التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

ويزلزلها ، حتى ليحسب المكاشف أن مسا أصابه ، وأنه قد هلك.

وقوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) تذكير بأن اليقين ، وإن بدا صوته قويا كصلصلة الجرس ، إلا أنه بحد ذاته نور للمكاشف وبصيرة ومدد وتأييد وتثبيت.

١٧٢ ، ١٧٤ ـ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤))

[الأعراف : ١٧٢ ، ١٧٤]

ظهور أصل ما ظهر ، وما ظهر العيان والأصل العين ، فالظهور العيون الأسمائية المشعة عن الله عن طريق العقل الأول المتكثر.

وقوله : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) إشارة إلى أن العيون الأسمائية هي الله نفسه ولكن من ناحية المألوهية والمربوبية. وما دام الإشعاع دائما والصدور مستمرا فإن الشهود الحقاني هذا دائم أيضا. وفي الأمر لطيفة ، فإنصات الأنا لخاطره ، واتباع هذا الخاطر ، هو ما معناه شهود الرب الحاكم الفرد القاهر فوق عباده. فالشهود لا يراه إلا أصحاب المشاهدة والمشاهدة أعلى درجة من درجات النبوة حيث لا يعود المشاهد يرى من الناس أحدا ، ولا يرى إلا الله.

وقوله : (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) يعني أن الناس في غفلة عن هذه الحقيقة الوجودية الباطنية الروحية الجامعة ، وأن يوم القيامة هو موعد كشف الحجاب. ولما كان للصوفية المحققين قيامتهم الصغرى وساعتهم الصغرى ، والتي هي كما قال عبد الكريم الجيلي : عين القيامة الكبرى والساعة الكبرى فإن أصحاب الشهود يرون بالنيابة عن الكثرة الغافلة هذا المنظر الجبروتي الفاعل الجامع إلى أن تقوم القيامة الكبرى.

١٧٥ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥))

[الأعراف : ١٧٥]

إتيان الأدلة سماع صوت ضمير في القلب ، والانصراف عن هذا الهدى الإلهي المنير .. والنتيجة أنه لا يبقى للقلب إلا خاطر الوسوسة فالقلب إما إلى الهدى ، أو إلى الظلمات ، ولهذا سمي قلبا ، أي من تقلبه.

١٧٦ ، ١٧٧ ـ (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا

٢٨١

فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧))

[الأعراف : ١٧٦ ، ١٧٧]

قوله : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) يعني أن يكون خاطر الوسوسة سببا للانتباه واليقظة من نوم الغفلة ، ولقد سبق أن فصلنا القول في دور النفس الدنية وتحريكها للقلب ، كما تحدثنا عن دور الخطيئة وارتكاب الإنسان إياها ، وإن هذه الظلمة هي التي تجعل القلب يبحث عن النور. كما بينا أن الندم وتبكيت الضمير ثم التوبة واقعون تحت الوجوب ، ذلك إخراجا لمقتضى ما جاء في الحديث عن القبضتين أهل الجنة وأهل النار.

ومثل الكلب إشارة إلى دور النفس الحيوانية مع قوتيها الشهوة والغضب في مجال حجب القلب بالظلمات ، والملاحظ أن الكلب يلهث سواء أكان مرتاحا أم متعبا ، وذلك لأنه ليس لجلده مسام ، فهو يستعيض بلسانه عن دور المسام للتنفس ... والإشارة إلى أن أصحاب النفس الترابية لا يتعظون سواء وعظوا أم لم يوعظوا ... بل إن من هؤلاء الساخرين الذين إذا سمعوا الوعظ هزئوا بالواعظ والمتعظ ، وذلك لفقدان قابليتهم لنور الوعظ.

١٧٨ ـ (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨))

[الأعراف : ١٧٨]

الآية من المحكمات اللواتي يشهدن أن الهدى والضلال من فعل الحق سبحانه ، فهو الهادي المضل ، وذلك عن طريق تقليب القلب بين الظلمة والنور ، أنشد الحلاج :

ولا معز بلا شخص يعززه

ولا مذل بلا قوم أذلاء

١٧٩ ـ (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩))

[الأعراف : ١٧٩]

وصف أصحاب جهنم وقد امتازوا بأن لهم حواسا كالبصر والسمع والقلب ، ولكن هذه الحواس غير ذات فائدة وذلك لبقاء البصيرة عمياء ، والبصيرة لا البصر هي الأصل في النظر ، إن الإنسان بصيرة وما بصره إلا أداة ، وكم من منظر يثير الشفقة في القلب ، أو الرحمة أو العظة ، ومع هذا فالناس إزاءه إما متعظون أو غافلون.

١٨٠ ـ (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠))

[الأعراف : ١٨٠]

أسماؤه سبحانه الدائرة الوجودية الرحمانية التي عن طريقها يتم تكثير الذات غير الصرفة ،

٢٨٢

وتحدثت الصوفية عن الأحدية غير ذات التعلق ، وعن الواحدية ذات التعلق ، وسمت الواحد إلها وربا ، وقالت : إن الألوهية تقتضي المألوهية أي المألوهين ، والربوبية تطلب المربوبية أي المربوبين ، فهذا جانب التكثر من الذات التي تتكثر من جانب المعلومات.

ويحذر ابن عربي من أن يكون جانب التكثر هذا ذا وجود أصيل ، ويقول : إنه شبح ووهم ، وإنه مجموعة صور لا غير ، ولهذا قال البسطامي : لما عاش الفناء رأيت الناس موتى ، فكبرت عليهم أربع تكبيرات وأنشد ابن الفارض في التائية :

فلو كشف العوّاد بي وتحققوا

من اللوح ما مني الصبابة أبقت

لما شاهدت مني بصائرهم سوى

تخلل روح بين أثواب ميت

فليس في الظاهر سوى المظاهر ، وقال ابن عربي إن هذه المظاهر هي غير الظاهر مفرقا بذلك بين العبد والرب ، وذلك لأن العبد هو صاحب وجود شبحي لا غير وأنه قابل ، فظواهر الأسماء ، الإلهية هي مجموعة قوابل كنا سميناها من قبل المعابر والجسور ومحلا للنجوى والخطاب.

