التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

لا الكبر الذي يمس الإنسان العادي ، وللأمر رقيقة ، ذلك أن بلوغ هذا العمر الذي هو لا عمر يتبعه جهل هو لا جهل أو هو الحيرة المعروفة أيضا لدى الصوفية.

فتجاوز طور العقل العادي يسقط من هذا العقل علمه الذي جمعه في رحلته في عالم العيان ، فالمعادلات العقلية تتحول إلى معادلات روحية ، ولمعادلات الروح منطق هو لا منطق ، أو هو منطق يغاير منطق الفلاسفة ، أو يغاير على وجه التحديد ، منطق أرسطو الشهير.

فأن يجد الإنسان نفسه جزءا من الذات الكبرى ، أي أن تصير الأنا الجزئية أنا خالصة ، وأن يرى المكاشف ويتحقق أنه شعاع من النور الإلهي ، ثم أن يجد نفسه حبيس عوالم المادة لا يستطيع منها فكاكا ، ثم أن يجد أن الأنا الجزئية الطالبة للمعلومات قد صارت هي مصدر المعلومات ، وأن يرى الطالب هو المطلوب والسامع هو المسموع والجاهل هو العليم الحكيم ، وأن يرى البداية هي النهاية ، والنهاية الرجوع إلى البداية كما قال الجنيد ، وأن يرى الناس أشباحا تملأ عالم العيان ، وأن يرى السماء قد أطبقت على الأرض ، وأن يرى الجنان توحدت في جنة عالية هي جنة العلم ، فهذا كله مبعث الحيرة التي سميت حيرة العارفين.

والآية أوجزت هذا الحدث الإشراقي العرفاني الفذ إذ وصفت أعلامه بأنهم قد عادوا جاهلين بعد أن كانوا عالمين ، أي أنهم قد أيقنوا بأن ما تعلموه وعلموه عن طريق الفكر لا قيمة له ما دامت هناك بعد ينابيع العلم اللدني التي تعلم الإنسان ما لم يعلم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم).

٧١ ـ (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١))

[النحل : ٧١]

تحدثت الآية عن الفضل الإلهي وتفضيل العارفين على الجاهلين ، وتفضيل ذوي البصيرة المنورة على ذوي الفكر والحواس ، قال محمد إقبال ترى فلاسفة بالألوف ورؤسهم مطمورة ، وصاحب الوحي وحده يتحرك ورأسه مرفوع.

فالرزق هنا إلهي هو العلم الإلهي الذي خص الله به آحاد أفراد من الخلق ، فعلمهم ، وأدبهم ، ورفعهم فوق الناس درجات كما حدث للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان رجلا عاديا يتجر في مال زوجه خديجة ، فإذا هو بين عشية وضحاها يصبح نبيا موحى إليه ، قد أنزلت عليه رسالة ، وتبوأ مكانة ظلت تتوطد مع مر السنين حتى زماننا حيث احتل مكانة الرجل الأول بين المائة الأوائل في التاريخ.

٧٢ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢))

[النحل : ٧٢]

٤٦١

النفس شطران طابع ومطبوع ، ملهم ومستمع ، آمر ومأمور ، فاعل ومنفعل ، إيجابي سلبي ، فالإنسان هو الزوجان يحملهما في ذاته ، والزوجان آدم وحواء أبواه ، والأبوان كليان ، ومنهما خرجت الكثرة أزواجا وبنين وحفدة.

٧٣ ، ٧٤ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤))

[النحل : ٧٣ ، ٧٤]

الرزق السماوي هو الرزق على الحقيقة ، فالذين لا يعلمون يؤمنون بأن أرزاقهم من كسب أيديهم بما في ذلك الرزق العلمي العقلي ، والحقيقة أن الرزق إلهي وجودي يبدأ منذ أن تعطي الأم رضيعها ثديها ليشرب اللبن ، ومنذ أن تبدأ غريزة الحياة عملها فتجعل الرضيع يرضع ... ثم يتطور الأمر فإذا الرزق الإلهي مجسد في رعاية الوالدين للولد ، وهما يحيطانه بالعناية والحنان ، ويمدانه بأسباب العيش حتى يكبر ويبلغ أشده فإذا هو ذكر أو أنثى ولكل منهما دور حددته العناية الإلهية ، وحقيقته عن طريق الرزق ، والنبي قال : (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) ، وقال : (كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك) ، فرحلة الإنسان كلها هي قطار يسير على سكة من الرزق الإلهي علم هذا أم جهل.

٧٥ ـ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥))

[النحل : ٧٥]

العبد المملوك عبد الاسم ، وقلنا : إن لكل إنسان اسمه ، والناس سجناء الأسماء لا خيار لهم ولا فكاك ... فبهذا الترتيب الإلهي للوجود والتنظيم البياني للحياة استمرت الحياة ، ومن مشكاة هذه الحقيقة رفع الصوفيون شعارهم القائل إن الإنسان مجبور في اختياره ، إذ لا خروج لأحد على اسمه لأن اسمه حقيقته وصفته ، وصفته صراطه ، وصراطه خطه الفكري ، فكيف يخرج الإنسان على فكره وعن فكره إذا كان هو فكره؟ لقد اعتمد ديكارت الفكر وحده أساسا للوجود عند ما أطلق مقولته الشهيرة : أنا أفكر إذن أنا موجود.

فالناس إذن عبيد ، ولهذا سمي الإنسان عبدا ، وفي اللغة أن معنى العبد الإنسان ، فلا فرق لغويا بين الإنسان والعبد أو الإنسانية والعبودية.

ومن الناس من رزقوا من الله الرزق الإلهي الذي كنا تحدثنا عنه ، فهؤلاء نجوا من سجون الأسماء وأقفاصها ، وصاروا أحرارا ، وأجمعت الصوفية على تسمية هذا المقام العبدية وهو أعلى من العبودية العامة ، وهذا ما ذكرناه في كتابنا «النصوص» ، والعبد هنا حر حرية مطلقة يتصرف في الأسماء جميعا بحكم كونه خليفة الله في أرضه وعبده المتصرف بأمره ، فلهذا العبد

٤٦٢

حق في أن يفعل ما يشاء ، وحريته هذه لا تحدها مقولة الخير والشر ، لأن لله الخير والشر ، وللخليفة بالتالي ما لربه ، وقولنا : العبد الحر له لطيفة ، ذلك أن هذا العبد عبد لله ، ومن كان عبدا لله فلا إرادة له ولا مشيئة ولا رغبة ، فهو موهوب لرب ومصطنع ومصطفى كيفما يوجهه الله يتوجه ، وما يأمره به يفعله ، وهذا وجه العبدية لهذا العبد ، أما الوجه الآخر وهو وجه الحرية فيمثل في كون هذا العبد ليس إنسانا عاديا ، فهو يعرف ما لا يعرف الاخرون ، وله قصد غير مقاصد الآخرين ، وقصده إلهي ذو مرام ، وكثيرا ما تكون المقاصد غامضة لا يدركها إلا العارفون ، ولهذا جاء في الآية في وصف هذا العبد : إنه ينفق من رزقه الإلهي سرا وجهرا ... أي يسلك سلوكا محيرا قد يفهمه الناس ، وقد يدق عن أذهانهم فهمه ، وهذا ما نراه في قصة لقاء موسى العبد الصالح الذي قال له : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) [الكهف : ٦٨].

