التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢))

[النساء : ١٠٢]

أوصى الله سبحانه نبيه بأن يكون موضع نظره الحق والخلق جميعا ، فالحق يوصل بالصلاة ، وهنا يرى السالك الحق كشفا أنه معه ، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد وأنه الملهم المناجي ، فهذا شطر الحق من الوجود المطلق لا بشرط الإطلاق ، وأما الخلق فهم ممثلو الأسماء بصنوفها ، والأسماء متضادة فلا بد من أخذ الحذر وحمل السلاح وعدم الغفلة عن أن الوجود ، وإن كان في القبضة ، فالصراع أساسه وأسّه ولا مفر منه ، ومن يغفل عن صراع الأسماء فإن مصيره هجوم الأسماء عليه سواء من الخارج عن طريق المشركين ، أو من الداخل عن طريق خاطري النفس والشيطان.

١٠٣ ، ١١٥ ـ (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥))

[النساء : ١٠٣ ، ١١٥]

انقضاء الصلاة انبلاج فجر اليقين والوصول إلى عيون العلم كالخمر واللبن والعسل ، فهذه

١٤١

العلوم هي التي تكشف عن وجود الله ظاهرا بالمظاهر وباطنا في العقل وقواه ، وفي الآية المائة وثلاث لطيفة فلقد ورد ذكر الله قياما وقعودا وعلى الجنوب ، فالقيام لقيام الخلق بالحق ، وهو قوام وجودي لا غنى عنه ، إذ له الوجوب ولنا الإمكان أي القيام به ، والقعود جلسة المظهر أي تخليه عن الفعل بحصر الحواس ظاهرة وباطنة ، وفيها ينكشف سر الفعل والصفة ، فيشهد العبد أن لا إله إلا الله ، وأن الله يصلي علينا ، أي هو موصول بنا ، مثلما نصلي نحن له أي مثلما نحن موصولون به .. أما الجنوب فهي للنوم ، والنوم خروج النفس من هيكلها واتصالها بالنفس الكلية التي تريها صور الأسماء وصور الرجال والنساء وكلها معادلات علمية.

وقوله سبحانه : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ،) يعني أن المصلين موصولون ولهذا صلوا ، ولو لا الصلة النورانية ما صلوا بل ما وجدوا ، والكتاب الموقوت الأجل المحتوم للنفس الذي تعيشه في حال الفصل قبل تحقيق الوصل ، وفي حال القبض قبل حلول البسط.

١١٦ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦))

[النساء : ١١٦]

الإشراك بالله أن يجعل له شريك في الملك ، والشرك باب عريض عرضه عرض السموات والأرض ، وما ينجو منه إلا من رحم الله سبحانه ، وقال العارف بالله أرسلان الدمشقي : كلك شرك خفي ، فالإنسان معتاد على أن يفصل بين الله والعالم ، وبين الله وخلقه ، وبين الله ونفسه ، وهو يجعل الخالق في السماء ، والمخلوق في الأرض ، وهو يتعامل مع الله كما لو أن الحق سبحانه وسيلة للخلق ، وقد خلق وفرغ من الخلق وانتهى ، وما يعلم أن الله على كل شيء حفيظ ووكيل وقيوم ، وهو النجوى ، وهو القوى ، وهو عقل العقول ، وهو روح الأرواح ، وهو المحرك والباعث والداعية ، ولهذا ختمت الآية بالقول إن من أشرك بالله فقد ضل ، أي لم يعرف الحق ولا الطريق إليه ، ولا قدر الله حق قدره.

١١٧ ـ (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧))

[النساء : ١١٧]

الإناث مثل الخواطر ، والإناث الشطر السلبي من الأسماء ، فكل الأرباب الذين يعبدهم المشرك كاعتماده الخواطر والمعقولات السلبية إنما هم في حقيقتهم إناث لأن العالم المادي كله أنثى ، وما فيه من جزئيات إناث أيضا لأنه قابل ، ولأن الله فاعل.

وختمت الآية بالقول : (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) والشيطان من شطن أي بعد ،

١٤٢

فاعتماد المشرك غير الله يوقعه في شرك البعد.

١١٨ ـ (لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨))

[النساء : ١١٨]

الشيطان ممثل الاسم البعيد ملعون ، وفي هذه اللعنة نكتة ، فالحق شطر هذا المعقول الكلي منه ، وجعله وراء حجاب من الأسماء السالبة لكي يمارس التضاد دوره ، فاللعنة هي البعد والإبعاد ، وكل أولياء الشيطان مبعدون وهم نصيب مفروض من الناس ، ولهذا النصيب سبب ، فكل اسم يقوم قبالته اسم ، فلا اسم من غير اسم مواجه أو مناقض ، فتوجب أن يقوم في وجه أسماء الجمال عدد مماثل من أسماء الجلال حتى تتساوى كفتا ميزان الوجود ، ويكون للتضاد دوره في إبراز الجانب الجمالي ، فإبعاد الشيطان كان لحكمة ، والنصيب من العباد الذي اتخذه هو لحكمة أيضا ، إذ الضد بالضد يعرف.

١١٩ ، ١٢٣ ـ (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣))

[النساء : ١١٩ ، ١٢٣]

مناه وعده الحسنى ، ووعد الشيطان الحسنى دعوة أوليائه إلى اعتمادهم أنفسهم ذاتها بمالها من قوى وعلى رأسها الفكر ، فتجد أرباب الفكر لا يذكرون الله ، وإذا ذكروه ذكروه من باب الابتداء والخلق ، ثم جعلوا بينه وبين العالم جدارا من أنفسهم وإرادتهم واختيارهم.

