التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

٣٣ ، ٣٥ ـ (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥))

[مريم : ٣٣ ، ٣٥]

قلنا : ممثل الاسم الحي مثل يحيى ، وهو ممثل الروح الكلي أيضا المسمى في علوم الصوفية الإنسان الكامل ، والذي وصفه ابن عربي بأنه الروح المدبر للكون ، فالحديث إذن عن الروح ، والروح سر من أسرار الله ، وهو فيض عن الله وإشعاع ، وهو وسيط بين الله والعالم ، وهو المفوض بالخلق والأمر نيابة عن الحق وواسطة ، وكنا بينا كيف رفض ابن عربي أن يكون في الوجود إلا الله وأنه هو الوجود الحق ، وأن الكثرة وهم ، وهي قائمة بالحق ، فالحق لم يلد لأنه لا يوجد من يلده ، وكيف يلد الوجود الحق وجودا آخر؟ ولهذا سمت الصوفية الوجود العياني الوجود النسبي والإضافي ، أي أن له بالوجود الحق تعلقا واستنادا ، قال جلال الدين الرومي متسائلا : إنه ليس موجودا أي الإنسان ، وإنه موجود ، فكيف يكون هذا؟ إن هذا الأمر خارج عن تخيل العقل.

٣٦ ـ (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦))

[مريم : ٣٦]

في قوله : (رَبِّي وَرَبُّكُمْ ،) الإشارة إلى الربوبية التي هي أساس وأرض كل حي ، فالربوبية تقتضي المربوبية ، ولهذا وجد المربوبون نتيجة لوجود الربوبية ، ولو لا الربوبية ما كان ليوجد المربوبون ، وهذا الجمع للكثرة ، هو الذي أشير إليه في الآية بأنه : (رَبِّي وَرَبُّكُمْ ،) فلا رب في الوجود سوى الرب الواحد ، وبين الرب والمربوب علاقة سميت في الكتاب الصراط المستقيم ، والصراط الطريق ، فالعلاقة هي الطريق أو الحبل الذي إليه أشار سبحانه بقوله في موضع آخر : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود : ٥٦]. فالصراط تعلق المربوب بالرب ، وتعلق الدواب بخالق الدواب ، وإلى الدواب أشير في موضع آخر بقوله سبحانه : (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ) [النّمل : ٨٢] ، فهذه الدابة جامعة ، وصاحب الدابة الروح ، وصاحب الروح الحق.

٣٧ ـ (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧))

[مريم : ٣٧]

اختلاف الأحزاب اختلاف الاعتقاد في المسيح ، فهل هو الله ، أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة؟ ويقول ابن عربي في تفسيره : إنه لا موسى موجودا ولا عيسى ولا محمد ، ويقصد ابن عربي الوجود الحق الذي تحدثنا عنه آنفا ، فالوجود كله بيضة ، الحق صفارها ، والروح بياضها ، والعالم العياني قشرتها ، فكيف يكون المسيح الله وهو صوته ولسانه ، وكيف يكون ابن الله وما

٥٦١

خرج عن الله إلا هو ، وما ثمة خروج ولا دخول ، وما ثمة إلا كما قال سبحانه في سورة الإخلاص : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤) ،) وكيف يكون المسيح ثالث ثلاثة ، والأعداد منبثقة من الواحد ، وقائمة بالواحد قيام البناء على أسسه ، ولا بناء من غير أساس ... وكيف تكون البيضة بيضة إن نزع منها صفارها وبياضها ، ولم يبق إلا قشرتها إن قيل إن القشرة ثالث ثلاثة ، وما البيضة إن نظر إلى قشرتها فقط؟

٣٨ ـ (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨))

[مريم : ٣٨]

المشهد كشفي خاص بالأنبياء والأولياء العارفين ، وأشير إليه باليوم ، واليوم هنا هو اليوم الوجودي الإلهي الأزلي الخارج عن نطاق الزمان والمكان ، فهذا الوجود الحق هو السميع البصير ، والسامعون والمبصرون من الموجودات هم مثل النظارات للوجه الحق ، فهم له أدوات ، ولهذا وصفوا بصيغة المبالغة أي ما أسمعهم وما أبصرهم في يوم الجمع ، أي في اليوم الوجودي الحي الذي يكون الناس فيه ناظرين وسامعين بالحق وللحق.

