات الإلهية ، وما دامت الذات الإلهية مركز دائرة العالم فإن هذه الذات بمثابة الشمس الغاربة في العين الحمئة التي هي رمز عالم المادة.

والقوم الذين وجدهم ذو القرنين عند العين الحمئة هم البشر المحجوبون الذين لا يعلمون أين الله ، ومن هو الله ، ولا كيف يفعل الله ، وقوله سبحانه : (يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) إشارة إلى أن فعل ذي القرنين ، أي ممثل الإنسان الكامل ، هو الرحيم ، كما وصف نفسه بالجبار المعذب عذابا نكرا ، فالإرادة الإلهية ظهرت هنا في الإنسان الكامل أي ظهرت فعلا على يد الإنسان.

٥٤٦

٨٧ ، ٨٩ ـ (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩))

[الكهف : ٨٧ ، ٨٩]

تشرح الآيات سر معادلة الأسماء والصفات الإلهية ، فممثلو الأسماء الجلالية كالجبار والمنتقم معذبون لكونهم جبارين ومنتقمين ، إذ قلنا إن الموصوف تابع الصفة والحجاب عذاب ... أما ممثلو أسماء الجمال فلهم جزاء تمثيلهم هذا الشطر النوراني من الذات لكونهم موضع إشعاع هذه الأنوار الشريفة.

والآيات تذكر بقول أرسطو معرفا النفس : أنها كمال أول لجسم آلي ذي حياة بالقوة ، فهذا الكمال هو طبيعة الصفة المودعة في الإنسان والتي تلهمه وتسيره ، ففريق هم أصحاب الجنة وفريق هم أصحاب النار ، وكل إنسان هو مثل الفرخ الذي يكون في بيضته ، والذي يمثل نوع الطير الذي سيكونه بعد أن يفقس بيضته ، ففرخ النسر صائر نسرا ، وفرخ الغراب صائر غرابا ، وهذا معنى قول أرسطو : إن النفس كمال أول ، وقوله أيضا : إن الإنسان مجبور في عين اختياره ، فما خرج أحد على المقدور والفطرة ، وهذا ما عرف في الفلسفة بقانون السببية المشهور ، وهذه هي الأحجية التي وقف أمامها الفيلسوف كانط فما استطاع لها حلا ، إذ كيف يكون الإنسان حرا وخاضعا لقانون السببية الكوني في الوقت نفسه؟

٩٠ ، ٩٢ ـ (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢))

[الكهف : ٩٠ ، ٩٢]

الإشارة إلى الموحدين الذين ليس بينهم وبين الذات الإلهية حجاب ، وهذا معنى قوله : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً ،) وقوله : (لَمْ نَجْعَلْ ،) يعني أن حدوث الكشف العرفاني نفسه أمر رهين بمشيئة الله ، ولو لا أن الله أراد ما أرادوا ، ولو لا أنه اصطفى وعافى ما عرفوا ولا اجتبوا ، ولهذا قالت الصوفية ومن قبلهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعناية المسبقة كقوله سبحانه : (الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء : ١٠١].

٩٣ ، ٩٨ ـ (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨))

[الكهف : ٩٣ ، ٩٨]

٥٤٧

السدان إشارة إلى تذبذب الإنسان بين شقي خاطريه خاطر الرحمن وخاطر الشيطان ، والإنسان كما قلنا جاهل مصدر هذا وذاك ... حتى إذا أراد الله بقوم خيرا كتب في قلوبهم كلمات الإيمان ، فضاء القلب بنور الهداية ، فميز الإنسان بين خاطر الملك وخاطر الشيطان ، وهذا ما ندعوه في الفلسفة الانشطار والتناقض والازدواجية ... ولا خلاص للإنسان من أسر هذا التناقض إلا بأن يكشف الله الغطاء عنه ، فيصير بصره حديدا ، ولقد سأل فريق المؤمنين الذين لم يبلغوا مقام اليقين ، سألوا ربهم أن يعينهم على الفكاك من أسر التناقض ، فأرسل إليهم ذا القرنين ، وذو القرنين هنا بمثابة جبريل الذي ظهر للنبي في الغار فغطه ثلاثا ، ثم قال له : إقرأ ، وكررها ثلاثا ، ثم تابع جبريل قائلا : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١)) [العلق : ١] ، وهذا الاسم هو اسم الله الأعظم الذي يعلم الإنسان سر التوحيد ، وهو ما عرفه الخراز قائلا إنه سر التضاد ، وهذا السر ينجي الإنسان من نار التضاد والتناقض ، ويجعل تلك النار بردا وسلاما عليه كما حدث لإبراهيم ، فأنت ترى أن تسلسل الوقائع في سورة الكهف تمثل معراج الإنسان نفسه من أسفل سافلين إلى عليين ، وأن الأسماء الواردة في السورة كموسى والعبد الصالح وذي القرنين هي إشارات إلى مقامات كما قال عبد الكريم الجيلي في الخضر : خلقه الله من حقيقة ونفخت فيه من روحي فهو روح الله ، أو كما قالت الصوفية : القوم يطلقون اسم موسى في اصطلاحهم على العقل لمناسبة بينهما وهي تنظيم الملك وسياسته وتدبيره وتنظيم العلاقات مطلقا ، وهذه الأشياء هي فحوى الرسالات السماوية ومهمة الرسل أجمعين ، وهي عامة ، وهذه الأمور هي نفس مهمة العقل ولكن خاصة ، ولهذا فإنا نرمز على ظاهر الشرع بموسى ، ثم نستعير هذا الاسم للعقل للمناسبة التي ذكرناها ، وكذلك نرمز بالخضر على الروح لأنه كلما حل في مكان اخضر مكانه الذي حل فيه ، وليس يخفي أن الأرواح إذا قامت علاقاتها بالأبدان اخضرت الأبدان بالحياة وخواصها ، وكذلك نرمز على النفس الأمارة بالسوء بفرعون لعتوها وتمردها ، ومتى أطلق القوم عليهم رضوان الله تعالى عليهم هذه الألفاظ فإنما يطلقونها على سبيل الاستعارة لا غير.