وقوله : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) يعني قطع آذان النفس الحيوانية بجرها بعيدا عن سماع صوت الحق من داخل القلب بالنجوى ، فيكون لخاطر الوسوسة الغلبة على الخاطرين الإلهي والملكي.

وقوله : (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) يعني تحويل القوى الإلهية إلى إنسانية ذاتية نفسية ، فقوى النفس مودعة أصلا فيها إيداعا ، وفعلها وتحركها وممارستها قواها هو كله فعل إلهي يقوم به الروح ، والنفس تفعل ذلك بواسطته ، وعند ما يغير الشيطان هذا الخلق فهو كمن يسرق ملكا ليس له ، ويمارس إمكانات ليست من صنعه ، وكيف يستطيع الإنسان أن يفسر سر ممارسة قوة كالذاكرة دورها وهو لا يعلم ماهيتها ولا عملها ، ولا كيف تتم عملية التخزين في الدماغ؟ وكل التجارب التي أجريت والدراسات النفسية والتشريحية لم تستطع أن تكشف النقاب عن حقيقة

١٤٣

عمل هذا الحاسوب الكوني الذي مازالت العلماء يقفون أمامه حائرين.

١٢٤ ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤))

[النساء : ١٢٤]

الذكر والأنثى اللذان يعملان من الصالحات هما الروح من جهة والنفس من جهة أخرى ، فالروح طابع وملهم والنفس مطبوعة وملهمة بفتح الميم ، وقوله : (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) يعني أن مصير الطابع والمطبوع إلى جنة المعرفة التي هي القرب من الله.

١٢٥ ـ (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥))

[النساء : ١٢٥]

أحسن دين تسليم الوجه لله ، والوجه النفس والأنا ، وتسليمها رد العارية إلى صاحبها الحقيقي ، وهذا هو مقام الإحسان ، لأن الإنسان لا يرد ما لديه من عارية إلا بعد أن يتحقق بقوله عليه‌السلام في تعريف الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه ، أي أن تراه ظاهرا بالمظاهر ، وهذا ما فعله إبراهيم عليه‌السلام لما حطم أوثان مظاهر الصفات ، فكانت النتيجة أن بدل بأخلاقه وأوصافه ونفسه أوصافا إلهية كما جاء في الحديث القدسي صرت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، فتخلله الله بهذه القوى والصفات.

١٢٦ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦))

[النساء : ١٢٦]

قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يعني أن التخلل الإلهي سار في كل موجود ، وهذا أمر تحققه إبراهيم بعد وصوله إلى سماء التجلي السابعة ، وهو التحقق بالجمع ، فسمي إبراهيم بعروجه هذا أمة ، أي إماما ، أي قلبا له مقام الجمع أو فردا جامعا كما يكون الواحد مثلا داخلا في كل جمع ، أو كاسم الجنس الذي هو واحد في جمع.

١٢٧ ـ (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧))

[النساء : ١٢٧]

يتامى النساء مثل النفوس الجزئية ، إذ المرأة عموما هي النفس الكلية لكونها منفعلة قابلة وباعتبار النفس الكلية كذلك ، ولهذه النفوس حقها من الإرث العلمي الإلهي بعد زواجها من الروح ، وهذا الحق فرضه الله لكل ذي رحم.

١٢٨ ـ (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما

١٤٤

صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨))

[النساء : ١٢٨]

المرأة وبعلها النفس والروح بما لدى النفس من اسم خصها الله به للنكاح العلمي ، والصلح هو تجاوز تضاد الأسماء بالزواج العلمي فتكون النتيجة الخير ، لأن أصل النفس قائم على الشح ، وهو الإمساك ، والإمساك هو الذي يبقى النفس في حال التناقض ، والتناقض نزاع إذا استحكم أدى إلى طلاق نهائي بين الروح والنفس.

١٢٩ ـ (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩))

[النساء : ١٢٩]

المرأة المعلقة مثل الاسم المعلق الذي لا يمارس دوره المخلوق له ، وهذا غير جائز ، لهذا حذر الله القلب من أن يميل إلى جهة من الأسماء دون الأخرى ، فالقلب الذي يلبي داعي الكرم دون داعي الحلم يكون قد حرم الاسم الحليم حقه من الوجود.

١٣٠ ، ١٣١ ـ (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١))

[النساء : ١٣٠ ، ١٣١]

التفرق يكون بالطلاق أي تفريق الأسماء ، أو الموت البدني للنفس الجزئية ، وعندئذ فإن سعة الله تشمل الاسم وترحمه فتنقله من رحم إلى رحم ، أي من نفس جزئية إلى نفس جزئية أخرى ليمارس دوره من جديد.

١٣٢ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢))

[النساء : ١٣٢]

يكرر الحق مثنى وثلاث ورباع أن الوجود العياني والوجود العيني جميعا لله ، وأنه لا شريك له في الملك ، وذلك لأن ثلة قليلة من الناس هم الموحدون ، والباقون أصحاب شرك خفي ولا يدرون وذلك بسبب رفع قبضة الله عن العالم ، والعالم جميعا قبضته.

١٣٣ ، ١٣٤ ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤))

[النساء : ١٣٣ ، ١٣٤]

الحل والعقد بيده تعالى ، وخلق النفوس الحاملة للأسماء من فعله ، ما كان لأحد أن يخلق نفسه بنفسه ، فإذا لم يتحقق القصد من الخلق وهو عبادة الله بمعرفته فإن الله يقبض إليه النفوس الحاملة للأسماء والتي أخسرت الميزان الكوني ، ومنعت الأسماء حقها ، ويأتي بنفوس جديدة

١٤٥

حمالة للأسماء بحيث يتحقق التوازن الكوني ويسود العدل وتستوي كفتا الميزان ، قال سبحانه : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١٤٠].