٧٦ ـ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦))

[النحل : ٧٦]

قوله سبحانه : (أَحَدُهُما أَبْكَمُ ،) يذكر بقولنا : إن العارف يرى الناس عند المكاشفة صامتين ناطقين ... وللأمر رقيقة ، ذلك أن الإنسان يفكر أولا ثم ينطق ، ولما كان الفكر لله باعتبار الإلهام والنجوى ، فالنتيجة أن الملهم يلهم أولا ، ثم يفعل الإنسان ، فالإنسان إذن أبكم لأنه لا ينطق بذاته بل بغيره ، وهو عاجز لا يقدر على شيء كما جاء في الآية لأنه لا يستطيع أن يفعل إلا ما يلهم ، وتبع هذا في الآية وصف هذا الإنسان بأنه كل على مولاه ، والكل ثقيل ، والثقيل من الحمولة ، فالإنسان محمول على الله باعتبار الله الملهم وباعتبار الإنسان حامل الله لأنه آلته ووسيلته للظهور والفعل.

أما الإنسان الآخر ، أي العبد الحر الذي تحدثنا عنه ، وهو الإنسان الكامل الذي ورد ذكره عند ابن عربي وعبد الكريم الجيلي ، وهو تعين النور المحمدي العالم بالخير والشر وبتوحيدهما والفاعل بهما وعن طريقهما ، والعارف بالحقائق الإلهية ، فهذا الإنسان على صراط مستقيم ، وهو التنزيل من رب العالمين والمبعوث رحمة للعالمين ، وهو المجدد والمعلم المتجسد دوريا في كل قرن لينطق بالله وعن الله ولله.

٧٧ ـ (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧))

[النحل : ٧٧]

الساعة ساعتان الصغرى والكبرى ، وهي بدء يوم القيامة التي هي قيامتان صغرى وكبرى

٤٦٣

أيضا ، ولما كان الله خارج الزماكان ، والله القاهر فوق الزمان والمكان ، كانت الساعة بالمرصاد فأمر الساعة كلمح البصر باعتبار الحقيقة الإلهية باطن الوجود والفاعلة في الأشياء ، والزمان والمكان من آثارها المنفعلة عنها وعند ما ينتبه الإنسان من نوم الغفلة تكون ساعته قد دقت وهي الساعة الصغرى ، وتكون قيامته قد قامت وهي القيامة الصغرى باعتبار السالك الإنسان الجزئي الناظر إلى الإنسان الكلي حيث يرى من ثم أمر الساعة الكبرى والقيامة الكبرى ، ويرى الناس أمواتا يخرجون من الأجداث سراعا عراة.

٧٨ ـ (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨))

[النحل : ٧٨]

الأمهات الأعيان الثابتة والصفات الإلهية ، وجهل الإنسان هنا علم بالقوة ، إذ معلم الإنسان فيه لكون الحقيقة الإلهية فيه لا تغفل عنه والتي ترشده وتعلمه وتهديه وتجعله على صراط مستقيم ، قال سقراط : منذ طفولتي يلازمني وحي هو عبارة عن صوت يطوف بي ، فينهاني عن بعض ما أكون قد اعتزمت أداءه.

أما السمع والبصر والفؤاد فهي جسور بين باطن الإنسان وخارجه ، فالسمع سمعان جواني يسمع الإنسان فيه حديث قلبه ، وسمع خارجي يسمع الإنسان فيه صوت الحق الناطق على ألسنة المخلوقات.

قال الشبلي : لي أربعون سنة أكلم الله والناس يحسبون أني أكلمهم ، والبصر بصران أيضا بصر وبصيرة ، فالبصر النظر إلى الأشكال الخارجية بنور هو نور الروح وهو النور الذي يجعل العين تبصر ، وهدفه استخلاص المعقولات من المحسوسات.

أما البصيرة فهي الحدس العقلي الذي يستقبل الإنسان فيه المعقولات المقولات التي تنصب على الأشكال الحسية فتلبسها ثياب المعاني ، كأن ترى صفة الكرم في فعل الكريم ، وصفة الحلم في فعل الحليم ، والعملية ظاهرة باطنة ذكرها هيغل في موسوعته الفلسفية مبينا أن العالم الخارجي ليس إلا مجموعة كليات متعينة ، وأننا لو لا علمنا بهذه الكليات ما رأيناه شيئا من عالم الظواهر ، وإذا رأينا ما وعينا شيئا ، ولا أدركنا وهذا حال الحيوانات في العالم ، والفؤاد القلب الذي يمثل عالم البرزخ بين عالمي الظاهر والباطن والذي يمثل الإنسان شكله العام الخارجي ، فالإنسان ليس إلا قلبا ظاهرا له وجه إلى الروح حيث عالم العقل الخالص ، وله وجه إلى العالم المنظور حيث الحسيات والجزئيات والأشكال الهندسية وسيد هذا العالم القلبي آدم وهو من الأدمة أي السمرة ، والسمرة لون وسط بين البياض والسواد.

٤٦٤

٧٩ ـ (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩))

[النحل : ٧٩]

الطير الأرواح الجزئية أو النفوس الجزئية ، وهن مسخرات في جو السماء لأن لكل نفس طبعها واسمها وأصلها وصراطها ، وقوله : (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) يعني أن الله هو حافظ النفس وهو الذي يحفظ لها وعليها اسمها وطبعها وصراطها ، فترى الشجاع لا يتحول عن شجاعته وكذلك الكريم ... وثمة صفات هي في قيد التقلب كانقلاب المؤمن كافرا أو منافقا ، وانقلاب الكافر مؤمنا ، وانقلاب المنافق مؤمنا ، فهذا التقلب هو أيضا في قبضة الرحمن.

٨٠ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠))

[النحل : ٨٠]

قلنا : البيت البدن وقد يكون القلب ، فإذا كان القلب البيت فهذا البيت هو في بيت البدن ، ولهذا تابعت الآية قائلة : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً ،) أما الصوف والوبر والشعر فهي من مظاهر الجسم الكلي وإشارة إلى العالم الحسي حيث تخدم الظواهر بعضها بعضا ، فيخدم النبات الحيوان ، وتخدم الحشرات النبات وتقوم بتلقيحه ، ويخدم الحيوان الإنسان بتغذيته ، ويخدم الإنسان الله بعبادته وإظهاره ، فالوجود وحدة تامة كاملة متكاملة ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.

٨١ ، ٨٢ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢))

[النحل : ٨١ ، ٨٢]

الظلال الأفكار ، فما من ساعة تمر بالإنسان أو هنيهة إلا وثمة أفكار تظله ، فأفكارنا ظلالنا لا تفارقنا وهي في النوم تبرز صورا ، والجبال الإيمان والعقيدة ، ولهذا وصفت هذه الجبال بأنها أكنان ، والكن ما يستر كالبيت والغار ، والإيمان بمثابة الكن يحفظنا من خواطر السوء والوسوسة ، ويسترنا ، ويحمينا في ساعة الشدة ، وهو ملجؤنا إذا هاجمنا اليأس والشك والخوف.