٣٩ ـ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩))

[مريم : ٣٩]

في الحقيقة الأمر مقضي علم الناس هذا أم جهلوا ، وكيف لا يكون الأمر مقضيا وهو سبحانه لم يخرج منه سواه ، وما خرج منه دائم الخروج ، وهو خروج علمي لإظهار نفسه ، فظهوره به له ...

٤٠ ـ (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)) [مريم : ٤٠]

الوراثة نتيجة كون الله حقيقة كل شيء حتما ، فالله الوارث ، ولا تكون الوراثة يوم يقضي الأمر في ميقات معلوم فهذا غير جائز في حقه تعالى ، إذ مادام الوجود بيضة نورانية كما سبق القول فالنتيجة أنه هو البيضة والبيضة هو ، فهو البائع والشاري ، سبحانه يطرح إمكاناته من الصفات والتعريفات والخصائص ، فيبذرها في أرض الإمكان ، فينفلق حب المعقول ، وينمو النبات ، ويعقد الزهر ، ثم يثمر ، حتى إذا حان القطاف فقطف سبحانه ما زرعه ، ويكون هو الوارث الوحيد ، وإلا فكيف يفسر أن يولد الإنسان طفلا ، ثم يتعلم حتى يصير عالما ، ثم يرد إلى أرذل العمر حتى لا يعلم من بعد علم شيئا؟ وإذا ما كان علمه ذخرا للإنسانية وحصادا ووفرا في حصالة ، وإذا حصالة الإنسانية نتاج الجهد الإلهي الذي كان كنزا مخفيا كعروق الذهب والماس المدفونة في الأرض ثم تستخرج وتصفى وتصاغ جواهر ودررا ونفائس زينة للناظرين ... كذلك الله سبحانه كان كنزا مدفونا في ذاته ، ثم أخرج كنزه يأيدي خلقه ، حتى

٥٦٢

صار الكنز تاجا مرصعا بكرم الجواهر من الأسماء والصفات يضعه المليك على رأسه قائلا لعباده : أنظروا بهائي وجمالي وعزتي ، سبحاني ما أعظم شأني.

٤١ ، ٤٣ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣))

[مريم : ٤١ ، ٤٣]

قلنا : إبراهيم الإنسان الفرد الذي صار أمة بعلمه التوحيدي ، فحقق من ثم ماهية النوع الإنساني ، وصار الإنسان بمعنى الجمع ، ووصف إبراهيم بالصديق ، ونحن نعلم مكانة أبي بكر الصديق في التاريخ الإسلامي ، والذي قال فيه عليه‌السلام : (لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا) ، والصديقية مقام المشاهدة ، ولهذا يروى عن الصديق رضي الله عنه أنه قال : (ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله) ، فالصديق بلغ رتبة المكاشفة حيث لا يعود المكاشف يرى في الوجود إلا الله.

ولقد أوردنا هذا الوصف في أبي بكر نظرا إلى أن الله سبحانه وصف إبراهيم عليه‌السلام بأنه كان صديقا نبيا ، وتبع هذا أن سأل إبراهيم أباه لم يعبد ما لم يسمع ولا يبصر ولا يغني شيئا ، والمعنى أن المكاشف المشاهد قد علم من السامع الحقيقي والمبصر الحقيقي والمجيب المغني الحقيقي ، فلئن كلم المشاهد الناس علم يقينا أنه يكلم الله في الوقت نفسه ، ولئن سأل الناس فهو يسأل الله أيضا ، إذ الناس مظاهر أسماء الله ... أما أن يعتمد الإنسان الناس دون ذكر الله والغفلة عن دوره في الوجود فهذا هو الشرك العظيم ، وهذا ما ذكره إبراهيم لأبيه لما قال له : (إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا).

