التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

الوليد خروج ما في باطن الإمكان من كنوز إلى ساحة الظاهر ، وقتله إجهاض الرحم الطبيعية وذلك بعدم الاعتراف بوجود الوليد نفسه ، فالطبيعيون يدرسون ظواهر الطبيعة وأسرار المخلوقات ثم يقولون بالغريزة ، وهم لا يشرحون ماهية الغريزة ، ولا تطال مجاهرهم ومسابرهم وعقولهم أسرار الغريزة وكيف أودعت واستودعت قوانينها ونظامها المحير للعقول ، ولو آمن هؤلاء لكشف عنهم الغطاء ، فرأوا من وراء الغريزة ، ومن جعل لها نظامها الذي يحكم العالم ، سبحانه هو الوالد والمولود ، والد لأنه خالق ، ومولود لأنه يكشف عن وجوده في الهوية الإنسانية لدى وصول السالكين إلى الأفق المبين في فجر اليقين.

١٣٨ ، ١٣٩ ـ (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩))

[الأنعام : ١٣٨ ، ١٣٩]

فصل المحسوسات ومن ثم المعقولات عن الحق حيث جعلوا منها ما هو بشري وما هو حيواني ، وما هو نباتي ، وما هو جماد ، حاشاه سبحانه أن يكون في الوجود وجود آخر سواه.

وقوله : (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) يعني أن طائفة أخرى جعلت من هذه المظاهر شيئا لله وشيئا لغيره كما فعلت المعتزلة الذين أثبتوا الإرادة والمشيئة والحرية الإنسانية ، ثم قالوا : إنه يتوجب على الله أن يحقق وعده ووعيده.

وقوله : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ،) يعني إحالة بعض الأفعال إلى الله باعتبار الذكر فاعلا ، وإحاطة بعضها الآخر إلى الخلق باعتبار الخلق منفعلا ، وهو ما رمز إليه في الآية بالأزواج ، وقضية الأزواج مشهورة في تاريخ الفلسفة ، وأشهر من درس هذه القضية الفيثاغوريون الذين قالوا إن أصل الوجود أعداد مثالية مقدسة عشرة ، وإن من هذه العشرة الفردي ، وجعلوها فاعلة وخيرة وسموها الحد ، كما أن من العشرة الزوجي ، وهي منفعلة وسموها اللامحدود ، أو ما يسمى الهباء بلغة الصوفية وفقا لما جاء في حديث الرسول عن الهباء ، وقال الفيثاغوريون إن الأعداد الفردية دخلت في الزوجية ، أي دخل الحد في المحدود فقسمه إلى وحدات ، وجعلوا هذه الوحدات نقاطا ، ومن النقاط خطوطا ، ومن الخطوط أشكالا تشكل هرما للوجود ، والمهم القول إن كل ما يسمى في الفلسفة والديانات الزوج فهو المنفعل ، أما الفرد فهو الفاعل ، والأعداد الفردية من العشرة الفيثاغورية هي وسائط للخلق والوجود ، وسماها أفلوطين عقولا ، وقال : إن هذه العقول هي عقول الأفلاك والأجرام.

٢٢١

١٤٠ ـ (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠))

[الأنعام : ١٤٠]

عودة إلى إنكار بعث الروح الكائن في رحم الطبيعة والمخلوقات والذي أول بالولد ، وقلنا الولد الولادة ، وقوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) يعني جهل الإنسان قدره وما لديه من كنز هو ما أشار إليه سبحانه في قصة لقاء موسى عليه‌السلام بالعبد الصالح الذي أقام الجدار الذي يريد أن ينقض ، ثم أول فعله مخبرا أن تحت الجدار كنز.

وقوله : (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) يعني الجريمة التي يرتكبها العقل البشري إذ يحتكر العلم ويكتفي بطاقاته الفكرية ، علما أن العارف بالله جلال الدين الرومي قد قال في «المثنوي» : العقل الكلي ذهن كل عاقل ، والعقل الجزئي يكون عقلا أيضا ولكنه ضعيف ، وقال أيضا : إنك صاحب عقل جزئى مستنير ، فلتبحث في الدنيا عن كامل العقل ، فعقلك يكتسب الكلية من عقله الكلي.

١٤١ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١))

[الأنعام : ١٤١]

سبق وأولنا النخل والزيتون والرمان ، وقوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ،) يعني ما تعطيه المعقولات من علوم إلهية بعد انكشاف الأمر اليقيني ، وعندئذ فليأخذ الإنسان نصيبه من الوجود والفكر والإمكانات والصفات فهذا حق من حقوق النفس الجزئية ، ثم فليزكي علومه هذه بإعطاء الحق سبحانه حقه أيضا ، هذا ما فعلته جماعة السنة وأئمتها وعلماؤها ، كالأشعري والغزالي وابن عربي حيث دافعوا عن التوحيد ضد هجوم علماء الكلام والفلاسفة المتأثرين بالفلسفة الأرسطية.

١٤٢ ـ (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢))

[الأنعام : ١٤٢]

كل حامل دابة ، وكل دابة من الأنعام ، فالجسم حامل الروح ، وحواسه وقواه في خدمة الروح والنفوس الجزئية ، وما يستمده الروح من عالم العيان هو الرزق الذي رزق الله الروح والنفوس الجزئية.

١٤٣ ، ١٤٤ ـ (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ

٢٢٢

وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤))

[الأنعام : ١٤٣ ، ١٤٤]

الثمانية رمز القوى الروحية مثل العقل ، الفكر ، الخيال ، الذاكرة ، المصورة ، المدركة ، والنفس ، والوهم ، وقوله : (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) يعني فصل الفاعل عن المنفعل من كل ذي ظهور ، ففي الإنسان روح فاعلة ونفس منفعلة ، فالروح بمثابة الذكر ، والنفس بمثابة الأنثى ، والله لم يحرم عطايا الروح ولا عطايا النفس ، أي أنه جعل ما في الروح وما في عالم العيان من كنوز علمية للإنسان خالصة ، يأخذ من المعينين.

١٤٥ ، ١٤٧ ـ (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧))

[الأنعام : ١٤٥ ، ١٤٧]

تحريم كل ذي ظفر ما تظفر به النفس الحيوانية من العالم الظاهري من المعقولات دون أن تردها إلى الله ، وشحوم البقر والغنم ظواهر هذه الدواب وظاهر الإنسان وقوله يا أنا ، فقولك أنا وأنا أعظم حجاب.

وقوله : (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) يعني ما خالط عالم العيان من مقولات قبلية وصفات إلهية ظاهرة باطنة فهذا حلال ، إذ ما خلق الله الخلق إلا ليظهر به.