والسرابيل الصفات ، والإنسان في حياته معرض لضغوط لا حصر لها ، وهو نفسه مجموعة رغبات وشهوات ، ولا حافظ له من هذه الوحوش إلا سرابيله ، أي الصفات التي وهبه الله إياها ، قال عثمان رضي الله عنه لما طلب إليه التنحي عن الحكم : (لا أنزع سربالا سربلنيه الله) ، والسربال لغة القميص ، والقميص ما يلبس على الصدر أي مكان القلب ، ولهذا جاء في قصة يوسف عليه‌السلام أنه لما كان في الجب أتاه جبريل بقميص ألبسه إياه ليحميه به ، وقيل إن هذا

٤٦٥

القميص منسوج من حرير الجنة ، وقيل إن الإشارة إلى نور الإيمان والهداية والحفظ وإلى نور النبوة ... فالله حفظ الخلق بهذه السرابيل ، ولو أنه لم يحفظهم بالصفات ما استطاع أحد الصبر على أذى يصيبه ، ولا قوي على الصمود في ساعة الشدة ، ولا صد هوى ولا رغبة ، فالإنسان من دون سرابيل ربه ضعيف لا حول له ولا طول ، وهو بسرابيل ربه قوي يحقق المستحيل ، قال علي رضي الله عنه لما حمل باب حصن خيبر الذي يعجز عن حمله الرجال ذوو القوة : (والله ما حملته بقوة بدنية).

٨٣ ، ٨٥ ـ (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥))

[النحل : ٨٣ ، ٨٥]

المعرفة هنا مستورة ، إذ كل معرفة يحصلها الإنسان يحصلها بالله وعن طريقه ، ولهذا قال ابن سينا في وصف دور الروح : الروح بذاته غير متصل بأجزاء البدن ، مفيد له ، مفيض عليه ، وأول ما يظهر نوره على الدماغ لأن الدماغ منظره الخاص ، فاتخذ من مقدمه خادما ، ومن أوسطه وزيرا ، ومن آخره خزانة وخزانا وحافظا ، ومن جميع الأجزاء رجالا وركبانا ، شبيه الملك والوزراء والرعية ، لا ملك له دونهم ، وهو موجود دونهم.

ولهذا كان الإنسان العارف عارفا بالله سواء أكان مؤمنا أو ملحدا ، ولهذا قال صوفي لفيلسوف وهو يحاجه : أنت أكل الخبز لا تعرفه ، أنت لا تعرف كيف تبول ، فالإنسان حين يريد أن يبول يصدر دماغه أمرا إلى المثانة فينفتح بوابها ، فيسيل البول ، والعملية تبدأ بأمر إنساني إرادي ... ويبقى السؤال كيف نقل الدماغ الأمر إلى الأعصاب ذات العلاقة ، وكيف تلقى الدماغ الأمر من الإنسان ، وهل الإنسان هو الدماغ كما يقول الماديون ، أم أن الدماغ آلة للإنسان كما يقول الماديون الديالكتيكيون ، أم أن الدماغ آلة للروح كما قال ابن سينا؟

والآية تقول إن الكافرين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ، أي أنهم ينعمون بنعم الله وآلائه من تفكير وحركة واستمتاع بطيبات الحياة عن طريق استخدام الحواس ظاهرة وباطنة ، ثم ينكرون هذه النعم وواهبها.

٨٦ ـ (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦))

[النحل : ٨٦]

الشركاء الخواطر ، وينكشف هذا السر لصاحب الكشف إذ يرى كشفا أن خواطره ليست هو أو من صنعه ، وأنها وإن كانت تفكر له إلا أنها ليست أياه ، وعند المكاشفة يحدث انفصال بين الإنسان وخواطره فيعلم علم اليقين أن الخواطر لله.

٤٦٦

وقول المشركين : (هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) يعني أن المشركين جعلوا لله شركاء هم الخواطر ، ولهذا هجم الإمام الغزالي هجومه الكبير في كتابه «الإحياء» على القلب حيث شرح فعل الخواطر فيه ودورها ، وسمى هذا الفعل عجائب القلب مبينا أن الخواطر لله ، وأن القلب من عرش الله ، بل هو عرش الله ، وإلا فكيف يكون القلب في قبضة الرحمن يقلبه كيف يشاء؟

٨٧ ، ٨٨ ـ (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨))

[النحل : ٨٧ ، ٨٨]

السلم الاستسلام ، والاستسلام السّلام ، وقال ابن عربي : إن مقام الإحسان الذي يبلغه المؤمن هو الاستسلام ، ولما كنا بصدد الحديث عن مقام الجمع كان الناس جميعا مستسلمين كما جاء في الآية ، وإن لم يكونوا كذلك نازع الله في ربوبيته كل من قال أنا وأنا ، وكل من اعتمد فكره ، وأنكر الله ، فصار كل إنسان في الأرض إلها ، فعلى الحقيقة فالعباد عبيد مستسلمون علموا هذا أم جهلوا ، وإلا لما كان الله إلها.

٨٩ ـ (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩))

[النحل : ٨٩]

الشهيد تعين الإنسان الكامل أو الروح ، وهو تجسد دوري كنا قد تحدثنا عنه من قبل ، فظهور هذه الشموس حجة على العباد ، ليكونوا شهداء ، يبينون لهم صراط الله وطريقي النار والنور.

٩٠ ، ٩١ ـ (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١))

[النحل : ٩٠ ، ٩١]

القول موجه إلى المسلمين المؤمنين المحسنين المتقين ، أي إلى أصحاب أسماء الجمال الذين اختيروا أزلا ليكونوا من أصحاب النعيم ، وصراط هؤلاء الاتصاف بالصفات الإلهية الجمالية وعلى رأسها العدل ، لأن الكون كله قائم على هذه الصفة التي تحقق التوازن بدءا من عمل أصغر الجراثيم وانتهاء بعمل أكبر الأجرام ، فما من ذرة في هذا الوجود العظيم إلا وقد حسب حسابها في ميزان العدل الكوني ، ألم تر إلى هجرة الطيور الموسمية ، وكيف اكتشفت العلماء بعض أسرارها ، وجهلوا بعضها الآخر ، ثم ألم تر إلى الوحوش كيف ترعى صغارها وتحميها وتبلغها مأمنها حتى إذا قويت هجرتها بل وعادتها ... ألم تر إلى قطة جائعة ظفرت

٤٦٧

بقطعة لحم ، فأتت بها صغارها ووضعتها أمامها ، ثم جعلت تراقبها ، والقطيطات تأكل اللحم والأم جائعة؟

٩٢ ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢))

[النحل : ٩٢]

كثير من الناس يرتدون بعد أيمانهم كفارا ، وضرب الله مثلا لهذه الردة ، نقض الغزل أي إفساده بعد غزله ، والعملية الفكرية في حد ذاتها غزل يغزل ويفضي إلى الإيمان بالله بعد التفكير في خلق السموات والأرض وفي آيات الله وفي النفس ، هذا إذا كان في الإنسان الاستعداد الفطري الذي فطر عليه ، والمرتدون يرتدون من بعد سير هذه الطريق الفكرية إلى الكفر وذلك بفعل تقلب القلب الذي هو ضرب من المكر الإلهي ، ولهذا كان قسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا ومقلب القلوب).