والملاحظ أن إبراهيم يكلم أباه معلنا أنه هو الذي علم فهو المعلم ، وأن أباه لم يعلم وهو الجاهل ، ففي مجال العلم الإلهي قد يتقدم الولد أباه والصغير الكبير ، فالأمر ليس محصورا بالدائرة الاجتماعية والسنين وتجاريب السنين ، ويذكر أن ابن عربي رأى في رحلاته جلال الدين الرومي وهو غلام حدث السن يتبع أباه فعلم مكانته فراسة وقال : عجبت لبحر يتبع بحيرة.

٤٤ ـ (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤))

[مريم : ٤٤]

قلنا : الشيطان من شطن أي بعد ، وقلنا : مادام الإنسان أسير أناه وخواطره فهو بالتالي أسير اسمه ، والاسم جزء لا كل ، وبالتالي فإن أسير الاسم بعيد عن الله ، ولهذا دعا الرسول إلى تعلم اليقين لكي يخرج الأسير من سجن الأنية والاسم ويطير في سماء الله.

٥٦٣

٤٥ ـ (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥))

[مريم : ٤٥]

إذا قضى الله ببقاء الإنسان بعيدا عنه ، والبعد اسم من أسمائه تعالى ، جعل الشيطان له وليا ، فالأمر بين إصبعين من أصابع الرحمن كما جاء في الحديث.

٤٦ ـ (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦))

[مريم : ٤٦]

الآلهة صور العالم الخارجي ، ولهذا فكم من الناس من مشركين وهم لا يعلمون ، فالله ما خلق هذا العالم ليعبد الإنسان هذا العالم بل ليستدل بالصناعة على الصانع وليعلمه ويعرفه فيعبده حق عبادته.

٤٧ ـ (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧))

[مريم : ٤٧]

لالقاء بين المشرك والمؤمن ، وخاصة من بلغ مقام اليقين كما بلغه إبراهيم عليه‌السلام ، فوالد إبراهيم ظل يعبد أصنام مظاهر هذا العالم ، في حين توجه إبراهيم إلى عين الجمع ، ومن يعبد الذات لا يعبد الصفات ، والذات الحق والصفات البشر.

أما السّلام الذي ألقاه إبراهيم على أبيه فهو نتيجة حصول علم اليقين نفسه حيث توجد جنة التوحيد في نار التناقض والتضاد ، فمن دخل جنة التوحيد دخل من باب السّلام حتى وإن ظلت النار تحفه كما حدث لإبراهيم ، وقال هيغل : إن من يفهم فلسفته حق الفهم يجد السّلام حتى في التناقض ونار التناقض لأنه بمعرفة النقيض ينفك الإنسان من أسر هذا الأعور الدجال الذي يسوق الناس كالقطيع الذي يساق إلى الذبح.

٤٨ ، ٤٩ ـ (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩))

[مريم : ٤٨ ، ٤٩]

إسحاق ويعقوب إشارة إلى زيادة في العقل البشري الذي بلغ مرتبة العقل القدسي فصار يأخذ عنه ، بل صار هو هو ... ولهذا ختمت الآية بالقول : (وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا ،) إذ من يبلغ عين اليقين فهو نبي أو عالم وارث.

٥٠ ـ (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠))

[مريم : ٥٠]

لسان الصدق هو لسان الأنبياء الناطقين عن الحق ولهذا وصف هذا اللسان بالصدق ، فما يقوله النبي أو الوارث فالله وليهما ، وما دام الله الموحي والملهم فهو المسدد وهو الحق ، قال جلال الدين الرومي : كل من يتلقى من الله الوحي والجواب يكون كل ما يأمر به عين الصواب.

٥٦٤

٥١ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١))

[مريم : ٥١]

المخلص المصطفى ، وقد قرئت بالكسر أيضا ، فيكون الإخلاص سببا للاصطفاء ، وتقول الصوفية : لو لم يحبهم الله ما أحبوه ، فالبدء المشيئة الإلهية ، ويتبع هذا أن يتوجه العبد إلى ربه.

