التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

التضاد ، مع بقاء بقية من وجود الآنية يجعل الصدر ضيقا حرجا ، ولهذا جاء في الآية الخاتمة أن : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)).

واليقين هو المشاهدة الذاتية حيث يغيب الذاكر في المذكور ، والجزئي في الكلي ، والنور العارض في النور الأصيل ، ثم يغيب الشاهد في المشهود ، وإذا وصل العارف هذا المقام فني وفني العالم معه ، وما بقي إلا الله الواحد القهار الوارث يرث الأرض ومن عليها ، والنتيجة حصول برد اليقين ، وهو البرد الذي ورثه إبراهيم ، وعنده يرى العبد الوجود عائما في بحر من النور الأول ، ويرى الناس أشباحا وهياكل يجسدون مشيئة الله وقدرته ، وهذه رؤيا ذوقية عاشها أبو يزيد البسطامي فلما مر يوما على مقبرة لليهود ، توقف وقال مخاطبا ربه : ما هؤلاء؟ كف عظام جرت عليهم المقادير ، أعف عنهم.

٤٤١

سورة النحل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١))

[النحل : ١]

أمر الله الروح الفاعل ، وهو صنو الحق ، وأول مخلوق ، وأول من يفعل في الكثرة ، وأمر الله هذا هو المطاع الذي ورد ذكره بعدئذ ، وفصل الكلام فيه الإمام الغزالي ، كما تحدثت عنه في كتابي «الإنسان الكامل» مبينا كيف يقوم الروح بالأمر وينفذه ، ويرد كل ذي حياة إليه ، فهو الكامل المحيط صاحب العرش.

٢ ـ (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢))

[النحل : ٢]

الملائكة الخواطر ، ولهذا وصفوا في موضع آخر بأنهم جند الله يفعلون ما يؤمرون ، والروح محرك الخواطر ذاتها ، فهو بمثابة قائد الجيش ، فكل أمر منه وبه ، والروح هنا هو الروح الجبريلي الذي نزل على النبي في الغار ، فغطه ، وقال له : (اقْرَأْ ،) ولما كان الروح الروح من كل ذي روح فإن التنزيل ذاتي جواني ، أي ظهور ما في الباطن ولهذا قلنا بالولادة الذاتية ، والتنزيل تنزيل على العبد المصطفى المختار للمكاشفة وحمل الرسالة وأدائها ، والقصد التوحيد والخلاص من التثنية التي يظل القلب أسيرها هي والثنوية حتى يأتي اليقين.

٣ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣))

[النحل : ٣]

الآية تشير إلى ذهاب الثنوية واضمحلالها ، وإلى أنه لا إله في الوجودين العيني والعياني إلا هو.

٤ ـ (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤))

[النحل : ٤]

كون الإنسان خصيما إثباته وجودا هو الوجود الإضافي إلى جانب الوجود الإلهي الذي هو الوجود الأصيل.

٥ ـ (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥))

[النحل : ٥]

الإشارة ظاهرا إلى الحيوانات ، وباطنا إلى الجسم الكلي الذي يدرج فيه جسم الإنسان نفسه الحاوي لذاته الناطقة ، فهذا الجسم حامل محمول ، حامل للذات باعتبارها نورا محضا وباعتباره تكثف هذا النور ، ومحمول باعتباره أصلا نورا يتحرك بقوى النور ، ولهذا قال

٤٤٢

السهروردي بنور الأنوار والنور الأول والنور المضاف ، وفي الفلسفة يقال : إن النفس تفعل بتوسط العقل الفعال فهي واسطة ووسيط.

٦ ـ (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦))

[النحل : ٦]

الإشارة إلى تحصيل علوم أسماء الجمال عن طريق قوى الجسم نفسه الذي له وجهان ، وجه إلى العالم الظاهري وما فيه من صور ، ووجه إلى العالم الباطني وما فيه من صور عينية أي معان ومعقولات.

٧ ـ (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧))

[النحل : ٧]

الأنفال المعقولات نفسها ، والبلد الغاية من رحلة الإنسان فهو بمثابة البلد الأمين الوارد ذكره في موضع آخر ... أي أن الجسم وقواه يبلغ الذات مأمنها عن طريق حركته ونشاطه وقواه.

٨ ـ (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨))

[النحل : ٨]

مشاركة عالم الحيوان عالم الإنسان في أداء المهمة المفروضة ، فالحيوان هنا إشارة إلى الاسم الحي الذي هو الخلق الظاهر ، ولهذا عرف الإنسان في الفلسفة بأنه : حيوان ناطق لأنه يشارك الحيوان في كونه جسما حيوانيا يتحرك بالروح الحيواني.

٩ ـ (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩))

[النحل : ٩]

قصد السبيل تحقيق القصد من الخلق وهو إخراج المعقولات من خزائنها المغلقة ، وهذا لا يتم إلا بوجود العالم الحيواني الحي وما فيه.

ومعنى جائر ، كون شطر من عالم الحيوان حائدا عن تحقيق القصد الذي هو تفتيق المعقولات ، علما أن هذا الخروج هو في حقيقته لا خروج كما قال ابن عربي ضاربا مثلا اعوجاج القوس الذي هو في الوقت نفسه لا اعوجاج ، لأنه باعوجاجه قد رمى بالنبال ، فأصاب الهدف ، والمعنى الانشطار الذاتي وبالتالي الانشطار الأسمائي ، فالانشطار الصفاتي أي ما سميناه التناقض والتضاد هو لتحقيق القصد أيضا ، فمن لا يخطىء لا يصيب ، ولو لم يرد الله الإنسان أسفل سافلين لما عرج الإنسان إلى أعلى عليين.

١٠ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠))

[النحل : ١٠]

قلنا : الماء العلم الإلهي ، وكون هذا الماء منه شراب ومنه شجر فيه لطيفة ، فالشراب ما يشربه الإنسان نفسه ذوقا ، فالشراب العلم ، الذاتي الشخصي ، والشجر إشارة إلى الصفات ،

٤٤٣

والملاحظ أن كل صفة ، يتصف بها الإنسان يشارك بها الاخرين ، ويشاركه فيها الآخرون ، فلا معنى لكون الإنسان كريما إن لم تجد كفه بالمال لذوي الحاجات ، ولا معنى لكونه حليما إن لم يحلم عن السفهاء والجاهلين.