١٤٨ ـ (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨))

[الأنعام : ١٤٨]

المشيئة الإلهية والمشيئة الإنسانية من القضايا التي درستها علوم الدين وعلماؤها ، والآية ترد على المشركين الذين يقولون لو شاء الله ما أشركنا ، ووصفت الآية هؤلاء بالكذب ، والسبب شركهم نفسه ، فلو قال مؤمن موحد عالم أن لا مشيئة إلا الله لتقبل هذا منه ، وكان قوله صحيحا ، إذ الكشف يطلع المراد كشفا على أن المشيئة صفة من صفاته سبحانه ، وأن المشيئة

٢٢٣

الإنسانية داخلة ضمنا في دائرة المشيئة الإلهية ، وذلك عن طريق رد العيون الصفاتية إلى العين الكبرى أم الصفات وهي المدعوة الجبروت ، أما أن يقول المشرك هذا فقوله كذب وله نكتة ، ذلك أن المشرك شارك الله في وحدانيته في إثبات شيء ما ، وأول الإثبات إثبات أنيته وإلا لما سمي مشركا ، وإشراكه هذا هو في حد ذاته إثبات مشيئة الإنسان فإنه يكون كاذبا بالضرورة ، ولهذا تابعت الآية قائلة : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا).

١٤٩ ، ١٥٠ ـ (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠))

[الأنعام : ١٤٩ ، ١٥٠]

بتت الآية الموضوع بالقول : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) إذ هو سبحانه مالك نواصي التوحيد ، والشرك والإيمان والكفر لتحقيق غاية هي تحريك الدائرة الأسمائية ، ولهذا تابعت الآية قائلة : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي أن الله صاحب المشيئة سواء أكانت ذاتية إلهية أو صفاتية إنسانية لأنه لا إله إلا هو في سماء الروح وأرض الجسد.

١٥١ ـ (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١))

[الأنعام : ١٥١]

الآية الكبرى عدم الشرك بالله ، والإحسان إلى الوالدين الإحسان إلى الروح الفاعل وإلى النفس الكلية المنفعلة وذلك بإيفائها حقها من الإحسان ، أي برد بعض مالهما من فضل ، وقتل الأولاد قتل النفوس الجزئية بسبب فقرها ، لأن هذه النفوس موصولة برحم النفس الكلية أولا ، ولأن رزقها من العلوم والأرزاق الحسية واصل إليها من الاسم الرزاق ، إذ ما من نفس إلا ولها رزقها معجلا ومؤجلا ، والرزق المعجل إعطائها الاسم المقدر لها لدى خروجها من رحم أمها النفس الكلية ، فلا نفس إلا ولها اسم ملازم ، ولا اسم إلا وله نفس تعينه فالقضية حامل ومحمول ، والرزق المؤجل ما توفى النفس حقها من الاسم أولا حين يعطيها مكنونه بعد الفض ، فيكون المؤمن مؤمنا بالممارسة ، وكذلك الحليم والكريم والعليم الذي هو أعظم الأسماء الربوبية قاطبة ، فالرزق المؤجل قضاء محكم ، ولهذا جاء في الحديث : (الرزق رزقان ، رزق تدركه ورزق يدركك ، ولا تستوفي نفس أجلها حتى تستوفي رزقها).

وقوله : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) يعني قتلها لله وبالله وفي الله ، وفي

٢٢٤

الأمر لطيفة ، إذ النفس أصلا مرآة وشعاع نوراني فهي موجودة بربها لا بنفسها ، ولهذا يقال هي موجودة مفقودة ، فالنفس خيال ، وسمي الخيال الجامع هذا حضرة ، وسمي برزخا ، والمهم القول إن النفس ميتة بذاتها ، حية بالله ، ولهذا قال البسطامي في مقام المشاهدة : رأيت الناس موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات.

وقتل النفس بالحق قتلها بالعلم ، والعلم هو العلم اللدني المبنى على المكاشفة والمشاهدة ، والقتل ضروب من الموتات كالموت الأسود والموت الأبيض والموت الأحمر ، فالأسود موت الفعل ، والأبيض موت الصفة ، كما قال البسطامي : أنا لا صفة لي ، والأحمر موت الذات ، والموت هنا معنوي أي التحقق بالحقيقة الإلهية ، وكون الإنسان آلة الحق ومرآته لا غير ، فإذا مات الفاني فلا يعني هذا موت الروح الحيواني منه ، بل يعني موت إيمانه بأنيته وقيامه برب الأنية ، وهذا أمر عاشه رجال الله ومنهم أبو بكر الصديق الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من أراد أن ينظر ميتا يمشي على الأرض فلينظر أبا بكر).

١٥٢ ـ (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢))

[الأنعام : ١٥٢]

اليتيم ، الفكر ، وماله العلوم التي ورثها من والديه الروح والنفس الكلية ، وقوله : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يعني إيفاء الأسماء حقها من التحقق ، والأسماء أخلاق ، فالله سبحانه جعل الأخلاق سبيلا إلى معرفته ومفتاح معرفته ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، وحصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأسماء الأخلاقية بتسعة وتسعين اسما ، وقال : (إن من أحصاها دخل الجنة) ، فإحصاء التسعة والتسعين من الأسماء هو معنى قوله : (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ،) فإذا تحقق الإحصاء بلغ الفكر اليتيم أشده ، أي استوفى حظه من فهم الأسماء العقلية بالإضافة إلى الأسماء الخلقية ، وعلى هذا فلا مدخل للفكر إلى دار العلم الكامل إلا عن الطريق الأخلاقي سبيلا إلى المعرفة ، وكذلك فعل الفيلسوف كانط حيث ذكر أن لا سبيل إلى معرفة الشيء في ذاته ، أي الحقيقة ، إلا عن الطريق الأخلاقي ، وإن من طلب العلم بغير هذا المنجل لم يحصد إلا الغلط.

١٥٣ ـ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣))

[الأنعام : ١٥٣]

قلنا : الصراط هو الطريق الجامع أو الدائرة الوجودية التي لا يخرج عليها شيء ، وكيف

٢٢٥

يخرج عليها شيء ، والشيئية ذاتها داخلة ضمنا فيها طوعا أو كرها؟

وقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) يعني أن كل إيمان بغير الإيمان بالصراط الأحدي الأحادي مآله التفرق عن الله والابتعاد عنه ، أي الاحتجاب بالصوردون كشف رب الصور أو رب النوع الكامل كما قال شهاب الدين السهروردي ، صحيح أن الصوفية أرجعوا كل تفرقة إلى الصراط نفسه ولكن هذه النظرة خاصة بالموحدين ، أما غير الموحد فهو ضائع في عالم الكثرة ، والضائع لا يصل حتى يهتدي ، ولهذا ختمت الآية بالقول : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي لعلكم تتقون الله حق تقاته ، أي توحدونه حق التوحيد.