٥٢ ـ (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢))

[مريم : ٥٢]

الطور الأيمن إشارة إلى الجانب الأيمن من النفس أي الجانب الروحي الذي تشارفه النفس كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إني لأجد نفس الرحمان من جانب اليمن) ، وتأكيد ذلك اتباع النداء بالقول وقربناه نجيا ، فالقرب إذن ذاتي قلبي ، ولهذا جاء في الحديث القدسي : (ما وسعتني السموات ولا الأرض ولا الجبال ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين) ، فالقلب متى جلي اصطفي وصار أهلا للمناجاة ، والحقيقة أن المناجاة دائمة وإلا لما كان الإنسان ولما سمي إنسانا ، لأن الله قال في موضع آخر في وصف النفس : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [الشمس : ٨ ، ٧] ، وقال : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) [المجادلة : ٧] ، فأضاف مناجاته إلى نجوى البشر ، فتكون النتيجة أن نجوى البشر ونجوى الله نجوى واحدة ، ولهذا عرف الإنسان في الفلسفة بأنه : حيوان ناطق ، فنطق الإنسان إلهي وإلا لما نطق ... بل إن الحيوانات لتنطق بألسنتها مسبحة لله ولكننا لا نفقه تسبيحهم ، فما من شيء في الوجود إلا هو موضع المناجاة ، ولهذا يحاور الإنسان نفسه ظانا أنه يحاور نفسه ، وما يحاور إلا ربه ولا يعلم ، ولهذا قال سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) [ق : ١٦].

أما نجوى الأنبياء والوارثين فهي على علم وإدراك ووعي ، فالنبي والولي مدركان النجوى الذاتية ، وهما يعلمان من يناجيان ، وكيف تتناجى المخلوقات بما في ذلك البشر ، فإذا كلم النبي نفسه ، فإنما هو يكلم ربه ، وكذلك إذا سمع الصوفي كلام البشر عرف من الناطق على ألسنة البشر ، قال الإمام علي رضي الله عنه : (كلم الله موسى بلا جوارح وأدوات ولا شفة ولا لهوات) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله كفاحا ليس بينه وبينه ترجمان).

وقال سقراط : منذ طفولتي يلازمني وحي هو عبارة عن صوت يطوف بي فينهاني عن بعض ما أكون قد اعتزمت أداءه.

٥٣ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣))

[مريم : ٥٣]

الإشارة إلى الصوت القدسي الذي يؤيد الإنسان وينصره وهو في الخلوة فيكون له نعم الأخ ونعم النصير.

٥٦٥

٥٤ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤))

[مريم : ٥٤]

إسماعيل إشارة إلى أسماء إله التوحيد (عيل) الذي عبد في زمن إبراهيم وقبله في بلاد ما بين النهرين وما حولها ، ومنها هاجر إبراهيم إلى فلسطين فالحجاز ، وهذه الأسماء هي التي مثلها الإنسان الكامل المتعين في بشر كما تعينت الحقيقة المحمدية في شخصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سويت بشرا ولهذا الوصف نكتة ... ذلك أن الاسم هو مثل السجل المطوي متى فتح نشر ما فيه ، وما فيه هو خروج ما هو بالقوة إلى ما هو بالفعل ، وعليه فلا يكون الاسم إلا صادقا أولا وصادق الوعد ثانيا ، فإذا صور الله الإنسان وهو في بطن أمه في صورة العفة فيكون ذلك الإنسان بعد ذلك عفيفا طوعا أو كرها ، وهذه هي حقيقة القضاء والقدر التي قضت بأن يمثل الناس حقائق الأعيان الثابتة من الأسماء الإلهية.

٥٥ ـ (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥))

[مريم : ٥٥]

أهل إسماعيل إشارة إلى حواسه وقواه ، فإسماعيل هو مثل القلب الذي استمد قواه من الروح فأمر دماغه وما في دماغه من قوى بأن تعمل كذا وكذا ، وما أمر به إسماعيل دماغه الصلاة ، أي أن يكون الإنسان جسما وقلبا ذا صلة بربه لا تنحل عراها ، وما أمر به أيضا الزكاة ، أي أن يحصل المعقولات بعد تجريدها لتقديمها زكاة إلى الله الذي سيجعل هذه المعقولات جواهر تزين تاج الألوهية العظيم ، وكون إسماعيل مرضيا يعني أنه من المصطفين بالعناية المسبقة ، فإسماعيل هو من السعداء وهو في بطن أمه.