وفي كتابنا «الإنسان الكامل» كنا قد انتقدنا نظرية مثل أفلاطون الذي قال إن وجود هذه المثل حقيقي ، ورددنا على هذا ، مثلما رد أفلوطين على أفلاطون ، حين جعل هذه المثل مرتبطة بالله مشعة عنه ضاربا مثلا الشمس والأشعة ، ليوضح كيف توجد هذه المثل التي إن زالت الشمس زالت أشعتها معها ، فليس في الوجود إلا الله وهذه الصور المشعة عنه ، ولهذا قال أرسطو الذي وجه سهام نقده إلى نظرية معلمه في المثل قائلا أن لا وجود للمثل أو الصور في عالم مفارق ، وإن الصورة متحدة بالمادة ، والمادة متحدة بالصورة ، وأضفنا في كتبنا الصوفية السابقة شارحين دور الذرة وعالمها في تركيب بنية المادة موضحين أن الوجود المادي يقوم على أساس عالم الذرة هذا الذي رده علماء مثل أدينغتون إلى وجود عقلي لا غير ، وأنه مامن معادلة مادية ذرية إلا وتقوم إزاءها معادلة عقلية ، أي روحية صرفة.

١٨١ ـ (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١))

[الأعراف : ١٨١]

الأمة المعينة الموحدون الذين لم يكفروا بالله طرفة عين ، وقليل ما هم ، وأحيانا لا يكونون إلا واحدا هو تعين الإنسان الكامل كنوع ، وهذا الواحد يعدل أمة ، ويسمى أمة كما سمى سبحانه إبراهيم (أُمَّةً) [البقرة : ١٢٨].

١٨٢ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢))

[الأعراف : ١٨٢]

الاستدراج الإلهي نوع من المكر الإلهي به يحقق المحقق قصده من الخلق فإذا كان الحق

٢٨٣

الواحد القاهر فوق عباده فالمعنى أنه لا خروج لأحد حتى ولا الكافرين والمنافقين وعبدة الأوثان على حكم القاهرية هذا.

والاستدراج يكون بالخاطر ، والخواطر وإن تعددت في القبضة ، والهدف منها شحن الدائرة الأسمائية كما سبق أن قلنا ، ويذكر هيغل في كتابه فلسفة التاريخ أن كل ما يقع من أحداث تاريخية على أيدي الناس إنما هو قصد للروح الكلي يحقق به قصده من هذا التحريك.

١٨٣ ـ (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣))

[الأعراف : ١٨٣]

الإملاء إعطاء كل ذي اسم حقه من مكنون الاسم ، وهذا هو معنى قوله تعالى في موضع آخر : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [النّحل : ١١٨].

ويبين الفيلسوف الهولندي اسبينوزا كيف أن صاحب النظام الكوني هو الذي رتب وضع الأشياء في مواضعها بما في ذلك الناس ، وإن كل إنسان يمثل دوره المرسوم في هذا الوجود الطبيعي ، وأنه هو شخصيا قد وجد الراحة بعد أن أدرك هذه الحقيقة الوجودية الجامعة التي جعلت الإمام الغزالي من قبل ، والفيلسوف لا يبنتز من بعد يقولان : ليس في الإمكان أبدع مما كان.

١٨٤ ـ (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤))

[الأعراف : ١٨٤]

الجنة المس والجنون ، فالنبي لما جاء بالرسالة أدهش الناس ، وخاصة حين جعل يقول القرآن ، وقضية هذا الانقلاب في الشخصية ، أو لنقل التطور العقلي ، حيرت النقاد والدارسين ، فالإمام الغزالي ظل أستاذا للفقه في جوامع بغداد ، فإذا هو لما قارب الأربعين يهجر أهله وأصحابه ومجالس التدريس وبغداد ، ويرحل إلى دمشق ، ويتردد بين دمشق وبيت المقدس سنين حتى رجع إلى بغداد عارفا بالله ، وليضع من ثم مؤلفاته التوحيدية الخالدة ، وجلال الدين الرومي صاحب كتاب «المثنوي» الذي يعده الإيرانيون القرآن الثاني ، كان أيضا إماما وفقيها ومدرسا ، ثم حدث التحول لما دخل عليه ذات يوم بائع فخصه بقطعة حلوى من بين الحاضرين ، فلما انصرف تبعه الإمام ، وغاب سنوات ، ثم عاد لينطق بالأشعار الخالدة التي جعلت الرومي كشاعر صوفي يحتل ، مكانة لا نظير لها في زمانه.

ونجد النبي نفسه يعيش هذا التحول لما ظل حتى الأربعين من عمره إنسانا عاديا يتجر بمال زوجه ، ثم حبب إليه الاعتكاف في غار حراء حتى قالت قريش إن محمدا عشق ربه ، إلى أن نزل عليه الوحي وغطه ، وقال له : (اقْرَأْ ،) وكررها ثلاثة ... ثم خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغار برسالته العظيمة التي يدين بها خمس سكان الأرض.

٢٨٤

والقصص كلها تبين أن ثمة تحولا جوهريا يقع لبعض الناس ، فينقلبون من حال إلى حال ، ويصيرون من ثم أساطير أو كالأساطير ، فكيف يمكن أن يوصم صاحب تجربة عظيمة كهذه تؤتى أكلها الدائم بالجنون؟ وكيف ينتج الجنون عبقرية كعبقرية الغزالي والرومي مثلا؟

١٨٥ ، ١٨٦ ـ (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦))

[الأعراف : ١٨٥ ، ١٨٦]

النظر إلى الكون على أنه صورة معجزة جامعة ، وقوله : (فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني النظر إلى ظاهر الوجود الذي رمز إليه بالأرض ، وباطنه الذي رمز إليه بالسماء والعقل.

١٨٧ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧))

[الأعراف : ١٨٧]

الساعة ساعتان كبرى وصغرى ، وجوهرهما واحد ، والساعة الصغرى يقظة العارف وخروجه من كهف بدنه ومكاشفته بالحقيقة ، ثم مشاهدته إياها وقوله : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ،) إشارة إلى ليلة القدر ، وهي علامة قيام الساعة الصغرى ، تأتي بغتة ، وكثيرون يحيون ليلتها أو العشر الأواخر من رمضان ، ومع هذا فقد يراها من لا يفكر فيها ، فالساعة هي التي تختار المختار لا العكس.

