التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

الروح الموحي نفسه ، ومادام هذا الروح فاعلا ، وما دام فاعلا عن علم قديم أزلي فالنتيجة أنه لا جديد تحت الشمس ، والقصد فتق أسماء معقولات كانت مرتقة. فالفهم المستخرج من القصص القرآني ذو علاقة بحياة الإنسان نفسها ، وما لم ير الإنسان نفسه في هذه القصص ، وما لم يعش بدوره ما عاشه أبطال هذه القصص فإنه يكون أمام أمرين ، فإما أن يكون فهمه قاصرا ومقصورا على أن ما قرأه عن أن عيسى خلق من غير أب ، وتكلم وهو في المهد صبيا ، وشفى الأكمه وأحيا الموتى ، وأن موسى وضعته أمه في التابوت ، ثم قذفته في اليم ، فالتقطه قوم فرعون ، فرباه فرعون إلى آخر القصة ، فتكون القصص أحداثا تاريخية جرت وانتهت ولم تعد ذات أثر في حياة الإنسان المعاصر. وإما أن تكون القصص القرآنية نفسها هي القاصرة وهي لا تعني شيئا سوى قص القصص التاريخية دون أن تتضمن معنى لقارئها ليفهم عنها ويعتبر .. والقصص القرآني من هذين الأمرين براء. فالقرآن خالد ، وخلوده مستمد من استمرار تأثيره في القارىء ، وهذا التأثير المستمر والمتجدد نابع من كونه مرتبطا بحياة الإنسان أنى كان ، وإنه إن قص قصص إبراهيم وموسى ويوسف وعيسى فإنما قصده أن ينبه الإنسان على أنه ابن آدم ومن نسل آدم وأن ما حدث لآدم ينسحب على بنيه ، وأنه إن كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم ، وإن عرج النبي في السموات حتى بلغ سدرة المنتهى حيث جنة المأوى ، فإن في وسع الوارث أن يعيش هذه القصص وأحداثها باعتباره إنسانا ذا قلب استودعه الله علمه وإرادته وقدرته وسمعه وبصره وقبل هذا كله حياته.

فالإنسان خالد وقلنا إن خلوده يعني تجدد الفعل القديم المتعلق بفلق المعقولات ، ولهذا فإن ما عاشه النبي ينسحب على إخوانه من بعده. فرحلة المعراج التي عاشها النبي عليه‌السلام عاشها الورثة من بعده قال ابن عربي : لما وصلت إلى هذا المنزل في وقت معراجي الذي عرج بي ليريني من آياته سبحانه ما شاء ومعي الملك قرعت بابه.

وذكر عبد الكريم الجيلي في كتابه «الإنسان الكامل» أنه قد عرج به إلى السماء أيضا ورأى ما رأى النبي فالله ما ضرب الإمثال بالقصص القرآني إلا ليحفز الناس على أن يلحقوا بركب الأنبياء والسادة الأكابر ، وهذا هو معنى قوله تعالى إن تحت الجدار الذي أقامه العبد الصالح كنزا مرصودا بانتظار من يستخرجه.

فشمر عن ساعد الجد يا إنسان ، وابحث عن كنزك المفقود فإنه تحت جدار هيكلك ، والسعيد هو من قدر له أن يكون من الصالحين من أصحاب الكنز الثمين ، والذي تمكن أن يخرج من البئر التي ألقي فيها يوسف ، ومن السجن الذي دخله ليصبح من ثم عزيزا مثل يوسف عليما حكيما يأخذ عن الحق بلا واسطة ويعلم تأويل الأحاديث ويدرج في الخالدين.

٤٠١

سورة الرعد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١))

[الرعد : ١]

بدئت السورة بأحرف ألف لام ميم راء ، والملاحظ أن حرف الميم قد زيد على ما بدئت به بعض السور السابقة ، كما أن هذا الحرف هو الذي جاء في سورة البقرة بعد الألف واللام ، وكنا قد فسرنا حرف الميم بأنه إشارة إلى اسمه سبحانه العليم وذلك في سورة يوسف ، ولما كانت سورة يوسف قد قصت علينا قصة هذا الاسم العظيم ، فإننا واجدون في هذه السورة ما تبع قص القصة. فنحن هنا قد بدأنا مرحلة فتق العلم نفسه ، ولهذا سميت سورة الرعد ، والرعد هو نتيجة تصادم شحنات كهربائية موجودة في السحب والإشارة إلى بدء انتشار العالم الذري المادي من العالم النوراني الطيفي .. كما أن فيه إشارة إلى دورة تجلي الاسم العليم نفسه الذي هو الإنسان الكامل ، ولهذا نجد في الآية ذكر الكتاب وآياته والحق الذي أنزل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢))

[الرعد : ٢]

السموات عالم الغيب والروح ، والعمد الركائز المركوزة في الأرض للتثبيت كقوله تعالى في وصف عمل الجبال : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧)) [النّبإ : ٧] والمعنى أن عالم الغيب والروح ليس بحاجة إلى عالم الشهادة إلا للظهور. أما من حيث الفاعلية فهي للروح وهو الأصل ، إذ هو أول صدور عن الله ، ولهذا سميناه إشعاعا ذريا الذي تحدثت العلماء عنه فقالوا إنه تفجر فتكونت منه الأجرام.

وقوله : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) إشارة إلى دور الروح ودور القلب فالشمس هي الروح ، ولهذا سجد أخناتون الموحد للشمس باعتبارها روح الله الظاهر ، وكل ذكر للشمس في الكتاب إشارة إلى هذا الروح الفاعل باعتباره سبب الفعل والفاعلية وتمثله الشمس باعتبارها مصدر الإشعاع ، ولهذا كثر تشبيه الروح أو العقل الفعال بالشمس كما فعل أفلوطين ومن بعده صوفية المسلمين كابن عربي وفلاسفة المسلمين. والقمر هو القلب باعتباره القابل الكلي ، ولما كنا قلنا : إن النفس الكلية هي القابل المنفعل فالنتيجة أن القلب هو النفس الكلية.

٤٠٢

والجريان لأجل مسمى دورة الظهور ، وبدأت كما ذكرنا بتكثف الأجرام من الإشعاع الذري الذي هو طاقة لطيفة أولى ، واستمرت العملية ملايين السنين ظهرت خلالها معالم الحياة كعالم النبات ثم عالم الحيوان ثم عالم الإنسان. ومعلوم لدى علماء الفلك أن لهذا العالم أجلا هو بالغه ، ومتى استنفد العالم أجله عاد فتفجر وعاد إشعاعا ذريا كما كان.