١٥٤ ، ١٥٦ ـ (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦))

[الأنعام : ١٥٤ ، ١٥٦]

كتاب موسى عليه‌السلام الألواح المنزلة عليه منها علوم الجمع والتفصيل أما علوم الجمع فأشارت إليها الآية بالقول : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي الذي أحسن التوحيد ، وأما علوم التفصيل فخاصة بالعبادات أي الشريعة الموصلة إلى الحقيقة.

١٥٧ ـ (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧))

[الأنعام : ١٥٧]

أعذر الله إلى المسلمين بإنزال القرآن عليهم ، إذ أن الأمم الذي لم ينزل عليها كتاب إلهي تتخبط وتتردد بين الهدى والضلال ، فمنهم مهتد ومنهم ضال كما ترى في الأديان غير السماوية التي يؤمن بها كثير من الناس ، والله جعل القرآن حجة على المسلمين لكي لا يقولوا إنهم لم يؤتوا ما أوتي أهل الكتاب من قبلهم.

١٥٨ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨))

[الأنعام : ١٥٨]

مجيء الملائكة انكشاف حقيقة المعقولات الجامعة للتضاد ، إذ أن التفريق يكون عادة من الإيمان باسم دون اسم أو أسماء دون أسماء ، فإذا انكشفت حقيقة التضاد كما وقع لأبي سعيد الخراز تبين أن لا فرق ولا فرقان بل قرآن ، والفرقان تكثر للقرآن ، وكلاهما له واحد.

٢٢٦

١٥٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩))

[الأنعام : ١٥٩]

ينعى الله على الذين فرقوا دينهم شيعا ، فلا تفريق في دين الله الجامع ، أي التسليم له ذاتا وصفات وأفعالا ، ولهذا قال سبحانه في موضع آخر : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] ، ومن يؤمن باسم دون اسم فهو مفرق ، فالتعصب والإسلام ضدان وعدوان لا يجتمعان ، وتجد الإسلام على مدى التاريخ دين السماحة واحترام الأديان جمعاء ، وهو يستوصي بالمؤمنين المخلصين من الأديان الأخرى خيرا ، وما سبب النجاح الإسلامي في البلاد التي فتحها وانتشر فيها سوى احترامه حرية الأديان ، وحرية المتدينين بل ملل هذه الأديان ، وتجد اليهود والنصارى والفرق الأخرى أحرارا في هذه البلاد لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم ، وما سبب فشل كل الفتوحات غير الإسلامية التي كانت بالقوة سوى عدم احترامها حرية الغير وحرية أهل البلاد المفتوحة واعتماد الفاتحين مبادئ غير المبادئ الإسلامية والإنسانية القائمة على العدل والمساواة.

١٦٠ ـ (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠))

[الأنعام : ١٦٠]

الحسنة الإسلام ، وهو أول درجة من سلم التوحيد كما قال سبحانه : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤] ، والحسنة أيضا اسم من أسمائه تعالى الجمالية كأن يكون المرء حليما أو كريما أو عفيفا أو أمينا ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام) ، فالإيمان باسم يفضي إلى انفجار نور الإيمان في القلب ، وهذه هي الدرجة الثانية من سلم التوحيد ، وهي التي عناها سبحانه بقوله في الآية المذكورة سابقا وهي : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ،) فهذا الإيمان نور يجعل في القلب ، فيخرجه من ظلمات الجهل والشرك ... وهناك العروج إلى مرتبة ثالثة وهي الإحسان ، وهي التي يعبد فيها الإنسان الله كأنه يراه ... ثم هناك مرتبة المكاشفة ، ثم مرتبة المشاهدة ، ثم مرتبة الفناء ، ثم مرتبة البقاء بعد الفناء ، فالحسنة قد أتت إذا بعشر أمثالها.

أما السيئة فلا يجزى صاحبها إلا مثلها ، والسبب أن صاحب الاسم الجلالي كالقاهر أو المذل أو المنتقم هو في قبضة هذا الاسم لا يتعداه إلى سواه ، ولهذا كان جزاؤه نتاج هذا الاسم الجلالي ، وهو من الأسماء الظلمانية الحاجبة.

٢٢٧

١٦١ ـ (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١))

[الأنعام : ١٦١]

ملة إبراهيم الملة الجامعة ، فلقد سمى الحق إبراهيم أمة ، أي أنه إمام يعدل أمة ، أي أنه وصل إلى عين الجمع فانضوت الكثرة تحته ، وقال ابن عربي : الإنسان الكامل النوع ، والأنبياء والأولياء أفراد هذا النوع ، والمعنى أن ظهور إبراهيم أو محمد عليهم‌السلام هو بمثابة ظهور الأجزاء كلها في شخص واحد.

وصراط محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو صراط إبراهيم عليه‌السلام وصراط كل الأنبياء ، وجميعهم ممثلو نوع الإنسان الكامل الذي هو مرآة الحق وتعينه الجمعي.

١٦٢ ـ (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢))

[الأنعام : ١٦٢]

الصلاة الصلة بين العبد والرب ، وتتحقق أي تقام عن طريق أداء الطقوس والعبادات ، والنسك بدء الانقطاع لله تعالى ، وهو التوغل في التفكير والتأمل والتأله كما فعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما اعتكف في غار حراء ، والمحيا والممات بدء ظهور نور التوحيد حيث يموت المكاشف الموت المعنوي أو الموت العلمي ، أي يكشف له أنه ميت بذاته حي بالحق ، ومحصلته القيام من بين موتى الجهل والحياة بالله.

١٦٣ ـ (لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣))

[الأنعام : ١٦٣]

كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول المسلمين إشارة إلى كونه التعين الأول للذات الصمدانية ، وسمي هذا التعين أو الصدور الحقيقة المحمدية وسمي النور الجامع ، وسمي العقل الفعال كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أنا أبو الأرواح وآدم أبو البشر) ، وقوله إلى الصحابي جابر : (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر) ، وقوله : (كنت نبيا وآدم منجدل في طينته أو وآدم بين الماء والطين) ، وقال ابن عربي : اقتطع الله من نور ذاته قطعة لم تكن به متصلة لتكون عند القطع منفصلة ، وقال عبد الكريم الجيلي : خلق نفس محمد من نفسه ، وليست النفس إلا ذات الشيء ، وخلق نفس آدم من نفس محمد وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أول ما خلق الله العقل ، فقال له : أقبل فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، فقال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب إلى منك ، بك آخذ ، وبك أعطي ، وبك أعاقب ، وبك أثيب) ، وعلى هذا تكون حقيقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقيقة كل الأنبياء والأولياء ويكون إبراهيم عليه‌السلام ولده لا جدّه باعتبار التعين ، ولهذا جاء في الحديث القدسي : (لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك) ، ويقال في الأذان : (يا أول خلق الله وخاتم رسل الله).