وليس كما فهم الكثير أن موسى اسم للعقل أو العلم الظاهر ، وأن الخضر اسم للروح أو لعلم الباطن ، وأن فرعون اسم للنفس فهذا خطأ في الفهم وخطأ في الاعتقاد ، ولأن موسى شخص بعينه ، وكذلك الخضر وفرعون ، والقرآن يقص علينا ذلك ، والتأويل على هذا النحو باطل ومصادرة للحق والحقيقة معا.

٩٩ ، ١٠٠ ـ (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠))

[الكهف : ٩٩ ، ١٠٠]

٥٤٨

قوله سبحانه : (بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ،) إشارة إلى الحركة الوجودية الحياتية ، والناس دائما يموج بعضهم في بعض لأن نشاط الأسماء يقتضي هذه الحركة المشبهة بالموج.

أما الصور فهو تذكير بصاحب الأمر والفعل ، والصور القرن ، وهو ما ينفخ فيه ، وما يخرج منه موسيقى ، وقد تحدثنا في كتابنا الإنسان الكبير وفي فصول سابقة ولا حقة من هذا الكتاب عن دور الموسيقى في الوجود وحكمه ، وقلنا : إن الفيثاغوريين كانوا السباقين إلى اكتشاف دور الموسيقى وكونها روح الوجود وأم اللغات ، فهي اللغة الإلهية التي تخاطب الشعور والوجدان فينفعل بها النبات والحيوان والإنسان والطفل والأبله والمجنون والعاقل والجاهل والعالم ، فما في الكون إلا الموسيقى الإلهية وحكم هذه الموسيقى ، وما نشاط المشاعر والأحساسيس إلا بتأثير موسيقى داخلية تسمعها الأذن الداخلية للإنسان أي بصيرته وقلبه ، فالموسيقى الجمع وجمع الجمع كما ورد في الآية.

١٠١ ـ (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١))

[الكهف : ١٠١]

قوله سبحانه : (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ،) يعني أن أصحاب جهنم لا يستطيعون سماع إلهام التقوى وصوت الضمير لأنهم محرومون محجوبون ، وبينهم وبين سماع الضمير حاجز لا يطفر ... وإلا فكيف يفسر الإنسان ارتكاب المجرم جرائمه دون أن يبكته ضميره أو يعذبه أو توقد في قلبه نار الندم ليندم ويبدأ رحلة العودة؟

١٠٢ ، ١٠٣ ـ (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣))

[الكهف : ١٠٢ ، ١٠٣]

التشديد على ضرورة عدم اعتماد العالم الخارجي ومظاهره وصوره البشرية وغير البشرية أسسا للوجود وأسبابا مسببة وإغفال مسبب الأسباب.

١٠٤ ، ١٠٦ ـ (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦))

[الكهف : ١٠٤ ، ١٠٦]

ضلال السعي اعتماد العالم المحسوس بل والعالم المعقول وحدهما ، وهذا ما تفعله علماء الغرب اليوم ، فهم يسعون ويجهدون ويتعبون متتبعين قوانين السببية دون الإيمان بالخالق مبدأ للحياة وجوهرا فردا أول فاعلا وحده.

١٠٧ ، ١٠٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨))

[الكهف : ١٠٧ ، ١٠٨]

٥٤٩

جنات الفردوس مقام من مقامات العارفين التي أعلاها جنة القرب والمقام المحمود ، والفردوس جنة الصفات أي معرفة سر الصفات والأضداد ، ومعرفة هذا السر هو جوهر سورة الكهف عامة ، وذكر قصة ذي القرنين خاصة.