١٨٨ ـ (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨))

[الأعراف : ١٨٨]

الدائرة الأسمائية تقتضي النفع والضر جميعا ، ولهذا اقتضى خلق الناس من الاسمين النافع الضار ، والمشيئة الإلهية وحدها شاءت أن يكون النبي نبيا ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليما علم اليقين بهذه الحقيقة ، ولهذا فلقد كان يخاف مكر الله وقال : (أو ما يؤمنني أن القلب كمثل ريشة الفلاة تقلبها الريح كيف تشاء ...) كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم أيضا فضل الله عليه فضلا خالصا في اختياره رسولا نبيا ، ولهذا لما أطال الصلاة وقيام الليل وراجعته عائشة في ذلك قال : (أفلا أكون عبدا شكورا).

١٨٩ ، ١٩٢ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩)

٢٨٥

فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢))

[الأعراف : ١٨٩ ، ١٩٢]

سبق أن أوردنا قوله تعالى في موضع سابق : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨] باعتبار النفس صورته تعالى كما جاء في الحديث ، فالنفس لطيفة إلهية مشرقة منه سبحانه ، وهي صورته ، وهي سبيل الوحدانية المحضة إلى التكثر ، ويشق من النفس زوجها ، فالنفس شطران شطر فاعل يسمى العقل الفعال أو الروح أو المطاع أو النور المحمدي أو الحقيقة المحمدية ، وشطر منفعل يسمى النفس الكلية ويسمى حواء القابلة المنفعلة السالبة ، ولهذا سميت أيضا رحما.

وباعتبار النفس صورة الله فلقد حملها الله صفاته وهي سبع الحياة والعلم والإدارة والقدرة والسمع والبصر والكلام ، والحياة الصفة الأولى وهي تجلي اسمه الحي ، واسمه هذا هو معجزة الوجود ، إذ ضرب الله مثلا لهذا الإعجاز قوله في موضع آخر : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣)) [الحجّ : ٧٣] ، والملاحظ إنه مهما بلغ الإنسان شأوا في مجال الاختراعات إلا أنه يبقى عاجزا عن أن يخلق ذبابة ، أو يصنع بعوضة ، وكل المخترعات التي اخترعها تصنع بمواد أولية وجودية كونية كالكهرباء والماء والوقود والمعادن.

والصفة الثانية هي العلم ، والعلم مركوز في النفس مكنون ، وسماه سبحانه الطي ، وسماه الرتق ، وسمى خروجه النشر والفتق ، ووجود المخلوقات جميعا هو تنفيذ خطة معينة لظهور الوجود الإلهي بكل شيء بدءا من الجماد ومرورا بالنبات والحيوان والإنسان ، ولقد شرف الله الإنسان بالعقل الذي هو فعل الله في الإنسان بالإنسان ، ويقوم الشطر الفاعل من النفس ، أي الروح ، بتفتيق يذور المعقولات الموجودة في تربة النفس ، وهو أمر اتفقت عليه الفلاسفة القدامى إذ قالوا إن العقل الفعال هو الذي يقوم بعملية تفليق المعقولات هذه ، فيستخلص من كل محسوس ، الذي هو صورة عيانية للمعقول ، هذا المعقول.

والصفة الثالثة الإرادة ، وهي توجيه القصد إلى نشر ما هو مطوي فالحكم على هذا الأساس له خطة معينة محدودة مرسومة منذ بدء الخليقة ، وهذه الخطة هي ما سميت القضاء والقدر والأجل والميقات في الأديان.

والصفة الرابعة القدرة ، وهي بث قوة التحريك في النفس بالنفس ، وعلى هذا فالنفس

٢٨٦

وسيط ، وهي أن تفعل تفعل بالوساطة ، ولهذا عرف أرسطو النفس : بأنها كمال أول لجسم آلي طبيعي ذي حياة بالقوة.

أما السمع والبصر والكلام فهي الآلات والوسائط والمادروحية التي بها يستوي الله سبحانه على عرش الوجود ، فالوجود المادروحي هو العرش ، والعرش موضع نفوذ القدرة ، ولما كانت النفس ، كما أسلفنا القول ، مكونة من شطرين ، فلقد جعل الله التفتيق الأسمائي مناطا بالجانب الأنثوي السلبي ، وهذا الجانب هو ما سلح بالسمع والبصر والكلام ، لكي يتمكن الروح من تلقيح بويضة الجنين ، فإذا لقحت ، أي تم الحمل ، بدأ دور الحواس الخارجية ذات القوى الإلهية أيضا بدور الملاقط لجلب الانطباعات من العالم الخارجي حتى تبدأ المرحلة الثانية من التربية وهي طبع العقل الهيولاني المادي بصور المعقولات وعلى هذا فالذات تنمي نفسها بنفسها ، أو أن النفس أداة الذات ورحمها وصورتها تحضن نفسها لتتم مرحلة التفقيس ، أما دور النفوس الجزئية فهو دور الصور الأسمائية التي يجب أن تتموضع في الزماكان لتظهر به ، وعلى هذا فالوجود الكلي هو جسم كلي ، وهو الصورة العيانية الظاهرة لاسمه تعالى الظاهر ، وما النفوس الجزئية سوى صور هذه الصورة الجامعة.

ولما كان الإنسان وجودا كليا مصغرا ، فهو وجود جزئي حوى كل ما يحوي الوجود الكلي ، ففي الإنسان شطر النفس الفاعل أي الروح ، وشطر النفس المنفعلة ، وهو مسير وفق التوفيق الإلهي لفتق الصورة المعقولة التي فيه ، فبالفتق ، وبجمع النفوس الجزئية إلى بعضها بعضا تبدأ الصورة الجامعة بالظهور ، وهي المسماة آدم ، لأن آدم من الأدمة ، وهي السمرة التي تتوسط بياض نور المعقولات وسواء عالم الكثافة والمحسوسات ، فآدم هو ممثل البرزخ ، وهو المخلوق الإلهي الذي رجلاه في الأرض ورأسه في السماء.

وآدم علم الأسماء كلها كما جاء في القرآن ، ولما جاءه الأمر الإلهي أنبأ الملائكة بأسماء المعقولات ، فآدم ممثل الكلية الإنسانية ولهذا سمي أبا البشر ، وسمي البشر بنيه.