١١ ـ (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١))

[النحل : ١١]

الزرع الحنطة ، والمعروف لدى العامة قولهم الزرع جيد ، وهم يعنون الحنطة أولا وغيرها ثانيا ، والرسول عليه‌السلام قال في الشجرة التي أمر الله آدم وحواء بألا يقرباها إنها الحنطة ، فالحنطة شجرة الحياة إذ من دونها لا يعيش الإنسان ... والمعنى أن من العلوم الإلهية علوما تخص الإنسان في معيشته وحياته اليومية ، وهذا هو القصد من علوم الشريعة التي نظمت حياة الإنسان الشخصية والاجتماعية والعائلية ، فالإسلام بخاصة الدين الذي أعطى الحياة اليومية حقها من الرعاية والسياسة والدراسة ، ولهذا السبب اختار العالم الأمريكي مايكل هارث النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحتل المرتبة الأولى بين المائة الأوائل في التاريخ والميزان الذي وزن هارث هو أن تكون الشخصية التاريخية قد أحدثت أثرا في حياة الإنسان المادية والروحية ، وأن يكون صاحبها قد حقق للإنسانية التوازن النفسي الشخصي والاجتماعي الجماعي.

والزيتون هو من العلوم الإلهية الغيبية الذوقية ، إذ الملاحظ إنه سبحانه ضرب مثلا الزيتونة في موضع آخر قائلا : (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) [النّور : ٣٥] ، كناية عن الذات حين تشرق وتضيء لذاتها ، ولهذا نبهنا في كتابنا هذا على قيمة ما لدى الإنسان من كنوز العلوم الإلهية المخزونة والقابلة للاستخراج والانتفاع بها دنيا وآخرة ...

والنخيل يتبع الزيتون كما ورد ترتيبه في الآية ، والسبب ما جاء في سورة مريم إذ قال سبحانه : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥)) [الآية : ٢٥] ، ولقد وصف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم النخلة بأنها قريبة آدم ، وقلنا في وصفها إنها شجرة سماوية ما ورائية سمقت في سماء الروح فساقطت على النفس رطبا من العلوم الذوقية ، يراها زكريا العقل فيعجب من هذا الرزق غير العادي ، فيسألها : أنى لها هذا الرزق ، فتقول : هو من عند الله ، فالنخيل جني القطاف من شجرة الزيتون ، وهذا ما فعله إبراهيم نبي التوحيد حين وصل مقام البيت المعمور بملائكة المعقولات فجعل ينهل من علوم التوحيد ، ويسقي ، وسقياه الرطب من هذه العلوم.

والأعناب إشارة إلى أنهار الخمر الوارد ذكرها في موضع آخر ، وهي حصيلة العلوم الإلهية التي تفضي إلى الشرب من عيون الحب من الذات الإلهية ، والتي بها سمي الإسلام إسلاما ،

٤٤٤

كما قال سبحانه : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [يونس : ١٠].

١٢ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢))

[النحل : ١٢]

النجوم الأعيان الثابتة المشعة عن الحق أزلا وأبدا ، وهي ليست هو وليست غيره ، وقال ابن عربي : بل إنها هو ، وهذه الأعيان صفاته سبحانه ، من دونها ما كان يظهر ولا يعرف ، فظهوره بها وبه ، إذ لو لاه ما كانت ، ولقد انتقدنا فلسفة أفلاطون في كتابنا «الإنسان الكامل» إذ قال : إن الأعيان الثابتة ، أي المثل الأفلاطونية ، لها وجود واقعي خارج عالم العيان ، وكان ردنا أن لا وجود حقيقيا وواقعيا إلا للحي القيوم ، وأن ما يصدر عنه يصدر إشعاعا فإذا كف هو عن الإشعاع كفت هي عن الوجود.

وعليه فالأعيان الثابتة ليست إلا قوى ، تماما مثل أشعة الشمس الصادرة عن الشمس ، والتي لم ير أفلوطين وابن عربي وغيرهما من فلاسفة المسلمين مثلا ينطبق على الحق وصفاته سوى هذا المثال الحي.

وكما أن النجوم تهدي الناس في ظلمات البر والبحر كنجم القطب والثريا ، فإن الأعيان الثابتة هادية للناس ، بل وهي القاهرة فوقهم وعن طريقها يتم تحقيق القهر الإلهي ، إذ العين الصفة ، والصفة تلبس الموصوف وتسيره فلا خروج لأحد يمينا وشمالا على نجمه.

وربطت الفلاسفة وبخاصة اليونانيون الأعيان الثابتة بالنجوم الفضائية ذاتها ، فما ثمة إلا وحدة قيومية ظاهرة في العين والعيان ، إذ الأمر لله في سماء المعقولات وأرض المحسوسات ، ولهذا وجد علم التنجيم بين النجوم والبشر وتأثير النجوم فيهم وفي طبائعهم وأجسامهم وللعلماء المتخصصين أبحاث مطولة في تبيان هذه الصلة ، كما أفرد ابن عربي فصولا كاملة في الفتوحات للحديث عن هذه الصلة.

١٣ ـ (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣))

[النحل : ١٣]

في كتابنا «الإنسان الكبير» بحث طويل عن الصلة بين عوالم النبات والحيوان والإنسان ، وبيّنا أنه لا يمكن فصل عالم من هذه العوالم عن الآخر ، ولو انفصل لمات هو والعالمان الآخران ، فالله سبحانه ما خلق شيئا عبثا ، فمن أصغر جرثوم إلى أكبر جرم هناك صلة كاملة متكاملة أوضحناها وشرحناها شرحا نفسيا وفيزيولوجيا وبيولوجيا وسماويا وأرضيا مبينين أن ثمة رابطة تربط بين هذه العوالم ، وهذه الرابطة هي الروح الفاعل المعبر عن وجوده بالواحد

٤٤٥

وبمساعدة أنوار تسعة أول هي مبادئ الوجود وأسسه ، وسميت هذه الأنوار أو العقول أعدادا مثالية اهتدى إليها أفلاطون في أواخر أيامه ، وشرحنا في كتابنا المذكور أن الفيثاغوريين علماء الرياضيات القدامى هم الذين قالوا : إن النوتة الموسيقية تتألف من أعداد تقوم على أسس عددية ، وأن الفواصل الموسيقية الرئيسية في السلم الموسيقي يمكن أن يعبر عنها في نسب من الأعداد الأربعة الأولى ، وهذه الأعداد مجتمعة تشكل العدد عشرة الذي كان له عند الفيثاغوريين دلالة مقدسة ، ولما كانت الموسيقى لها قوة خاصة على الروح ، وهي التي تتخلل الكون فإن العالم كله لا بد وأن يكون على نحو ما مؤلفا من العدد وعناصر العدد.

والمهم القول : إن الكون وحدة ، وإن للنبات دورا في حياة الإنسان ، وإن للحيوان دورا في حياة النبات من جهة وفي حياة الإنسان من جهة أخرى ، وإن الإنسان من دون عالمي النبات والحيوان لا يستطيع أن يحيا ... ثم يحيا ... ثم بينا أن لهذه العوالم لغة خفية واحدة هي لغة الموسيقى الكونية.

١٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤))

[النحل : ١٤]

البحر الذات بشقها الهيولاني ، وعليه فلقد قالت الفلاسفة : الموضوع امتداد للفكر وأنه هو الفكر مجسد ، فلا اثنينية في الوجود وكان في هذا التوحيد الرد على ديكارت الذي فصل بين الفكر والموضوع.