١٠٩ ـ (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩))

[الكهف : ١٠٩]

قلنا : إن كل ما في الوجود الظاهر من مظاهر هي كلمات الله ، إذ أصل المحسوس معقول ، ومصدر المعقول العقل الفعال المشع عن الله ... فعليه فالوجود الظاهر صورة الوجود الباطن ، ولما كانت صور الوجود الظاهر لا تعد ولا تحصى علمنا أن كلمات الله لا تعد وبالتالي فهي لا تنفد.

ولقوله سبحانه لا تنفد لطيفة ... ذلك أن الاسم أإذا تفاعل مع الاسم ب أنتج الاسم ج ، وقد يكون الاسم ج مطابقا للاسم أأو أنه لا يطابقه حسب طبيعة التفاعل نفسه ، فالنتيجة أن التفاعلات العلمية الأسمائية متطورة دائما ، وهذا ما أوضحه هيغل في فلسفته ، حيث جعل الصيرورة الجدلية غير ذات حدود ولا نهائية أيضا ... ولهذا قالت الفلاسفة الصوفية مثل ابن عربي والسهروردي : إن معلومات الله متطورة ومرتبطة بالزمان والمكان ، وهذا معنى قوله تعالى في موضع آخر : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرّحمن : ٢٩].

هذا على مستوى التفاعل الظاهري ... أما التفاعل الباطني فيتحقق بالمنامات والرؤى ، ولا يستخفن أحد بهذا الجانب من حياة الإنسان الذي يقضي ثلث عمره نائما ، ويرى منامات قد يعبرها ، وقد يجهلها كحال معظم الناس ، والمنامات صور ، وفيها تبرز ثنائية الذات ، بل يبرز الجمع في المفرد ، إذ يرى النائم في منامه أناسا أحياء وآخرين أمواتا ، ويجد الزمان في النوم مطويا ، ويجد أفلاكا غير ذات حصر ... فالنائم يطير ويعوم في الماء وإن كان يجهل السباحة ، ويحمل ويعاني آلام المخاض ويضع وإن كان ذكرا ، كما أنه ينفعل حسا بكل ما يراه ، فيلتذ بالطعام والشراب والمباضعة ويغضب ويرضى ويفرح ويحزن ويضحك ويعيش ويبكي ، ومن الملاحظ أن الطفل الرضيع يضحك ويعبس وهو نائم ، فالنائم في ملكوت الله يفعل به الله ما يشاء ويريه هذه الصور من الناس والمخلوقات والنباتات ويدخله ويخرجه ويقلبه ، حتى إذا آن الأوان أيقظ الله الإنسان من غفلته فعلمه تعبير الأحلام وتأويل الأحاديث ، وصار الإنسان الجاهل عارفا بالله.

١١٠ ـ (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠))

[الكهف : ١١٠]

٥٥٠

تتابع الآية توضيح ما يفعل الله بالعبد بأسلوب عرض الصور التي هي كلمات ... إذ جاء في الآية قوله : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ ،) فما ازداد النبي على الناس إلا في الوحي الذي هو أعلى درجات الإلهام ، والذي هو صوت اليقين نفسه ، وبه وعنه يفهم الإنسان المغيبات ، ويعرف ربه ، فيصير نبيا أو وليا عارفا ووارثا.

والمدخل إلى النبوة والوراثة العلمية هو الأخلاق ، كما قال كانط : أن لا سبيل إلى معرفة الله إلا عن طريق معرفة القانون الأخلاقي ، ولهذا جاء في الآية : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) فمن لا يعمل عملا صالحا فلا لقاء بربه ، ولن يعرفه ، وسيظل بالتالي مشركا كما قال أرسلان الدمشقي : كلك شرك خفي ... أما إذا عمل صالحا ، والأمر رهين بالعناية السابقة وطبيعة الاستعداد والتوفيق الإلهي والتسديد والتيسير فالنتيجة التوحيد والنجاة من شباك الشرك ، إذ من لا يتعلم اليقين ويعرفه ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (تعلموا اليقين فإني أتعلمه) ، فهو مشرك وكله شرك خفي وهو لا يعلم.

٥٥١

سورة مريم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (كهيعص (١))

[مريم : ١]

لأول مرة في ترتيب السور تفتتح سورة بالحروف المذكورة ، والسبب كون مريم أم العالم ، وهي التي تحمل من غير زوج إلا الروح ، وتضع عيسى الكلمة الأزلية وروح الوجود نفسه ممثلة عن الله.

(فالكاف) إشارة إلى قوله سبحانه : كن ، فكل ما في الوجود مدرج في هذا الفعل الدائم ما دام الوجود صادرا صدورا إشعاعيا دائما عن الله ، و (الهاء) النفس الحياتي الصادر من كل ذي حياة ، ولقد ثبت علميا أن النبات يتنفس ، وله دورتان متعاكستان للتنفس ، بل وثبت أن الجماد يتنفس ، و (الياء) ياء ياسين قلب القرآن كما سمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة يس ، وهي في الوقت نفسه قلب العالم ، والله هو قلب العالم الحي ، ولم تعرف العلماء حتى يومنا هذا كيف ينبض القلب ، ولا كيف تصدر الإشارات الكهربائية إليه من الدماغ لينبض ، ولا كيف يضبط القلب في وقت دقاته التي تعد مثل دقات الساعة ، والعين عين الوجود الجامعة ، وهي تلي القلب الإلهي ، إذ العين الصفة ، والصفات لله ، فإذا كان القلب مركز الدائرة فالعين أو الأعيان هي ما شعت عن هذا المركز.