٥٦ ، ٥٧ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧))

[مريم : ٥٦ ، ٥٧]

قيل : إن إدريس هو مثل إلياس الوارد ذكره في الكتاب ، والذي يمثل الإنسان الذي تحرر من سجن الناسوت ، وعرج بروحه إلى رفيع اللاهوت ليسبح في ذلك الملكوت ، فإلياس وإدريس وغيرهما من العارجين من الأنبياء الموحدين يمثلون الإنسان الذي حقق مقام التأله ، فصار جسمه هيكلا يحوي اللاهوت العظيم ، قال عبد الكريم الجيلي : إذا طمس النور العبدي ، وفني الروح الخلقي ، أقام الحق سبحانه في الهيكل العبدي ، من غير حلول ، من ذاته لطيفة غير منفصلة عنه ، ولا متصلة بالعبد ، عوضا عما يسلبه منه ، لأن تجليه على عباده من باب الفضل والجود ، وتلك اللطيفة هي المسماة روح القدس ، فإذا أقام الحق لطيفة من ذاته عوضا عن العبد ، وكان التجلي على تلك اللطيفة ، فما تجلى إلا على نفسه ، لكنا نسمي تلك اللطيفة الإلهية عبدا باعتبار أنها عوض عن العبد ، وإلا فلا عبد ولا رب ، إذ بانتفاء المربوب

٥٦٦

انتقى اسم الرب ، فما ثمة إلا الله وحده الواحد الأحد.

٥٨ ، ٦٠ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠))

[مريم : ٥٨ ، ٦٠]

قوله : (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا ،) إشارة إلى اتباع الموصوف صفته ، والمعلول علته ، والمربوب ربه ، وهؤلاء الموحدون موحدون قديما ، فإذا خرجوا من عالم الذر ، أي من كونهم ذرا في العالم العقلي النوراني العلمي إلى العالم العياني خرجوا بالضرورة والفطرة ساجدين ، لأن المعقول يتقدم المحسوس ، والإطار يؤطر الصورة ، فلا خروج لأحد على معقوله وإطاره ، وفي الحديث : (لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين) ..

٦١ ـ (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١))

[مريم : ٦١]

الوعد المأتي الشهادة الصغرى ثم الشهادة الكبرى اللتان تليان القيامتين الصغرى والكبرى ، وثمار الوعد جنات عدن حيث تضع حرب التناقضات أوزارها ، وينام الحمل في حضن الذئب ، ويسود السّلام الأبدي الذي كان قبل أن تشتعل نار حرب التناقضات فليس ثمة من خلاص إلا استغاثة الله والاستعاذة به خلاصا من الازدواجية والتناقضات ، أما التوجه إلى العالم فلن ينجم عنه إلا المزيد من التناقضات ، فحرب الأسماء بلا نهاية ، والعالم البراني له حرارة الحمام الجواني ، وترى الغربيين الذين أبعدوا في مجال الحضارة العلمية يزدادون تعاسة وضياعا وشعورا بالعبث واللاجدوى ، وما اللجوء إلى المخدرات إلا وسيلة لتناسي ما يعاني منه الإنسان الغربي الذي بحث عن السعادة والسّلام في عالم لحمته التناقض وسداه الصراع.

٦٢ ، ٦٣ ـ (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣))

[مريم : ٦٢ ، ٦٣]

الرزق بكرة وعشيا يذكر بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) ، وقوله في تفسير قوله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [يونس : ٦٤] أن البشرى هي : (الرؤيا الصالحة) ، فما من نبي ولا ولي عارف إلا وله رزقه في جنة التوحيد بكرة وعشيا ، وقال عارف : ليالي العارفين كلها قدر ، إشارة إلى ليلة القدر ، فما يقع في العالم الخارجي من أحداث يتحول إلى صور لمحسوسات ذات معان معقولات تري الموحد في المنام كيف أن

٥٦٧

الفاعل واحد ، وأن الواحد وراء هذه الكثرة ، وأن السّلام وارث التناقضات ، وأنه هو الموحد مثل نبيه في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، قد نجا من نار النمرود لما أدرك سر التضاد.