١٦٤ ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤))

[الأنعام : ١٦٤]

٢٢٨

كونه سبحانه رب كل شيء موضوع عالجته الصوفية وعلى رأسهم ابن عربي الذي أنشد قائلا:

لقد صار قلبي قابلا كل صورة

فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف

وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت

كائبه فالحب ديني وإيماني

فكونه سبحانه رب الصور يعني أنه لا توجد صورة خارجة عنه معنى كونه تعالى الآخذ بناصية كل دابة ، وفسرت الصوفية كيف يعبد المشركون وعبدة الأوثان الله من خلال عبادتهم الأوثان ، لأن كل ما يعبدونه صور ، والله رب الصور ، ومن هذه النظرة الجبروتية لا يكون في الوجود من موجود غير موحد ، لأن كل موجود يتصرف بدواعي القلب غريزة وفكرا ، والله رب الدواعي.

١٦٥ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

[الأنعام : ١٦٥]

الخلائف أغصان شجرة الإنسان الكامل الذي هو الخليفة الأول ، ولقد سمي الصديق ، لمّا توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خليفة رسول الله ، فلما توفي قال عمر لما تولى الخلافة من بعده أأكون خليفة خليفة رسول الله؟ هذا أمر لا آخر له ، وعدل عن هذا اللقب وأطلق على نفسه لقب أمير المؤمنين ، فالخلافة إذا واحدة ، وهي لآدم عليه‌السلام أصلا ، ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم باعتباره النور الأول ، ثم الأنبياء والأولياء ، وعلى هذا فلا يكون في الأرض خليفتان معا ، بل واحد بعد واحد.

هذا على مستوى القطبية والجمع ، أما الفروع فلقد سماها الحق خلائف ، فهم بمثابة معاونين للخليفة الأول ، ولهذا تابعت الآية قائلة : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [الأنعام : ١٦٥] ، وهذا الرفع تقتضيه حقيقة الأسماء ذاتها ، إذ من أسمائه تعالى الرافع الخافض ، والهرم الوجودي يقتضي أن يكون بعض فوق بعض ، كما قال سبحانه في موضع آخر موضحا القصد من هذا التنظيم الوجودي : (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) [الزخرف : ٣٢] ، وقال الإمام الغزالي : كما أن فداء أرواح الإنس بأرواح البهائم وتسليطهم على ذبحها ليس بظلم ، بل تقديم الكامل على الناقص عين العدل ، فكذلك تفخيم النعم على سكان الجنان بتعظيم العقوبة على أهل النار وفداء أهل الإيمان بأهل الكفران عين العدل ، وما لم يخلق الناقص لا يعرف الكامل ، ولو لا خلق البهائم لما ظهر شرف الإنس ، فإن الكمال والنقص يظهر بالإضافة ، فمقتضى الجود والحكمة خلق الكامل والناقص جميعا ، وكما أن قطع اليد إذا تآكلت إبقاء على الروح عدل ، لأنه فداء كامل بناقص ، فكذلك الأمر في التفاوت الذي بين الخلق في القسمة في الدنيا والآخرة ، فكل ذلك عدل لا جور فيه ، وحق لا لعب فيه.

٢٢٩

سورة الأعراف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (المص (١))

[الأعراف : ١]

الألف الروح الفاعل في الوجود عامة ، وفي قلب الإنسان خاصة ، واللام انبساط هذا الوجود الذي كان ذرا ، أي سديما ، ثم تكثف ، والميم إشارة إلى مركز الدائرة الحاكمة في الملكين ، إذ لا دائرة وجودية غيرها ، والصاد الملائكة الصافات وهي المعقولات المشعة عن شمس الذات بلا توقف.

٢ ـ (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢))

[الأعراف : ٢]

الحرج الصعوبة التي وجدها النبي بعد نزول آيات الله عليه ، إذ القول الإلهي ثقيل ، وشبه وحيه عليه‌السلام بصلصلة الجرس كما أن ما يأمر به الوحي لعظيم ، فالرسول كان إنسانا عاديا يتجر في مال زوجه خديجة ، وكان من عادته التحنث في غار حراء لما نزل الوحي عليه ، ثم بدأت الآيات تتلى ، وما كلف به النبي لعظيم ، والمتتبع لسيرته عليه‌السلام ، وما لقيه من عذاب وعنت على أيدي قومه لشديد ، حتى أنه لجأ من أذى قريش إلى الغيران القريبة من مكة ، ومكث فيها حينا من الدهر ، حتى بلغ به وبأهله الجهد ، وماتت خديجة مما عانت ، ثم كانت هجرة المسلمين إلى الحبشة ، ثم هجرة النبي وأبي بكر إلى المدينة ، ثم خروج النبي إلى الجهاد ، فما عاناه النبي لعظيم تخر له الجبال هدا ، ولو لا أن الله شد أزره وكان معه ومع المسلمين لما استطاع الرسول القيام بما أمر به ، ولما كتب للإسلام النجاح.

٣ ـ (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣))

[الأعراف : ٣]

اتباع من دون ما أنزل الله اتباع خواطر النفس أولا ، وهي داعية إلى الشح والمحافظة على النفس والركون إلى الراحة وتحقيق النجاح المادي الفردي ، وهذا كله وما أنزل الله وما يطلبه الرحمان من الإنسان نقيضان لا يجتمعان.

٤ ـ (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤))

[الأعراف : ٤]

القرية البدن ، وإهلاكها إعمارها بالحق ، ذلك لأن هذا الهلاك له لطيفة أشار إليها الحق سبحانه في قصة لقاء موسى والعبد الصالح لما ركبا السفينة ، فخرقها العبد الصالح ، والقرية هي السفينة ، إذ كلاهما مركب للروح والقلب.

٢٣٠

وقوله : (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً) يعني مجيء أمر الله ، ووصف هذا الأمر بالبأس لشدته وعظمته ، والبيات الليل الذي هو إشارة إلى عالم المادة وكون القلب في أسر عالم الفساد ، وقوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) يعني كون القلب في التقلب ، إذ القيلولة حال وسط بين نوم الليل ويقظة النهار.

٥ ـ (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥))

[الأعراف : ٥]

قوله : (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) يعني انكشاف الحقيقة لصاحب الكشف فإذا هو يعترف بأنه ظالم ، أي ظالم لنفسه لما ادعى ملكيته لها أو ملكيتها له ، ونفى أن يكون عندها الكنز العلمي الذي أشار إليه العبد الصالح بأنه مدفون تحت جدار البدن.

٦ ـ (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦))

[الأعراف : ٦]

الإشارة إلى دين التوحيد ، وهو قديم قدم الإنسان نفسه ، ويرجع إلى زمن آدم أبي البشر ، وتدل الدراسات التاريخية والأثرية على أن الأنبياء جميعا دعوا إلى التوحيد والإيمان بإله واحد ، وأن الناس حرفوا الكتب السماوية ، وجعلوا من الدعوة الوحدانية دعوة إلى عبادة الشركاء من المظاهر والصفات.