والصاد الصيرورة الحية للديمومة المكنونة ، فالله ما خلق هذا الوجود العياني إلا ليظهر به كما ورد في الحديث القدسي ، والصيرورة معناها الظهور نفسه لا التطور الديالكتيكي الذي تحدث عنه هيغل قائلا : إن العقل الإلهي يتطور عن طريق الجدل ... فالله فض قواه بالجدل ، وكلما تقدم الزمان ازداد انفضاض القوى فازداد ظهور الله ، والدليل ما وصلت إليه العلوم الحديثة التي جعلت هدفها كشف قوانين الفلك والفضاء وتتبع ما يقع في الفضاء وبين الأجرام من تفاعلات تدل على الفعل الواحد ذي القانون الواحد الأزلي القديم ، ولو كان الوجود فوضى مفتقرة إلى القانون فكيف تعتمد العلماء في أبحاثها هذه الفوضى ، ويبنون وفق ملاحظاتهم واكتشافاتهم بنيان علوم الفلك والفضاء؟

٢ ، ٥ ـ (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥))

[مريم : ٢ ، ٥]

٥٥٢

النداء إشارة إلى القلب أو النفس الجزئية وقد تعب من التفكير في الأحجية الكبرى التي هي الحياة ، فمن دون اعتماد الشريعة ، كيف يعلم الإنسان من هو ، ومن أين جاء ، وكيف جاء ، وما دوره في الوجود ، وإلام الصراع والألم والعذاب؟ فالإنسان من غير الشريعة تائه بائس مسكين.

ومع هذا فللشريعة حدود كما جاء في وصف الأعراب : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤] فالإيمان درجات أولها الإيمان بالله ، وزكريا أنهى دوره وعمل صالحا وجاهد واجتهد ، ولكنه ظل مع هذا متعبا كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا راحة لمؤمن إلا بلقاء ربه) ، وقال عارف : توقع الأكدار ما دمت في هذه الدار ، فزكريا شكا ربه ما به ، وأن العمر تقدم به ، وأنه خائف من الدنيا وشركها ، وما تفرضه من مجاهدات ، كما أن الخواطر بالمرصاد ، ولا ينجو من الخواطر حتى ولا المؤمنون ، والخواطر هي ما رمز إليها زكريا بالموالي ، وقوله : (مِنْ وَرائِي) أي هن على أثري ، أي لا يدعونني ...

وقوله : (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) إشارة إلى النفس الحيوانية التي كنا سميناها الجسم الكلي والروح الحيواني والتي هي مركبة الإنسان بما لديها من أجهزة وآلات كالدماغ والأعصاب والحواس ... ووصف هذه النفس بأنها عاقر يعني أنها لا تستطيع إلا جمع المعلومات من الخارج ، ولهذا رفض الفيلسوف كانط إثبات وجود الله بالأدلة العقلية ، إذ الفكر متناقض ، ويمكن اعتماده لإثبات وجود الله ولعدم وجوده ، وهذا أمر مشاهد لدى الفلاسفة المؤمنين والملحدين.

وقوله : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ،) يعني أن ارزقني اليقين ، كما قال موسى لفتاه : (آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) [الكهف : ٦٣] ، وفي قوله : (وَلِيًّا) نكتة ، فالولي من ولاه الله ، بل إن عبد الكريم الجيلي جعل الولي الحق نفسه ، كما قال سبحانه : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٢٥٧] ، فزكريا سأل ربه أن يهبه اليقين لينجو مما هو فيه من أذى الخواطر والشكوك وتعب المجاهدات.

٦ ـ (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦))

[مريم : ٦]

الوراثة ، وراثة الروح ، أي أن يصبح الروح هو الوارث ، والوارث اسم من أسمائه تعالى ، وآل يعقوب الجماعة المؤمنون الواقفون بالباب ينتظرون الرحمة والبشرى والدخول في الصالحين.

٧ ـ (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧))

[مريم : ٧]

يحيى إشارة إلى اسمه تعالى الحي ، فهو كالعبد الصالح الذي لقيه موسى عند مجمع

٥٥٣

البحرين ، والغلام رمز الولادة ، والإشارة إلى ولادة اليقين نفسه من ذات الإنسان ، ولهذا سمي الرجل والدا ، أي أنه يلد ، كما سميت الأم أيضا والدة ، فالوالدان يلدان ، وهما أيضا أبوان كما قال سبحانه : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) [الكهف : ٨٢] ...