٩٣ ، ٩٥ ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥))

[النحل : ٩٣ ، ٩٥]

الأصل الجمعية الأسمائية في حال الطي ، وهي المسماة اللوح المحفوظ قبل النشر ، وكان الناس في هذا الزمان الذي هو لا زمان أمة واحدة ، وكانوا كما قال جلال الدين الرومي : كنا جوهرا واحدا ولم تكن لنا رؤوس ولا أقدام ، ويكون المنطلق بعد نشر هذا الطي ، وهو فعل الانتشار الوجودي الذي يأخذ فيه كل اسم محله من الوجود ، والمحلات ، وهي الوحدات ، بطبيعتها متضادة متناقضة ، ولهذا اعترضت الملائكة حين علموا بخلق آدم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠] ، فالرد الإلهي إن في التضاد لحكمة ، ولو لا وجود الحكمة ما خلق الله التناقض المسمى في العرف الديني فسادا ، وما تزال الأبحاث الفلسفية والنفسية والطبيعية تبين يوما بعد يوم الحكمة من التناقض والنقائض ، ولعل سيد من أبان هذه الحكمة من الفلاسفة هيغل الذي أثبت وأكد أن لو لا التناقض ما كانت الحياة ، ولئن كانت لما استمرت ، ولئن استمرت ما تطورت إلى ما هي عليه اليوم ، وإن في أحوال الإنسان لعبرة فلو لا الجوع ما كان الشبع ، ولا التذ جائع بالطعام ، ولو لا الإحساس بالإلم ما عرف المريض أنه مريض ، ولا قصد الأطباء ، وتعاطى الدواء ليبرأ مما به ،

٤٦٨

ولو لا الكد والتعب ما ذاق المتعب طعم الراحة ولا تفيأ ظلالها ، ولو لا السعي إلى طلب العلا ، والعلا مطلب صعب ، ما وجد من نشد العلا الفرح والسعادة لدى تحقيقها ، فالشيء بنقيضه يوجد ولو لاه ما وجد ، ولهذا قال الإمام الغزالي : لو لا خلق البهائم ما عرف شرف الإنس ، ولو لا شح الأنفس ما خلد التاريخ كرم حاتم طيء ، فالله أضل وهدى ليدير عجلة الحياة ، ويفجر ينابيع الوجود.

٩٦ ـ (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦))

[النحل : ٩٦]

نفاد ما لدى الإنسان حقيقة سببها أن ما لديه محدود لأنه داخل في نطاق الكم ، وما يدخل في نطاق الكم ينفد ما لم يجدد ، أما الله سبحانه فهو خارج الكم وخارج الكيف ، والكم والكيف من خلقه ... ولهذا قلنا : إن صفاته مشعة عنه وصادرة مع أنها ليست هو لأنه سبحانه غني حتى عن صفاته وهذا ما أكده أفلوطين ، فلئن وجدت حقيقة في هذا العالم ، أي حقيقة ، فلقد وجدت بالله ، ولو لا الله ما وجدت ، ولو لا الله ما كان للعدل أن يكون عدلا ، ولا كان له مدلوله المعروف ، ولربما كان الظلم الشعار السائد والمسلم به والمعترف به كما يقال مثلا شريعة الغاب ، والحق للأقوى ، وما فاز باللذة إلا الجسور ، والكذب ملح الرجال ، فكل البدهيات المقبولة والمسلم بها على أنها بدهيات هي لله ، ولو لاه سبحانه لتبدلت القيم الخالدة ، ولما كانت خالدة ، ولطغى الظلم والشر والقسوة ، ولرفعت هذه الشعارات فصارت بدورها بدهيات ، علما أننا نلاحظ أن شعارات الحق والعدل والخير والجمال كانت وما زالت هي المقبولة ، يرفعها وينادي بها ويستغلها الظالمون والكفار والمنافقون.

٩٧ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧))

[النحل : ٩٧]

جنس الجزاء من جنس العمل ، ويكفي أن يشرع الإنسان في فعل الخير حتى يبدأ في جني قطافه ، وهو شرح الصدر وسرور لا يوصف بالكلمات ، وهذه الحال هي ما أشار إليها سبحانه قائلا : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ،) وعلى العكس فإن فعل الشر يورث ضيقا في الصدر وقبضا ، وهذا حال يعيشه المنافقون والظالمون.

٩٨ ـ (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨))

[النحل : ٩٨]

الشيطنة هنا خواطر السوء والوسوسة ، وفعلها عند قراءة القرآن لفت الانتباه عما جاء في القرآن ، والملاحظ أن هذا الخاطر ينشط خلال ما يكون المصلي في صلاته أو في دعائه أو

٤٦٩

لدى قراءة القرآن.

٩٩ ـ (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩))

[النحل : ٩٩]

الناس فريقان فريق للشيطان عليهم سلطان فلا مفر لهم منه ، وفريق ليس له عليهم سلطان وهؤلاء يجد الشيطان في طلبهم فلا يستطيع أخذهم ، والحفظ من الشيطان لله ، فلا حافظ سواه ، ولو لا الله ما كان للإنسان أن ينجو من الوسوسة وخواطر السوء ، والملاحظ في المحاورات والمماراة أن كل فريق يتمسك برأيه حتى ولو كان هذا على حساب المنطق ، فمن كان الشيطان وليه كان منطقه من منطق وليه فلا حوار معه ، فإذا كان الفكر ما يميز الإنسان عن الحيوان فالفكر بدوره مطية للشيطان إذا ركبه ساقه سوق البعير إلا من عصم الله ورحم ، فهؤلاء هم الناجون.

١٠٠ ـ (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠))

[النحل : ١٠٠]

الإشارة إلى الصلة بين الصفة والموصوف والعلة والمعلول ، وفي هذه الصلة الرجوع إلى طبيعة الاستعداد ، فالتولي مثل عملية التبادل التي كنا تحدثنا عنها بين علية العلة ومعلولية المعلول ، والملاحظ أن البخيل مرتاح إلى بخله ، وهو لا يرتاح إذا خرج عن بخله ، فهنا يكون التولي صلة متبادلة بين الوسوسة والقلب الموسوس فيه ، فطبيعة المحل تقتضي توافقا بينها وبين ما يحل في المحل وإلا لما كان ثم قبول لخاطر السوء ، وثمة نتيجة مترتبة على هذا التلاؤم والتوافق ، فمن كان وليه الشيطان غفل عن حضور الشيطان فيه ، وغفل بالتالي عن أن الوسوسة هي وسوسة وظنها تفكيرا وأنها تفكيره ، فأنكر بالتالي خاطر السوء ووجود الشيطان ، وهذه ملاحظة عند الملحدين الذين ينكرون وجود الشيطان علما أنهم هم أول ضحاياه.