والسؤال الوارد في الآية هو بين حق وخلق ، أو قل هو حق وخلق ، فمن غيره موجود حتى يكون ثمة غيره؟ فالذين أرسل إليهم هم وجهه الظاهر ، وهو هنا كثير ، فيكون الحديث منه إليه ، أي من وجهه الباطن إلى وجهه الظاهر ، أي من الفكر الكلي إلى الفكر الجزئي ، أي من روح الروح إلى الروح ، وإذا عكست الآية يكون المرسل إليه هو المرسل ، وإلى هذا أشارت الآية بسؤال الجانبين ، أي شطري الذات الباطن والظاهر ، ولتأويل الآية بقية تأتي في حينها لنعلم القصد من الإرسال والسؤال باطنا وظاهرا ، وما معنى كونه تعالى الظاهر والباطن.

٧ ـ (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧))

[الأعراف : ٧]

معنى : (وَما كُنَّا غائِبِينَ) الخطاب الموجه من بطنان الذات الجزئية ، وبهذا الاعتبار ما خوطب النبي إلا من ذاته ، وهذا ما حدث لموسى لما نودي من جانب الطور الأيمن ، أي من اليمين.

ومعنى : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) كون الحق العلم والعالم والمعلوم ، فالأمر حضرة مرتقة تقتضي تفصيلا ونشرا ، فما بعد صفة الحي للذات مباشرة سوى العلم ، فهو سبحانه حي عالم ، أي هو وجود علمي يريد تحقيقا وتعرفا به وتعرفا إليه.

٨ ، ٩ ـ (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ

٢٣١

فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩))

[الأعراف : ٨ ، ٩]

الموازين الأسماء الجامعة قبل الفض وبعده ، فقبل الفض الميزان واحد قال تعالى فيه ووضع الميزان ، وبعد الفض الميزان موازين لأنه من اسمه تعالى الله ، أو كما تقول الصوفية الهو ، ومنه تصدر الموازين كافة أو تشع ، وهو هو ، وهي هي ، وهو هي هوية ، وهي هو هوية ، بمعنى أن موازينه ملكيه صادرة عنه ، مشيرة إليه ، دالة عليه ، سئل الإمام جعفر الصادق : ما الدليل على وجود الله؟ قال : ما بالخلق من حاجة إلى أكثر ، فالعين لا ترى جمالا ، والأذن لا تسمع لحنا إلا ويهتف القلب الله الله ، لأنه سبحانه الجميل من كل ظاهر.

والموازين الثقيلة إشارة إلى رجحان كفة الجمال والخير والحق والعدل على الموازين الخفيفة وهي القهر والبطش والانتقام ، ولهذا جاء في الحديث القدسي : (ورحمتي سبقت غضبي) ، وكلاهما له وجود ، ووجود أحدهما ضرورة للآخر كما أوردنا قول الغزالي في ختام السور السابقة.

والتعينات الأسمائية محكومة بنوعية الموازين هذه ، ففي الحديث القدسي جاء : (أنا الله ، لا إله إلا أنا ، خلقت الشر وقدرته ، فويل لمن خلقت له الشر ، وأجريت الشر على يديه) ، فهذه إرادة علوية إلهية اقتضت خلق الجنة وأهلها ، والنار وأهلها من قبل نشر الصحف الوجودية ، فإن قيل فأين العدل فالجواب كما قلنا هو لدى الإمام الكبير.

١٠ ـ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠))

[الأعراف : ١٠]

تمكين الإنسان مكانته بين المخلوقات ، فالإنسان مخلوق إلهي بمعنى أنه اصطفي من بين المخلوقات ليكون قلبه عرش الله ، ويكون حاملا للأمانة الإلهية الممثلة في الأسماء وعلومها.

والمعايش ما يكون به العيش ، والقصد الأول من العيش استمرار الحياة لتحصيل العلم ومعرفة الله ، وعليه فالمعايش ما في الوجود الحسي من حسيات لها دلالات عقلية ، فالحسيات من جميع الأنواع ذات بواطن عقلية هي معايش الإنسان ، والأرض البدن ، والتمكن فيه التصرف في الحواس ، وهي قسمان محركة ومدركة ، وللحيوان الحواس المحركة والمدركة ، وفضل الله الإنسان على الحيوان بالنطق والتمييز ، وهذا هو التشريف الإلهي للإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه وسيد المخلوقات.

١١ ، ١٢ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢))

[الأعراف : ١١ ، ١٢]

٢٣٢

الخلق صدور النفوس الجزئية من النفس الكلية ، وتشبيه الأمر عند الصوفيين والفلاسفة الموحدين بالشمس وأشعتها ، فلا انفصال بين النفس الكلية والنفوس الجزئية ، ولهذا تقول الصوفية : هي هو ، والتصوير إعطاء الاسم حقه من الوجود ، أي منحه من الوجود ، أي منحه الرحمة الرحمانية التي هي الحياة ، وسميت هذه الرحمانية في الحديث النبوي الهباء ، وفي الفلسفة الهيولى ، وتضرب فلاسفة الصوفية مثلا لهذا القماش والخياطة ، فالقماش الهيولى ، وخياطته إعطاؤه صورته من قميص أو ثوب أو سروال ، وصورة الإنسان اسمه ، واسمه طبعه أي ما يتصف به من خلال كالمؤمن والصبور والشكور ، ولهذا تحذر الصوفية من داء العجب بضم العين ومن القول أنا المؤمن ، أنا الشاكر ، أنا الذاكر ، أنا المعطي ، أنا المصلي دون تذكر من هو واهب هذه الخلال.

والملائكة المعقولات نفسها التي هي طوع بني آدم ، والأمر الصادر إليها بالسجود لآدم معناه أن تكون قواها وإمكاناتها تحت تصرفه ، ولهذا السجود لطيفة ، إذ المعقول لا وجود له إلا بالتعين وتعينه هو الإنسان الذي هو حامله ، فلو لا الإنسان ما ظهر الخير مثلا ، ولا عرف ، ولكان في حكم العدم ، فالإنسان رفع فوق ملائكة المعقولات لأنه حمل أمانة هذا القول الثقيل.

وإبليس الوجه الآخر لتضاد الأسماء ، فإبليس هو جمعية أسمائية أيضا ، ومقامه مثل مقام آدم قبل أن يؤمر بالسجود له ، ولكنه مثّل بعد الرفض الجانب المظلم من الذات ذات الشطرين المتضادين ، وكونه من نار يعني أنه لطيف المعدن ، شفاف ، إذ هو من الجن ، وكان رئيس الملائكة ، وكان اسمه عزازيل ، فكل ملك وجن لطيف شفاف لأن طبيعة المعقول لطيفة وشفافة أيضا ، أما آدم نفسه فلقد خلق من طين العناصر ، فكان المعقول بطبيعته الشفافة يفضل طبيعة آدم الكثيفة ، ولهذا كان اعتراض إبليس.