والإشارات إلى أن الإنسان نفسه يحمل ويلد ، وذلك لكونه قلبا متقلبا بين أبيه الروح الكلي وبين النفس الحيوانية ، فالإنسان خلق للولادة ، والولادة هي الأمانة التي قال فيها سبحانه : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : ٧٢] ، ولهذا كان الإنسان أعظم مخلوق وأشرف مخلوق ، وما رفعه الله درجة فوق الملائكة إلا لأنه اصطفى واصطنع للولادة ، فالإنسان تاج الوجود ، استودعه الله سره الذي هو جوهرة التاج والمعرفة الإلهية.

وقوله سبحانه : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ،) يعني أن يحيى خرج على دائرة الأسماء الوجودية نفسها لأنه ممثل اسمه تعالى الحي ، والاسم الحي تاج الأسماء وأولها كما جاء في وصف الصفات الإلهية السبع ، فالله هو الحي قبل أن يكون عليما ، وهو العليم قبل أن يكون قادرا ، وهو القادر قبل أن يكون سميعا بصيرا ... والملاحظ أن الفارق بين الله والإنسان ، أو بين الواجب والممكن هو كون الواجب بذاته موجودا بذاته أي حيا بذاته ، ولهذا قال الفارابي في وصفه سبحانه : به يكون تجوهره.

ويحيى ممثل هذا الاسم العظيم ، ولهذا لا يدرج اسمه تحت اسم آخر لكونه ممثل الاسم الأعظم.

٨ ـ (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨))

[مريم : ٨]

تعجب القلب من أن يلد ، وقد سبق له أن أخرج المعقولات من المحسوسات ، وأعمل فكره واستنتج وحلل واستنبط ومع هذا فلقد ظل الغيب عنه مطويا ، فكيف يبلغ القلب فلكا آخر غير هذا الفلك الذي يسبح فيه الناس أجمعون؟

٩ ـ (قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩))

[مريم : ٩]

الجواب إلهي وهو أن الله الذي خلق الإنسان ولم يكن شيئا وهبه ما وهبه من إمكانات وصفات وقوى ، وهو القادر أيضا على أن يزيده علما إلى علمه ، وسيكون العلم من نفسه ذاتها ، قال جلال الدين الرومي : منا كان السؤال ومنا كان الجواب أيضا.

٥٥٤

١٠ ـ (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠))

[مريم : ١٠]

عدم تكليم الناس إشارة إلى الاعتكاف في محراب الخلوة والانقطاع عن العالم الخارجي ، ليتحقق تفجير الطاقة النورانية الكامنة في القلب ، وتحديد المدة بثلاث ليال إشارة إلى العوالم الثلاثة التي خلق الله الإنسان فيها من قبل أن ينفخ فيه من روحه كما قال سبحانه في موضع آخر : (مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزّمر : ٦] ، وهذه العوالم هي الذات والصفات والأفعال.

١١ ـ (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١))

[مريم : ١١]

القوم إشارة إلى الحواس ظاهرة وباطنة وقد حبست في الخلوة انتظارا لظهور الوحي ، والملاحظ أن كلمة القوم هي مفرد ولها معنى الجمع كما يقال جيش مثلا ، وفي الفلسفة تدرج الجزئيات في الكليات حيث يكون الناس ممثلي الإنسانية ، وتكون الإنسانية ممثلة النوع ، ويكون النوع واحدا وإن ظهر في كثير.

١٢ ـ (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢))

[مريم : ١٢]

قلنا : يحيى إشارة إلى القلب وقد انفجر فيه النور الشعشعاني فضاء المصباح المقدس الذي ورد ذكره في موضع آخر كقوله سبحانه : (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) [النّور : ٣٥] ، والكتاب فض ختم النفس الكلية التي صار القلب ممثلها ولسانها الناطق ، والتي سميت في القرآن أم الكتاب ، ففي هذه النفس العلوم المطوية التي نشرت في العالم المحسوس عن طريق الحواس نفسها فكان الإنسان الأرض والفلاح والماء والحصاد.

وقوله : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) يذكر بقوله تعالى في عيسى ابن خالة يحيى : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) [آل عمران : ٤٦] ... والإشارة إلى الولادة الذاتية المعنوية العلمية الجديدة التي يكون الإنسان حيالها مثل الصبي الذي جعل يتكلم.

١٣ ، ١٤ ـ (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤))

[مريم : ١٣ ، ١٤]

الحنان والزكاة والتقوى من صفات الأولياء ، وهي خاصة بهم دون الناس ، ولهذا رجحت أخلاق الأنبياء والأولياء أخلاق الناس أجمعين ، قال ابن سبعين : أهل الحقائق موالدهم معلومة ، ونفوسهم معصومة ، وأحلامهم مسددة موفقة ، وخواطرهم صادقة مصرفة ، وأخلاقهم حسنة لينة ، وأحوالهم بالجملة فاضلة سهلة هينة.