٦٤ ـ (وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤))

[مريم : ٦٤]

الخطاب من الروح الكلي جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : ليس حقيقة الروح إلا الحق وحكمته ، فالروح هو الصدور الأول عن الله ، وما دام صدورا فهو مأمور قائم بالله ، ولهذا كان تحركه مرتبطا بربه ، وما دور الوسيط سوى أن يكون جسرا بين الحق والخلق وبين العبد والرب.

٦٥ ـ (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥))

[مريم : ٦٥]

لا سمي لله إلا الله ، والأسماء التي سمى الله بها نفسه كالرب والرحمن وبقية الأسماء هي من باب الإضافة إليه ، لأنه هو جوهر هذه الأسماء وسبب وجودها ، فالوجود الإلهي سبق وجود كل شيء حتى وجود الأسماء والمعقولات والمحسوسات ، وقال عبد الكريم الجيلي : اسمه سبحانه الله ، فإذا حذفت الألف صار اسمه لله ، فإذا حذفت اللام صار اسمه له ، فإذا حذفت اللام الثانية بقي اسمه الهاء ، أي الهو ، والهو هو الوجود كله بدءا من الوجود الصرف إلى العقل الصرف إلى النفس الصرفة إلى الأنفاس الجزئية الخارجة الداخلة من وإلى رئات العالم.

٦٦ ـ (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦))

[مريم : ٦٦]

الموت هنا إشارة إلى موت النفس الجزئية المعنوي أي تحققها بالمصدر الذي صدرت منه ، والذي هي دائما متعلقة به والسؤال هو : هل يبقى من الإنسان شيء إذا ما وعى كشفا ما قاله هيغل عن العقل الذي ينبغي أن يعي أنه روح؟ والجواب : أجل يبقى ، وضرب مثل لهذا الحديد الذي يحمى في النار ، فهو وإن احمر وذاب وصار سائلا أو شبه سائل إلا أنه يبقى حديدا ، والفناء عند الصوفية فناء أنا الإنسان وصفاته وفعله ، إلا أنه يعي أنه شعاع من النور ، وأنه نور مضاف إلى النور الأصيل ، وأنه ليس شيئا إلا ذلك النور وإن احتواه الهيكل ، فالفناء الصوفي فناء ذوقي علمي ، ولهذا تسنم هؤلاء الفانون الموحدون جبل الإنسانية ، وكانوا لها قللا قننا شوامخ بهم يظهر الله بكامل حليه وحلله.

٦٧ ـ (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧))

[مريم : ٦٧]

الإنسان لم يكن شيئا ، وهذا أمر بدهي إذا ما فكر الإنسان في نفسه أين كانت قبل أن تولد ، فوجوده معار ، ثم يكتشف الصوفي أن وجوده يظل معارا بعد خلقه أيضا ، ولهذا خاطب الحق

٥٦٨

زكريا قائلا : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [مريم : ٩] ، وكنا قد ذكرنا أن الشيئية نفسها صنع الله بل هي الله باعتبار تكثف نوره ، ولهذا فإن شيئية الإنسان هي الله أيضا باعتبار ظهوره ، ولهذا قلنا ما قلنا في الجسم الكلي الذي هو العالم الخارجي والجسم الجزئي أو الجسد الذي هو الإنسان ، وقلنا : إن كليهما منفصل عن النفس ، وأثبتنا هذا بالملاحظات المستخلصة من عملية استبطان نفسية كما فعلنا في كتابينا «الإنسان الكامل» و «الإنسان الكبير» ، فالإنسان الذي يظن نفسه شيئا ليس شيئا ، لا جسما ولا نفسا ولا قلبا ولا روحا ، ولهذا قال عارف : ليس حقيقة النفس إلا الروح ، وليس حقيقة الروح إلا الحق ، فاللاشيئية التي تحدث عنها الحق وذكر بها الإنسان تنسحب على الإنسان حتى بعد كونه شيئا ، ولهذا أجاب البسطامي لما سئل عن اسم الله الأعظم : هو لا إله إلا الله ، ولا تكون أنت هناك.