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣))

[الرعد : ٣]

كنا قد ذكرنا ابتداء مرحلة ظهور الاسم العليم الذي هو الإنسان الكامل الذي يمثل العالم بوجهيه الباطن والظاهر ، وإلى الوجه الظاهر أشارت الآية قائلة إن الله مد الأرض وجعل فيها رواسي ، والمعنى الباطن مثل رمز الكعبة فهي الإنسان كمظهر ، وقلبه كباطن لهذا المظهر ، ومثل هذا الباطن في الكعبة الحجر الأسود نفسه الذي وصفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه كان أبيض اللون إلا أن خطايا بني آدم سوّدته.

والرواسي الأعيان الثابتة من المعقولات التي يستند إليها الإنسان في علمه وتعلمه ، ومن دونها ما كان لآدم أن يحتل مكانته العظيمة في الوجود الإلهي.

والأنهار العلوم التي تجري من العيون المتفجرة من الرواسي ، وفي الطبيعة نجد مثالا لهذا ، فالجبال المغطاة بالثلوج هي التي تشكل أحواض المياه الجوفية التي تنفجر منها الينابيع فإذا كان الثلج هو الأصل فالينبوع هو النتيجة .. وكذلك الحال في عالم العلم المكنون في الذات ثم من بعد هذا ينتشر.

وقوله : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) يعني المعقولات المفتقة نفسها ، المتفق منها والمتناقض المضاد ، فهي جميعا زوجان اثنان ، وقوله اثنان فيه لطيفة ، إذ أن كلمة الزوجين تعني اثنين ، إذ الزوج مفرد شريطة أن يظل مقرونا بزوجه الآخر ، ولهذا يقال للزوج المتزوج زوج ولامرأته زوجة ، فإن طلقها فلا يسميان زوجين ، وورود كلمة اثنين بعد الزوجين إشارة إلى تثبيت الأسماء المزدوجة كالرافع الخافض ، والضار النافع ، والقابض الباسط ، إذ من المعلوم في عالم الأسماء أنه لا يجوز أن يسمى سبحانه الضار دون أن يقرن هذا الاسم بشطره النافع ، وكذلك اسم الخافض والقابض وقال السهروردي : لواجب الوجود من حيث الصفات من كل متقابلين أشرفهما. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (والشر ليس إليك) ، وذلك من قبيل الأدب مع الله.

٤٠٣

وقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) إشارة إلى تغطية عالم الحس عالم الروح فالعالم الظاهري قد أخفى العالم الباطني وغطاه. والإنسان وحده من دون جميع المخلوقات هو الذي يتخذ سبيله من العالم الظاهر إلى العالم الباطن ، ولهذا قال ابن عربي : النفس الناطقة موجودة بين الطبيعة والنور بما جعل الله فيها من الفكر. وقالوا : الفكر يلطف الكثيف ، ويكثف اللطيف ، فهو قنطرة بين عالمي الغيب والشهادة .. ولهذا احتل الإنسان مكانة الإمارة بين المخلوقات ، ولهذا وسع قلبه الله عزوجل باعتباره مسقط أنواره ومرآة لهذه الأنوار.

٤ ـ (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))

[الرعد : ٤]

القطع الأسماء ، وتجاورها وجودها في الحيز العلمي فهي هناك منظومة في عقد لا يتميز اسم منها عن آخر.

وجنات الأعناب والزرع والنخيل إشعاع الأسماء ، وهي مذ صدر الموجود عن الوجود الحق مشعة ، وإشعاعها يكون عن طريق الفكر نفسه ، فانظر إلى هذه الآية الوجودية القاهرة ما أعظمها وانظر إلى الله أين هو.

وقوله : (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) يعني الهرم الأسمائي الذي يمثل الاسم العليم ذروته ، ثم تتلوه أسماء الصفات فأسماء الأفعال. وترى هذه الأسماء فاعلة منفعلة ، خارجة داخلة ، دائرة في حركة لولبية لا أول لها من آخر ، وهذه الحركة هي ما تراه العين في العالم الخارجي الذي لا يكف عن الحركة ولا يتوقف ، ولهذا وصف الله سبحانه الفاعل القاهر نفسه في موضع آخر قائلا : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) [البقرة : ٢٥٥].

٥ ـ (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥))

[الرعد : ٥]

التراب والخلق الجديد إشارة إلى الملحدين القائلين إننا منها وإليها وهي الأرض ، وهذا صحيح باعتبار النفس الجزئية في تعينها ، وتعينها دماغها وآلاته في الجسم .. ولكن تبقى صلة النفس الجزئية بالنفس الكلية والروح ، فمنهما المدد ، فلئن كان الإنسان ترابيا من جهة فهو روحاني نوراني خالد من جهة الروح.

والخلق الجديد إشارة إلى المدد من اسميه تعالى الحي القيوم وهذا المدد دائم متجدد مع تجدد الأنفاس ، وهذا معنى القيومية إذ يقوم به كل شيء ومن دونه لا يقوم ، فلا انفصال للخلق عن الحق ، ولا قوة للعبد إلا بربه ، وهو من دونه سراب يباب.

٤٠٤

٦ ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦))

[الرعد : ٦]

قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [الرّعد : ٦] يعني شمول الرحمة الموجودات التي وجدت بفعل الرحمة الموجودة لهم. وظلم الناس سببه فعل أسماء الجلال في الجانب الثاني من الوجود الأسمائي ، فلئن بدا ظلما في هذا الوجه فهذا الظلم ظلمات ، والظلم ظلمات يوم القيامة كما جاء في الحديث ، ويوم القيامة يوم الدين والشهادة حيث ترتد أسماء الجلال إلى الفيض الأسمائي الأقدس فإذا النور يقهر الظلام وإذا الظلام مفضض بالنور الإلهي ، وإذا للظلم دور متى أتمه انقلب نورا ، كما انقلبت النار بردا وسلاما على إبراهيم. فهذه التثنية ضرورية لبلوغ التوحيد.