١٣٥ ، ١٣٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦))

[النساء : ١٣٥ ، ١٣٦]

القوامة بالقسط إعطاء الأسماء حقها صفة وفعلا ، ومعرفة هذه الشهادة حدس فطري لا حاجة لإعمال الفكر فيها ، بل الفكر من لواحقها وآثارها ، إذ أن أصلها نابع من العين أي النفس ، وقوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) يعني أن الأصل الأسمائي في غناها وفقرها هو لله لأن الله قوامها.

١٣٧ ، ١٣٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨))

[النساء : ١٣٧ ، ١٣٨]

الإيمان ثم الكفر ثم الإيمان التذبذب بين الخواطر التي تهجم على القلب من اليمين والشمال ، فيكون القلب أسير هذا التذبذب ...

إلى أن قالت الآية : (ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) أي بت الأمر بأن استقر في القلب خاطر الكفر ، والكفر حجاب ، والله لا يغفر الكفر لأنه حجاب عنه.

١٣٩ ـ (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩))

[النساء : ١٣٩]

العودة إلى تبني خاطر الكفر والاعتماد على ممثليه من المظاهر واتخاذهم أولياء طلبا للعزة والمناعة ، ولله العزة جميعا ، أي أن أصل العزة لله باعتباره صاحب الأسماء والقاهر فوق الخواطر التي هي على الحقيقة جنده في السموات والأرض.

١٤٠ ، ١٤١ ـ (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ

١٤٦

لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١))

[النساء : ١٤٠ ، ١٤١]

يلتقي الكافرون والمنافقون في جهنم البعد لأن كليهما اعتمد ضربا من الخواطر المبعدة فألقي في نار جهنم الطبيعة وقواها من شهوات وغضب.

١٤٢ ـ (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢))

[النساء : ١٤٢]

المنافق هو الذي لا يؤمن بالله ، وإذا آمن فإيمانه ضعيف متقلب ، ولما كانت الصلاة على المؤمنين كتابا موقوتا ، ولما كان الله قد وصفها في موضع آخر بأنها تقتضي من المصلي الصبر عليها كما قال لنبيه : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه : ١٣٢] ، والصلاة كما سبق أن أولناها صلة الخلق بالحق ، فالنتيجة أن المنافق لا يقوم للصلاة إلا كسلان لضعف إيمانه.

١٤٣ ـ (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣))

[النساء : ١٤٣]

الذبذبة كما سبق أن بينا ذبذبة الخواطر ، وهذا حال أكثر العامة الذين لا يعرفون الخواطر معرفة علمية استبطانية ليتبينوا أثرها وتأثيرها ويكونوا منها على حذر ، فتكون النتيجة الضلال عن الهدى وجهل السبيل الأقوم ، لأن الله سبحانه جعل معرفة الخواطر سبيلا وسببا إلى معرفة النفس ، وجعل معرفة النفس سبيلا إلى معرفته كما قال في موضع آخر : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٢١) [الذّاريات : ٢١].

١٤٤ ، ١٤٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧))

[النساء : ١٤٤ ، ١٤٧]

قوله سبحانه : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) [النّساء : ال] يعني الخاطرين الإلهي والملكي الموجودين في القلب واللذين يدعوان القلب إلى الإيمان ، فثمة إذا سلطان لله في القلب يدعوه على بصيرة ، فإذا تصامم القلب عن سماع صوت الله هذا كان لله سلطان عليه وحجة ، إذ هو مع العباد أينما كانوا ، وهو المناجي وسامع النجوى.

١٤٨ ـ (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨))

[النساء : ١٤٨]

١٤٧

لما كانت الأسماء جميعا لله ، والخواطر قبضته ، ولما كان الله خلق الجنة وجعل لها أهلها وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وجعل لها أهلها وهم في أصلاب آبائهم فالنتيجة أن هذا التقسيم بين النار والنور هو من فعله تعالى ، وفعله لحكمة فهو الحكيم العليم بما يخلق ويفعل ، وعلى هذا فالحق لا يحب الجهر بالسوء من القول من أحد إلى أحد ، لأن الفعل لله أولا ، ولأن الحكمة تقتضي التضاد ثانيا ، ولهذا كان الحلم سيد الأخلاق وخلق الأنبياء ، وقال ابن عربي : من جابه أحدا بسوء ، وإن كان حقا ، فإنه يدل على سوء الطبع.

١٤٩ ، ١٥١ ـ (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١))

[النساء : ١٤٩ ، ١٥١]

قارنت الآيات بين العفو الإنساني والعفو الإلهي وذلك إشارة إلى أن هذا العفو من ذاك ، وأنه لو لا أن الله وضع في القلب هذه الخلة ما اتصف القلب بها ، وفي الآيات إشارة ثانية وهي التخلق بالأخلاق الإلهية فيكون الحق هو الفاعل بواسطة الخلق ، إذ أن الآية ختمت بوصفه سبحانه نفسه بالقدير ، والقدير من القدرة التي هي إحدى الصفات الإلهية السبع.

١٥٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢))

[النساء : ١٥٢]

عدم التفريق بين الرسل سببه الحقيقة المستسرة في كل من الرسل وهي الحقيقة المحمدية التي هي النجوى والهدى.

١٥٣ ـ (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣))

[النساء : ١٥٣]

سؤال أهل الكتاب موسى أن يريهم الله جهرة هو من الكبائر ، لأن الله نور ، والنور لا يرى جهرة ، لأنه هو أصل الوجود العياني ، والوجود العياني هو الذي يرى فيستدل به على النور ، ولهذا وصف الإمام الغزالي النور الإلهي بأنه معنوي ، أو هو عقل فقط ، ثم قال : إن النور اللطيف والنور الحسي مشتقان من هذا النور.