وعندها يتم فتق معقولات آدم يستوي آدم على عرش الوجود بالنيابة عن ربه وخليفة له ، وهذا النائب والخليفة هو الذي سمي في الآية صالحا ، فصالح هو عبد الله الصالح الذي علم موسى ما لم يكن يعلم ، وعلمه إلهي كلي به يعلم الظاهر والباطن ، المنشور والمطوي والمحكم والمتشابه من آيات الله.

وآدم ممثل النوع ، أما أفراده فهم الأنبياء الذين جاؤوا بعده ، ومنهم إبراهيم الموحد وبقية الأنبياء والرسل حتى محمد عليه‌السلام ، ثم الأولياء العارفون من الصوفية كالغزالي وابن

٢٨٧

عربي ، والذين أشار إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : (إن الله ليبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها).

وعليه فصالح خالد أيضا لأنه نوعي ، ولأن أفراده يظهرون متعاقبين ليكونوا ممثلي اسم الله العليم.

ولأن بني إسرائيل دأبوا على قتل أنبيائهم ، ولأن كثيرا من الناس يعادون الأولياء العارفين كما فعلوا بابن عربي والسهروردي ، وابن سبعين ، ولأن أكثرهم ظلوا عن الله محجوبين بأناهم ، فلقد اتهمت الآية هؤلاء بالشرك.

١٩٣ ، ١٩٥ ـ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥))

[الأعراف : ١٩٣ ، ١٩٥]

كل ما في الأرض عباد الله ، لأن ما في الأرض صور ، والصور لله وهذه الصور متحركة بالله أي بقوى إلهية ، ولهذا ورد ذكر الأرجل والأيدي والأعين والآذان أي الحواس ، وهذه كلها تعمل بقوى إلهية كما جاء في الحديث القدسي بعد أن يصطفى الله عبده ويطلعه كشفا على حقيقة الوجود ، فإذا هذه الحقيقة أن الله هو سمع العبد الذي يسمع به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وبصره الذي يبصر به ، ومن هذا المنظور الرؤيوي قالت الصوفية : لا معبود إلا الله وإن عبدت الأصنام والأوثان ، ذلك لأن الاتجاه من الداخل إلى الخارج هو اتجاه إلهي كما سبق أن قلنا عن العلم والارادة والقدرة ، فإذا كان الوثنيون عبدوا الأوثان فهم لم يعبدوا إلا الله بسبب كونهم في القبضة الدامغة وبحكم كونهم تحت القهر الإلهي الذي هو حقيقة ما عبد من صور ، وبسبب كون الصور ذاتها جزءا من وجهه الجامع.

١٩٦ ، ١٩٧ ـ (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧))

[الأعراف : ١٩٦ ، ١٩٧]

قوله : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) يعني وصول العبد المصطفى إلى عين الجمع ، حيث يجد الله وليه ، ولأن هذا العبد تجسيد الإنسان الكامل الجامع النوعي فالنتيجة أن ولي العبد المصطفى هو ولي الإنسان الكلي ، أي ولي الوجود وما فيه.

وقوله : (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) يعني تخصيص المصطفى بنور العلم التوحيدي ، وهو نور معلم علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم يكن يعلم ، وعلم كل نبي ورسول وولي ، فلا معلم غيره.

٢٨٨

١٩٨ ـ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨))

[الأعراف : ١٩٨]

نجاح الدعوة إلى الهدى منوط بنوعية الاسم الحاكم القاهر ، فإن كان الاسم المضل ، وتعينه الضال فالنتيجة أن صاحبه لا يسمع للاسم الهادي ، وإن سمعه ما دعاه ولا لباه.

١٩٩ ، ٢٠٠ ـ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠))

[الأعراف : ١٩٩ ، ٢٠٠]

قال عليه‌السلام : (لكل ابن آدم قرينة من الجن ، قالوا : حتى أنت يا رسول الله؟ قال : حتى أنا ، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم) ، وقال سبحانه : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦] ، وقال : (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) [النّساء : ٣٨] ، ولما كان لوجود كل شيء حكمة فإن لوجود الشيطان حكمة ، وإلا لما خلقه الله ، ولا جعله يفسق عن أمره ، والنبي بحاجة إلى شيطان باعتباره في مركز الدائرة الوجودية المشحونة بالتضاد ، والشيطان ممثل التضاد ، إذ قلنا : إن معنى شطن بعد ، فالشيطان يعني البعد عن الله ، والبعد يكون سببا للقرب ، وهذا معنى هبوط آدم وحواء من الجنة بعد أن أزلهما الشيطان وأخرجهما منها.

والبعد الهبوط إلى عالم المادة والعناصر ، وحكمته بدء تحسس المحسوسات لبدء عملية طبع الصور في المهجة وبالتضاد والتناقض تتم هذه العملية ، إذ لو لا خاطر الشح ما بدأ الإنسان يفكر في الخروج على شحه وبالتالي الخروج من نفسه ، والنفس سجن وحجاب ، ففتق المعقولات مرتبط بوجود الشيطان ، ولو لا شح الأنفس ما اشتهر حاتم طيء بالكرم ، ولا قوّم بهذا الكرم وخلد.

٢٠١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١))

[الأعراف : ٢٠١]

التذكر منوط بالشقاء والسعادة القدريين اللذين يوسم بأحدهما الإنسان وهو في بطن أمه كما جاء في الحديث ، والتذكير يذكر بنظرية أفلاطون الشهيرة التي تقول إن الإنسان لما كان روحا كان عالما ثم نسي لما هبط إلى عالم الحس ، ثم يتذكر ما نسيه وفي نظر الصوفية فالأمر منوط بكون الاسم الهادي مضمرا حتى يقع التحريك من قبل الاسم المضل ، وعندئذ يستيقظ ، والاستيقاظ هو ما عناه أفلاطون بالتذكير.