٧ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧))

[الرعد : ٧]

لا يرى الحق من حاجة إلى إنزال الآيات الربانية على النبي ، علما أنه قد فعل وأنزل آيات كثيرة على الأنبياء الذين سبقوه مثل موسى وعيسى ، والسبب كون النبي خاتم الدورة الزمانية الوجودية بظهوره بالذات فيها ، فيكون المتعين هو التعين نفسه ، والتعين اسمه الظاهر فيكون الحق قد ظهر بنفسه لنفسه باسمه الظاهر ، ولا حاجة للحق في أن يدل على نفسه بنفسه. فمن آمن للنبي قد آمن ، ومن كفر قد كفر ، ولن تفلح الآيات في رد تعينات الحجب المظلمة عن ظلامها ، إذ لا تبديل لكلمات الله.

٨ ـ (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨))

[الرعد : ٨]

الأنثى بمعنى النفس ، وما تحمل الأنثى هو ما تحمل النفس من اسم ، ولكل نفس اسمها ، والرحم مستودع النفس فهي عالم الطبيعة ، وما تغيض الرحم وتزداد إشارة إلى امتلاء وعاء كل نفس ونقصانه ، أما الإمتلاء فهو ما تحصله النفس من علوم عن طريق الفكر ، ومن معقولات ونظريات عن طريق العاقلة النظرية. والعملية هي ما وصفتها الفلاسفة القدامى بتحول العقل الفطري إلى عقل بالفعل ، وهذا ما أشار إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : (يولد المولود على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه) .. فلو لا خروج المولود إلى عالم الطبيعة لظلت صفحة عقله بيضاء خالية كشاشة من غير صور ، أو مرآة لا يرتسم فيها خيال ، قال الفارابي في معنى كون العقل بالقوة : هو تهيؤ لقبول الشيء وضده ، وقال في معنى كون العقل بالفعل : كل نوع يحصل

٤٠٥

موجودا بالفعل إذا حصلت صورته.

وتدوم تعبئة النفس بالمعلومات تماما مثلما يشحن الحاسوب طالما أن الإنسان يتعلم ، حتى إذا نضج وآتى أكله من محاصيل العاقلتين النظرية والعملية بدأ دماغه يغيض ، ووصف هذا في الآية بأنه غيض الرحم .. ثم تأتي مرحلة يبلغ الإنسان فيها أرذل العمر فلا يعلم من بعد علم شيئا ، وكنا فصلنا الكلام في هذا في كتابنا «الإنسان الكبير» ، وتحدثنا عن طباعة المعلومات في خلايا الدماغ ، وعن سر عملية الترميز ، ثم عن مرحلة جفاف الخلايا حين يمسها الكبر وموتها فينسى الإنسان ما كان حفظه ، ولا يعود قادرا على استقبال معلومات جديدة.

وقوله : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) إشارة إلى قوله تعالى في موضع آخر : (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [الرّعد : ١٧] فكل إنسان واد ، ولواديه سعة معينة كما قال عليه‌السلام : (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) ، والكيس الذكاء والفطنة ، فالهرم الوجودي مبني وفق نظام مبرمج هدفه عمارة الوجود. والله حين يخلق الخلق يخلقه بمقدار ، ويخلق سعة القلب بمقدار ويخلق نشاط الدماغ بمقدار ، ويخلق المتناقضات بمقدار ، ويخلق الأمم بمقدار ، ويجعل الأمم بعضها فوق بعض ليتخذ بعضها بعضا سخريا بمقدار ، ولا أدل على هذا النظام الوجودي المبرمج مما كشفته البحوث الحديثة في نظام الطبيعة حيث اكتشف أن الله خلق من الحيوان ما هو آكل للحم وما هو آكل للنبات ، وسخر الحيوان بعضه لبعض بحيث لو لم يأكل الحيوان المفترس الحيوان النباتي لطغى الماء ، واختل الميزان ، وأصاب الفساد النظام الطبيعي. واكتشف مثلا أن الفهد يأكل فريستين أو ثلاثا في اليوم الواحد فهو في حاجة إلى ألف فريسة في العام من الظباء وأضرابها ... ولقد غطى نظام تكاثر الظباء هذه الحاجة بحيث أنه لو لم يلتهم الفهد وأمثاله من الوحوش الظباء وأمثالها لكثر أعداد هذه الأخيرة ولعثت في عالم النبات مفسدة حتى تأتي على عالم النبات.

وفي مجال الحضارات نجد الأمم طبقات ودرجات فمنها المتحضرة ومنها المتأخرة ، ومنها المنتجة ومنها المستهلكة ، ومنها ذات الإنتاج الصناعي ومنها ذات الإنتاج الزراعي ، ومنها من تملك المواد الخام ، ومنها من تملك بوفرة اليد العاملة ، وجميع هذه الأمم تشكل توازنا بيئيا كاملا متكاملا بحيث تتحقق عمارة الحياة. ولقد حاولت الفلاسفة والعلماء دراسة ظاهرة ظهور الحضارات وانتقالها وازدهارها وانحطاطها وزوالها فلم يخرجوا من بحوثهم إلا بالحيرة ، وبقيت الحقيقة سرا غامضا هو وراء ظاهرة التحرك الحضاري هذه علما أن العلامة ابن خلدون قال ما قال في هذا المجال.

٤٠٦

٩ ـ (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩))

[الرعد : ٩]

المتعال الذي يتعالى عن أن يعرف. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تفكروا في ذات الله) وعن معاذ بن جبل أن رسول الله قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لو عرفتم الله حق معرفته لعلمتم العلم الذي ليس بعده جهل ، وما بلغ ذلك أحد قط ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا ، إن الله أبلغ شأنا من أن يبلغ أحد شأنه). وفي كتاب الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (٨٥)) [الإسراء : ٨٥]. وقال الصديق : (العجز عن درك الإدراك إدراك) وأثبت الفيلسوف كانط أن العقل قاصر عن إدراك الشيء في ذاته ، فكل الأديان والفلسفات التوحيدية وأعلام الصوفية قالوا ما قالوا في التوحيد إلا أنهم وقفوا بتجلة واحترام وذل أمام الذات الإلهية خاشعين ، وعبثا يحاول العقل تصور كيف صارت الطاقة اللطيفة مادة وأجراما وعبثا يحاول تمثل النور الأول الذي هو النور المعنوي ، ففي الوسع القول عمّا ظهر به النور ، أما أن تعرف ماهية هذا النور وجوهره فهذا مستحيل.

١٠ ـ (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠))

[الرعد : ١٠]

باعتبار الذات روح الروح والنور الأصيل فهي مركز الإشعاع ومركز الدائرة الكونية. ومن احتلال هذه المكانة كان الله بكل شيء عليما. فما تكلم متكلم إلا والله سميع له ، وما سكت ساكت إلا والله بسره خبير. فعن الله لا يخفى شيء ولا يعزب علم مثقال ذرة تكون في صخرة أو في السموات والأرض.