٥٥٥

١٥ ـ (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))

[مريم : ١٥]

الولادة ولادة النفس الجزئية من النفس الكلية وسكناها الجسد ، والموت موت هذه النفس المعنوي وذلك بكشف الغطاء عن حقيقتها وذلك كما قال هيغل : تحول العقل إلى روح تعي نفسها أنها روح ، والروح يجب أن تكشف أنها ليست أنا فقط وإنما هي نحن أيضا ، والبعث القيام من بين موتى الجهل ، فتصبح حياة الإنسان حقيقته ، أو كما قال عيسى عليه‌السلام : (لا يدخل ملكوت السموات من لم يولد مرتين) ، وقال أبو العباس المرسي : أنا والله ممن ولد مرتين ، الإيلاء الأول إيلاء الطبيعة ، والإيلاء الثاني إيلاء الروح في سماء المعارف.

١٦ ، ١٧ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧))

[مريم : ١٦ ، ١٧]

قلنا : مريم إشارة إلى النفس الكلية الجامعة وقد مثلها الإنسان الكامل الذي صار صالحا لاستقبال الأنوار ، فلهذه النفس الكلية المسماة في الفلسفة النوع أفراد يمثلون هذا النوع كما يمثل النبي النبوة.

والمكان الشرقي التوجه إلى جهة الروح وذلك بأن يدعى المراد إلى دخول الخلوة والاعتكاف ، والحجاب إسدال الستار بين النفس والناس من أجل تحقيق أهداف الخلوة ، وعلى هذا الأساس كونت الصوفية مذاهبهم وطرائقهم ، وعمرت مدارسهم بطلاب الحقيقة من المريدين والسالكين ، واشتهرت مدارسهم وطرائقهم كالطريقة الشاذلية والطريقة النقشبندية والطريقة الرفاعية والطريقة المولوية نسبة إلى جلال الدين الرومي ... وكل هذه الطرائق تدعو الناس إلى الاعتكاف وإرخاء الستار بين النفس والعالم البراني لفتح مغاليق العالم الجواني ، والروح صوت الضمير وقد انتقل من فلك الأنا إلى فلك نحن فإذا هو صوت جماعي كلي يجعل المكاشف يتحقق بأن صوت الجزئي كلي ، ويعي قوله سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [الشمس : ٨ ، ٧].

والتمثل في صورة بشر ظهور الروح من الأنا نفسها ، وعادة الإنسان أن يحاور نفسه ، ويقال في الأدب : فلان يفكر بصوت عال ، فهذا الحوار الذاتي شخصي ولكنه عند الكشف يصير جمعيا ولهذا وصف في الآية بأنه بشر ، والبشر صيغة مفرد تفيد معنى الجمع ، فالروح ظاهر بالبشر دون أن يدري البشر.

١٨ ـ (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨))

[مريم : ١٨]

الصوت الذاتي الجامع يظهر بكشف سر التضاد ، وفهم سر التضاد هو المدخل إلى عالم

٥٥٦

التوحيد ، ولهذا فالمعتكف الذي يسمع ضميره ، وقد طلع عليه من جانب التضاد يصاب بالهلع والذعر كما ذعر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ظهر له جبريل وغطه ، وقال له : اقرأ ، فرجع إلى أهله قائلا : (زملوني زملوني).

١٩ ـ (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩))

[مريم : ١٩]

قلنا : الغلام إشارة إلى الولادة المعنوية العلمية الجديدة ، فصوت الإلهام يبشر المراد بأن الغطاء قد كشف عنه ، وأن الحجاب قد رفع ، وأنه قرب من الحق وكلم نجيا.

٢٠ ـ (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠))

[مريم : ٢٠]

تعجب القلب من هذه الولادة العلمية ، سيما وأنه استهلك واستنفد ما عنده من كليات مجردة جردها من المحسوسات ووظفها في سبيل التعلم ، فكيف يكون بعد علم أرسطو علم آخر؟

٢١ ، ٢٢ ـ (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢))

[مريم : ٢١ ، ٢٢]

جواب الحق سبحانه بأنه على كل شيء قدير ، وفي مخاطبة الحق لزكريا في أول السورة جاء : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [الآية : ٩] ، فالذي أخرج الإنسان من بطن أمه ، شبه حيوان حتى عرف في الفلسفة بأن حيوان ناطق ، وسماه ابن عربي : الإنسان الحيوان ، والذي علم الإنسان ما لم يعلم حيث أخرجه من غاب الجهل وجعله إنسانا ورفعه فوق المخلوقات بل فوق الملائكة ، وذلك بما وهبه من العقل الذي هو أشرف وأعظم هبة إلهية للإنسان .. أو ليس الذي فعل هذا بقادر على أن يرفع الإنسان فوق درجته درجات ويجعله إنسانا إلهيا؟

٢٣ ـ (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣))

[مريم : ٢٣]