٦٨ ـ (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨))

[مريم : ٦٨]

قلنا : جهنم هي البعد ، وأصلها كما قال ابن عربي : جهنام وهي بئر بعيدة القعر ، فالمبعدون أي غير الموحدين المقربين هم في جهنم ، فقوله سبحانه : (لَنُحْضِرَنَّهُمْ) لا يفيد معنى المستقبل فحسب ، بل ينسحب على الحاضر الذي يكون فيه الإنسان جاهلا ربه وغافلا عن وجوده.

٦٩ ـ (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩))

[مريم : ٦٩]

عتا تجرأ وظلم ، فكلما ازداد الإنسان تمسكا بأناه كلما عتا على الرحمن أكثر ، والملاحظ أن العتي كان اسمه على تعالى الرحمن لا على اسم له آخر كالرب أو الرحيم أو حتى الله ، ولهذا الورود لطيفة ، ذلك أن الوجود كله نتيجة كونه تعالى الرحمن ، إذ الرحمن اسم فاعل يفيد الشمول ، ولهذا قيل إن رحمة الرحمن عامة ورحمة الرحيم خاصة ، فالأولى تعم الخلق أجمعين ، والثانية تخص المؤمنين ، فخروج العاتي على الله سببه خروجه على اسمه الرحمن الذي أوجده وسواه وعدله وصوره ، ونفخ فيه من روحه ، وأخرجه من العدم بعد أن لم يكن شيئا ، ثم ظل يمده بقوى اسمه الحي وقوى اسمه القيوم ما دام حيا.

٧٠ ـ (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠))

[مريم : ٧٠]

لعلمه سبحانه بأسمائه فهو عليم بتعيناتها حتى من قبل أن تتعين ، وعلى هذا الأساس من العلم خلق سبحانه الجنة وخلق أهلها ، وخلق النار وخلق أهلها من قبل خلق الخلق.

٧١ ، ٧٢ ـ (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢))

[مريم : ٧١ ، ٧٢]

٥٦٩

سبق أن تحدثنا عن ضرورة ورود جهنم باعتبار هذا الورود سببا للجهاد الذي من دونه لا تفتح أبواب المعقولات المغاليق ، فإذا قضى المجاهد مدته في المجاهدة أخرج من جهنم التضاد إلى جنة السّلام.

٧٣ ، ٧٤ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤))

[مريم : ٧٣ ، ٧٤]

الندي بمعنى النادي ، والنادي مكان يتحدث فيه رواده ، والإشارة إلى أن لكل اسم تعيناته ، وبالتالي فإن لكل اسم نجواه وحديثه ، أو كما عبر في الآية بأن له ناديه ، وفي هذا المعنى قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الأرواح جند مجندة ، ما تعارف منها ائتلف ، وما تنافر اختلف) ، فالكافر يألف مثيله ، وكذلك المسلم والمؤمن والمحسن ، وفي الحقيقة ليس في الدنيا سوى النوادي ، وفي هذه الأندية قال سبحانه في نوادي المؤمنين : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) [الكهف : ٣١].

٧٥ ـ (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥))

[مريم : ٧٥]

مد الرحمن النجوى الذاتية التي تمد الاسم بنجواه وإلهامه ، فما من مخلوق إلا وله من الرحمن مدد ، وسبق أن تحدثنا عن علاقة اسم الرحمن بالرحمة العامة للمخلوقات ، وهذا المدد هو ما يفسر قوله تعالى في موضع آخر : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) [هود : ٥٦] ، فما دامت الأسماء له فنجوى الأسماء له ومن صنعه ، ولهذا قال سبحانه في موضع آخر : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [الشمس : ٧ ، ٨] ، فربط بين تسوية النفس وإلهامها.