١١ ـ (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١))

[الرعد : ١١]

المعقبات الأنوار المساعدة ، وهي الخواطر الحافظة من شر الغاسق إذا وقب ، ومن الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس ، فالله هو الحفيظ وهو خير حافظا.

والسوء الذي تريده المشيئة الإلهية كوني لأنه انشطار من الحسن ، ولا تفريق بل لا بد من التفريق للتمييز ، فلا مرد لهذا السوء الكوني الواقع طوعا أو كرها. فالله كتب معادلات الوجود بمداد التضاد والتناقضات. قال سقراط : ما أعجب فعل السياسة الإلهية حيث قرنت الأضداد بعضها مع بعض ، فإنه لا يكاد أن يكون لذة إلا يتبعها ألم ، ولا ألم إلا تتبعه لذة.

١٢ ـ (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢))

[الرعد : ١٢]

البرق يذكر بقول ابن سينا : مستديم لشروق نور الحق في ذاته ، فالبرق ومضات من النور

٤٠٧

تسطع في ظلمات النفس فإذا السالك قد رأى العلامة فهاج شوقه ، وبرح به الهوى ، فخف للقاء الله. وأما الخوف فلأن هذه الإشارات النورانية تومض في عقر النفس الجزئية ، فيفزع صاحب النفس كما فزع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان في الغار ، فظهر له جبريل ، وغطه غطا شديدا ، وقال له : (اقْرَأْ) فلما تركه أسرع إلى مكة ، ودخل على خديجة رضى الله عنها يرتجف مقرورا وقال : (زملوني زملوني ...).

١٣ ـ (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣))

[الرعد : ١٣]

الرعد ما يلي البرق من صوت فهو نتاج الإشارة الإلهية والرعد ذو هيبة وجلال ، ووصف عليه‌السلام الوحي بأنه كان يأتيه مثل صلصلة الجرس وكان إذا جاءه أغشي عليه وتفصد جبينه عرقا ، فإذا أفاق ظهر عليه التعب الشديد. وتسبيح الرعد بالحمد نتاج كون الصوت الجبريلي صوت جامع ، وهو عند ما يجيء الإنسان يدخل عليه من كل الجهات ، كما أوصى يعقوب الروح بنيه بأن يدخلوا مصر من أبواب متفرقة لا من باب واحد. وقيل لموسى عليه‌السلام : بم عرفت أن الله تعالى هو الذي كلمك؟ فقال : لأن كلام المخلوق يسمع من جهة واحدة وهي السمع ، وإني كنت أسمع كلام الله تعالى من جميع الجهات بجوارحي كلها فعرفت أنه كلام الله تعالى).

١٤ ـ (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤))

[الرعد : ١٤]

كل دعوة من دون الله دعوة من جزء إلى جزء ، أو من تعين اسم إلى حقيقة الاسم نفسه ، ولهذا يظل الإنسان حائرا تائها ما لم يستغث ربه فيمده بنور الهدى.

١٥ ، ١٦ ـ (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦))

[الرعد : ١٥ ، ١٦]

السجود الخضوع وهو نتيجة حتمية لكون الله هو القاهر ، فما ألحت عليه الصوفية هو كون الله في القلب ، وكون القلب في القبضة ، وهذا ما فعله الإمام الغزالي في باب عجائب القلب في «الإحياء». والسجود الطوعي استجابة ممثل الاسم الجميل لشقه الجميل ، وشقه الجميل هو نور الضمير. والسجود كرها وقوع تعين الاسم القاهر في قبضة القهر من غير أن يعلم ،

٤٠٨

وسمى سبحانه هذا القهر مكرا وضربه مثلا. فالكافرون ساجدون وهم لا يشعرون ، ولهذا كان سجودهم كرها. وقضية كون الجميع في القبضة هي التي أثارت الخلاف بين جماعة السنة والمعتزلة ، فالمعتزلة رفعوا شعار الحرية المطلقة التي تعد خروجا على الإرادة الكونية الكلية ، وكان ما وقع لأحد علماء المعتزلة وهو عمرو بن عبيد مع أحد المجوس سببا في ارتداده عن الإعتزال والرجوع إلى عقيدة أهل السنة القائلة بمبدأ الفعل لله والكسب للعبد ، قال ابن عبيد : ما ألزمني أحد مثل ما ألزمني مجوسي كان معي في سفينة ، فقلت له : لم لا تسلم؟ قال : لأن الله تعالى لم يرد إسلامي ، فإذا أراد إسلامي أسلمت ، فقلت : إن الله تعالى يريد إسلامك ولكن الشياطين لا يتركونك ؛ فقال فأنا أكون مع الشريك الأغلب.

فإذا كان الشيطان قد خرج على الله بغير مشيئته فالنتيجة أن الشيطان صار إلها آخر ، بل كل صاحب أنا يصبح إلها أيضا والنتيجة أن الأرض والسماء تمتلآن بالآلهة ، ويذهب كل إله بما خلق ، وهذا مخالف لعقيدة التوحيد القائلة : إن الله هو الله في السموات والأرض ، وإنه لا إله إلا الله. قال جلال الدين الرومي : تارة ترسم بالوشي صورة الشيطان وتارة صورة آدم ، وليس لأحد قوة تجعله يحرك يدا للدفاع ولا أن ينبس بكلمة عن النفع والضر.

١٧ ـ (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧))

[الرعد : ١٧]

قلنا الماء العلم ، والأودية القلوب التي في الصدور ، وقدر الأودية سعة القلوب ، ولكل قلب سعة حددها الله أزلا عن طريق الكليات ، ونفذها قدرا عند نفخ الروح في الجنين ، وهذه الحقيقة أدركها اسبينوزا الهولندي الموحد في نظرته إلى الوجود الذي يتخذ كل مخلوق فيه مكانته الطبعية له. وكنا قد تحدثنا عن نظام التوازن البيئي الطبيعي والحيواني ، ونضيف والإنساني أيضا. فليست القضية قضية جبر واختيار ، ففي ميدان التوحيد تتجاوز الإرادة الدينية أفقها وفلكها لتصبح إرادة كونية خلاقة مبدعة خلقت كل شيء بقدر.