واللحم الطري المعقولات المستخرجة بالتجريد من المحسوسات ، والتي إليها أشار النبي في حديثه عن الساعة وأشراطها ذاكرا إن من علامات الساعة أن من الناس من يأكل حشيش الجزر ، وقال عبد الكريم الجيلي مفسرا أكل حشيش الجزر : أكل من حشيش الأكوان جزر ظهور الرحمن ، والجزر في اللغة كل شيء مباح للأكل ، أو ما يصلح للذبح من الشاة ، والإشارة إلى العلوم المستودعة في الإنسان الذي ما إن يضحي بنفسه حتى يستخرج مما أودع فيه من اللحم الطري.

والحلية المستخرجة للباس الصفة المستخرجة من الموصوف ، وإليك سر هذه الرقيقة التي اقتضت خلق العالم لاستخراج الحلي منه ، فلقد ذكرنا أن الجهاد ضروري لفلق مكنون الصفات ، وعليه فكما أن الغواص يغوص في البحر ليستخرج اللؤلؤ والمرجان مكابدا مجاهدا صابرا كذلك فإن الحياة على الأرض ضرورة تقتضي استخراج الحلي ، وفي كتاب الله وصف للذين يستخرجون حلي الصفات من جهنم العيش والحياة إذ قال : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٩] ، أي فقر وجوع.

٤٤٦

والفلك ما يعوم به الإنسان في بحر الحياة العاصف الذي كم أغرق من أمم ، فما يحفظه التاريخ من الإنسان ليس إلا سيرة العظماء الخالدين من ذوي الأخلاق والشجاعة والحكمة وما شابه ، ولهذا قال هيغل : إن الروح يظهر في ما ينتج من فلسفة وفنون ، كما يظهر بظهور الأنبياء وأكابر الرجال ، والمهم القول : إن هذا الفلك هو فلك نوح الذي نجا به وعليه من طوفان الهيولى التي تغرق كل ذي حياة إلا من تغمده الله برحمته ونجا.

١٥ ـ (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥))

[النحل : ١٥]

الرواسي الأخلاق الشوامخ من الصفات الجميلة ، ولقد قال القسيس لجوليان بطل رواية «الأحمر والأسود» للمؤلف (ستندال) : أخلاقك رأس مالك الوحيد ، وقال سبحانه : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٨ ، ٨٩] ، فإذا أردت أن تستند إلى قاعدة صلبة ثابتة في هذه الحياة فعليك بالأخلاق الرواسي.

١٦ ـ (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦))

[النحل : ١٦]

سبق أن تحدثنا عن النجوم الهاديات ، والملاحظ هنا أن النجم ذكرا مفردا ، وقيل إنه ذكر بمعنى النجوم ، والتأويل يقبل التفسيرين ، فباعتبار النجم المفرد فالنجم الضمير ونور الهدى وهو واحد كلي موجود في كل الناس ويشارك في الهدى كما تكون الكهرباء وسيلة وشرطا لإضاءة المصابيح ، قال كانط : شيئان يملآنني إعجابا يوما بعد يوم النجوم فوق رأسي والقانون الأخلاقي في داخلي ، فليس ثمة إلا الروح الكلي ظاهرا وباطنا ، وعلى هذا الروح الكلي أقام هيغل صرح موسوعته الفلسفية الضخمة التي تعتبر منارة تهدي الناس سواء السبيل ، وتبين ما للروح من دور في هذا الوجود ، وما ظواهره ، وما قوانين هذه الظواهر.

أما على مستوى الجمع ، أي أن يفسر النجم بالنجوم ، فالمنطلق من الشمس إلى الأشعة ، ومن الأشعة إلى الكواكب المستقبلة للأشعة والأقمار ... فهذا صدور من الواحد الذي هو أصل الأعداد إلى الأعداد نفسها المقومة بالواحد ولا وجود لها إلا به ، ويشارك في هذه العملية القيومية النجوم الثوابت أي الأعيان الثابتة التي كنا تحدثنا عنها ، وهي المثل الأفلاطونية وصور أرسطو ذات الكمال التي تجذب إليها المادة ولا تنفصل عنها مادام الوجود قائما.

١٧ ، ١٩ ـ (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩))

[النحل : ١٧ ، ١٩]

أنظر إلى وجه طفل جميل وتأمل هذا الإعجاز في الخلق ... أوقف عند الغروب متأملا الأفق وبخاصة إذا كانت ثمة سحب توشي السماء ، أو إنطلق في البساتين والبراري ، والدنيا

٤٤٧

ربيع ، والأشجار قد اكتست حلة قشيبة من الزهر ، وانظر إلى ظبي صغير وهو يرضع ثدي أمه ، ثم قارن بين هذه الروائع والروائع التي صنعها فنانون كبار أمثال دافنتشي ورامبرانت وميشيل أنكلو ورينوار ، تجد أن ثمة خيطا رفيعا يفصل بين روائع الطبيعة وروائع الفن ، هذا الخيط هو الخلق ، فالفنان يخلق ، إلا أن خلقه تجسيد ، والتجسيد تثبيت ، إنه قادر على أن يرسم وجها جميلا كالجيوكندا ولكنه عاجز عن أن يجعل عيني الوجه تتحركان أو تومضان ، أو أن يجعل الصورة تتكلم ، ولعل هذا هو السبب الذي جعل رساما ونحاتا عظيما هو ميشيل أنكلو يقف أمام تمثاله الخالد موسى متأملا ، ثم أهوى بإزميله على قدم التمثال ، وصاح فيه : إنطق ، إلا أن التمثال بالطبع لم ينطق ، وكانت النتيجة أن التمثال فقد إصبعا من أصابع قدمه.

فالخلق الإلهي هو غير الخلق البشري ، وما يميز الإلهي عن البشري هو أن الإلهي فيه روح ، أي حياة ، أي حركة وشعور وإدراك ، في حين أن الخلق البشري ليس إلا تصويرا لشيء جميل ، والصورة ميتة ليست ذي حياة ، ووصفناها بتثبيت لحظة عابرة. ولقد ضرب الله مثلا في الآية قائلا : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ،) فالخلق من صنع الله ومن اختصاصه وحده ، ولقد تحدثنا من قبل عن خلق البعوضة والذبابة ، فبين الله والإنسان ثمة سور لا يمكن طفره ولا تجاوزه ، هذا السور له أسماؤه كالخالق البارئ المصور.

٢٠ ـ (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠))

[النحل : ٢٠]

في الآية ذكر آخر لإعجاز الخلق وهو موقف الإنسان من نفسه ، فالإنسان جاء إلى هذه الحياة مخلوقا لا خالقا ، أي أنه لما وعى وجوده وجد نفسه مخلوقا لا خالقا ، وواضح أن الإنسان لا دور له في خلق نفسه ، ولا في صنع صورته ، ولا في تحديد قامته بل ولا في اختيار طباعه وميوله ... فهذه كلها خلق ، وهي خلق إلهي ، والإنسان يتصرف في هيكله ، وبهيكله علما أن هذا الهيكل ليس له ، ولئن تصرف فيه فبحكم العارية.