٢٨٩

٢٠٢ ، ٢٠٣ ـ (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣))

[الأعراف : ٢٠٢ ، ٢٠٣]

متابعة الحديث عن أهل الشقاوة الذين إذ حركوا من قبل الاسم المضل ظلوا ضالين لعدم وجود نور الهدى والسعادة ، ويفسر هذا سبب إتيان فريق من الناس الشر دون وجود وازع من الضمير ، ويتساءل الآخرون مندهشين كيف يفعل هؤلاء الأشرار ما يفعلون؟ أليس لديهم ضمير؟

٢٠٤ ـ (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤))

[الأعراف : ٢٠٤]

القرآن من قرأ ، وأول ما خاطب به الوحي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل عليه وهو في غار حراء : (اقْرَأْ) وما كان لدى النبي كتاب ليقرأه ، وما كان ليقرأه وهو الأمي لو كان لديه كتاب ، فالقراءة إذن باطنية وذات علاقة بالبصيرة ، فما يقرؤه القلب ببصيرته هو ما يتلوه عليه صوته الباطن إذ يهديه في ظلمات البر والبحر سواء السبيل ، وهذا الفريق السامع لصوت الهدى هو المسلم وهو في بطن أمه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام) ، وهذا الفريق هم الذين استجابوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعاهم للإسلام ، فهم كانوا مسلمين بالفطرة حتى في زمن ما قبل الإسلام ، فالإسلام إخراج ما هو موجود بالقوة ومركوز بالفطرة في القلب ، ولا يلزم إلا اندلاع الشرارة ليستيقظ القلب من غفلة.

٢٠٥ ـ (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥))

[الأعراف : ٢٠٥]

ورد في موضع آخر من الكتاب قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) في حين ورد الوصف هنا بقوله : (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً ،) والخوف هنا خوف المكر الإلهي الذي سبق أن تحدثنا عنه ، فالمرء لا يأمن مكر الله ذا العلاقة بأولية القضاء والقدر حتى وإن بلغ عتبة الجنة حتى لا يكون بينه وبينها سوى قيد ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة حتى يدخل الجنة.

وقوله : (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) يعني الذهاب إلى عالم المادة لاستقاء المعلومات المختزنة في خزائنه من المعقولات ، والآصال الرواح في آخر النهار إلى عالم الروح بعد أن يكون العقل الهيولاني قد صار عقلا بالفعل ، لتبدأ من ثم عملية التلقيح اللدنية للقلب ، فيستفيد العقل عقلا زائدا على ما حصله في الحياة الدنيا ، وسمى الفارابي هذا الطور العقل المستفاد ، وجعله

٢٩٠

أعلى درجات المعرفة.

٢٠٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦))

[الأعراف : ٢٠٦]

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني الأعيان الثابتة من المعقولات المشعة من العقل الفعال أزلا عند الله نقول أزلا لأن الفارق بين العقل الفعال في الفلسفة ، وما سماه الإمام الغزالي المطاع في علوم الدين هو كون العقل الفعال ، كما عرفه أفلاطون ، صادرا عن الواحد ، وليس من الواحد في شيء ، فهو المخلوق الأول ، في حين جعل الغزالي المطاع أي هذا العقل قديما قدم الله ، لأنه من كلام الله القديم مشعا عنه أزلا ، وعن هذا العقل تشع الأعيان الثابتة ذات الصلة المباشرة بتعيناتها من التشخصات الظاهرة ، فتكون النتيجة وحدة هي الوجود الإلهي الأول والآخر والظاهر والباطن ، فظاهرا ترى هذا الوجود العياني المتحرك المنفصل تملؤه التعينات ، في حين ترى البصيرة الوجود الباطني الحي الفعال لله المدير كل شيء والقاهر فوق كل شيء والظاهر بكل شيء.

٢٩١

سورة الأنفال

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١))

[الأنفال : ١]

الأنفال العلوم المحصلة من الخارج ، وكونها لله والرسول يعني الاستعداد للدخول في فلك الأنوار حيث يتم استخدام المعقولات الحسية وفق أسلوب جديد يسمى تعبير الرؤيا وتأويل الأحاديث ، فيصبح من ثم العالم عارفا بالله والعارف محققا.

وقوله : (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) يعني الدعوة إلى الدخول في الرحمة الإلهية ، حيث ينتفي التضاد ، وينام الحمل في أحضان الذئب ، بعد أن يطلع السالك المراد كشفا وذوقا على شمس الوصول ، حيث الأنا تصير نحن والنحن هو ، والهو أنا ، فلا تضاد عند الوصول إلى عين اليقين ، وسمي من ثم برد اليقين.

وإصلاح الذات الجمع بين شطري الذات المتضادين ، فبنو آدم مشطورون ذاتيا بين خواطر الأسماء ، حتى يأذن الله في انبلاج صبح اليقين ، فإذا القرين ، قد أسلم كما أسلم قرين الرسول ، وإذا الشيطان قد عاد إلى ربه قائلا : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) [إبراهيم : ٢٢] ، وإذا الكل في العين في سلام آمنين ، فلا جنة بعد جنة القرب سوى جنة السّلام ، وسمي مدخلها باب السّلام ، وجعل في مكة الصدر ، والواصل إلى هذه الجنة بعد الدخول من باب توحيد الضاد هو الفائز بعقبى الدار ، وهو المنعم بالأنوار.

٢ ، ٣ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣))

[الأنفال : ٢ ، ٣]

قوله في وصف المؤمنين : (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) يعني الخوف الذي يحس به السالك لدى وصوله مطالع الذات ، حيث يسد جبريل الروح الأمين هناك أفق تلك الذات ، ولا يبقى إلا الذات نفسها فلا نفس ، ولا قلب ولا اسم ولا رسم وليس ثمة إلا الله.

٤ ـ (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤))

[الأنفال : ٤]

الدرجات سلم المعارف ، وأوله الإسلام وهو قبول القلب نور الندم والتوبة ، ثم الإيمان وهو الكلمات التي تخطها اليد النورانية في القلب كما قال سبحانه في موضع آخر في وصف

٢٩٢

إبراهيم : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤] ، ثم الإحسان ، وهو رؤية وجهه سبحانه الجامع لليمين والشمال ، والذي هو الوجود الجامع للظاهر والباطن ، وإليه أشار البسطامي قائلا : إذا رآه العارفون أول مرة ، جعل لهم سوقا ما فيه بيع ولا شراء إلا الصور من الرجال والنساء ، فمن دخل منهم السوق لا يرجع إلى زيارة الله أبدا ، والإحسان هو مقام المكاشفة ، حيث يرقى العارج في سموات المقامات ، وأخيرا هناك درجة القربى وهي للمحققين المشاهدين ، وسمي هذا الكشف المشاهدة ، وفيها يتم فناء الذات الجزئية في الذات الكلية ، ويضمحل الرسم ، ويبقى الاسم وحده شاهدا على عظمة الذات الأحدية الظاهرة بالأسماء.