١٣ ـ (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣))

[الأعراف : ١٣]

الهبوط خروج من طبيعة المعقول نفسه إلى طبيعة المحسوس أو العيان أي خروج من الشفافية إلى الكثافة ، ولما كان آدم كثيفا كان هبوط إبليس إلى نفس آدم نفسها ، ولهذا جاء في سورة الناس وصف لإبليس الذي يوسوس في صدور الناس ، فإذا كان الحق في الذات الإنسانية بالمعية ، فإبليس هو أيضا بالمعية ، ولكن معية محددة بالوسوسة والفساد.

ومعنى قوله : (مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي أن إبليس من الأذلاء ، ومعنى الذل هنا كون إبليس أيضا مثل آدم في القبضة ، فلا خروج لأحد على القبضة القاهرة.

٢٣٣

١٤ ـ (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤))

[الأعراف : ١٤]

أنظرني أي أمهلني ، والمهلة محدودة بدءا من مولد الإنسان وحتى ساعة قيامة المؤمن الذي بلغ مقام الإحسان من نوم الغفلة في فجر اليقين ، فالقلب متقلب بين شطري النور والظلمة بإذن الله بقصد فلق المعقولات إلى أن يشاء الله أن يخرجه من جهنم الحجاب والبعد إلى نعيم المعرفة والقرب ، ولهذا ختمت الآية بالقول : (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ،) فمتى بعث المراد السالك كف إبليس عن تمثيل دور التضاد ، واستغفر وأناب وأعلن أنه يعلم من الله مالا يعلم أولياؤه من البشر.

١٥ ، ١٧ ـ (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧))

[الأعراف : ١٥ ، ١٧]

قعود الصراط المستقيم قعود صراط الأسماء ، فكل اسم له نقيضه ، وكلاهما للآخر ضرورة لازمة ، فمن دون الكفر لا لزوم للإيمان ، ومن دون الجهل لا لزوم للعلم ، وكذلك وجود الشهوة ضرورة لوجود العفة ، ووجود الجبن ضرورة لوجود الشجاعة.

وقوله : (لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) يعني هجوم إبليس على القلب من باب الوسوسة أي الصوت الخفي ، فلو لا العناية الربانية ونور الهدى لما نجا أحد من هيمنة إبليس وسلطانه ، وإلى هذا أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : (لكل امرئ قرينة من الجن ، قالوا : حتى أنت يا رسول الله؟ قال : حتى أنا ، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم).

وقوله : (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) يعني دخول إبليس حتى في قلوب أصحاب اليمين ، أو من قبل الخاطر النفسي والملكي ، ولهذا قال سبحانه في موضع آخر : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٢) [الحجّ : ٥٢] ، فحتى الأنبياء لم يسلموا من الوسوسة ولكن الحق هو الحافظ مما يلقيه الشيطان.

١٨ ـ (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨))

[الأعراف : ١٨]

الخروج بدء انتشار الأشعة التي تشكل عالم الكثرة ، والحديث يعني أن الحوار الذي سبق وروده هو حوار قبلي جرى بين شطري الذات ، كما قال فشته : إن الواحد يضع بنفسه مقابل ذاته جزءا من طاقته ابتغاء أن يتغلب على ذاته ، أي أن يكتسب حياة بهذا الغزو المستمر الذي

٢٣٤

هو في الواقع غزو من الذات إلى الذات.

وجهنم هنا بمثابة تكثر الشطر الذاتي المقتطع ليحقق عن طريق التضاد الإبليسي خروج الإمكانات والتعريفات والخصائص الذاتية والصفات.

١٩ ، ٢٢ ـ (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢))

[الأعراف : ١٩ ، ٢٢]

آدم عليه‌السلام ممثل الاسم الباطن الإلهي ، فهو الباطن من كل إنسان ، أي فكره ، ويسمى هذا الاسم هذا العقل الكلي ، وهو غير العقل الفعال أي الروح المحمدي ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كنت نبيا وآدم منجدل في طينته) ، ولهذا السبب سمي آدم أبا البشر باعتباره والد الجميع ، أي الوحدة الفكرية الجامعة للكثرة الفكرية.

وزوج آدم النفس الكلية المشتقة من العقل الكلي ، فإن كان آدم فاعلا فزوجه منفعلة ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إن حواء خلقت من ضلع آدم ، أو من ضلع عوجاء).

والشجرة شجرة المعرفة ، وأرضها تراب العناصر ، وللأمر لطيفة ، فما دام آدم عقلا فهو نور ، أو هو توسط بين النور والظلمة ، ولهذا سمي آدم من الأدمة أي السمرة ، أما النفس الكلية فهي من عالم العناصر نفسه ، فهي والعالم الخارجي توأمان ، ولهذا قال أرسطو : ليس الجسم مستودع النفس بل النفس مستودع الجسم ، فالنفس أعم من الجسم وأوسع لأنها الفاعلة فيه بتوسط العقل ، ولأنها الوحدة الجامعة للكثرة المنبثة ، ولهذا سميت حواء أم البشر ، وحواء ممثلة الاسم الإلهي الحي ، فهي الحياة وهي الرحم الطبيعية ، كما جاء في الحديث القدسي : (أنا الرحمن خلقت الرحم ، وشققت لها اسما من اسمي ، فمن وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته) ، وقال ابن عربي : الرحم الطبيعة ، وهذه الحياة هي ما رمز إليها عليه‌السلام إذ قال إن الشجرة هي الحنطة ، والحنطة رمز الحياة.

وقوله سبحانه : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) يعني العكس ، إذ أنه سبحانه قد ينهى عن شيء ويريد خلافه بقصد التحريض ، هكذا قالت الصوفية ، فالشجرة الهبوط من سماء الروح إلى أرض الطبيعة والعيان.