والمثل المضروب في الآية يفسر كيف أن كل نظرة تغفل التوحيد الجامع وكون الوجود وحدة لا تقبل التجزيء ، إنما هي مثل السيل يحتمل الزبد ، فلا حقيقة سوى حقيقة التوحيد ، وتثبت العلوم الحديثة في جميع المجالات وجود هذه الوحدة الجامعة. وما القوانين العلمية المكتشفة والمعتمدة سوى نتاج كشف هذه الوحدة.

والزبد الذي يذهب جفاء محاولات الفلاسفة والعلماء رد الوجود إلى مبدأ المصادفة ، وكون الطبيعة هي الخالقة ، مع محاولة إيجاد نظام وضعي سعيا لحل المشاكل الإجتماعية ،

٤٠٩

علما أن هيغل حذر من هذه المحاولات وقال : الغاية من الفلسفة ليست تحديد مثل أعلى للكمال من غير الممكن الوصول إليه ، بل فهم الواقع لإعادة بنائه ديالكتيا ، وتعرف الطابع العقلي منه ، ومن هنا فإن مهمة الأخلاق أن تشاهد لا أن تحكم.

١٨ ـ (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨))

[الرعد : ١٨]

لا شيء يعدل عثور الإنسان على الله ، فلقد خرج الإنسان إلى هذه الدنيا ومن حوله حجب لا عدد لها كلما كشف منها حجابا رأى حجابا ، ويظل الإنسان ضحية الشعور بالغربة والنقصان والسآمة والملل ، ولا تفيده ملذات الدنيا وكنوزها قاطبة ما لم يلب نداء ربه ويفر إليه ، ويحظى به ، وهذه هي جنة الرضوان.

١٩ ، ٢١ ـ (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١))

[الرعد : ١٩ ، ٢١]

شككت المشركون والملاحدة في ما نزل على النبي ، وحومت الشكوك الحديثة حول الوحي النبوي بالذات ، وقالوا : وما محمد إلا عبقري أتى بما أتت به العباقرة ، ونفوا الصلة التي بينه وبين ربه ، وكيف تكون هناك صلة وهم لا يؤمنون بالله ووجوده ، ويجعلون في الأرض ألف إله.

والقضية متعلقة بالإنزال الإلهي نفسه ، لأن ثمة بونا شاسعا بين ما هو إلهي وما هو بشري. فالإنزال الإلهي حكيم عليم بمصالح الإنسان وما يناسبه من النظم والشرائع ، في حين أن العبقرية البشرية تصيب وتخطىء ، وتجد حلولا مؤقتة لمشكلات ، فلا تكون الحلول ناجعة ولا دواء للأدواء ولهذا اتسمت الشريعة الإلهية بالإصابة والخلود في حين كان التغير والتبدل من سمات الشرائع الوضعية.

٢٢ ـ (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢))

[الرعد : ٢٢]

درء السيئة بالحسنة درء الظهور الإنساني بالظهور الإلهي ، وهي نقلة بشرية يصبح الإنسان بعدها إنسانيا إلهيا مؤهلا للخلافة الآدمية التي هي المطمح والمآل.

٢٣ ، ٢٤ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤))

[الرعد : ٢٣ ، ٢٤]

٤١٠

الجنات جنات العلم والقرب ، ومن صلح من الآباء والأزواج والذرية والملائكة هم من صلح من الجمعية الأسمائية التي فيها من كل ظهور بشري وغير بشري ، ومن صلح من البشر الموحدون الذين عرفوا الله بتعرفه إليهم فصلحت الدار ، وصلح أصحابها ، وظهر الله بوجهه الجميل.

٢٥ ـ (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥))

[الرعد : ٢٥]

الإشارة إلى الشطر الثاني من الجمعية الأسمائية ، وتضم ممثلي أسماء الجلال الذين هم محل القهر وهدفه وأدواته وأسلحته. وقال جلال الدين الرومي : الحرب صدى لقهره ، ونضيف والفساد أيضا ، وقال سبحانه واصفا نشاط هذا الشطر السلبي من الأسماء بقوله : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الروم : ٤١].

٢٦ ـ (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦))

[الرعد : ٢٦]

الرزق العلم ، والبسط والقدر إتيان ممثل الاسم حظه من اسمه إيجابا أو سلبا ، نورا أو ظلمة ، قهرا أو لطفا ، كما قال سبحانه في يحيى عليه‌السلام : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤)) [مريم : ١٣ ، ١٤].

وقوله : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) يعني بقاء ممثل الاسم سجين اسمه لا يتجاوز هذا الجزء المجزوء إلى فلك الكلية الإلهية الجامعة ، وما دام الإنسان سجين اسمه فلا حظ له من علم التوحيد ، ولا حظ له من الآخرة ، لأن من طبيعة الأسماء اقتران وجودها بالوجود الطبيعي الحسي ، فلا فراق بين الاسم وظهوره ولا انفصام بين الصفة والموصوف ، والنتيجة الحكم على من يبقى سجين هذه الدائرة الجزئية ببقائه ضمن فلك الحس المتقلب حيث أمواجه ترتفع وتخفض وتقرب وتبعد ، وهذا الطراز من الحياة هو الذي وصفه سبحانه بقوله في موضع آخر : (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النور : ٣٩].

٢٧ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧))

[الرعد : ٢٧]

ليس لله من حاجة في أن ينزل الآيات ، ولئن فعل فمن باب الرحمة بالمؤمنين لا من باب القهر عن طريق البصر والعقل. فالمعجزة إن وقعت لا تؤثر إلا في المؤمنين ، قال الروائي الفرنسي أميل زولا : لا أؤمن بالمعجزة حتى ولو رأيت بأم عيني جميع المرضى يشفون في

٤١١

لحظة واحدة. وقال سبحانه : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)) [الحجر : ١٤ ، ١٥].

وقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) يعني أن المشيئة الإلهية شاءت أن يجعل الناس مؤمنين وكافرين ، وهو سبحانه القائل : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التّغابن : ٢] ، وطبيعة التوحيد تقتضي التثنية والثنوية ، والثنوية المدخل إلى التوحيد. والأديان أنزلت للمؤمنين لا للكافرين والدليل النتيجة ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام). ولما أطال نوح دعوة قومه إلى الإيمان بالله كان جوابه تعالى : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ).

٢٨ ، ٣٠ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠))

[الرعد : ٢٨ ، ٣٠]

تشرح الآيات كيف أن القلب لا العقل هو محل الإيمان ، إذ في العقل الذي هو فكر تناقض وتضاد ، ولهذا وجه الفيلسوف كانط قذائف نقده إلى هذا الصرح فدكه ، وأثبتت فلسفته أن طرق العقل فضيحة.