٥ ، ٦ ـ (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦))

[الأنفال : ٥ ، ٦]

الإخراج من البيت بمثابة الإخراج من القلب ، حيث يجد العارج نفسه معلقا في السماء ، لا هو من أهل الأرض ، ولا من سكان السماء ، وهذا الخروج نفي الأنا برؤيتها وجه الله وظل الله ومجال الله المتحرك ، ويسمى هذا المقام الفناء حيث تفنى القطرة في البحر ، ويوهب العبد من ثم البقاء بالله.

٧ ، ٨ ـ (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨))

[الأنفال : ٧ ، ٨]

هذا الدين دين الجهاد ، وكان أول ما أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الدعوة هو الجهاد والمجاهدة ، وظاهرا يبدو الأمر بظهور المؤمنين على المشركين ، وباطنا هناك حركة الفلق الأسمائية ، إذ بينا أن الاسم لا ينفلق ما لم يجاهد المسلم المشرك أولا ، وسمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا الجهاد الجهاد الأصغر ، ثم يجاهد المسلم نفسه ثانيا ، وسمي النبي هذا الجهاد الجهاد الأكبر ، ومن دون الجهاد لا إسلام أي لا سلام ، ولهذا ارتبط الظفر بالبرد والسّلام اللذين فاز بهما إبراهيم عليه‌السلام ، ارتبط بإلقاء إبراهيم في النار ، والنار نار التناقض ، والتناقض يعني المخالفة ثم المجاهدة فالذين يفرون من الجهاد ، ويرغبون عن النصب ، ويخافون الموت هم من الجاهلين لأن الله تابع قائلا : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) والكلمات اقتضت الجهاد ، وإلا لما كان الله في حاجة إلى دعوة المسلمين إلى الجهاد ، وهو القائل : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) [هود : ١١٨] ، وقال : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [النّحل : ٩].

٢٩٣

٩ ـ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩))

[الأنفال : ٩]

الاستجابة إلى الخواطر المثبتة للقلب في ساعة الشدة وعند البأس ، ولقد نصر النبي بخاطره الإلهي حتى أنه كان أكثر المجاهدين شجاعة وصبرا على القتال ..

١٠ ـ (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠))

[الأنفال : ١٠]

يبشر الله بجزاء الجهاد وهو طمأنينة القلب ، والوصول إلى الطمأنينة بالفراغ من الجهاد بعد إتمام عملية فتق الأسماء ، فينتقل الله المؤمن من طور الإيمان إلى طور الإحسان ، حيث يطلعه على سر الأسماء والخواطر ، فيطمئن القلب ، إذ يرى كشفا دخول ملائكة الخواطر من اليمين والشمال جميعا ، وبعد أن يسلم الشيطان ، وتصير النفس الأمارة نفسا مطمئنة ، كما قالت امرأة العزيز : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) [يوسف : ٥١].

١١ ـ (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١))

[الأنفال : ١١]

النعاس إشارة إلى المسدل بين شطري الأسماء المتضادة كي يستريح القلب إلى جهة الإيمان دون جهة الإلحاد ، ويستند إلى أسماء الآلاء أي النعم الإلهية دون أسماء البلاء أي النقم والغضب ، إذ الله يؤيد عبده فإذا هو آمن متوكل حتى يجيء نصر الله والفتح الذوقي المبين.

١٢ ، ١٦ ـ (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦))

[الأنفال : ١٢ ، ١٦]

تبين الآيات فعل الله وجنوده في القلب الكلي أي القلب الذي هو دائرة الأسماء الإلهية الوجودية ، كما يبين فعله في القلب الجزئي ، وذلك بأن يؤيد الله هذا القلب بنوره بواسطة خواطر اليمين ضد خواطر الشمال ... كما أنه يقذف في قلوب المشركين الرعب عن طريق خواطر الشمال نفسها فإذا المؤمن واثق بربه ونفسه وإمكاناته والقوى الملكية المؤيدة له ، في حين لا يجد الكافر أحدا يعاضده ويؤازره ، وإذا هو في الساحة وحيد.

٢٩٤

وقوله : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) إشارة إلى الرأس والدماغ الذي في الرأس ، والضرب إلاحاطة بقوى الدماغ وجعلها ملكا لله.

١٧ ، ١٨ ـ (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨))

[الأنفال : ١٧ ، ١٨]

الإشارة واضحة إلى الفعل الإلهي الذي يتم بواسطة الفعل البشري ، وكون الأخير آلة محركها الحق ، وكنا بينا الدور الإلهي عن طريق الصفات الإلهية ، ومنها القدرة التي هي أساس تحريك عالم الذر أصلا ، وهذه القدرة هي المسماة الطاقة في العصر الحديث ، وقد ثبت أنها هي التي تحدث الحركة ، ويمكن أن تسمى السبب الأول لكل تغيير أو تبدل ، وتستطيع الطاقة أن تتحول إلى مادة وإلى حرارة ونور ، كما تحدثت العلماء والمعاصرون عن نظرية الانفلاق الكبير العلمية التي تقول بانفجار الكتلة السديمية الأولى في فجر التكوين ، وهي الكتلة المؤلفة من تكثف الطاقة اللطيفة وذراتها في الفراغ ، وهكذا يكون كل خلق طاقة ومادة أي روحا ومادة ، فالطاقة هي روح المادة.

وكنا قد عالجنا موضوع تحويل الفكرة إلى الفعل لدى الإنسان في كتابينا «فتح الوجود» و «الإنسان الكامل» ، وبينا أنه لا بد من وسيط محرك هو الذي يحول الفكر إلى عمل ، وهذا الوسيط هو الذي أشار إليه سبحانه في الآية قائلا : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى).

وما دمنا بصدد الحديث عن الحركة والتحريك ، وبعد الرجوع إلى دائرة الأسماء الوجودية فإننا نقول إن الجسم الكلي المسمى في الفلسفة الهيولى أو المادة الخام ما برز إلا بعد تكثيف الذر ، ثم ظلت الذرات تعمل عملها فظهر التكثف بظهور الجماد ، ثم تحرك التكثف بتحرك النبات والحيوان ومنه الإنسان ، فالمكاشفون رأوا الله كشفا إنه المحرك ، وسبب التحريك هذا هو موضوع رد الغزالي الشهير على رابطة العلية بين العلة والمعلول.