واتخاذ العجل عبادة أصنام مظاهر الصفات علما أن موسى دعا إلى تجاوز هذه المظاهر كما فعل إبراهيم عليه‌السلام ، والسلطان المبين الذي أوتي موسى هو قلبه العصا حية ، أي

١٤٨

قلبه عصا القوى الإنسانية قدرة إلهية تفعل ما تشاء.

١٥٤ ـ (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤))

[النساء : ١٥٤]

الطور مثل العقل ، إذ هو جبل ، والجبل يعلو السهل ، والرأس يعلو البدن ، وقوله : (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) يعني ادخلوا من المدخل الحقيقي للعبادة الحقة وهي السجود ، أي السجود لله وهو في الإسلام وضع الجبهة على الأرض ، أي وضع ما وراء الجبهة على الأرض الإلهية.

وقوله : (لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) يعني أن لا تعتدوا في السبت ، أي لا تتعدوا حدود الله التي تظهر في يوم عطلة اليهود ، أي التوقف عن الفعل ، وتكريس الفعل من ثم لله ، ولهذا كانت الديانة الموسوية مخصصة لكشف الفعل.

١٥٥ ـ (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥))

[النساء : ١٥٥]

طبع الله على القلوب يعني طبعها بالأسماء ، فكل قلب مطبوع باسم مذ يكون الإنسان جنينا في رحم أمه ، وهذا الطبع هو الميثاق الذي أخذه الله من العباد مذ كانوا في عالم الذر ، أي في العالم العلمي المحض ، والطبع بالكفر جزء من عملية الطبع بالإيمان ، لأن الكفر ستر وحجاب ، والستر والحجاب يستدعيان التفكير في خلق السموات والأرض لبدء القيام من ليل الغفلة.

١٥٦ ـ (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦))

[النساء : ١٥٦]

البهتان الذي قيل على مريم هو أنها حملت بالزنا أي من فاعل ، ومريم هنا الإشارة إلى النفس الكلية التي هي شاشة إلهية محضة يرسم عليها الروح آياته ، أي يعرض صوره العينية والعيانية ومعادلات العلوم الإلهية ، فعدم الإقرار بطهارة النفس من شوائب عالم العناصر وكونها حوض هذا العالم ومستودعه ومرآته وأصله يعني رمي النفس المخلوقة على صورة الرحمن بالزنا ، أي التزاوج الخارجي الحسي.

١٥٧ ، ١٦٢ ـ (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً

١٤٩

أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢))

[النساء : ١٥٧ ، ١٦٢]

عيسى عليه‌السلام كلمة من كلمات الله ، والكلمات من الأنوار المحضة المشعة عن الله فخلق عيسى كان من عالم الروح ، أي من عالم الأمر ، ولهذا خاطب الحق عيسى عند ما هموا بقتله قائلا : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ال] ، والتوفي استرداد العارية المستودعة في الجسد ، فحقيقة عيسى بارحت الجسد قبل الصلب ، فبارح اللاهوت الناسوت وما بقي من عيسى إلا الهيكل.

أما التشبيه فلقد حدث من باب كون عيسى صورة ، وكل وجه صورة ، والصور لله لأنها تعينات ، فعند الصلب قلب المصور صورة عيسى فإذا هي صورة أخرى ، فشبه لصالبيه ، فظنوا أنهم صلبوه وما صلبوه.

١٦٣ ، ١٦٨ ـ (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨))

[النساء : ١٦٣ ، ١٦٨]

الوحي كان من الله تعالى إلى محمد وبقية الأنبياء ، وهذا الوحي هو الروح القدس وأمين الله جبريل الذي وصف في موضع آخر بقوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشّورى : ٥١] ، فالآية تدل على أن الوحي طبقات ، أوله الإلهام كما قال سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [الشّمس : ٧ ، ٨] ، فهذا ضرب من الوحي سمي الخاطر الملكي ، ولكل مؤمن خاطر ملكي هو وحي إلهي يرشده سواء السبيل ، بل إن الإلهام ليشمل الفجور كما جاء في الآية المذكورة ، وذلك من باب حديث النفس ، وهو إلهام ذو قصد وصفه ابن عطاء الله قائلا : حرك عليك النفس ليدوم إقبالك عليه ، فهذا التحريك دفع آدم إلى الخروج من الجنة ، والأسماء العلمية في صدره مكنونة ، وأهبط إلى أرض العناصر والمادة ليتم فلق هذه العلوم بالتناقض.

١٥٠

وعلى الحقيقة ليس في الوجود إلا الوحي ، فالله سبحانه يوحي إلى الحيوان والنبات والجماد كما قال : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) [النّحل : ٦٨] وكقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧].

والوحي النبوي هو أرفع درجات الوحي ، ويسمى الوحي القدسي ، لأنه وارد من جناب القدس المقدس عن أن يكون في حيز فيحبسه ، ولكنه يكون بالمعية بالنجوى والمكالمة كما قال سبحانه : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] ، وهذا الوحي هو الكاشف للغطاء من عين البصيرة ليتم الدخول في فلك الملكوت ، وبدؤه على التحديد الدخول من باب الخواطر نفسها ، وقصده ضم خاطري النفس والوسوسة إليه لأنه هو القاهر فوقهما أصلا ، ولأن إبليس ما فسق عن أمر ربه بغير إذن ربه ، وفسقه له دور كالدور الذي يلعبه تحريك النفس كما قال ابن عطاء الله ، فالوحي النبوي القدسي هو وحي علمي سمي العلم اللدني ، وصاحبه جبريل ، ودروسه الأسماء وصور العين والعيان ، وبواسطة هذا الوحي يتم تعليم العبد المصطفى.