١٠١ ـ (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١))

[النحل : ١٠١]

تحدثت الآية عن قضية الناسخ والمنسوخ في القرآن ، وهي قضية كثر النقاش فيها والجدل ، وتساءل المرجفون : كيف يقول الله قولا ، ثم يعود فينفيه أو ينسخه؟ والحقيقة ذات علاقة بالعلم الإلهي المقيد بالزمان والمكان ، وكنا قد ناقشنا موضوع هذا الضرب من العلم الذي هو علم متطور بتطور الأحداث وشعاره في القرآن حتى نعلم ، وليعلم ، وعلم الله ، وقلنا : إن السهروردي هو أفضل من ناقش موضوع علم الله المقيد هذا والذي لا يقدح في ذات الله ، ومجمل القضية أن الله يطرح شعارا ، ثم يرى نتائج انفعال الناس له ، والناس أجناس ، وهم ممثلو الأسماء الجزئية التي منها المتقابل والمتجانس والمتناقض ، فهذا

٤٧٠

التداخل بين الأجزاء هو الذي يؤدي بالتالي إلى نتيجة قد تجعل الحق سبحانه يعيد النظر في ما قال ، فيعد له ، أو ينسخه ، ويستبدل به قولا آخر يوافق المقتضيات ، مثل هذا ما حدث للنبي في معراجه حين أمره الحق بأن يصلي المسلمون خمسين صلاة كل يوم ، فلما رجع صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى موسى وسئله وعلم موسى بالأمر قال له : (إرجع إلى ربك وقل له : إن الناس لا يطيقون) ، وظل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتردد بين الله وموسى حتى خفض سبحانه الصلوات من خمسين إلى خمس فقط ، والقصة تبين أن لله علما كليا بالطبيعة البشرية ، وله علم تفصيلي متطور قابل للمناقشة والمراجعة وإعادة النظر في ما صدر من أمر.

١٠٢ ـ (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢))

[النحل : ١٠٢]

روح القدس الروح الجامع للأرواح الجزئية فهو أبوها ، والأب والد ومولود والأمر ذو صلة بالعلم المقيد الذي تحدثنا عنه ، فما دام الروح هو المرافق للإنسان ، وهو معه بالمعية ، فهو يطرح شيئا ، ويرى مدى الاستجابة وإمكان التحقيق ، ثم يعيد الطرح مرة ثانية وثالثة ... وعن هذا الوضع قال الإمام النفري على لسان الحق : (كيف تيأس مني وفي قلبك متحدثي وسفيري؟) ولهذا ما عرفت الأنبياء والأولياء اليأس ، لأنه لا يأس مع وجود ذلك الروح الجامع الذي يرزق الدودة التي تكون في باطن الصخرة ، فينبت لها نبتة إلى جانبها لتقتات منها وتحيا.

١٠٣ ـ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣))

[النحل : ١٠٣]

طال الحديث منذ زمن النبي وحتى عصرنا الحاضر عن إلهام النبي ووحيه ومعلمه وتعليمه ... فمن لم يؤمن بالنبي كنبي قالوا إنه عبقري ، وما جاء به النبي كان إعجازا في كل شيء ، دنيا وآخرة ، شريعة ونظاما تربويا ونفسيا واجتماعيا وسياسيا ، فهذا النظام ظلت أعناق غير المؤمنين بالنبي كنبي له خاضعين.

والآية تتحدث عن لسان النبي العربي غير الأعجمي ، فمن حيث اللغة كان القرآن سيد اللغة العربية وحاميها على مر الزمان ، وكان مرجع العلماء والأساتذة طوال هذه القرون ، فلو لا القرآن ما عاشت العربية حتى عصرنا هذا ، والدليل اللغات التي كانت معها واندثرت كالآرامية والسريانية. فالقرآن والحديث دليلا اللغة ، ومن يأت بمثل من القرآن والسنة ، ومن يدرسهما ، فقد تعلم العربية وأتقنها.

وثمة إشارة تنفذ عبر كون القرآن لسانا عربيا إلى كونه من عطاءات جوهر الوجود الكلي

٤٧١

الثابت والأزلي ، وهو ما عبر عنه بالعربية التي تعد لغة عالمية تدخل في فلك الثابت والكلي ، فعطاءات القرآن تعالج الأصول قبل الفروع ، وترفع القواعد من بيت الإنسان من قبل أن تجعله يسكن هذا البيت ، فما يقوله الحق في القرآن لا يقبل المناقشة ، ولا يخضع لتبدل جذري لأن خالق الإنسان هو الذي يعلم الإنسان كيف يحيا ويتلاءم مع مشكلات الحياة ، وهذا أمر أكده الإمام متولي شعراوي رحمه‌الله في أحاديثه دائما حيث كان يقول : إن الإسلام دين الفطرة والحياة والفهم الواقعي لمتطلبات الإنسان واحتياجاته ، وعليه فلا يجب على المؤمن أن يخالف ما جاء به الدين من تعاليم ووصايا لأن الله أدرى بالإنسان منه ، وما يعرفه عنه لا يعرفه الإنسان عن نفسه ، فالله خالق والإنسان مخلوق ، وهو كلي والإنسان جزئي ، وهو كان ولم يزل إلها يعبد ، بينما الإنسان مخلوق ضعيف جاهل جاء إلى هذه الحياة ليتعلم ، فتعلم على أبويه ثم على معلميه ، ثم من مدرسة الحياة ... وما تعلمه الإنسان اليوم لم يكن بالأمس يعلمه ، وما يعلمه غدا قد ينقض علمه الذي علمه اليوم ، وهذا حال الإنسان منذ كان ، في حين الله عليم علام حكيم يعلمنا ما لم نعلم ، ولقد علمنا مذ كنا جاهلين.

١٠٤ ، ١٠٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥))

[النحل : ١٠٤ ، ١٠٥]

في الآيتين لفتة جميلة إلى صلة تعينات الأسماء بمن له الأسماء ، فبحكم وجود حجب الأسماء تبقي أسماء البلاء أصحابها في الظلام ، فكيف يؤمن بوجود الله من لم يؤمن بأن ما نزل على النبي هو وحي من عند الله؟ وكيف يؤمن بأن النبي نبي أصلا لا عبقري من العباقرة؟ فالنتيجة طبيعية بحكم التفريق المسبق بين أسماء الآلاء وأسماء البلاء.

١٠٦ ـ (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦))

[النحل : ١٠٦]

انشراح الصدر بالكفر نتيجة للتوافق بين الصفة والموصوف ، ومن هذا المنظور قال ابن عربي : إن عذاب أهل النار عذوبة ، وقال : سمي عذابا لأنه يعذب في حال ما عند قوم لمزاج يطلبه.

فالتناقض الموجود في القلب هو من طبيعة المؤمنين ، وقد يكون للمنافقين نصيب من هذا التناقض كأن يكون بعضهم مذبذبين بين الإيمان والكفر وهؤلاء قال سبحانه فيهم في موضع آخر : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) [الأحزاب : ٢٤] ، فمن كان ذا طبيعة تناقضية ، وعانى من انشطار ذاته ، وعاش بين النار والنور فهو من أصحاب اليمين ومصيره إلى الجنة لأنه

٤٧٢

بالتناقض وحده ميز بين النار والنور وصار النوراني الطبع إلى النور ... ولهذا فرض سبحانه على الناس جميعا أن يردوا النار ، إذ النار هنا للتطهير ، إن كان القلب من أصحاب اليمين.