٢١ ـ (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١))

[النحل : ٢١]

الإشارة إلى الغفلة التي تعم الناس جميعا ولا يشعرون ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) ، فالنوم الذي ذكره النبي هو مثل الموت المذكور في الآية ، والمعنى أن الإنسان غافل عن معرفة حقيقته وحقائق الوجود من حوله إلى أن يستيقظ ، والمهم القول : إن ثمة حجبا تلف الإنسان ، فإذا رفعت الحجب استيقظ الإنسان اليقظة الحقيقية الروحية والتي وصفها سبحانه بأنها : البعث.

٢٣ ، ٢٢ ـ (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا

٤٤٨

جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣))

[النحل : ٢٣ ، ٢٢]

قوله : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ذو مغزى عظيم ، وهو قاع بحر الحقيقة فكيفما غاص الإنسان أو عام فهو في بحر الوجود الذي إلهه إله واحد ، ولقد تحدثت الصوفية كثيرا عن كون المعبود ، أي معبود ، هو الله ، وإن عبد المظهر أحيانا كالنار ، والوثن ، وسر ذلك أن الداعية القلبي هو إلهي ، فتوجه الإنسان إلى تحقيق قصد معين هو توجه إلهي ، ولهذا قالت الصوفية : إن الإرادة الإنسانية داخلة في نطاق الإرادة الإلهية ، والآية أشارت إلى الإله الواحد ، ثم وصفت هذا الإله بأنه إله الجمع ، والنتيجة أن كل توجه يميني وشمالي ، ظاهري وباطني ، إيماني وإلحادي ، هو قصد إلهي ، وإلا لكان في الوجود آلهة بعدد البشر ، ومشيئة كل منهم ، وإرادة كل أحد وهذا مستحيل. وترى في الآية وصفا للذين لا يؤمنون بالآخرة وقلوبهم منكرة ، ومع هذا فهذا الوصف تبع القول إن إله البشر إله واحد ، وتفسير هذا أن القلب المنكر منكر بمشيئة الله أيضا ، فهذا الإنكار يذكر بإنكار إبليس لأمره تعالى الملائكة بالسجود لآدم عليه‌السلام ، وقالت الصوفية : إن إبليس مجبور في إغوائه ، ونضيف : حتى في إنكاره ، فما أنكر المنكر إلا بعد أن ألهمت نفسه بأن ينكر ، وبهذا يكون سياق الآية واحدا ، وهو كونه تعالى السائق القاهر.

٢٤ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤))

[النحل : ٢٤]

أثبتت الدراسات الفلسفية الحديثة ، ومنها دراسة الفيلسوف الألماني شيلنغ في كتابه «فلسفة الأسطورة والكشف» ، أن الأساطير ذات أصل توحيدي ، وكنا قد بحثنا هذه المسألة مطولا في كتابنا «الإنسان الكبير» ، ويؤكد شيلنغ أنه ما من أسطورة إلا ولها أصل توحيدي ولكن الناس حرفوها من بعد ذلك ، وأخفوا الظاهر وتعلقوا بالمظاهر ، وهذا حال كل الأساطير التي عرفها التاريخ.

٢٥ ـ (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥))

[النحل : ٢٥]

حمل الأوزار إشارة إلى النتيجة المترتبة على تحريف الأساطير ، ونحن نقول أساطير من باب التعريف بحكايات التاريخ ، وإلا فالأساطير ليست أساطير كما أسلفنا القول ، وتحولها إلى أساطير هو الذي جعل لها أوزارا يحملها المحرفون والمؤمنون بالأساطير المحرفة.

وقوله : (يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ،) إشارة إلى أن كثيرا من المحرفين حرّفوا عن جهالة ، ولم يكن قصدهم تحويل الأسطورة عن معناها الحقيقي ، وهذا شائع في القبائل البدائية والمنجمين والكهنة الذين يعتبرون حكماء حاكمين متوجين في هذه المجتمعات التي تجد فيها ريح الألوهية الشاملة الظاهرة في عبادة الصور.

٤٤٩

٢٦ ـ (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦))

[النحل : ٢٦]

لا يفهم بطن هذه الآية إلا صاحب الرؤيا والكشف ... ، وكنا قد تحدثنا عن المكر الإلهي من قبل ، ووصف سبحانه نتائج هذا المكر بأنه يأتي البنيان من القواعد ، ويخر من ثم السقف ... والسر كله في الإلهام والملهم ، وفي كتابنا «النصوص في مصطلحات التصوف» قلنا : إن للعين الإنسانية عينا أقدم منها وأرسخ وهي التي تربط وتقطع وتبت ، فالأمر أشبه بقاطرة ومقطورة ، فإذا كان الوجود ظاهرا وباطنا قطار فالقاطرة الحق والمقطورات الوجود العياني.

وعلى هذا الأساس فالوجود هو البنيان الوارد ذكره في الآية ، وإتيان الله هذا البنيان من القواعد يعني أن قواعد البنيان محمولة على القاعدة الإلهية ، أي أن مقطورات الوجود تجرها القاطرة الإلهية ، فلا بنيان من غير قواعد ، ولا قواعد من غير قاعدة أساسية أو قل أرضية أساسية ، والسقف إشارة إلى الغطاء ، والغطاء حجاب ، وقلنا : إن فهم الآية رهن بالذوق والكشف ، وعليه فالسقف يخر لما يرى الرائي أن الحجب كشفت فإذا الله تحت السقف مثلما هو فوقه ، وإلى هذا أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : (إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لا حرقت سبحات وجهه ما أدركه البصر من خلقه) ، ولقد سأل رجل البسطامي : متى يصل العبد إلى الله؟ فقال : يا مسكين وهل وصل إليه أحد؟ لو بدا للخلق منه ذرة ما بقي الكون ولا ما هو فيه ، وقال في المكر الإلهي : لا يأمن قلب العارف من مكره وإن نودي بالغفران ، وسئل عن الاسم الأعظم فقال : في قولك لا إله إلا الله ، وأنت لا تكون هناك.

وقوله سبحانه : (لا يَشْعُرُونَ ،) يعني أن الناس لا يشعرون بهذه الحضرة القاهرة الآمرة الباطنة الظاهرة والحاكمة بأمرها في الوجود ، إلا الله كما قال البسطامي ، ولهذا قال الصديق الأكبر : (ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله) ، وقال لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل ، وعلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك قائلا : (أحسن بيت قالته العرب قول لبيد).