ويلحق بالأنبياء الأولياء المحققون العارفون الذين يكلمهم الله ، ويتمثل الروح لهم ليعلمهم ، لأن الرسول عليه الصلاة والسّلام قال : (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) ، وقال : (إن الله ليبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) ، ولهذا جاء في الآيات قوله : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) ولقد اختلف في العبد الصالح الذي لقيه موسى عند مجمع البحرين ، وفي ذي القرنين ، فيما إذا كانا نبيين ، ومع هذا فلقد علم العبد الصالح موسى علم التوحيد ، ولقد فتح القرنين الأرض شرقا وغربا ، وحكم في الأرض بحكم الله.

١٦٩ ، ١٧٠ ـ (إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠))

[النساء : ١٦٩ ، ١٧٠]

قوله سبحانه : إنه لا يهدي الظالمين طريقا إلا طريق جهنم يعني تسليط اسم من أسمائه تعالى على قلوبهم ، وهذا داخل في باب الوحي أيضا ، إذ أن لكل اسم وحيه ، ومن هذا الوحي يكون الخاطر الذي هو خروج ما هو بالقوة إلى ما هو بالفعل بواسطة الخاطر.

١٧١ ، ١٧٢ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا

١٥١

تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢))

[النساء : ١٧١ ، ١٧٢]

الكلمة الروح الصادر عنه سبحانه ، والمسيح ممثل الروح وتعينه ، وقوله : (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) يعني أن الروح ملقى في النفس الكلية أو النفس الجزئية ، إذ الروح المكلم بكسر اللام في كل إنسان.

وقوله : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) هو النهي عن أن يكون في الوجود من وجود حق إلا الله سبحانه ، فأسماؤه سبحانه لا هي هو ولا هي غيره ، وقالوا في الروح أيضا إنه ليس الله وإنه ليس شيئا آخر غير الله ، فما يصدر عنه سبحانه هو تماما مثل صدور أشعة الشمس عن الشمس ، ولهذا لجأت الحكماء الإلهيون والصوفيون إلى استخدام هذا التشبيه لوصف الصدور الإلهي عنه.

فالأسماء ليست الله لأنه سبحانه له الوجود الصرف من قبل التعيين ، والأسماء هي الواسطة بينه وبين التعين ، فهي الجسد والبرزخ ، وهي حضرة الخيال التي وصفها ابن عربي ، وهي موجودة به ، وقيوميتها منه واستمرارها بدعمه ، ومع هذا فهي ليست هو لأنه سبحانه منزه حتى عن صفاته ، وهذا التنزيه هو ما يميز الصوفية عن بقية الفرق القائلة بالحلول ، أي أن يكون الله هو الوجود العياني كما يدعون.

ويأتي التعين في الدرجة الثالثة وهو وجود النفس في البدن ، وهو وجود للظهور ، ولهذا طلب المادة وكثفها من اللطيف ، وصاغها في صورة ، وأبرزها عيانا ، وهذا الوجود أيضا حق ، ولكنه إضافي نسبي قائم بغيره ، ولا وجود له بذاته.

وعلى هذا فالله واحد أحد ، وقول النصارى إنه ثالث ثلاثة يعني إثبات وجود آخر غير الوجود الحق ، وهذا كفر ، لأنه ستر للوجود الحق وحجاب.

أما حديث الولد فلقد ورد عن الغنوصيين الموحدين هذا القول ، لكن قولهم كان من باب الإشارة إلى الصدور أيضا ، لا أن يكون شيء خرج من شيء ، وانفصل عنه ، وقام بنفسه فهذا مستحيل ، وكل الوجود العياني يتلاشى ويتبدد في أقل من لمح البصر إذا ما رفع الله قبضته عنه ، ويضرب لهذا مثل في العلوم الذرية بأن يكف جذب البروتون للكهارب السالبة الدائرة حوله بفعل جاذبية غامضة لم يعرف سببها بعد ، فإذا كل ما في الكون يتفكك ويتطاير ويتبدد ، ويقع هذا كله في زمن قصير لا يعي الإنسان نفسه فيه ما حدث لقصره.

١٥٢

١٧٣ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣))

[النساء : ١٧٣]

العبودية مقام برزخي يكون الإنسان فيه هيكلا حاويا للروح ، هذا على مستوى العيان ، إذ ليس في الإنسان إلا الحقيقة الروحية ، فالإنسان مظهر الله ، ولهذا وصف سبحانه نفسه بأنه الظاهر والباطن.

وظاهر المسيح إلهي ، ولهذا قال الإمام أبو الفضل القرشي : يمكن أن يكون المراد أن اللاهوت ظهر في المسيح ، وهذا لا يستلزم الكفر ، وأنه لا إله إلا الله ، وقال عباس العقاد : جاء المسيح بصورة جميلة للذات الإلهية.

وقوله سبحانه : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) يعني الأسماء نفسها التي هي معقولات صرفة ، وكلها إشعاع لله وليست هي هي ، ولهذا ختمت الآية بالقول : (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) وهذا أمر واقع بالضرورة وبصورة تلقائية ، لأن الإشعاع يقتضي الصدور الدائم ، أما الحشر فهو العكس ، إذ الحشر جمع أي قبض ، وهذا واقع أيضا باعتبار الأسماء في القبضة ، والقبضة يمين الله النورانية الفاعلة.

١٧٤ ، ١٧٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥))

[النساء : ١٧٤ ، ١٧٥]

البرهان العقل ، فما تميز الإنسان عن بقية المخلوقات إلا بالعقل ، ومع هذا لقد سطا الإنسان على هذا الملك الإلهي ، وعده من ممتلكاته دون أن يتساءل ما العقل ، وكيف وجد ، وكيف يعمل ، ولقد وقفت الأبحاث الطبية والنفسية عاجزة أمام محاولة كشف الغطاء عن دينامية العقل ، وكيف تحول المعلومة البصرية مثلا إلى إدراك ، ولا كيف يتم الإدراك ذاته ، فالإنسان وجد لديه آلة حية تعمل فاستعملها ناسيا أو متناسيا أصلها وماهيتها ، ولهذا ختمت الآية بالقول : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) باعتبار أصل العقل نورا ، وباعتبار القرآن نورا.