١٠٧ ، ١٠٨ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨))

[النحل : ١٠٧ ، ١٠٨]

الطبع قبل التطبع ، ويقال : الطبع تحت الروح ، وكتابنا «الإنسان الكبير» يدرس طبيعة الإنسان الفطرية والتي على أساسها تبنى حياة الإنسان ، ومن لم يكن له نور من ربه يمشي به في الناس لا يستطيع أن يفهم طبائع الناس ، والفلاسفة والأدباء والكبار والشعراء العظام أشد الناس حاجة إلى هذا النور الكشفي الذي يريهم الناس رؤية تمكنهم من كتابة أعمالهم الخالدة التي اشتهروا بها.

والأساس الطبع لا العكس ، لذلك فمن فهم أن الله جازى الناس على أعمالهم يكون قد قلب الآية ، وجعل الله قاضيا بين الناس ، وهذا مستحيل في حقه تعالى لأنه هو خالق الناس.

فالطبع على القلب والسمع والأبصار حدث قبل أن يخير الإنسان ، والخيار بخاصة يكون لمن كان من أصحاب اليمين ، وأهبط مثل آدم إلى أرض النفس الترابية ليمتحن ، ويميز الخبيث من الطيب تماما مثلما يفعل بالمعادن الثمينة حين تكون مختلطة بغيرها من المعادن ، أما المعادن الرخيصة فلقد وجدت لقضاء الحاجة وليقدّم الذهب والفضة ويحتلا مكانتهما المخصصة أزلا.

١٠٩ ، ١١٠ ـ (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠))

[النحل : ١٠٩ ، ١١٠]

آخرة الكافرين الخسران ، ولا خلود إلا للأعيان الثابتة أو لمن اتصف بصفات الجمال ، فأفضت به إلى عين الجمع ، حيث يصير الإنسان الكامل ، ويدخل في الخالدين ، فشعار البقاء للأصلح هو الصحيح لاشعار البقاء للأقوى ، والقوة الحقيقية هي المستمدة من قوى الأعيان الثابتة المشعة عن الحق ، فمن وصل مقام الجمع التحق بالملأ الأعلى وفني في البحر الكلي ، بحر الأنوار ، أما الكافرون فهم محجوبون أصلا ، ومحجوبون فعلا ، والهجرة هجرة الاسم العليم الذي أهبط من لدن الروح لطلب العلم ، ولما كان العلم يقتضي الجهاد لتفتيق المعقولات كما سبق أن بينا هذا في كتابنا «الإنسان الكبير» فالنتيجة أن طالب العلم مجاهد

٤٧٣

بالضرورة ، وهو يجاهد نفسه الحيوانية أولا ، ويجاهد العالم ثانيا لأن في العالم تعينات الأسماء المزدوجة والمتقابلة.

والفتنة هبوط الاسم العليم نفسه من لدن الحضرة العلمية ، فمثله كمثل فرخ في عشه دفعته أمه دفعا ليتعلم الطيران ، فلو لا الشر ما كان الجهاد ، ولو لا الجهاد ما كان العلم ، ولو لا العلم ما استوى الاسم العليم على عرش العلم ، فالهبوط والعروج دورة علمية لكي يعرف الإنسان ربه ، ويعبده من ثم حق عبادته ، ويفهم معنى لا إله إلا الله.

١١١ ـ (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١))

[النحل : ١١١]

في قوله سبحانه : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) رقيقة ، ذلك لأن النفس نفسان حزئية وكلية ترابية وروحية ... وتقع المجادلة حين تجادل النفس الروحية عن النفس الترابية قائلة : إنها ما فعلت إلا ما ألهمته من فجور وتقوى ، وعن ابن عباس : ألهم المؤمن التقي تقواه ، وألهم الفاجر فجوره ، ثم تلا قوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨)) [الشمس : ٧ ، ٨] ، فالفجور والتقوى من التضاد ، والتضاد للتعليم ، والنتيجة شمول الرحمة ، وهو أمر أشارت إليه الآية السابقة قائلة : (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

وقوله : (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) يعني عودة الفرع إلى الأصل فلا نزاع هناك ، فإن كانت النفس ميسرة لليسرى فاليسر طريقها ، وإن كانت ميسرة للعسرى فالعسر طريقها ولا نزاع والمنازعة وقعت للتفريق بين طبيعة الأسماء نفسها لتمييز المعدن الثمين وإخراجه وفرزه عن المعادن الرخصية ، والعملية كما أسلفنا القول يقتضيها العلم والتعليم.

١١٢ ـ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢))

[النحل : ١١٢]

القرية كما أسلفنا البدن ، وهي هنا بخاصة مركز البدن ، وجوهره أي الفكر ، والرزق ما يحصله الفكر عن طريق الحواس من انطباعات حسية تنتهي إلى التجريد العقلي ، فلما أتم الفكر هذه الدورة التعليمة أنكر مصادر المعقولات أو الأفكار القبلية ، وقال : إن ما حصله هو من عمله وحده وبجهده ولا وجود لمعقولات خارج الفكر وسابقة على الفكر ، وليس ثم إلا محسوسات وإنسان يواجه هذه المحسوسات ويفكر ، فما بقي إلا الطبيعة والإنسان ، وهذا هو الكفر لأن الكفر ستر.

٤٧٤

وقوله : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) يعني ما يعانيه الفكر المستقبل الملحد حين ينفي قواعد البيت فيقع في مطب هوائي ليس له بداية إلا العدم ولا نهاية إلا العدم ، فالإنسان وجود مؤقت بين عدمين كما صرح بهذا الفيلسوف الوجودي سارتر ، وسبب الخوف المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان حين يرى نفسه الأسّ والأساس والمنبع والمصب ، وهذا ما بينته وسلطت الأضواء عليه الوجودية الملحدة التي جعلت الإنسان وحيدا في هذه الدنيا يعاني العبث واللاجدوى والخوف من العدم والعيش مع الآخرين أمثاله الذين قال فيهم سارتر : الجحيم هي الآخرون.

١١٣ ـ (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣))

[النحل : ١١٣]

وجود الخواطر في القلب مثل وجود الجيوش في ميدان المعركة ، وكل خاطر يحاول السيطرة على القلب عن طريق الإقناع ، ولهذا يحيا الإنسان الحوار الذاتي قائما وقاعدا وعلى جنبه ، والآية ذكرت الرسول ، والرسول هنا إشارة إلى الضمير الذي يحاول في كل حوار أن يقنع القلب بمنطقة ، وتصف الآية حال الكافر الذي إن سمع صوت الضمير أعرض عنه ، فتكون النتيجة الاستجابة لخاطر النفس والوسوسة وكلاهما مصدر عذاب للكافر ولا يعلم.