والإنسان عقل وقلب ، وكنا قد بينا في كتابنا «الإنسان الكبير» أن الإنسان يكشف عن وجود الإثنين فيه ، وذلك عند ما يقول لسانه شيئا أحيانا فتكذبه عيناه ، فالعين نافذة القلب ، واللسان للعقل ترجمان ، ولا يهم الله العقل وآلاته ، وإن كان جعله مدخلا إلى العلم وطريقا.

٣١ ـ (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١))

[الرعد : ٣١]

القرآن العلم الجامع قبل انتشاره ، فهو النور في حال كونه ذرا قبيل انفجار السديم الذري القديم ، فالقرآن أصل الوجود وحقيقته الجامعة. ولهذا نجد في الآية الإشارة إلى أن للقرآن تأثيرا في الطبيعة والجماد ، بل إن له تأثيرا في الموتى أنفسهم الذين هم موتى الجهل. وللقول لطيفة فلأن القرآن له الفعل النوراني الجامع ، ولأن القلب في القبضة ، حتى وإن كان قلب الملحد والكافر ، فالنتيجة أن القرآن الذي هو الربوبية الفاعلة يكلم الناس جميعا ، ومنهم موتى

٤١٢

الجهل كما قال سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [الشمس : ٧ ، ٨] ، ومن منطلق هذا التأثير الذري الكوني قال سبحانه : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١)) [فصّلت : ١١].

٣٢ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢))

[الرعد : ٣٢]

الإملاء والأخذ عن طريق الخواطر ، فالخواطر أصابع القبضة النورانية القاهرة. فإملاؤه سبحانه للكافرين حاصل من مدهم بخواطر مضلة ، ولهذا كان من أسمائه سبحانه المضل ، وأخذ الكافرين ختام دورة النفس الجزئية وهي لا تزال تحت حكم الخاطر الحاكم فتكون النتيجة أن مدخل الكافرين ومخرجهم وحياتهم وكفرهم هو بيد الله عزوجل لا شريك له في الملك ، ولهذا جاء في الآية السابقة : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً).

٣٣ ، ٣٤ ـ (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤))

[الرعد : ٣٣ ، ٣٤]

سبق وتحدثنا عن المكر. وقوله سبحانه : (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) فيه نكتة وهي كونه سبحانه يأخذ القلب أخذ عزيز مقتدر ، وأخذه إياه من قبيل الإلهام نفسه. والتزيين ما يسمعه القلب من الحديث الذاتي من دون صوت ولا لسان ، ويعيش الكافر في هذا المكر عمره وهو يظن فكره فكره ، بينما يقلبه الحق بواسطة فكره.

والتزيين قلب الحقائق ورؤية الحق باطلا ، والضلال صوابا ، والنتيجة الإضلال. ونجد في الآية أن من يضله الله فما له من هاد ، فالإنسان مهما سمع من حوله فإنه راجع في النهاية إلى نفسه ، فإذا كان الحق قد أضل الكافرين عن طريق الحديث النفسي نفسه فكيف يسمع الكافرون نصح الناصحين وهدي الهادين؟.

٣٥ ـ (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥))

[الرعد : ٣٥]

الأكل الدائم والظل ما يجده القلب من راحة وهو يستمع صوت الضمير الذي ينهى عن الفحشاء ، وينزل السكينة في القلب ، ويثبته في ساعة العسرة والخوف ، ويعده الأمل والنجاة مما هو فيه ، وهذه الأكل دائمة وللوصف لطيفة ، ذلك لأن الضمير لا ينام إلا إذا نام الإنسان ،

٤١٣

ولا ينام الضمير حين ينام الإنسان لأن الحق لا تأخذه سنة ولا نوم ، ولكنه يدع النائم في راحة من تعب الدنيا والكبد ، فإذا أفاق لازمه فما فارقه قائما وقاعدا وعلى جنبه ، وهو نور يسعى بين يديه في ظلمات البر والبحر ، فالضمير الرحمة الرحيمية التي خص الله بها عباده المؤمنين بالإضافة إلى الرحمة الرحمانية العامة للوجود كله.

٣٦ ـ (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦))

[الرعد : ٣٦]

أصحاب الكتاب فريقان ، فريق صادق ذو قلب سليم وهؤلاء إذا سمعوا ما أنزل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدقوا وعلموا أنه الحق وفرحوا لأن القلب السليم يسمع صوت الهدى من أي جهة صدر ، وذلك وفقا لبث المعقولات قواها من الخير والعدل والجمال والحق ، أما الفريق الآخر فهو المنافق ، وفي كل أمة منافقون يظهرون التصديق بما ينزل ، ويبطنون الكفر والتكذيب ، وهؤلاء آمنوا تقية أو حبا في تحقيق مطامع ومنافع ، ولكنهم إذا سمعوا التنزيل أنكروه لأنه يخالف ما يبطنون ، وما يبطنون هو الكذب والنفاق والتعصب.

٣٧ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧))

[الرعد : ٣٧]

لا سبيل إلا سماع صوت الحق. والأهواء خارجة عن حكم هذا الصوت وداخلة في الوسوسة ، والوسوسة تشكيك ولف ودوران ومحاولة زرع الخوف في القلب ، ولكل إنسان هدى ، والله هو الذي يوقي الأنفس شحها وأهواءها ، وما كان للنبي أن يكون صاحب هوى ولا سماعا لصاحب هوى ، ولئن فعل ضل وأضل.

٣٨ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨))

[الرعد : ٣٨]

نزلت الآية لما عيّر النبي بكثرة نسائه ، وقالت النصارى مفاخرين : إن عيسى زاهد لم يقرب النساء وكذلك يحيى .. ولقد رد الحق على هذا الإتهام مذكرا بأن كثيرا من الرسل كانوا ذوي أزواج ، وكان لداود مائة امرأة ، وكذلك ولده سليمان. ولئن لم يقرب المسيح النساء فلأن قدره قدّر ذلك ، وذلك بحكم كونه نبي علم الباطن ، أي العودة من عالم الظاهر إلى عالم الباطن وهو الروح وهي عودة تقتضي التطهر والزهد في مباهج الحياة وزينتها. أما محمد عليه‌السلام فكان خاتم الأنبياء ، فبظهوره ختمت الدورة الوجودية التي بدأت بكشف الفعل بدءا من إبراهيم. وإتمام الكشف الذاتي يعني العودة من رحلة الباطن إلى عالم الظاهر من جديد ، وهذه

٤١٤

العودة فيها يسر وتمتع بخيرات الحياة دون الإفراط والإسراف ، ولهذا ختمت الآية بالقول : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ). ولقد بشر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعودة عيسى عليه‌السلام إلى الأرض مسلما ، يكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، فإذا عاد عيسى تزوج كما تزوج النبي محمد ، وأنجب ذرية كما أنجب محمد ، فهذه سنة الله في خلقه.