١٧٦ ـ (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))

[النساء : ١٧٦]

١٥٣

الكلالة إشارة إلى موت النفس الجزئية ، والولد ما يرثه من النفس الجزئية من معلومات ، والأخت النفس الكلية ، وحقها من الإرث ، إن لم يكن هناك ولد ، نصف ما تركته النفس الجزئية ، ولهذا الإرث لطيفة ، فالنفس الكلية ، وإن كانت المصدر ، إلا أن حياتها هي وجود النفوس الجزئية التي تفض معلوماتها المخزونة والموجودة فيها بالقوة ، وإرثها بعد وفاة النفس الجزئية هو نصف المعلومات من الخارج ، والنصف ما يرشح من الحواس الظاهرة والباطنة ، ولما كانت النفس الكلية باطن كل نفس فلها باطن الحواس وخاصة الذاكرة ، لأن للنفس الكلية ذاكرة كلية هي التي أمدت النبي بأخبار الأمم الماضية ، ولقد عجبت اليهود والنصارى والمشركون والمنافقون من هذه المعلومات التاريخية خاصة وأن بعضها جاء مخالفا لما ورد في الكتب الموجودة بين أيديهم ... كما وأعلن الوحي أن اليهود والنصارى حرفوا التوراة والإنجيل ، فجاءت المكتشفات الأثرية مؤيدة لما قاله الوحي النبوي مثل مكتشفات إيبلا في شمال سوريا.

وقوله : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ) يعني العاقلتين النظرية والعملية من كل نفس ، وهما ذات أصل كلي أيضا تأخذان من النفس الجزئية عن طريق الحواس الظاهرة ، وتعطيانها أيضا عن طريق الإلهام والحدس ، وقوله : (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) يعني الفواعل في النفس والقوابل ، فالفواعل العقول التسعة ثم العاشر العقل الفعال ، والقوابل الحواس ذاتها ظاهرة وباطنة ، فهذه جميعها فاعلة وقابلة لها إرث من الفعل الجزئي الذي تمارسه النفس الجزئية وذلك باستفادة المعقولات المفتقة من المحسوسات عن طريق الممارسة الحسية والتجريد الفكري.

١٥٤

سورة المائدة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١))

[المائدة : ١]

بهيمة الأنعام مثل الروح الحيواني ممثل اسمه تعالى الحي الذي جعل لابن آدم مطية ووسيلة لتحقيق مآربه.

وقوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) يعني حبس القوى الحيوانية وذلك في الإحرام ، وهو في علم الباطن دخول الخلوة وعدتها أربعون يوما وليلة ، وقوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) يعني أن حكم الله نافذ قضاء وقدرا ، علم الإنسان ذلك أن جهل ، لأنه ليس في الكون إلا حكم الله النافذ.

٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))

[المائدة : ٢]

الحديث عن الخلوة وآدابها ، وأولها الإمساك عن الصيد ، أي الكف عن المحاربة ، وذلك بعد وصول السالك إلى حرم الصفات الإلهية حيث لا إذن بالقتال ، لأن دور الجهاد ينتهي عند الحرم ، إذ الصفات كلها متقابلة ومتضادة ، ومزدوجة ومنفردة ، كلها لله عزوجل ، وما كتب الله القتال على المسلمين إلا لحكمة غايتها الوصول إلى حرم الصفات حيث تبدأ مرحلة أخرى هي مرحلة اليقين أي المكاشفة.

وقوله : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) يعني العودة من المحو إلى الصحو ، ومن الجمع إلى الفرق ، وفيها العودة إلى الحياة الطبيعية نفسها حيث لا بد من محاربة الأسماء بعضها لبعض من جديد ، إذ أن قواعد هذه الأسماء تقتضي هذه الحرب الأبدية لتكون ينبوعا دائما لظهور المعقولات ، فحكم المعقولات نفسها قائم على المحاربة ، ولا وجود لها ولا ظهور إلا بالتناقض أي بالقتال.

٣ ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ

١٥٥

وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣))

[المائدة : ٣]

الميتة رمز إلى ما سقط من العلوم بعد المكاشفة ، أي يخص ما حصله الفكر بقواه وآلته ، ويتبع الميتة الدم الذي هو النفس الحيوانية التي هي الوجه الباطن للفكر ، وهي بمثابة أمّه ، ولحم الخنزير الأنا المشطورة من الأنا الكلية ولها فرعان الشهوة والغضب ، فلا أنا للسالك الواصل المكاشف بالهوية الأصلية الوجودية ، أما المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة فهي مثل أحوال للنفس في عروجها من أناها إلى الأنا الكلية ، وهو ما يسمى في مصطلح القوم الفناء ، فالأنا في صراعها الانشطار تنتهي إلى الموت المعنوي وفيه يكشف للقلب عن أن أناه لله وليست له ، وأكد هذا قول الآية : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) والسبع الفاعل وهو الرأس ، وفي الرأس الفكر وآلته ، وقول الآية أيضا : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) والنصب أصنام مظاهر الصفات ، وقول الآية : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) جمع زلم بفتح الزاي ، وهو قدح صغير لا ريش له ولا نصل ، وكانت سبعة عند سادن الكعبة ... والسبعة إشارة إلى الصفات الإلهية السبع كالحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، أو القوى الإلهية وهي سبع أيضا وهي الحواس الباطنة بالإضافة إلى الفكر والحدس ، فهذه كلها محرمة على المسلمين الذين أسلموا وجوههم لله ، والوجه الحقيقة ، والحقيقة الاسم الظاهر للحق ، إذ الفعل له والصفات والقوى والإمكانات.