ووسوسة الشيطان حديث النفس الخفي الداعي إلى التحريك ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اعرف نفسك)،

٢٣٥

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من عرف نفسه عرف ربه) ، وكل العبادات والدعوة إلى التفكير في خلق السموات والأرض والتأمل الذي هو بمثابة استبطان الذات تؤدي جميعها إلى تسليط الضوء على عالم الإنسان الجواني حيث يمكر إبليس فيحدث الإنسان ويحركه ، ويظن الإنسان أن الصوت صوته ، والحديث حديثه ، وما الصوت صوته بل هو وسوسة واستدراج والسوأة محل الفعل والانفعال من الإنسان ، ولهذا فسرت بالقبل والدبر ، والفعل والانفعال من المقولات العشر التي هي وسائط بين الحق والخلق ، ويتحقق الفعل والانفعال بداعي الشهوة سببا لاستمرار الحياة ، فالإنسان فان وهو يبدأ رحلة الموت منذ ساعة الميلاد ، والنسل وحده يحفظ استمرار الحياة والنسل قوامه الشهوة ، وهذا ما أدركه آدم وحواء من حديث إبليس لما قال : (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) ولهذا القول معنى ، فلقد قلنا إن آدم هو العقل الكلي وليس العقل الفعال ، وقلنا إن هذا العقل هو الفكر ، والفكر ليس خالدا ، وليس ملكا بل هو نائب العقل الإلهي وممثله ، وقالت الصوفية : إن هذا العقل الذي هو قوة من قوى الروح الحيواني ينفخ في الجسم بعد أن يبلغ الجنين أشهرا معدودة من العمر ، فالعقل الآدمي إذا مادي ، أي له ارتباط بالدماغ ، ولا يعمل دونه وإن كان هو الفاعل فيه ، ولقد حاول العلماء الغربيون جهدهم أن يصلوا إلى كشف مفاده أن الجسيمات المادية في الخلايا العصبية في الدماغ هي التي تنتج بتصادمها فكرا فلم يستطيعوا البرهان على ذلك ، والصوفية وحدهم ، ومن قبلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القائلون بارتباط الروح الحيواني ومعه الفكر بالبدن ، ولا وجود له دونه وهو ، وإن كان فاعلا فيه محتاج إليه ، فلا وجود لهذا دون ذاك ، ولا حركة للجسم من دون الروح ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كلكم لآدم وآدم من تراب).

فآدم عليه‌السلام ممثل الجنس البشري ، واستمراره أي خلوده مرتبط باستمرار وجود الجنس البشري نفسه ، ولهذا تقول الفلاسفة أن لا وجود للعقل الكلي أو النفس الكلية إلا كتجريد غير موجود حقيقة وهذا صحيح إذا حاولنا فصل الكثرة عن الوحدة ، والظاهر عن الباطن ، ولهذا شددت الصوفية ، وعلى رأسهم ابن عربي على ضرورة الربط بين الظاهر والباطن من الخلق.

هذا من آدم الفكر ، أما زوجه فهي النفس القابلة السماعة لحديث الفكر ، وهذا حال يعيشه كل إنسان ، ويسمى في الأدب والنقد وعلم النفس المونولوج الداخلي ، فما من موقف فكري أو نفسي يعيشه الإنسان إلا ويدور فيه حوار ذاتي بين فكره الآدمي ونفسه حواء. وعلى هذا فآدم وحواء جميعا هما الفرد.

٢٣ ـ (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣))

[الأعراف : ٢٣]

ظلم النفس حطها من درجتها الإلهية إلى البشرية ، وانغماسها في الشهوات وتلبية رغبات

٢٣٦

الأنا ، ولا خروج من هذه البئر التي ألقي فيها يوسف إلا بالمغفرة الإلهية والرحمة ، وهما نور يجعل في القلب يهديه سواء السبيل

٢٤ ـ (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤))

[الأعراف : ٢٤]

قوله : (اهْبِطُوا) بصيغة الجمع بدليل أن الخطاب وجه إلى آدم وزوجه بصيغة الجمع أي الكثرة ، فالخطاب وجه إلى آدم أولا بصيغة المفرد ، ثم وجه إلى آدم وحواء بصيغة المثنى ، ثم وجه أخيرا بصيغة الجمع ، فالخطاب بصيغتي المفرد والمثنى هو خطاب من الذات الصرفة إلى الذات الصرفة أولا ، ثم خطاب من الذات الصرفة إلى الذات المتكثرة عن طريق النسب والاعتبارات والإضافات ، فالخطاب كله إلهي ، إذ ليس من موجود حقا إلا الحق ، ولكن الحق كان في عماء كما وصفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل خلق الخلق ، والعماء سحاب رقيق وهو في تأويلنا عالم الذرة والسديم الأول ، ثم تكثف الذر بعد الانفجار العظيم ، وفضت معقولات الذات عن طريق الانشطار الذاتي عن طريق التضاد والتناقض ، ولهذا جاء في الآية السابقة قوله سبحانه : (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ،) أي شجرة الحياة التي هي شجرة المعرفة.

فالتكثر إذن ضروري لانشطار الذات الجامعة وفض خاتم المعقولات الصرفة ، ولهذا قال سبحانه : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ،) وقوله : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) يعني غياب المعقولات الإلهية في عالم المادة إلى أن يتم انشطارها أيضا بالتناقض ، وهذا الانشطار والتفليق أشبه بتلقيح الرياح للنبات ، كما قال سبحانه : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [الحجر : ٢٢].

والحقيقة أن هذه الزوجية هي ما تحدث عنها الفيثاغوريون الذين قدمنا شرحا لنظريتهم الوجودية العامة ، وكيف أن الحد الذي يعد هنا آدم هو الذي يدخل في اللامحدود الذي هو حواء ، فيبدأ من ثم الوجود في التفاعل عن طريق الفعل والانفعال.

فإذا قالت لك نفسك قولا ، فجورا كان أم تقوى ، فاعلم أن آدمك المخلوق على المثال الإلهي يحفزك على الفعل ليتم تحقيق المعقول المكنون فيك من ساعة نفخ الروح فيك ، والمعقول المودع فيك اسم من أسمائه تعالى ، وهو قضاؤه فيك وقدره ليتم شحن الدائرة الوجودية بالمعقولات ، وهذا يفسر كون الإيمان بقضاء الله خيره وشره من أركان الإسلام الخمسة.

٢٥ ـ (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥))

[الأعراف : ٢٥]

لا حياة للروح إلا بالمادة ، ولا مقوم للمادة إلا الروح ، ولهذا وجه الخطاب إلى النفوس

٢٣٧

الجزئية الصادرة عن الروح والمودعة الأجساد للتدبير ، فحياتها في هذه الأجساد وكذلك موتها ، أما خروجها فعودة النفوس الجزئية إلى الروح ، وعودة الروح إلى روح الروح ، وهذه العملية الانشطارية مترابطة بحيث لا يكون دخول ولا خروج ولا حياة ولا موت ، بل هي صيرورة في ديمومة حية أزلية يمثلها البعث الدائم.