٣٩ ، ٤٣ ـ (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

[الرعد : ٣٩ ، ٤٣]

المحو والإثبات نشاط الخواطر في القلب ، فهذا النشاط هو النشاط الدماغي الذي يبدأ من ساعة الإستيقاظ وحتى النوم ولا يكاد يفتر ، وتتعاقب الفكر على ساحة القلب فكرة بعد أخرى وكلها قادمة من عالم الغيب كما قال جلال الدين الرومي. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله سبعين مرة في اليوم). وقال سبحانه مخاطبا نبيه : (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٤]. فما من قلب إلا وهو مسرح للنشاط الفكري الديالكتيكي هذا. والمحو محو الفكرة التي لا تأخذ طريقها إلى عالم الفعل ، والإثبات إثبات الفكرة التي تأخذ طريقها وتصير فعلا ، وكلا الأمرين من فعل الله عزوجل الفاعل على انفراد في القلب الذي هو مستودع الرحمن وأداة فعله.

أما أم الكتاب فهي الكليات الثابتة ، وورود أم الكتاب بعد المحو والإثبات له لطيفة ، إذ لهذا الورود بالمحو والإثبات صلة. فذو الحلم مثلا هو بشر من لحم ودم ، وله من نفسه قوتها الغضبية التي تمارس قوتها فيه ، فإذا جهل عليه جاهل استفزه وهمّ بالإستجابة لداعي الغضب فيتدخل الحلم ، والحلم صفة ، والصفة عين ، والعين من الأعيان الثابتة ، والأعيان الثابتة هي أم الكتاب كما قلنا وهي العلم الإلهي قبل التحقق ، فإذا الحليم قد حلم عمن جهل عليه ، وإذا صفة الله تحققت ، ولبست ذلك الرجل ، وإذا الله قد ظهر باسمه الحليم.

فالأمر ليس مجرد وجود ما يسمى أم الكتاب في سماء أو فوق السموات ، بل الأمر فعل وتنفيذ يأخذ طريقه من كونه علما إلى كونه فعلا. ومعنى أم الكتاب أن المحو والإثبات لهما علاقة بهذه الأم الأزلية التي خلقت العين والأعيان ، وخصت كل مخلوق باسم من أسمائها الجمالية والجلالية.

٤١٥

والناس لا يفكرون عادة في كيفية كون الكريم كريما والبخيل بخيلا ، ولا في كيفية استمرار الكريم في اتصافه بالكرم ، وإن فكروا فلن يدركوا كيف يظل الكريم محافظا على اتصافه بصفة الكرم ، ولا يتحول عنها إلى البخل خاصة إذا افتقر بعد غنى ، والجواب كله في أم الكتاب ، فهذه الأم هي التي تمد العيون بمائها ، وهي التي تمد الكريم بصفة الكرم طوال حياته ، وهي التي تمحو وتثبت ، علما أن المحو والإثبات عمليتان مترادفتان الغاية منهما تحقيق الإثبات نفسه. فالكريم تغزوه الأفكار ، وقد يفكر في مصلحته الشخصية ، وقد ينصح له ناصح بأن يوفر ماله ولا يسرف ، وكذلك الشجاع ... وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إنه ليغان على قلبي) يعني أن النشاط الفكري التناقضي طبيعي وطبعي ولا مفر منه ، إلا أن القرار يبقى لله الذي يحكم الكون والمخلوقات ، فإذا فكر الكريم في الكف عن الكرم تدخل الله ووضع حدا للتناقض ، وبت النقاش بإثبات صفة الكرم لاسمه الكريم ومظهره ، فيكون الله الله في السموات والأرض وجبار الخواطر وهو الذي لا إله إلا هو.

٤١٦

سورة إبراهيم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ، ٢ ـ (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢))

[إبراهيم : ١ ، ٢]

الظلمات الجهل والغفلة ، والبعد عن الله ، والنور نور اليقين الذي قال فيه سبحانه في موضع آخر وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ، فهذا النور للعلم وهو العلم الذي يعلم الناس حقائق التوحيد ، وهو صراط هذه الحقائق.

٣ ـ (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣))

[إبراهيم : ٣]

الآخرة رؤية الله في الذات ، وكيف يكون أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد ، وكيف يكون بالمعية ، وكيف يسمع النجوى ، وكيف يكون الملهم والمناجي. قال سقراط : الذي يحتاج إليه سقراط هو معه حيثما توجه. وقال أيضا : إفحص عن علم الاجسام ، وعلم ما لا جسم له ، وعلم الذي وإن كان لا جسم له فهو موجود مع الاجسام.

٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤))

[إبراهيم : ٤]

قوله سبحانه : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ،) قد تبع قوله : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ،) فالضلال بقدر ولحكمة والهدى كذلك ، والظاهر شر كما قالت الملائكة معترضين : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) وجوابه سبحانه : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠] ، فالباطن خير والله به عليم.

٥ ، ٧ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧))

[إبراهيم : ٥ ، ٧]

٤١٧

موسى الفكر المنور بنور الإيمان ، وقومه الأفكار الأخرى ، وآل فرعون الأفكار السلبية الداعية إلى الإلحاد والشهوات والتشكيك في وجود الله. وهذه الأفكار تفعل في القلب مثل ذبح الأبناء من قبل الأعداء واستحياء النساء. وقوله : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ،) يعني أن لله الأمر من قبل ومن بعد ، وأنه لحكمة سلط سبحانه على القلب دواعي الشك والسوء.

٨ ـ (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨))

[إبراهيم : ٨]

وصفه سبحانه نفسه بأنه غني حميد يعني استغناء الذات عن كل ما عداها من الصفات والنسب والإضافات والعالم الخارجي ، إذ إنها جميعا توابع له مظهرة له ، ولو أراد سبحانه ما ظهر بالمظاهر ، ولظل كنزا مخفيا كما ورد في الحديث. فالنور نور سواء تجلى أو لم يتجل.