٢٧ ـ (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧))

[النحل : ٢٧]

استثنت الآية أولي العلم وهم أصحاب الكشف كما قلنا ، فهؤلاء الذين استشهدوا فشهدوا كيف يكون الخزي والسوء على الكافرين.

وقوله : (الْيَوْمَ ،) إشارة إلى اليوم الإلهي العالي على اليوم الزماني العادي ، والذي ورد ذكره في موضع آخر كقوله تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ

٤٥٠

سَنَةٍ) [المعارج : ٤] ، فاليوم الإلهي يوم أزلي ، ووصف هذا الأزل بأنه مجموع الأيام الزمنية ، ونضيف بل والساعات والهنيهات.

٢٨ ـ (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨))

[النحل : ٢٨]

قلنا : الملائكة المعقولات ، والملاحظ في الآية أن الملائكة لا الملك عزرائيل فقط هم الذين يتوفون الأنفس ، وفي القول رقيقة وهي كون المعقول هو الاسم ، والاسم إطار الرسم أي الهيكل ، فالتوفي بهذا المعنى يعني الإستيفاء وهو دائم ، فهو كمن له دين على إنسان فهو يطالبه به ، ويحصله منه ، فكل معقول يستوفي حقه من المدين منذ ساعة نفخ الروح في الجنين ، إذ كل معقول جنين ، وعلى هذا فالتوفي استيفاء زمني إلى أن يحين أجل الهيكل البدني ، فيسترد المعقول عاريته من الهيكل ، فيكون التوفي البدني ولهذا يقال للميت متوفى بالألف المقصورة ، ويقال للروح أو الحق متوفي بالياء ، أي يكون الفاعل واسم الفاعل.

٢٩ ـ (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))

[النحل : ٢٩]

أبواب جهنم أسماء البلاء ، والخلود خلود هذه الأسماء وصفاتها ، أما تعيناتها فهي تتابع التعينات كما قال سبحانه في موضع آخر : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) [النساء : ٦٥].

وفي قوله : (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ،) لطيفة ، وهي كون الكافرين متكبرين حكما بسبب انحجابهم عن الله ، وما لم يرفع الحجاب بين الإنسان والله فإن الإنسان يبقى متكبرا بمعنى ، اعتداده بقواه وإيمانه بأنيته وحريته.

٣٠ ـ (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠))

[النحل : ٣٠]

الخير المذكور خير المعقولات الجميلة ، وسبب تسميتها خيرا ناجم عن كون هذه المعقولات تتنزل فضلا وهبة ، فهي بحكم كونه تعالى متصفا بصفات الكمال ومنها الخير ، ولهذا تقول العوام عادة جاء الخير ، وهذا العام عام خير ، إشارة إلى العطاء الإلهي.

وحسنة الدنيا الاستفادة من عطاءات المعقولات الجميلة ، وصاحب هذه المعقولات محبوب محترم مهاب مجاب كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وعلى بغض من أساء إليها) ، أما الخير الأخروي فهو خير من الخير الدنيوي لا تصاف المعقولات الجميلة بالخلود ... وهنا يلتقي الخير الأخروي الشر الأخروي ، فكما أن الأشرار تبدل

٤٥١

جلودهم كلما نضجت جلودا جديدة فهم في جهنم أسماء البلاء خالدون ، كذلك تبدل جلود الأخيار كلما نضجت جلودا جديدة فهم في جنة أسماء النعيم منعمون.

٣١ ، ٣٢ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢))

[النحل : ٣١ ، ٣٢]

قوله : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ،) فيه إشارة إلى ما يتمتع به أهل الجنات وذلك بعد رفع الحجب ومنها حجب الأسماء ، ففي الدار الدنيا فإن على الأخيار أن يكونوا حذرين ، وأن يجاهدوا أنفسهم وأهواءهم ، وأن يبيعوا الله أنفسهم وأموالهم ، وأن يتحصنوا بالشريعة ، ويكونوا مع أسماء الجمال ضد أسماء الجلال ، فهم في الدنيا مجاهدون محاربون ، أما في الدار الآخرة فهم في سلام يحبرون.

٣٣ ، ٣٤ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤))

[النحل : ٣٣ ، ٣٤]

مجيء الملائكة وأمر الرب بروز حقيقة التناقض عند الكشف فإذا الإنسان مأخوذ من مأمنه ، ومأمنه أنيته ، وإذا هو مسروق ، وما سرق منه خواطره وفكره ، وإذا النتيجة خراب الدار العامرة بسكانها وعدم بقاء إلا الواحد القهار ، دق أحدهم باب البسطامي فقال : من تريد؟ قال : أبا يزيد ، قال أبو يزيد : مر ، فليس في البيت إلا الله.

٣٥ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥))

[النحل : ٣٥]

في الآية ذكر المشيئة الإلهية والمشيئة الإنسانية ، وسبب نزولها أن المشركين هم الذين قالوا : لو شاء الله ما أشركوا ، والقول هو في حد ذاته استهزاء بالله وبمشيئته ، إذ لو كان المشركون متيقنين متحققين من كون الله هو الغالب على أمره والقاهر فوق عباده لما أشركوا أو لا نتهوا عن الشرك ، إذ كيف يشرك المشرك إذا علم علم اليقين أن ليس في الوجود إلا الله وأنه هو الفاعل القاهر؟

وطرح المشركين هذه القضية هو من باب التعنت والمماراة والجدل لا من باب التفقه والتيقن ... فهم يحاولون أن يجادلوا المؤمنين مستخدمين سلاح المؤمنين نفسه ، والسلاح في

٤٥٢

غير أيدي الفرسان ذو حدين ، ومعروف في الفلسفة أن منطق السفسطائيين متهافت عقيم.

٣٦ ، ٣٧ ـ (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧))

[النحل : ٣٦ ، ٣٧]

قوله سبحانه : (فِي كُلِّ أُمَّةٍ ،) يعني التوقيت الزماني ، وهو ما أشار إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (إن الله ليبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) ، فحاشاه سبحانه أن يدع الناس حيارى في ظلمات البحر دون أن يهديهم ويعلمهم ، وتعليمهم يكون عن طريق إرسال هؤلاء المبعوثين من الرسل والعلماء ، فيكونون لسانه وترجمانه.

وقوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) يذكر بخطابه سبحانه نبيه قائلا : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) [البقرة : ٢٧٢] وقوله إلى نوح : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] ، والفحوى أن الدعوة إلى الإيمان قلبية لا عقلية وهي مشروطة ، بمشيئته تعالى في أن يكون في الأرض مهديون وضالون كما جاء في الفاتحة ، فالرسل لا تهدي إلا من يشاء الله له الهدى ، ولهذا جاء في موضع آخر قوله تعالى : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [النّور : ٥٤] ، فليس في قدرة أحد إلا الله أن يهدي إلى الله ، فهو سبحانه الهادي المضل.