٢٦ ـ (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦))

[الأعراف : ٢٦]

اللباس لباس التقوى والخلال الحميدة ، وقوله : (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) يعني فعلكم الذي فعلتموه في أنفسكم لما ادعيتم أن هذه النفوس لكم بينا هي عوار جمع عارية لله. والتقوى والخلال الحميدة هي حصاد انشطار المعقولات التي علمها الله آدم مسبقا ، إذ جعلها فيه بالقوة ، فلما انتشرت عوالم الذرة المادية انفلقت المعقولات التي منها الخير والجمال ومنها الشر والظلام كقول الملائكة بعد خلق آدم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة : ٣٠]. فبنو آدم فعلوا الخير والشر اللذين كانا شيئا واحدا ، ثم تجلى أولو الفضل بالخير لما تميز عن الشر كما قال سبحانه في موضع آخر : (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران : ١٧٩] ، فكانت النتيجة أن ظهر في العالم أصحاب اليمين الذين هم على أرائك الصفات الجميلة متكئون ، والذين كانوا مشيئة قوله تعالى كما جاء في الحديث : (إن الله عزوجل خلق آدم ، ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية فقال هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون).

٢٧ ـ (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧))

[الأعراف : ٢٧]

الخطاب موجه إلى المتقين الذين اتقوا الله في أنفسهم وصفاتهم وأفعالهم ، فردوها جميعا إلى الله ، في حين ظل أصحاب النار محجوبين وحجابهم خواطرهم الفاسدة ، ومصدرها الشيطان وقبيله الذين يقولون للإنسان قل أنا وأنا في حين لا وجود للأنا إلا من حيث كونها مظهر الأنا الخالصة.

٢٨ ـ (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨))

[الأعراف : ٢٨]

٢٣٨

قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) يعني كونه سبحانه متصفا بالحق والكمال والجمال ، وجمع أفلوطين هذه الصفات كلها في صفة واحدة هي الخير ، فالجمال مثلا ناجم عن كونه تعالى خيرا ، ثم عن كونه حقا ، أما الصوفية فلقد رفعوا شعارا آخر هو كونه تعالى الحي ، القيوم ، فحتى صفة الخير هي نتيجة من كونه تعالى الحي ، وكل ذي حياة بضع منه وفرع وصدور ، وما دام سبحانه الحي فلا وجود للفحشاء بوجوده ، وما الفحشاء حتى تقرن بوجود الحياة؟ وما الفحشاء إلا خروج على الصراط تحقيقا لأهداف الصراط نفسه ، ولهذا أجمعت الفلاسفة الموحدون أمثال لا يبنتز واسبينوزا وأفلاطون ، ومعهم الصوفيون على أن لا وجود للشر بذاته ، أي كونه قائما بذاته ، أي موجودا بوجوده وحده ، وإنما الشر نتيجة عملية الانشطار الوجودية التي قصدها ومآلها ظهور الجمال الإلهي ، فالشر إذن محرك وباعث ، فهو بهذا القصد البعيد خير أيضا ، وإن بدا في أثواب سود.

٢٩ ـ (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩))

[الأعراف : ٢٩]

القسط العدل ، والكون كله مخلوق على عدل وجودي بدأ العلماء المحدثون يكتشفون قوانينه وأسراره وآثاره في الطبيعة ، فسموه التناغم ، وسموه التوافق ، وسموه التوازن البيئي ، وتوصل علماء الطبيعة ، بعد دراسة للأنهار التي من المعروف أنها تغير مجراها على الدوام ، إلى نتيجة مفادها أن للنهر حكمة في تغيير مجراه ، وأنهم لم يعرفوا بعد كل أبعاد هذه الحكمة ، ففي كل ما يظهر من تناقض كوني وجودي كوجود الآكل والمأكول والقوي والضعيف والوحشي والأليف هناك عدل وجودي هو أساس بناء الوجود العياني.

وقوله : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) يعني إجعلوا وجوهكم أي ذواتكم وقلوبكم عند المسجد الذي هو جامع ، أو هو ممثل العين الجامعة ، والمعنى يؤكد تأويلنا الشطر الأول من الآية وهو أن ينظر المرء إلى التناقضات الوجودية بعين التوحيد ، وسمى سبحانه هذه النظرة التوحيدية الإخلاص في الدين.

٣٠ ـ (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠))

[الأعراف : ٣٠]

سبق أن تكلمنا عن الهداية والضلالة وكلاهما من الله قالت عائشة رضي الله عنها : (أتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصبي من الأنصار يصلي عليه ، قالت : قلت يا رسول الله طوبى لهذا لم يعمل شرا ولم يدر به ، قال : أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا ، وخلقها لهم وهم في أصلاب

٢٣٩

آبائهم ، وخلق النار ، وخلق لها أهلا ، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم) ، وقال العارف بالله عبد القادر الجيلاني : الله يسمى المضل كما يسمى الهادي ، فالعارف متحقق بصفة الهداية ، والعاصي متحقق بصفة الضلال ، وهما أمام الحق سواء.

٣١ ، ٣٣ ـ (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣))

[الأعراف : ٣١ ، ٣٣]

الخطاب موجه إلى بني آدم فقط ، وقليل ما هم ، إذ تفيد التسمية أن يكون المخاطب من الفريق الذين شملهم التعليم الذي علم الله آدم وهو علم الأسماء الحسنى ، وهذا العلم نادر خص به الله عباده المصطفين أزلا ، وهؤلاء هم الذين أمروا بأن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد ، والزينة التخلق بالأخلاق الإلهية وتعلم علومه التوحيدية.

وقوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) يذكر بقول العارف ذي النون المصري : العالم من لا يطفئ نور علمه نور ورعه ، وللأمر لطيفة ، ذلك أن الاطلاع على العلوم الإلهية يحل الإنسان المتأله من كثير من القيود ، وقال ابن عربي في هؤلاء : أباح لهم التصرف فيما كان حجره عليهم ، وقالوا : إن للعارف حق التصرف في ملك ربه الذي صار إليه ، وكل ما في الوجود ملك له ، فللعارف الحق في أن يأكل ويشرب من أي اسم شاء ، ومع هذا فإن أخلاق العارف التي كانت المدخل أصلا إلى علوم الروح ، والتي هي أخلاق إلهية كما قال سبحانه في وصف أخلاق النبي : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٤) [القلم : ٤] ، هذه الأخلاق هي التي تجعل العارف لا يسرف في استخدام حقه في التصرف في الملك الوجودي ، ولهذا عرف العالم بأنه من لا يطفئ نور علمه نور ورعه ، فمن يفعل غير هذا فليس بعارف ، قال ابن معاذ : إذا ترك العارف أدبه عند معرفته فقد هلك مع الهالكين.

٣٤ ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤))

[الأعراف : ٣٤]

الأمة هنا ممثلة في الإنسان الكامل الذي هو جامع للجمع والفرق ، أو الحق والخلق. وقال ابن عربي : الإنسان الكامل نوع والأنبياء والأولياء أفراد هذا النوع ، ولقد سمي سبحانه إبراهيم أمة بعد بلوغه مقام الجمع ، فالإنسان عند وصوله إلى المقصد الأسنى هو الإنسان الجامع ، يجمع الأمة في شخصه ، فيحقق ماهية النوع ، وأنشد ابن عربي قائلا :

٢٤٠