يكفي أن تراقب الطير ، وكيف يبني عشه ، ويضع بيضه في وقت معلوم ، ثم يحضن هذا البيض أياما معدودات معلومات ، حتى إذا فقسها شرع في إطعام الفراخ ، حتى إذا كبرت بدأ يعملها الطيران ، حتى إذا أتمت تعليمها هجرت الآباء الصغار لتعيد بناء عش جديد والعملية تفسرها العلماء بالقانون الطبيعي ، وتقول إنها من صنع الطبيعة ، ولما كانت الطبيعة لا عاقلة ، وما نراه هو نتاج عقل مخطط محكم ، فالأولى الرجوع إلى قاعدة عقلية للوجود هي ما سماها الفلاسفة القدامى العقل الفعال ، والذي ثبت بعد الدراسات النقدية الجديدة للفلسفة القديمة بأنه هو الله أو الوسيط الإلهي.

٢٩٥

١٩ ، ٢١ ـ (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١))

[الأنفال : ١٩ ، ٢١]

الفتح اليقين ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (تعلموا اليقين كما تعلموا القرآن حتى تعرفوه ، فإني أتعلمه) ، فالناس درجات وأعلاهم درجة المقربون المؤهلون لتلقي أنوار الفتوحات الفياضة التي أهلت ابن عربي لكتابة «الفتوحات المكية» ، والغزالي لكتابة «إحياء علوم الدين».

والآيات تدعوا المؤمنين إلى هذا الفتح المبين ، وتربأ بالمؤمن عن الوقوف عند حدود الجنان كما قال البسطامي : لله عباد لو بدت لهم الجنة بزينتها لضجوا منها كما يضج أهل النار من النار.

٢٢ ، ٢٣ ـ (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣))

[الأنفال : ٢٢ ، ٢٣]

الدابة النفس الحيوانية ذات التعلق بالمادة ، ولا وجود لها من دونها ، وصنف الحق الدواب درجات ، وجعل أقلها منزلة ما كان منها صما وبكما ، وقال سبحانه في موضع آخر واصفا هؤلاء : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩] ، وقال أيضا : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) [الأعراف : ١٧٦] ، فالإنسان إن لم يحقق الغاية من خلقه انحط إلى درجة البهائم بل سفلها أيضا.

٢٤ ، ٢٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥))

[الأنفال : ٢٤ ، ٢٥]

الحيلولة بين المرء وقلبه هي ما أشار إليها صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء) ، فالخواطر ملكه سبحانه وجنده ، والقلب مستودعه ، وهو فيه فعال لما يشاء ، ولهذا سمي الإنسان عبدا.

وقوله : (بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) يعني أن الإنسان غير قلبه ، وأنه الفكر ماش على قدميه ، والفكر هنا غريزة يتهيأ بها درك العلوم أو كما قال الفارابي : هيئة ما في مادة ما معدة لتقبل رسوم المعقولات ، أما القلب فهو اللطيفة الإلهية المودعة في القالب لتكون مجال فعل الله ونشاطه.

٢٩٦

٢٦ ، ٢٧ ـ (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧))

[الأنفال : ٢٦ ، ٢٧]

كون الإنسان مستضعفا في الأرض إشارة إلى ضعف الإنسان أمام خواطره التي تذهب به شمالا ، وتذهب به يمينا ، وهذا ما أشارت إليه الآية بالتخطف ، والتأييد بالنصر الثبات على الدين بواسطة نور الأيمان أولآ ، ونور اليقين ثانيا ، حيث يأمن الإنسان غوائل خواطره.

٢٨ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨))

[الأنفال : ٢٨]

التعلق بالأموال والأولاد فتنة لأن المال يغذي الأنانية ويضخمها ، كما أن صاحب المال خائف على ماله ، ساع إلى تنميته والحفاظ عليه ، والنتيجة حبس الإنسان في قفص الأنا.

أما التعلق بالأولاد فهو تعلق بالنفوس الجزئية ، وهو تعلق ، إن استحكم ، أدى بالإنسان إلى سجن الحجاب الذي هو جدار في وجه طلب الحقيقة ، فعن النفوس الجزئية لا تسل ، وتجاوزها إلى صاحب هذه النفوس ومالكها ، فالتعلق بالولد حجاب عن الله.

٢٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

[الأنفال : ٢٩]

الفرقان من فرق ، وهو تفريق القلب بالفلق ، فإذا الأنا الجزئية تنفلق عن الأنا الخالصة ، وإذا الفكر الشخصي إشعاع الفكر. الكلي ، وإذا للروح الحيواني روح آخر هو الروح الكلي ، وهذا كله يستتبع تكفير السيئات ، ولا سيئة أعظم من سيئة الظهور والأنا ، ولا فضل أعظم من فضل رفع الحجاب بين الله والإنسان ، فيفنى الإنسان ، ويحل الله في قلبه ، فيصير عبد الله وخليل الله.

٣٠ ، ٣٤ ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤))

[الأنفال : ٣٠ ، ٣٤]

كل خطاب للنبي هنا موجه إليه خاصة وإلى المؤمنين عامة ، والغاية الإشارة إلى دور

٢٩٧

الخواطر في القلب ، وكون القلب في قبضتها ، ودور الخواطر هذا هو ما وصف بالمكر ، ودور القبضة هو في الحقيقة المكر الإلهي ، والقصد التحريك والتقلب لرد النفس في البداية إلى أسفل سافلين ، ثم بدء العروج بها اسما إلى عليين ببلوغ اليقين.

ومكر الكفار مكر شخصي أو جزئي ، وأصله خاطر الكفر ، ويمثله في عالم الأسماء الاسم البعيد ، والمكر الإلهي مكر كلي لأنه سبحانه له اسم الوارث ، فكل مكر شخصي يعود إليه وينضوي تحته ، فيصير مكرا كليا ، فالمكر الإلهي هو على الحقيقة محاربة الاسم بالاسم والخاطر بالخاطر ... وإذا كان الكفار قد مكروا فالمؤمنون يمكرون أيضا ، وإذا خالف الكفار بعضهم بعضا فمحرك المكر فيهم هو الحق أيضا ، وتكون النتيجة أن الكلي يلتهم الجزئي ، ولا يبقى إلا المكر الإلهي الذي وصفه سبحانه بأنه خير ، لأنه يتبع صفته تعالى الخير ، ولأنه سبحانه يستخدم المكر للفلق والفتق.