٣٨ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨))

[النحل : ٣٨]

قوله سبحانه : (بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) ورد ردا على الضالين غير المؤمنين بالبعث بعد الموت ، والبعث بعثان معنوي وحسي ، والبعث المعنوي خاص بالأمة المحمدية المحققين المكاشفين أين الله ، وكيف يفعل ، وكيف يكون إلها في السموات وإلها في الأرض ، وهذا البعث هو القيام من نوم الغفلة ، أو البعث من موت الجهل ، والإشارة إلى أن الناس أموات وإن بدوا أحياء وذلك بسبب جهلهم ربهم ، ولهذ قال سبحانه في هؤلاء : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) [النّحل : ٢١] ... أما البعث الحسي الجسدي فهو يلي البعث المعنوي ، وفيه يعي المكاشف أن جسمه الجزئي جزء من جسم كلي ، وأن الناس جميعا وبقية المخلوقات والأجرام كلها يمثلون هذا الجسم الكلي الذي يموت ويبعث أي يتجدد في كل ساعة بل في كل نفس ، فهو ميت بذاته حي بالله ، فإذا بعث صاحب الساعة من مرقده رأى الناس يبعثون ،

٤٥٣

أى يخرجون من أجداث أبدانهم ، وتنشق عنهم قبور هياكلهم ، ويقومون بالله إذ ليس من محرك ولا حي بذاته سواه.

٣٩ ، ٤٠ ـ (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠))

[النحل : ٣٩ ، ٤٠]

فعل كن يفسر كيف يكون الناس أمواتا أحياء ، أمواتا بأنفسهم أحياء بالله ، وكيف يكونون صامتين ناطقين ، صامتين بأنفسهم ناطقين بالله ، وكيف يكونون حملة الجوهر الدفين ، وما هم إلا دابة الأرض ، وأن هذا الوجود ما كان له أن يكون ، لو لا كون الله جوهره ومحركه وديمومته ومقلبه ، وعلى هذا قالت الصوفية : إن فعل كن الإلهي لم يدع خطرة ولا فكرة ولا تقلبا ولا حركة إلا وكان هو مسببها ، وإن هذا على التحقيق معنى كون الله وحده الفاعل على انفراد.

٤١ ، ٤٢ ـ (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢))

[النحل : ٤١ ، ٤٢]

الهجرة في الله الهجرة إلى الله ، ووصف هذه الهجرة بأنها في الله له لطيفة ، ذلك أنه لما كان لله ملك السموات والأرض ، وكان المضل الهادي ، الرافع الخافض ، والنافع الضار ، فالنتيجة أن الإنسان كيفما تحرك وأنى قصد فهو في الله.

فوصف الهجرة بأنها في الله هو بمعنى الإحاطة ، فما من دابة في الأرض ، ولا طائر بطير بحناحيه إلا وهجرتهما في الله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وخص الله المهاجرين إليه بأنه سيبوئنهم في الدنيا حسنة ، والحسنة الإحسان أو مقام اليقين الذي متى بلغه الإنسان عرف ربه ، وإلا فهو في هذه الدنيا أعمى وفي الآخرة أعمى ، ومن لم يعرف الله في الدنيا لن يعرفه في الآخرة.

٤٣ ، ٤٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤))

[النحل : ٤٣ ، ٤٤]

ترد الآية على من كذب القائلين من النبيين إن الله يوحي إليهم ... ذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بدأ دعوته قائلا إنه رسول الله ، وإنه يوحى إليه كذبه كثيرون ، ومنهم أعمامه ، فنزلت الآية تؤيد النبي مستشهدة باليهود أصحاب التوراة والنصارى أصحاب الإنجيل.

٤٥ ، ٤٦ ـ (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦))

[النحل : ٤٥ ، ٤٦]

الأرض هنا بمثابة البدن ، إذ البدن أرض النفس وهيكلها وخسف الأرض خسف البدن ، أو

٤٥٤

كما قال سبحانه في موضع آخر : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الرعد : ٤١] ، والإشارة إلى البدن في انتقاله من ضعف إلى قوة ، ثم ارتداده إلى الضعف من جديد ، كما أن من بدأ حياته جاهلا صار عالما ، ثم عاد جاهلا إذا ما مسه الكبر أو أصابه الخرف ، فالأمر بيد الله ، وقد يخسف الله أرض البدن بإصابته بمصيبة ، وكم من عالم عاد جاهلا لما أصيب بمرض فقدان الذاكرة ، فهذه الآلة المعقدة التي هي الإنسان محملة على الله وبالله ، والله يفعل بها ما يشاء يذهب بها ، ويأتي بخلق جديد.

والتقلب يذكر بقوله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)) [الرعد : ٣٩] ، كما ويذكر بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أو ما يدريني أن القلب مثل ريشة في الفلاة ، تقلبها الريح كيف تشاء؟) وكان قسمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا ومقلب القلوب) ، فالقلب في قبضة الرب يقلبه كيف يشاء.

وأخذ الله قلوب الذين مكروا السيئات يكون عن طريق مكر السيئات نفسه ، فالله عند ظن العبد به إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فإذا كان ماكر السيئات قد أراد هذا فالله يمكر به عن طريق مكره هو نفسه ، وهو أمر كنا فصلنا الكلام فيه من قبل.

٤٧ ـ (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧))

[النحل : ٤٧]

الأخذ على التخوف هو الوجه الآخر من الأخذ في التقلب فهاهنا عاد العبد إلى الله راجيا خائفا ، يبثه همه ، ويدعوه ، ويستغيثه ، والله عند ظن هذا العبد به فيلبيه ، وينجيه ، ويمده بمدد من عنده هو النور الإيماني اليقيني الذي يخرج القلب من الظلمات إلى النور.

٤٨ ، ٤٩ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩))

[النحل : ٤٨ ، ٤٩]

الآيتان تعبران عن الخضوع القهري لله الواحد القهار ، والآية الثانية بخاصة تبين أنه ما من مخلوق إلا وهو لله ساجد علم هذا أم جهل ، وأن جهل الجاهلين ومكر الماكرين ونفاق المنافقين هو كله في القبضة ولكن لا يعلمون ، ويكون السجود بطبع القلوب والنفث في الروع والإلهام فجورا وتقوى ، فالله من وراء كل شيء محيط ، وهو الإله الأوحد الفرد الصمد الذي لا إله سواه.

وقوله سبحانه : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) إشارة إلى توجه الإنسان إلى الصفات يمينية وشمالية ، فما من إنسان إلا وهو تحت جناح صفة أو صفات ، ولله المشرق والمغرب ، وأنى توجه العبد قاصدا صفة ولابسا لبوسها فالله هو الذي يلبسه إياها.

٤٥٥

وعليه فالصفات الإنسانية هي استعارة ولهذا قلنا بالعارية ، وتكون الصفات من ثم إلهية باعتباره سبحانه واهب الصفات وخالقها لا شريك له في الملك ، وقال السهروردي : لله سبحانه من كل متقابلين اثنين أشرفهما ، قاصدا التأدب مع الله.