النخلة قطوف المعقولات ، وهي عدة المحارب التي بها يحارب الحق الفكر ذا التجارب ، فالفكر بعد أن استنفد إمكاناته ، ووقف بباب الحق حيران أتاه الحق من حيث لا يحتسب وجعل له مخرجا ، والمدخل هو الكشف وهو ضربان كشف اليقظة وكشف المنام أما كشف المنام فمدخله قول أم المؤمنين عائشة : أول ما بدئ به النبي الرؤيا الصالحة ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الرؤيا الصادقة وحي من الله) ، وقوله : (الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي ، فشق ذلك على الناس فقال : لكن المبشرات ، فقالوا : يا رسول الله وما المبشرات؟ قال : رؤيا

٥٥٧

المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة) ، ولقد سأل أبو الدرداء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ،) فسأله عن البشرى في الحياة الدنيا فقال : (ما سألني عنها غيرك منذ أنزلت ، وهي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له) ، وقال الفارابي : اللهم أر نفسي صور ، الغيوب الصالحة في منامها وبدلها من الأضغاث برؤى الخيرات والبشرى الصادقة في أحلامها.

أما كشف اليقظة فهو ما سماه ابن عربي : الخيال المنفصل وعرفه بقوله الاستشراف على حضرة الخيال الصحيح الذي لا يدخله ريب ما هو الخيال الذي هو قوة في الإنسان في مقدم دماغه بل هو خيال كجبريل في صورة دحية ، وهو حضرة مستقلة وجودية صحيحة ذات صور جسدية تلبسها المعاني والأرواح.

والحق يري المعتكف المكاشف بعين الخيال صورا من المحسوسات ذات معان باطنة من المعقولات ، ويحرك الحق هذه الصور فيدخلها في بعضها بعضا ويخرجها ويجعلها تتكلم ، فيفعل كما يفعل المخرج بالممثلين فيأمرهم ويوجههم ، وتكون النتيجة كشف النقاب عن العلم الإلهي الذي هو علم الغيب ، وهذا الكشف عظيم ، والقول فيه ثقيل ، ولهذا جاء في الآية على لسان مريم قولها : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا ،) والسبب أن الكثرة في هذا الكشف تنكشف بأن اللسان الناطق واحد بألسنة الناس ، قال ابن عربي على لسان الحق : (فتحت بيني وبينه بابا في ينظر إلي منه وأنظر إليه منه والخلق لا يشعرون ، فأحدثه على ألسنتهم وهم لا يعرفون ، ويأخذ مني على بصيرة وهم لا يعلمون ، فيحسبون أنه يكلمهم وما يكلم سواي ويظنون أنه يجيبهم وما يجيب إلاي).

وهذه المكاشفة هي التي ترى المكاشف رأي البصيرة كيف يكون الناس أمواتا وهم أحياء يرزقون ، ساكنين وهم يتحركون ، أشباحا وهم يملؤون الدنيا ظهورا.

٢٤ ـ (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤))

[مريم : ٢٤]

جواب صوت الله جبريل بألا تخاف مريم النفس ، لأنه وإن ذابت الكثرة في الوحدة ، وصارت ألسنة الخلق لسان الحق ، وصورهم صور معقولاته ، فإن الحصاد عظيم وهو تفجر العلم الإلهي الذي وصف بالسري ، قال ابن عربي إذا أخذ العارف في مشهد من مشاهد الربوبية حصل في مقدار يومها في تلك اللحظة من العلوم الإلهية ما يحصله غيره في عالم الحس مع الاجتهاد والتهيؤ من العلوم الإلهية في ألف سنة من هذه السنين المعلومة.

٥٥٨

٢٥ ـ (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥))

[مريم : ٢٥]

التقاط المكاشف أنفاسه بعد مرور هول الكشف فينتبه ويفيق مما هو فيه ، ويسأل من ثم صوته عن سر معادلات هذه الصور البارزة في ساحة خياله.

٢٦ ـ (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦))

[مريم : ٢٦]

بدء تشرب العلم الإلهي والطمأنينة التي تدخل القلب والسكينة كما قال سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) [الفتح : ٤] ، والصوم المنذور هو صوم المعتكف عن كشف سر الأسرار ، إذ المدخل سر عظيم قالوا فيه : الأمناء الأدباء لا يفشون أسرار الله ، ولا يطلبون بذلك علوا على غيرهم ، ولا فسادا في أمور الناس ، بل يعاملون الخلق بما يعامل بعضهم بعضا ، فلا يتعاطون شيئا من هتك ستر ولا نفوذ أمر ، بل كائنون مع الخلق بأجسادهم ، بائنون عنهم بأرواحهم في حضرة القرب الإلهي.