٤ ـ (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤))

[المائدة : ٤]

الطيبات الفتح وما يقدم فيه من علوم إلهية ، والجوارح الحواس الظاهرة كالسمع والبصر واللمس والذوق ، وقوله تعلموهن له لطيفة ، فكما ذكر الفيلسوف كانط هناك أفكار قبلية ، أي أن المعقولات ، وإن تفتقت بالتجريد ، إلا أن الإلهام والنجوى يقدمان أصولها الفطرية عند الاستعانة بالحواس الظاهرة.

فمشاهدة منظر جميل يوحي بالجمال ، ولكن الشعور بالنشوة والغبطة وبأن جمال الطبيعة هو جمال إلهي ظاهر ، هذا الشعور مع ما يتبعه من وعي وإدراك هو بمثابة تعليم الجوارح من الطيور أن تفعل كذا وكذا ... إذ الأصل أن يدل الجمال الظاهر على الجمال الباطن ، وكما قال

١٥٦

الفيلسوف كروتشه : فإن الطبيعة خرساء والشاعر هو الذي يجعلها تنطق ، فلو لا شعور الشاعر ما قيل في الجمال ما قيل ، فالأصل الإنسان الذي هو صورة إلهية ، وقيثاره إلهية ، ثم يأتي دور الطبيعة المفتقة بكسر التاء وفتحها.

وقوله : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) إشارة إلى المفاهيم المحصلة من التجريد بالتفكير في خلق السموات والأرض ، وعلى المسلم أن يذكر اسم الله على هذه المفاهيم لأنها كلها إلهية فهي من أسماء الله ، وكل ما هو ظاهر له اسم باطن ، إذ ما ظهر منه إلا هو ، والهو ما تراه العين في العيان ، وهذه الإعادة للعارية هي التقوى ، أي أن يتقي الله حق تقاته ، فهو سريع الحساب ، وسرعة الحساب نتيجة حتمية ، فمن لا يرد عارية الله إلى الله يحجب ، فيكون من أهل البعد والحجاب وهو العذاب.

٥ ـ (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥))

[المائدة : ٥]

الكلام عن الفتح كما سبق القول ، والفتح رباني جامع إنساني غير خاص بأمة دون أمة إلا الأمة المسلمة ، بمعنى أن المسلم هو من أسلم وجهه لله كائنا من كان من الأمم ، إذ العبرة في النية ، وأخناتون أسلم وجهه لله وهو مستغرق في تأمل الشمس ، فهو رأى الشمس آية وليست في حد ذاتها إلها يعبد.

وتبادل المعلومات في الكشوف هو ما أشارت إليه الآية قائلة : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ،) ولقد أثبت علم التاريخ أن الكشف كان واحدا ، وتم على أيدي موحدين في الوثنية اليونانية أمثال الغنوصيين والفيثاغوريين وجالينوس الأخلاقي وأفلاطون ، فالتوحيد دين عالمي أثبتت وجوده الاكتشافات الأثرية مثل اكتشافات إيبلا التي أثبتت أن الإله إيل هو الرب الأعلى للناس جميعا ، وقد كان معبودا منذ الألف الثالث قبل الميلاد ، بمعنى أن التوحيد كان موجودا منذ بداية التاريخ وانتقل عن طريق العموريين الهكسوس إلى مصر ليصبح عقيدة أخناتون في القرن الخامس عشر قبل الميلاد.

٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا

١٥٧

بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦))

[المائدة : ٦]

الصلاة كما قدمنا الصلة بين العبد وربه ، والصلة حقية يقتضيها الوجوب للإمكان ولهذا سميت صلاة ، وهذه الصلة الحقية أشير إليها بغسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين ، فالوجه حقيقة الشيء أو جوهره ، وجوهر الإنسان الله ، واليد إشارة إلى القدرة التي هي إحدى الصفات الإلهية فهي للإنسان بحكم العارية ، والرأس بيت العقل والفكر وخزانة الحواس الباطنة فهو مستودع إلهي لإخراج القوى ، والرجل إشارة إلى المراوحة بين الأنا والهو في الفكر الإنساني ، إذ المعروف أن ثمة حوارا ذاتيا ديالكتيا يجري في الفكر ، وهذا الحوار وتناقضه هو ما أشير إليه بالرجلين الحاملتين للإنسان ، إذ الفكر حامل الإنسان باعتباره القائد والمسير ، وثمة تأويل آخر للأرجل لدى الصوفية كما عند ابن عربي وعبد الكريم الجيلي ، فالإنسان هيكل يضم القديم والمحدث ، الأزلي والفاني ، الباطن والظاهر ، والمعقول والمحسوس ، اللطيف والكثيف ، فهو جسر بين الأرض والسماء ، والغسل والمسح الواردان في الآية إشارة إلى ضرورة انخلاع المسلم مما ليس له بل لله ، إذ لا يجوز السطو على ممتلكات الله المودعة لدى الإنسان.

والمرض والسفر وإتيان الغائط وملامسة النساء إشارة إلى غشيان القلب عالم المادة والعناصر ، والغائط إشارة إلى عالم الفساد ، لأن كل ما في عالم العيان مؤلف من التركيب والتحلل أولا ، ولأنه حجاب عن الحقيقة كما أشير في إتيان النساء ، إذ المرأة هي الوجه القابل للفاعل الروحي ، والتيمم إشارة إلى الشريعة الموصلة إلى الحقيقة ، لأن التيمم يكون عند ما لا يكون ثمة ماء ، والماء هو التطهر الكامل ، فالتيمم إشارة إلى الطهارة ، والشريعة إلى الحقيقة كما توضع الإشارات في الطرقات لتدل على الجهة الواجب على المسافر اتباعها.