٥٠ ـ (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))

[النحل : ٥٠]

قلنا : الملائكة المعقولات ، وكل معقول لله لأنه هو أصلا عقل كامل ونور كامل ، واختلف في الفلسفة في أن يكون المعقول هو الأصل كما قال أفلاطون ولا يبنتز وكانط وهيغل وهؤلاء يمثلون المثالية الفلسفية ... أو أن يكون المحسوس هو الأساس ويستخلص منه المعقول كما قال فلاسفة المادية وعلى رأسهم فلاسفة الوجودية الملحدة والماركسية ، ويرجع هذا الخلاف إلى زمن الخلاف بين المؤمنين والمشركين والكافرين منذ بداية الإنسانية.

٥١ ، ٥٢ ـ (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢))

[النحل : ٥١ ، ٥٢]

الرد على الثنوية الفارسية التي كانت منتشرة في الشرق والتي كانت تقول بوجود إلهين إله الظلمة وإله النور ، وذلك لتفسير ظاهرة التناقض في الوجود والخير والشر ، وتؤكد أحاديث رسول الله أن ليس في الوجود إلا الملك الإلهي ، وأن الخير والشر له كما جاء في الحديث الشريف : (أعوذ بعفوك من عقابك ، وبمرضاتك من غضبك ، وأعوذ بك منك) ، فتحت شعار أعوذ بك منك ، يكمن سر التوحيد الإسلامي الذي كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم معلمه الأعظم.

٥٣ ، ٥٥ ـ (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥))

[النحل : ٥٣ ، ٥٥]

النعمة الخير ، فكل نعمة تكون بالإنسان فهي من الله كالصحة والقوة والجمال والإيمان والكرم والحلم ... فلو لا الله لساوى الإنسان البهائم ، بل لسفل البهيمة ، لأن للبهيمة غريزتها ونظامها وفطرتها لا تخرج عنها قيد شعرة ، في حين إذا انحط الإنسان أتى بالعجائب من الشرور والفساد ، قال جلال الدين الرومي : العقل الذي يفر من عقل العقول ينتقل من مرتبة العقل إلى مرتبة الحيوان.

وقوله : (إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) إشارة إلى أن الإنسان سماع الخواطر وأسير الخواطر ، والخواطر في القبضة ، يظل قويا مؤمنا بنفسه مادام في نعمة ، فإذا أصابته مصيبة ارتد إلى خاطره أيضا ، فرده خاطره إلى الله باعتبار الله هو الموحي والملهم ، فتجد المريض والضعيف

٤٥٦

وذا الحاجة والمشرف على الغرق يدعون الله بالفطرة ويستغيثونه علما أنهم قد لا يؤمنون به عقلا ، وإلى هذا أشارت الآية الرابعة والخمسون التي توضح حال هؤلاء الناس ، فالإنسان مادام في حاجة إلى مغيث استغاث قلبا فيه ، فإذا كشف عنه الضر عاد إلى عقله ، وعقله أي فكره كله تناقض ، فارتد مشركا ثانية يقول أنا وأنا ...

٥٦ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦))

[النحل : ٥٦]

قوله سبحانه : (لِما لا يَعْلَمُونَ ،) هو رد العلم إلى اللاعلم أو الجهل ، ورد النظام إلى الفوضى أو المصادفة ، ورد العقل إلى نشاط الطبيعة والطبيعة صنم كبير ، فمن يعمل عقله في كل شيء ينس حين يشرك ويلحد أنه بنفيه وجود الله قد جعل الجهل والفوضى والعبث والمصادفة أسس الوجود وهذا غاية الحمق ، قال فولتير : لو لم يكن الله موجودا لوجب إيجاده.

٥٧ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧))

[النحل : ٥٧]

وصف الملائكة بأنهم بنات ، وقولهم : إن الملائكة بنات الله إثم عظيم ، أولا لأن الملك كما أوضحنا هو معقول ، والمعقول فاعل نيابة عن فاعل الذي هو الروح ... ثانيا لأن الملائكة لا يكونون بنات ، أي إناثا ، أي منفعلين سالبيين ماداموا هم الجند والخواطر ، أي هم مقلبو القلب الشمال واليمين ... ثم إذا رد الملائكة إلى الله باعتبارهم بناته فالنتيجة إشراك المعقولات في العقل الكلي وهذا شرك أيضا ، لأن المعقولات فيض وإشعاع عن العقل الكلي ولا وجود لهم بأنفسهم مادام كل شيء يقوم بالله ويوحد بالله.

٥٨ ، ٦٠ ـ (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠))

[النحل : ٥٨ ، ٦٠]

الأنثى صورة المعقول في الخيال ، والخيال الحد الفاصل بين العالمين الروحي والمادي ، ولقد تحدثنا عن ملائكة المعقولات المشعة عن النور الأصيل ، وقلنا : إنها فعالة مثلما أن أباها فعال ، أما صور هذه المعقولات فهي ما يتراءى للفكر في خياله ، ولكل إنسان خياله ، ولكل إنسان حصيلة من المعقولات والأنثى هنا ، وإن كانت سلبية قابلة ، فإن لها قيمة الذكر الفاعل ، فلو لا العالم المحسوس ما ارتسمت في شاشة خياله صور المعقولات وعليه فللعالم المحسوس قيمة لا تقل عن العالم المعقول.

٤٥٧

وكذلك فإن لكل صورة خيالية مجردة من الواقع قيمة المعقول التي رسمها ، ولهذا فإن صفة الأنوثة تطلق على الذات الإلهية أيضا ، وهي تضرب مثلا للخصوبة والعطاء ، فلا فارق إذن في القيمة بين الذكر والأنثى لأن كليهما شرط للآخر ولو لاه لما كان الآخر ، فللمنفعل قيمة الفاعل ، وما قيمة الفاعل بلا منفعل؟

والعرب في الجاهلية كانوا يتشاءمون من الأنثى ، وكانت لهم أسبابهم المعروفة ، منها الناجمة عن الغزو من استحياء الإناث واتخاذهن إماء والتسري بهن ، ولكن الله يذكر في كتابه بقيمة الأنثى الوجودية ، وهذا أمر يذكر أيضا بصلة العلة بالمعلول في الفلسفة ، وقد تحدثنا عنها مرارا قائلين : لو لا معلولية المعلول ما كان لعلية العلة أن تتحقق.

وقوله : (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ ،) له لطيفة ، ذلك أن الأنثى باعتبارها من الوجه القابل المخلوق من تراب ، كما خلق آدم وحواء ، فالجاهل من الناس يرد النفس إلى تراب ، والنفس وإن كانت تنفخ في الجسم بعد تسويته وتصديره وعدله إلا أن مصدرها إلهي ، وعملية النفخ إلهية ، ولهذا ورد في الآية التالية قوله سبحانه : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ).