٩ ، ١١ ـ (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١))

[إبراهيم : ٩ ، ١١]

الحوار بين المؤمنين والملحدين قديم قدم الإنسان ، وسببه شطر القلب الكلي شطران ، شطر مؤمن وشطر كافر فالمؤمن مؤمن حتى وإن لم يوجد الدليل ، والكافر كافر حتى وإن وجد الدليل ، فالقضية ما لها علاقة بالمنطق والفكر وأسلحة الفكر. والملاحظ أن الحوار بين الفريقين يتم بواسطة العقل ، فالعقل في كل منهما أداة وهو السبيل الوحيد لإجراء الحوار ، علما أن العقل واحد ، والمنطق واحد ولكن ما يقع في ساحة الحوار له خلفية غير العقل ، ولهذا كان العقل سلاحا ذا حدين ، وقال العارف بالله أرسلان الدمشقي : من يطلب الله بالعقل يضلل.

١٢ ـ (وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢))

[إبراهيم : ١٢]

لا يتراجع المؤمن عن موقفه مهما اشتدت الضغوط عليه ، لأن ما يراه المؤمن من نور قمين بشد أزره والرضى ببذل النفس ذاتها في سبيل الإيمان وعدم العودة إلى الإلحاد.

١٣ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣))

[إبراهيم : ١٣]

٤١٨

هلاك الظالمين يتم بفعل نور الكشف اليقيني نفسه الذي يري القلب الرؤيا الجامعة الكاشفة عن أن الله بكل شيء محيط ، وأن الهدى والضلال منه ، وأن مشيئته قاهرة ، ولو شاء لهدى الناس أجمعين. فالكافرون كفروا بإذن الله وبهدف حث الاسم المؤمن وتعيناته على ممارسة نشاطه وإمكاناته. فمن دون هذه الإثارة ما كان ثم حاجة إلى أن يواجه المؤمن الكافر ويتحداه ، ويخوض الحرب ضده من أجل إعلاء كلمة الحق. وعند ما يتبين المؤمن هذه الحقيقة الجامعة يعلم علم اليقين أن الكافر ممحوق مغلوب على أمره مأخوذ بناصيته طوعا أو كرها وهو جاهل لا يدري. وهذه الغلبة للمؤمنين هي النصر المبين ، إذ يستريح القلب بالكشف من الحرب والصراع والتناقض ، ويتحقق قوله تعالى في إبراهيم : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [الأنبياء : ٦٩].

١٤ ـ (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤))

[إبراهيم : ١٤]

الأرض أرض الخلافة الآدمية ، وقال سبحانه في موضع آخر : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النّساء : ٩٧] ، والمعنى أن السالك بوصوله إلى عين الجمع قد صارت الأرض كلها ملكه ، لأن كل ما على الأرض أسماء والأسماء لله ، وقد صارت لخليفته الوارث بحكم الوراثة.

١٥ ، ١٨ ـ (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨))

[إبراهيم : ١٥ ، ١٨]

جهنم من جهنام وهي بئر بعيدة القعر ، هكذا قال ابن عربي. والبعيد إشارة إلى اسمه البعيد ، والبئر هي التي ألقي فيها يوسف ، والمعنى أن في البعد عن الله عذابا ، ذلك لأنه لا يبقى لصاحب النفس الجزئية إلا نفسه الجزئية ، ونفسه الجزئية محجوبة أولا ومحكومة من قبل الأهواء وقوتي الشهوة والغضب ثانيا ، ثم أي أمل يبقى للكافرين إذا آمنوا بأن الوجود وجد مصادفة ، وأن لا إله إلا الطبيعة ، ولا عقل إلا العقل الإنساني الجزئي؟ فالنتيجة ضياع وعبث ولا جدوى ، وهذه شعارات رفعتها الوجودية الحديثة.

١٩ ، ٢٠ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠))

[إبراهيم : ١٩ ، ٢٠]

الخلق الجديد الموحدون الذين تعاقبوا في التاريخ منذ زمن آدم. فلقد اشتهرت الوحدانية

٤١٩

في العصور القديمة ، ووجدت لدى الصينيين القدامى المؤمنين بالطاو ، ثم عند أخناتون الموحد ، ثم عند اليونانيين مثل الفيثاغوريين وأتباع جالينوس والأفلاطونيين والغنوصيين والأفلوطينيين. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إن الله ليبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أي أمة التوحيد أمر دينها).

٢١ ـ (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١))

[إبراهيم : ٢١]

يجري هذا الحوار في عين الجمع حيث الأجزاء مضمومة في وحدة يرى الموحد العالم من خلالها. فصاحب الاسم ضعيف ، فإذا كان من ممثلي أسماء الجلال فهو أضعف خلق الله وإن بدا قويا. وعند ما يبرز الموحد إلى اللاموحد يحاول الأخير الإعتذار والتنصل من ذنبه والتعلل بأعذار ولكن لات حين مناص.

٢٢ ـ (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢))

[إبراهيم : ٢٢]

الحديث عن دور الشيطان في تحريك الدائرة الأسمائية. وقال ابن عربي : إن الشيطان من شطن وهو البعد ، فغاية الشيطان إبعاد الإنسان عن الله. وقوله : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) إشارة إلى أن الشيطان ذو دور ، ودوره محدد ، وهو في إغوائه مجبور ، واستجابة الإنسان له استجابة طبعية ، إذ الإنسان بعينه يحكم ، ومنها ينظر إلى ما حوله. فبحكم طبعه يستجيب للشيطان أو لا يستجيب ، فالدعوة شيطانية والإستجابة إنسانية وما للشيطان من سلطان إلا الدعوة إذ الأصل كله دعوة جزئية تتم بين الاسم وممثل الاسم ، ثم دعوة كلية من العين الجامعة إلى ممثل اسم الله العليم.

وقول الشيطان : إني كفرت بما أشركتمون من قبل ، يعني عودة الشيطان إلى البيت بحكم كونه اسم الله المضل أو المذل ، فعن طريق الشيطنة يتم تحقق الكثير من الأسماء. ولهذا كانت العودة بعد الإبعاد هي نهاية رحلة الشيطان الذي هو في الأصل من الجن رئيس الملائكة ، أي رئيس المعقولات الكلية. فالإرادة الإلهية شاءت التحريك فاختارت الاسم البعيد أداة لهذا التحريك فإذا قضي الأمر برز الله الواحد القهار ، وعاد الشيطان إلى دائرة الربوبية.

٤٢٠