١١٤ ـ (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤))

[النحل : ١١٤]

تتم الآية ما بدأته الآية السابقة وهو كون الضمير حلالا طيبا ، وهذه حقيقة نفسية ذاتية معاشة ، إذ صاحب الضمير مرتاح ، وضميره يهديه سواء السبيل في ظلمات هذه الحياة أو يجد حلول المشكلات والقضايا لما فيه خير الإنسان ، والضمير نعمة من الله إن آمن الإنسان به ، وإلا فوجوده وعدمه سيان إن لم يؤمن الإنسان به ، ولهذا تجد الكافرين يستهزئون بالضمير قائلين : إنه من صنع المجتمع ، وإن الأبوين والأقارب والمدرسة والمجتمع هم الذين يكونونه.

١١٥ ـ (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥))

[النحل : ١١٥]

كنا قد أولنا الميتة والدم ولحم الخنزير ، وفي الآية إضافة وهي حال الاضطرار ، فلا حرج على مضطر ، ولقد أسقط عمر رضي الله عنه الحد في عام المجاعة.

٤٧٥

١١٦ ، ١١٧ ـ (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧))

[النحل : ١١٦ ، ١١٧]

الحلال بيّن والحرام بيّن ، وهما من المقولات الكلية الإلهية التي يجب على الإنسان قبولها دون مناقشة ، فالناس أجناس ، والمصلحة الشخصية تجعل من صاحبها عبدا لها ، ولهذا أنزل الله هذه الكليات التي هي بمثابة القواعد للبيت الإنساني ، والتي من دونها ما قام البيت أصلا ، ولئن أقيم لخر السقف من ثم على من فيه من فوقهم ، فلئن حرم الله الربا فلأن الربا سرقة ومرض خطير يؤدي بالمجتمع إلى الفتنة والفساد.

وتحذر الآية من أن ينصب الإنسان نفسه قاضيا مشرعا للحلال والحرام ، فالإنسان جاهل لا يعلم ما الأصلح له ، وكم من مجتمعات وأفراد رفعوا شعارات تبين مع مرور الزمن عدم صلاحها لا بل وخطلها ، وهذا ما يؤكده التاريخ ، فالكليات القبلية ظلت رواسي شامخات مع مرور السنين ، وليس ثمة من يناقش مقولة قبلية كلية مسلما بها مثل كون الكرم خيرا وكذلك الشجاعة والتضحية والوطنية والحلم والصبر ، وكم من فلسفات رفعت شعارات وضعية مثل فلسفة القوة التي نادى بها نيتشه وتبنتها النازية ، والعنصرية التي كانت ولم تزل مرضا عضالا يميز بين الأبيض والأسود ، والأحمر والأصفر ، ويجعل من البيض مثلا آلهة حكاما مستثمرين ومن السود عبيدا مسخرين مظلومين لا حقوق لهم ولا مكانة ولا احتراما ، يقول بلزاك : عليك أن تطيع القانون العام في كل شيء دون أن تناقشه سواء أساء إلى مصلحتك أو أفادها.

١١٨ ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨))

[النحل : ١١٨]

في الآية إشارة إلى أهل الظاهر الذين يتمسكون بالقشور وينسون اللب ، والتحريم المذكور حرمان من النور الإلهي الذي يشق القشر وصولا إلى اللب ، وترى اليهود في كل زمان ومكان يوصفون بهذه الصفة حتى أنهم ما عرفوا من الرسالة التي جاء بها موسى سوى الطمع في أرض كنعان واحتقار الأمم وتسخيرهم من أجل تحقيق مصالحهم الدنيوية إلا من هدى الله منهم وقليل ما هم ، ويقول بلزاك أيضا : إن تفسير المجتمع بنظرية السعادة الضرورية المأخوذة بمهارة على حساب الجميع هو مذهب مشؤوم ، حيث تحمل الاستنتاجات القاسية الإنسان على الظن أن كل ما تفعله سرا دون أن يشعر القانون والناس بالضرر هو حسن أو مكتسب بالشكل المطلوب.

١١٩ ـ (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩))

[النحل : ١١٩]

٤٧٦

ثمة دين تقليدي يتوارثه الأبناء عن الآباء فالأجداد ، ودين تحقيقي هو ما وصفه سبحانه بقوله : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤] ، أي أن دين التحقيق هو التحقيق ، أي نفوذ النور الإلهي إلى القلب حتى يصبح مؤمنا ، والآية موجهة إلى أصحاب الدين التقليدي الذين قد يفعلون السوء بجهالة ، وذلك بسبب دينهم التقليدي نفسه ، وسميت هذه الظاهرة في التاريخ التعصب الديني ، والمتعصب قد يظن أنه يفعل الصحيح والمطلوب في حين يكون حاله كالأعراب الذين أسلموا ، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم ، والمهم القول إن ثمة فريقا من الناس يفعلون السوء عن نية غير سيئة ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، فهؤلاء ينقذهم الله بأن ينقلهم من دين التقليد إلى دين التحقيق.

١٢٠ ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠))

[النحل : ١٢٠]

كل نبي مذكور في القرآن هو بمثابة مقام من المقامات التي يمكن أن يبلغها الإنسان بالجهد والجهاد ، إذا كان من الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، وإبراهيم صاحب مقام ، ولهذا فمن الممكن أن يبلغ المسلم المؤمن المحسن مقام إبراهيم ، ولهذا جعل الله مقام إبراهيم بجوار الكعبة ، وله لطيفة ... ففي الآية أن إبراهيم كان أمة ، والأمة الجمع ، وهي كلفظ وكلمة مفرد كأن تقول جيش واحد وعلم واحد وأمة واحدة ، فمقام إبراهيم يشير إلى إمكان بلوغ مقام الجمع حيث تبلغ سعة القلب درجة تمكنه من احتواء جمعية الأسماء كما تحقق ذلك لآدم من قبل ، ويقال لمن بلغ هذا المقام إنسان النوع أو الشخص النوعي ، أي الإنسان الذي يمثل النوع العام كما يكون العلم شعار الأمة ورمزها ، فإبراهيم لما بلغ مقام الجمع صار أمة ، أي جمع الأسماء كلها عنده فصار ممثلا للأسماء كلها لعلمه بحقيقتها كما فعل آدم.

ولما بلغ إبراهيم هذا المقام صار قانتا لله أي مطيعا ، كما صار حنيفا أي مائلا إلى الدين القيم ، والإشارة إلى صفة الإنسان الكامل الذي علم اليقين كما علمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القائل : (تعلموا اليقين فإني أتعلمه) ... وتعلمه يكون بأن يرى الإنسان الأمة الوجود وحدة صادرة عن واحد ، لا تضاد فيه ولا تناقض ، ويضرب لهذا مثلا القول إن الحمل قد نام في حضن الذئب ، والإشارة إلى نفي التضاد والصراع والتناقض ، ولهذا كنا فسرنا من قبل كيف صارت النار بردا وسلاما على إبراهيم ، ولهذا وصف سبحانه أولياءه المتقين الذين أتاهم اليقين قائلا : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) [يونس : ٦٢] ، فمن بلغ مقام إبراهيم ، أي مقام الجمع ، علا فوق أفق الخير والشر ، وصار الخير والشر له منظارا به يرى العالم المقسم بين خير وشر.