٦١ ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١))

[النحل : ٦١]

الأجل آجال الأسماء ، وكنا قد تحدثنا عنه من قبل ، فالذين يفرقون بين الله والوجود ، وفعله في الوجود ، وكونه هو الوجود ، لا يعلمون أين الله من الوجود ، وكيف يفعل في الوجود ، وكيف يكون هو الوجود ... وما دام ليس في الوجود إلا الله فإن ما يقع في الوجود هو الفعل الإلهي وآثاره وترتيبه وتقديره ، وهذا ما عبر عنه في هذه الآية بالأجل المسمى ، فإن كان الأجل شيئا فهو الزمان الوجودي نفسه مع الهيمنة الإلهية عليه وتصرف فيه باعتباره سبحانه كل يوم هو في شأن.

٦٢ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢))

[النحل : ٦٢]

العودة إلى القول إن الملائكة إناث ، وإنهن بنات الله ، والله منزه عن الشرك والشركاء كما بينا ، ونجد ابن عربي في رده على النصارى القائلين بالتثليث ، وبألوهية المسيح وأمه يقول : لو أنهم لم يحصروا الله في المسيح وحده لما كفروا ، ولكن الحصر هو الكفر ، فما دام الوجود كله هو الله فلا يوجد من ثم وجود ثان إلى جانب الوجود الإلهي ، وهذا هو معنى لا إله إلا الله.

٦٣ ، ٦٤ ـ (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ

٤٥٨

وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤))

[النحل : ٦٣ ، ٦٤]

قوله سبحانه : (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ،) أي الشيطان فيه نكتة ، ذلك أن للشيطان نصيبا من الأسماء ، وكنا قد ذكرنا أن له الاسم البعيد كما بينا الدور الذي يلعبه الشيطان بالتضاد وللتحريك ، فثم علاقة إذن بين كون الشيطان ولي بعض الأمم ، وكون هذه الولاية ذات أجل حدد باليوم ، فالدور الذي يلعبه الشيطان زماني متى انقضت مدته عادت الولاية إلى الله تعالى ، لأنه لا يصح أن يكون ثمّ ولي في الوجود سوى الله ، ولقد شرحنا تعريف إبليس في كتابنا «النصوص في مصطلحات التصوف» وبينا أن فلق المعقولات ذاتها هو الذي اقتضى كفر إبليس ، وإن هذا الحدث وجوبي لا مفر منه.

٦٥ ـ (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥))

[النحل : ٦٥]

قلنا : الأرض البدن ، وعليه فالبدن وصاحبه ميتان إلى أن يحييهما الله بالعلم ، فثمة فارق كبير بين أن تحسب جسمك ملكا لك ، خاصا بك ، أنت ربه ، ومحركه وباعثه والمتصرف في قواه وبين أن تتذكر أن لله الأبدان جميعا ، وسمى الله هذه الأبدان الدواب ، وسميناها الجسم الكلي ... والمهم التذكر أن لله الجسم الكلي ، مبينين كيف تكون آلاته وقواه تحت تصرف الإنسان ، ولكنها ليست هي الإنسان ، وأن الجسم شيء مخالف تماما للنفس وإن كان حاملا لها ، وأنه في جملته دابة من دواب الأرض خلقه الله وأهله ، ومنحه القوى من الحواس والغرائز ، وأن هذا السر هو الذي يجعل الإنسان ميتا في بدنه مادام يجهل سره ، فإذا عرفه بالتعليم الذوقي الكشفي حيي البدن وصاحبه وقاما بالله.

٦٦ ـ (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦))

[النحل : ٦٦]

الآية تأكيد ما قلناه في تأويل الآية السابقة ، واللبن الذي يسقيه الله الإنسان من الأنعام هو العلم كما أول الرسول اللبن في المنام إذا رآه ، والمعنى أن ثمة معنى في هذه الدابة الكونية ، والله قد خلق هذه الدابة الكونية لتحمل هذا المعنى ، ولهذا جاء في الآية : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) أي من بطنان الجسم الكلي المادي ، أي ما فيه من كنوز العلوم الإلهية التي أشير إليها بالكنز الذي أخفاه الله تحت جدار البدن ليأخذه يتيما المدينة كما ورد في قصة لقاء موسى عليه‌السلام العبد الصالح.

٤٥٩

٦٧ ، ٦٩ ـ (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩))

[النحل : ٦٧ ، ٦٩]

ضرب الله النحل مثلا للفكر في سعيه لالتقاط المعلومات بالحواس من جبال العالم المادي وبيوته كما تفعل النحل إذ تسعى بين الجبل والسهل لجمع رزقها من رحيق الزهر والورد لتحيله عسلا فيه شفاء للناس ... والإشارة إلى دور الإنسان في هذه الحياة وتميزه عن بقية المخلوقات بأنه حامل السر الإلهي العظيم ، ولقد بينا من قبل أهمية خلق العالم المادي ودوره في إخراج مضمون العلوم المرتقة المجملة ، كما بينا دور الجهاد في تفتيق المعقولات ، فخلق الإنسان ذو أهمية بالغة وهي معرفة الله تعالى بعبادته حق عبادته ، وعلى هذا يكون الإسلام هو الدين عند الله ، لأن ما يميز الإسلام عن بقية الأديان كونه الدين الجامع بين الدنيا والآخرة ، وبين السعي في الأرض ، والأكل من رزقها ، والتمتع بما أحل الله من زينة الحياة الدنيا دون الإسراف وبين معرفة دور الروح ومكانته في هذا العالم ، وكيف يكون الله باطن هذا الوجود الحي ، فالنصرانية اقتصرت على العالم الباطن والروح على حساب عالمي الظاهر والجسد ، واليهودية اقتصرت على عالم الظاهر فقط ... أما الإسلام فلقد كان خاتم الأديان بوصفه الدين الجامع بين الدنيا والآخرة ، والروح والمادة ، والأرض والسماء.

وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس أنه قال : نزلت الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٨٧) ، وهي الآية الواردة في سورة المائدة ، نزلت في رهط من الصحابة رضي الله عنهم منهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعثمان بن مظعون وآخرون ، توافقوا أن يجبوا أنفسهم ، ويعتزلوا النساء ، ولا يأكلوا لحما ولا دسما ، ويلبسوا المسوح ولا يأكلوا من الطعام إلا قوتا ، وأن يسيحوا في الأرض كهيئة الرهبان فنزلت.

٧٠ ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠))

[النحل : ٧٠]

فسرت الصوفية قوله سبحانه : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ،) بأن أرذل العمر هو العمر الخارج على الزمان العادي ، وهو فلك يبلغه العارفون عند ما يغرقون في بحر الذات الكبرى كما قال البسطامي : طلبت ذاتي في الدارين فما وجدتها ، وعلى هذا فأرذل العمر هو اللاعمر

٤٦٠