٧ ـ (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

[المائدة : ٧]

الميثاق ما واثق الله عباده به في الأزل الخلقي ، أي مذ كانوا ذرا في أصلاب آبائهم أو في عالم الذر ، وقولهم : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) هو من باب الخضوع الحتمي من قبل عالم الإمكان لعالم الوجوب ، فكيف يستطيع العبد أن يخرج على سيده ومولاه وهو عبد مملوك؟

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) هو مثل قوله تعالى : (السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء : ١] لأن الله في العين ، وهو خفاء الذات أو روحها ، أو إنسان العين فلا يعزب عنه سبحانه علم

١٥٨

شيء ما دام هو في كل شيء ، والصدور ذاته إشارة إلى الصدور الإمكاني من أرض الوجوب ، وهو صدور دائم مشع لا يتوقف ، ولو توقف لكف العالم عن الانوجاد ، إذ لا وجود حقا إلا للحي القيوم.

٨ ، ١٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠))

[المائدة : ٨ ، ١٠]

الشهادة الكشف الذي يرى فيه القلب فيه رأي البصيرة أن كل ما في الوجود قائم بالقسط ، إذ الأصل القسط في أن تكون كفتا الميزان الكوني متعادلتين ، في الواحدة أسماء الجمال ، وفي الأخرى أسماء القهر والجلال ، وهذه المشاهدة تقتضي العدل ، إذ الأسماء كلها لله ، فإذا بدا من قوم شنآن ، والشنآن البغض ، كان على المشاهد ألا ينسى أن البغض توأم الحب ، وأن البغض أصله نفي الحب والتمسك بالأنا المشطورة ، فالبغض حجاب ، ويكفي المبغض أنه محجوب ، وعلى المشاهد أن يعامله بالعدل ، والعدل أساس الملك ، وأساس الميزان ، وهو وحده الذي هدى القلوب وألانها بفضل إنسانيته الجامعة وعالميته التي تتجاوز كل حدود ، ولقد عرف الإسلام بإنسانيته وعالميته ووقوفه في وجه التعصب والأهواء الشخصية.

١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١))

[المائدة : ١١]

بسط الأيدي وكفها من فعل الله عزوجل ، والفعلان داخلان في مجال القدرة الإلهية ، ولهذا قال سبحانه مخاطبا الرسول في موضع آخر : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] ، وبسط الأيدي حافز قلبي ، والله القاهر فوق قلوب العباد ، وهدف البسط التحريك ، إذ لا جهاد إلا بالتضاد ، وكف الأيدي هو أيضا حافز قلبي ، والحافز مبدأ الفعل وأصله وسببه ، ولهذا قال الحق في موضع آخر : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) [الليل : ٥ ، ١٠] ، وواضح أن التيسير داخل في مجال الخواطر والدواعي القلبية فهو المضل الهادي.

١٢ ـ (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢))

[المائدة : ١٢]

١٥٩

الإثنا عشر نقيبا على مستوى الكليات والجمع إشارة إلى الحواس الباطنة والظاهرة العشر مع الفكر والحدس ، فالحواس بمثابة النقباء ، والنقيب كفيل قومه ، مخلص لهم ، يعمل من أجل مصلحتهم ، فالحواس جند الله لخدمة الإنسان ، وكذلك الفكر إن لم يضل ، والحدس الذي هو الإلهام ، ولهذا تبع ذلك القول : (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) أي أن الله مع هذه الحواس القوى ، وبها تتم مشيئته ويتحقق إرادته ، أما المطلوب فهو كما قالت الآية لئن أقمتم الصلاة ، وقد سبق تأويل الصلاة ، (وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) أي أخرجتم زكاة علومكم المحصلة عن طريق الحواس والفكر ، (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) أي بالخواطر باطنا والأنبياء ظاهرا ، (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي أعطيتموه مما لديكم من أجل إتمام التوحيد ... فالنتيجة (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي سيئات الظهور ودعوى ملكية الأنية ، ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار أي جنات العلوم الإلهية حيث تتفجر عيون تلك العلوم وأنهارها.

١٣ ـ (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣))

[المائدة : ١٣]

الحديث موجه إلى أهل الظاهر ، ومنهم بني إسرائيل الذين حرفوا التوراة وقد ذكرنا من قبل أن اكتشافات إيبلا أثبتت أن الناس كان يعبدون إلها واحدا هو إله إبراهيم ومن قبله نوح ، في حين برزت التوراة ـ العهد القديم كوثيقة تثبت أن أحبار اليهود كتبوا العهد القديم بأيديهم عند ما كانوا منفيين ببابل بعد أن نفاهم نبوخذ نصر ، وأنهم صنعوا إلها خاصا بهم هو شبيه العجل الذهبي الذي ورد ذكره في القرآن ، واسم هذا الإله يهوه ، وصفته القسوة والبطش والانتقام واحتقار الأمم غير اليهودية والدعوة إلى محاربة الكنعانيين سكان فلسطين الأصليين ، وقد نفوا أن يكونوا موحدين وأنهم من أبناء سام بن نوح ، فجاءت السامية اليهودية الحديثة مزورة ، وتتصف بالتعصب والعداء والكراهية.

١٤ ـ (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤))

[المائدة : ١٤]

قوله : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) يذكر بقوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة : ٢٥١] ، أو قوله : (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ) [الحجّ : ٤٠] ، فحكمته تعالى هي في هذا الدفع ، وفي الحديث : (انشقت اليهود عن إحدى

١٦٠