والسر كلمات أسرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في النزع إلى الأمام علي رضي الله عنه ، حيث أدخله في ثوبه ، وناجاه في اللحظات القليلة الأخيرة التي قبض بعدها ، فلما فرغ من نجواه خرج علي من عنده ، فسأله الناس عمّا أفضى به إليه فقال : (علمني ألف باب ينفتح لي من كل باب ألف باب) ، وقال أيضا : (لو وضعت لي وسادة ، وجلست عليها ، لحكمت لأهل التوراة بتوراتهم ، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم ، ولأهل القرآن بقرآنهم) ، وقال : (يحكى عن عهد موسى أن شرح كتابه أربعون حملا أي حملة العلم فلو يأذن الله لي في شرح معاني الفاتحة لأشرع فيها حتى تبلغ مثل ذلك).

٢٧ ـ (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧))

[مريم : ٢٧]

خروج العارف على الناس بعلمه الجديد ، وهو علم ثقيل بحاجة إلى صدور ذات سعة ، فلكم شنع على أعلام الصوفية ، وكم طعن عليهم وانتقدوا وجرحوا حتى كان زمان أحرقت فيه كتب الإمام الغزالي بالمغرب ، وما تزال كتب التوحيد الصوفية تلقى نقدا وردا من كثير من الناس ، وذلك بسبب ما في هذه الكتب من حقائق تضيق بها بعض الصدور.

٢٨ ـ (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨))

[مريم : ٢٨]

الإشارة إلى أن الملهم الذي ألهم العارف كتابة هذه الكتب أو الحديث عن علم التوحيد إلى الناس لا يمكن أن يكون هو نفسه جبريل الروح الأمين الذي أوحى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... كما

٥٥٩

أن النفس الكلية لا يمكن أن تكون مصدر إشعاع هذه العلوم ... هذا ما يقوله أعداء علماء التوحيد الذين يأبون إلا أن يكون الوحي قد انقضى زمانه ، وأن الله أو روحه الأمين لم يعد يوحي إلى أحد ، ناسين أو متناسين قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إن الله ليبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) ، وقوله : (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) ، وقوله : (واشوقاه إلى أخوتي الذين يأتون من بعدي ، هؤلاء أنبياء لا أولياء) ، وعلق ابن عربي على الحديث قائلا : يريد بذلك نبوة القرب والإعلام والحكم الإلهي لا نبوة التشريع ، لأن نبوة التشريع انقطعت بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهؤلاء متنبئون بعلوم الأنبياء من غير واسطة.

٢٩ ، ٣٢ ـ (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢))

[مريم : ٢٩ ، ٣٢]

الملاحظ في الآيات ورود ذكر عبد الله الذي يذكر بالعبد الصالح الذي لقيه موسى عند مجمع البحرين ، ويقول الإمام الغزالي : من اطلع على كنه حقيقة الملكوت انكشف له حقائق أمثلة القرآن على يسر ، فما ورد في القرآن من أمثلة لها تأويل واحد ، وعبد الله هو الولادة المعنوية التي سبق أن تحدثنا عنها ، وكما قال عبد الكريم الجيلي : فالولادة من البطن ، والبطن الباطن ، فالولادة باطنية ، وقلنا : مريم النفس الكلية التي تطهرت واصطفيت ، فالنفس إذن تلد الغلام الذي هو عبد الله ، والذي هو من روح الله ، والذي سينطق بالعلم الإلهي لأنه هو ممثل العلم الإلهي نفسه ... والإشارة إلى علم العارف الجديد الذي ينقله من مقام إلى مقام ، والتاريخ يقص علينا كيف كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنسانا عاديا يتاجر ويتنقل مع القوافل بين الحجاز والشام إلى أن هبط عليه الوحي فكان ما كان من أمره ، واحتل بالتالي مكانة ما تزال أعناق العلماء لها خاضعين ، ولقد كان جلال الدين الرومي فقيها يدرس الفقه ، فإذا هو بعد الاصطفاء والإجتباء والتعليم الإلهي يصير شاعرا ملهما وموحدا صوفيا ربانيا أتى بالعجب العجاب من الأشعار ، وكذلك كان الإمام الغزالي أستاذا يدرس في المدرسة النظامية ببغداد ، فإذا به يهجر التدريس وأصحابه وأهله ، ويهاجر إلى الشام ، وينتقل بين دمشق والقدس بضع سنين ، حتى إذا أتم تعليمه على الحق سبحانه عاد إلى الناس بعلمه الجديد ، وهو علم حير الناس إلى زماننا هذا ، ويكفي الغزالي فخرا أن يكون الفيلسوف الموحد الأول الذي حد للعقل حدوده ، وقال إن وراء العقل فلكا آخر أعلى وأرقى وأعلم هو فلك الإلهام والوحي والعلم اللدني ، ويكفي الغزالي فخرا أن يكون قد سبق الفيلسوف كانط بألف سنة حين جعل الأخلاق أساسا يشيد عليها صرح العلم ، وأنه لا علم بالله بلا أخلاق ، وأن السبيل إلى معرفة الله هو جلو القلب لا تكريس العقل ومعلوماته لإثبات وجود الله.

٥٦٠