٣٥ ، ٣٦ ـ (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦))

[الأنفال : ٣٥ ، ٣٦]

قوله : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) إشارة إلى أن أصل صفة الكلام إلهية وإن بدت بشرية ، فالمكاء الصفير ، والصفير موسيقى ، والموسيقى روح الكون كما قالت الفيثاغوريون ، فما قالته الجاهليون لم يخرج على إرادة الله في الحقيقة ، وقال عليه‌السلام : (ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن) ، أما التصدية فهي التصفيق ، ولقد شاهدنا كشفا رؤيا ذكرناها في كتابنا «الإنسان الكامل» وفحواها أن شخصا ظهر في الرؤيا ، وصفق ، ثم تبعه آخر وصفق تصفيقتين ، ثم صفق ثالث ثلاث تصفيقات ، هكذا حتى بلغ عدد المصفقين تسعة صفقوا تسع تصفيقات ، وكنت أنا واقفا في آخر الرتل فصفقت عشر تصفيقات ، وذكرت تعبير المنام في الكتاب قائلا : إن التصفيقات العشر إشارة إلى مقولات أرسطو العشر ، ولدى الصوفية ، مثل ابن عربي وعبد الغني النابلسي وصف للمقولات ، فأنشد النابلسي :

وجود مطلق عنه

بدت أشكال أفراد

وتسع تلك أعراض

لها ذكر بتعداد

متى والوضع مع ملك

إضافات بإسناد

تسمى الكم مع الكيف

وأين عند نقاد

وفعل وانفعال وهي

معلومات إشهاد

تجلى ربنا فيها

بتقريب وإبعاد

٢٩٨

والمهم القول إن الله بكل شيء محيط ، وإنه إن كانت صلاة الكافرين تصدية ، أي تصفيقا ، فالله من ورائهم ، وهو المحرك وله المكر ، وهو الخير ، وأنه بعث محمدا خصيصا في بيئة جاهلية وزمن الجاهلية ليكون ذلك أدعى لزيادة قيمة دور النبي ، وأن النور لا يقوم إلا بوجود الظلمة ، ولو شاء سبحانه لهدى الناس أجمعين.

٣٧ ، ٣٨ ـ (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨))

[الأنفال : ٣٧ ، ٣٨]

العملية تشير إلى التمييز ، ليفرق الله بين الأسماء ، فيتم بعد ذلك فلقها وظهورها ، فإذا اسم الله الظاهر هو الظاهر ، وإذا العبد متحقق بهذا الاسم الذي هو جماع الوجود الظاهري ، فيرى الله من ثم عيانا ، كما وصف النبي رؤية المؤمنين له عيانا في الجنة ، كما يرون القمر ليلة البدر لا يضارون في رؤيته ، وهذه الرؤية جوهر سورة الأنفال والدرة الفريدة ، لأنها الغاية من خلق الخلق ، ليظهر الله بالخلق.

٣٩ ، ٤٠ ـ (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠))

[الأنفال : ٣٩ ، ٤٠]

القتال فريضة لإخراج أسماء الجمال ، ومن غير القتال لا تنتصر أسماء الجمال كالحق والعدل والعطاء ، ولئن قعد المؤمنون عن القتال شالت كفة أصحاب الشمال ، فلم تظهر أسماء الله الجميلة ، ولم يبق في الوجود إلا الشر وأهله ، والشر ليس إلى الله كما جاء في الحديث ، وإن كان واقعا بمشيئته وقدرته.

٤١ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١))

[الأنفال : ٤١]

سبق وأولنا ذوي القربى واليتامى والمساكين ، والمهم القول : إن ما يغنمه القلب من عطايا الحواس الجالبة للمعلومات من الخارج ، والتي يزيدها الروح عطاء من عنده بتفجير ينابيع علومه ، إن هذه الغنيمة توزع بنسب معينة على باطن الإنسان الذي هو العقل ، وعلى ظاهره الذي هو الحواس ، فللخيال حصة ، وللذاكرة حصة ، وكذلك للحس والسمع والبصر وما إلى ذلك من قوى ، كل أولئك لهم نصيب معلوم من أعطية الروح والجسد ، وهي أعطيات الإنسان

٢٩٩

الكامل المتجسد في النبي والعارف ، فإذا الظاهر العبد الصالح الذي هو زينة الخلق أخرج للبشر.

٤٢ ـ (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢))

[الأنفال : ٤٢]

العدوة الدنيا القرب من المدينة ، وهو قرب العارف من ربه بعد الاصطفاء والاجتباء والتعليم الإلهي ، إذ المدينة الجسد الجامع ، والعدوة القصوى البعد عن المدينة ، أي البعد عن تعليم الوحي الباطني ، وهو ما يصيب المحجوبين المحرومين من هذا العلم ، وبين المقربين والمبعدين هذا القتال المفروض بالقوة لكي تنتقل عطاءات الروح من كونها بالقوة إلى كونها بالفعل ، فالحلقة دائرية لا يمكن فصل شيء منها عن شيء ، ولهذا قال سبحانه في موضع آخر : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة : ٢٥١] ، والهلاك عن بينة هلاك أصحاب الاسم البعيد لأنهم مبعدون ، والحياة عن بينة حياة أصحاب الاسم القريب لأنهم مقربون مصطفون أحياء عند ربهم يرزقون لهم رزقهم في القرب بكرة وعشيا.

٤٣ ـ (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣))

[الأنفال : ٤٣]

المنام عالم البرزخ حيث لا يوجد فيه إلا الصور ، وهي صور حسية لها محاكياتها من المعقولات ، فيبرزها الروح ، ويحركها ، وينطقها في منام النائم ليعلمه تعبير الأحلام وتأويل الأحاديث.

والمنام إطلالة القلب على عالم الباطن ، حيث الله موجود وبالمعية ، ينتظر هدأة الحواس ، ليتولى عبده بالتعليم ، ولأن الله في قلب المؤمن فله صفة العليم ، إذ العلم من صفاته السبع ، ولكونه الباطن وعين الوجود فإنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

٤٤ ، ٤٧ ـ (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧))

[الأنفال : ٤٤ ، ٤٧]

الأعين العيون وهي الصفات أو الخواطر أو الملائكة جند الله الذين يمد الله بهم المقاتلين

٣٠٠