٤٧٧

١٢١ ، ١٢٢ ـ (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢))

[النحل : ١٢١ ، ١٢٢]

الإجتباء إلهي فوقي لا إنساني تحتي ، ولهذا ألحت الأحاديث النبوية على أن المشيئة والإرادة لله لا للإنسان ، وأن الإنسان يشاء ويريد ضمن الدائرة الإلهية ، قال سبحانه في موضع آخر : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩].

والإجتباء خاصة إلهي محض ، وإلا فكيف ولد النبي نبيا وهو خارج من بطن أمه لم يعرف بعد خيرا ولا شرا؟ وكيف احتل مكانته الأزلية في عالم الذر من قبل أن يخلق الله عالم الكثافة؟ ولهذا قال سبحانه : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [الأنعام : ١٦٥] ، ووعت الصوفية هذه الحقيقة كشفا وذوقا فهابوا ، وقال أحدهم : الناس يخافون الخاتمة وأنا أخاف الفاتحة ... فالفاتحة هي التي أشارت أصلا إلى المرضي عنهم والمغضوب عليهم ... ولهذا لا تخاف الصوفية شيئا مثل خوفهم من داء العجب وهو قولك أنا وأنا ، لهذا لا ترى الصوفية أحدا من الخلق يرسلون غضبهم عليه لعلمهم بسر القضاء في البشر.

فلو لا أن الله اجتبى إبراهيم عليه‌السلام لما بدأ إبراهيم رحلته من بلاد ما بين النهرين إلى فلسطين فالحجاز ولما تساءل أين الله ولا أعرض عن الأصنام التي عبدها قومه ومنهم أبوه نفسه ، فبهدى من الله يبدأ الإنسان هجرته إلى الله ، وبفضل منه سبحانه احتل النبي مكانته وكذلك الأولياء العارفون.

١٢٣ ، ١٢٨ ـ (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))

[النحل : ١٢٣ ، ١٢٨]

ملة إبراهيم ملة التوحيد ، وهي ملة قديمة قدم آدم ، وهذه الملة هي الإسلام الذي هو التسليم بالله الواحد الأحد الفرد الصمد ، ونفي الثنوية والتعددية والطبائعية والأسباب الطبيعية ، وفي الفلسفة ثمة موحدون في جميع الأزمان ، وهؤلاء من أشار إليهم سبحانه بقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ) [غافر : ٧٨] ، وكشف الدراسات النقدية عن أن عهد الوثنية اليونانية حافل بأعلام موحدين منهم من عرفنا ، ومنهم من لم تصلنا أخبارهم.

٤٧٨

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبع ملة إبراهيم عليه‌السلام ، وما كان له إلا أن يتبع ملة إبراهيم ، لأنه لا ملة حقيقية إلا ملة إبراهيم الذي وصفه سبحانه بأنه كان حنيفا قانتا لله ، ولهذا قال سبحانه : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] ، فكل من اجتباه ربه فهداه إلى الدين القيم كان مسلما حنيفا حتى وإن ظهر في زمن الموسويين والنصارى وحتى الوثنيين ، فعلى مر الزمان اجتبى الله من الناس أناسا يوحدونه وعلمهم علم التوحيد العظيم ، حاشاه سبحانه أن يكون ثم زمن ليس فيه موحدون لا يعرفونه حق معرفته ، ولا يتقونه حق تقاته ، ولا يموتون إلا وهم مسلمون.

وبسبب وجود هذه الحقيقة وردت سورة النحل في كتاب الله وسميت سورة النحل حيث قال سبحانه : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)) فهذا الشراب هو الشرب من العيون الإلهية المتفجرة من الذات والتي سميت الكافور والزنجبيل والسلسبيل ، وسميت علومها أنهار العسل واللبن والخمر ، وهذا العلم هو الشراب الشافي لأن الإنسان ما لم يعرف ربه حق المعرفة لن تكتب له النجاة من نار التضاد والأضداد ، وسيعاني من حيرته وضياعه وجهله أسرار هذا الوجود ما عاش ، فإذا كان من أصحاب اليمين وأصحاب الأعراف واجتبي هدي إلى الصراط المستقيم ، فنجا من نار نمرود العالم الظاهري ، وعرف المدخل والمخرج ، فآمن وقرت عينه ، واطمأن قلبه كما اطمأن قلب إبراهيم ، وشفي كما شفي لما قال : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (٨٠) [الشّعراء : ٨٠] فعليك بشراب النحل أيها الإنسان ، فما غيره شراب شاف من هجوم الدنيا وتناقضات الأحداث وتقلبات الأيام ، ولتبدأ حياة جديدة قائمة على الإيمان بالعدل الإلهي الظاهر في هذه المظاهر ، فتحت جهنم الأضداد هناك نهر الكوثر حيث الراحة والجنة والسّلام.

٤٧٩

سورة الإسراء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١))

[الإسراء : ١]

السرى السير ليلا ، أي السير في عالم المادة ، لأن الظلام هنا ظلمة الكثافة وعالم الإمكان ، ولهذا جاء في الآية أن النبي قد أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أي من مكان إلى مكان ، ولما كانت الأرض كلها مسجدا طهورا فلقد رمز إلى هذا بالسير بين مسجدين ، وفي كلمة مسجد معنى هو السجود ، فكل ما على الأرض ساجد لله علم هذا أم جهل.

وقوله سبحانه : (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) يعني حدود عالم الإمكان الذي وصف حده الأبعد بالأقصى أي البعيد ، ويمكن أن يكون هذا الأقصى هو ما سمي الربوة التي أوى إليها عيسى وأمه كما جاء في القصة ، والربوة مكان أقرب ما يكون إلى السماء.

وقوله سبحانه : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ،) يشير إلى أن قوى عالم الإمكان هي قوى إلهية ، فما من سامع في هذا العالم ولا من مبصر إلا وهو سامع ومبصر بقوة إلهية ، ولو لا هذه القوى ووجودها في عالم الإمكان ومن فيه من مخلوقات ما كان عالما صالحا للحياة ، ولا استطاع من فيه أن يحيا وفي الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أسري به ، وعرج به أتي بالبراق وهو دابة فوق الحمار ودون البغل ، والإشارة إلى النفس الحيوانية التي هي مطية الإنسان ، وتسمية هذه الدابة البراق ، يعني أن النفس الحيوانية نفس لطيفة صادرة عن النفس الكلية ، وقد أشير إليها بأنها الحيوان في القرآن ، وقلنا في كتابنا الإنسان الكامل : إن البراق برق ، والبرق كهرباء ، والكهرباء طاقة ، والمعنى أن النفس الحيوانية أسّ الحياة ، وأنها طاقة تتحول إلى موجات مادية ، ولقد ثبت في العلوم الحديثة إمكان تحويل الطاقة إلى مادة ، وتحويل المادة إلى طاقة ، وأكد علماء أن الموجات الكهربائية التي تشكل بنية المادة يمكن أن تكون موجات احتمالية من غير وجود مادي لها على الإطلاق ، وقال علماء مثل أدينغتون وجينز : إن الطبيعة النهائية للكون هي طبيعة عقلية ، أي روحية.

إذن لقد كان العالم المادي هو الحامل للروح المحمدي باعتباره ذا حيز وجهات ، كما أن

٤٨٠