٧٦ ـ (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦))

[مريم : ٧٦]

الباقيات الصالحات إشارة إلى مقام العبدية الذي يصبح الإنسان لدى بلوغه عبدا كما قال سبحانه في الخضر : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) [الكهف : ٦٥] .. والصلاح إشارة إلى اليقين الذي هو عين يفجر الباقيات الصالحات ، فما الذي يفيد الإنسان في حياته إن لم يعرف من أين جاء ، وإلى أين المفر ، وأين الله ، وكيف يكون الله في القلب ومع العبد؟ والساعة انكشاف الأمر لصاحب اليقين ، فالساعة المشاهدة ، والمشاهدة صيرورة البصر حديدا ، فيرى المبصر جند الله الساعين بين السموات والأرض يعملون لله جاهدين.

٧٧ ، ٨١ ـ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ

٥٧٠

الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١))

[مريم : ٧٧ ، ٨١]

تحدثت الآيات عن تعين الاسم البعيد الذي يبقى محجوبا عن الله لأننا قلنا إن معنى كفر ستر ، وأصحاب هؤلاء التعينات يعتمدون الأنا والمال والولد باعتبار المال والولد زينة الحياة الدنيا وسببا من أسباب القوة والجاه ، ويتحدى الله هؤلاء الكافرين متسائلا : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً؟)

والتساؤل بدهي ما دامت الأسماء أصلا لله بما في ذلك أصحاب أسماء الجلال والبلاء فهؤلاء في القبضة أيضا ، فسواء اعتمد الكفار القوة وأسبابها أم لا فما لهم عند الله عهد ، والله حر يفعل ما يشاء ، وما يفعله هو الوراثة ، وسبق أن تحدثنا عن الوراثة الإلهية للأسماء وعملها ، وكيف يكون سبحانه وارث كل شيء ، لأن حصيلة عمل كل تعين اسم هو لله أيضا وإلا لما قال سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزّخرف : ٨٤].

وقوله سبحانه : (وَيَأْتِينا فَرْداً) [مريم : ٨٠] يعني انضواء كثرة تعينات الأسماء تحت الوحدة ، ورجوع أصحاب التعينات إلى الاسم الذي هو بمثابة النوع الذي تدرج فيه الأفراد ، فالفرد هنا هو الروح ، حقيقة النوع بل الأنواع ، وسماه الإمام الغزالي : المطاع ، كما قال سبحانه في وصفه : (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١)) [التّكوير : ٢١] ، فليس في الوجود إلا هذا الفرد الذي هو روح كلي تدرج فيه الجموع ، وهو الفاعل بإذن ربه ، ينطلق بالأمر منه إلى المحسوسات ، ثم يعود إليه ، بحصيلة المعقولات ، ويتحقق من ثم كون الله هو المورث والوارث ، ويتحقق كونه إلها أوحد.

٨٢ ـ (كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢))

[مريم : ٨٢]

من التضاد عرفت الصوفية سر التوحيد ، فلا بد من الإيمان بالتضاد باعتباره الموضوع ونقيض الموضوع ، كما قال هيغل ، لتحقيق التوحيد ، وإلا لبقي الإنسان في معزل عن الله في الأرض ، وهذا ما أشارت إليه الآية قائلة : (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ،) أي تكون الآلهة ضدا على من يؤمنون بهم ، وهذا صحيح ما دام الإنسان سجينا في قفص التضاد.

٨٣ ، ٨٧ ـ (أَلَمْ تَرَأَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧))

[مريم : ٨٣ ، ٨٧]

تفسر الآيات كيف تكون الآلهة على من يعبدونهم ضدا ، وترجع الآيات عمل الآلهة إلى

٥٧١

الله باعتباره الفاعل القاهر ، فالآلهة ، وإن عبدوا كآلهة ، فهم صور ، وبالتالي فهم من جنود الله لتحقيق التفريق والإبعاد أولا ، ثم تحقيق التقريب والجمع ثانيا ، ولهذا كان لا بد من وجود فريق من الناس خصوا بالإبعاد ووجود فريق آخر خصوا بالتقريب والجمع.

٨٨ ، ٩٥ ـ (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))

[مريم : ٨٨ ، ٩٥]

الحديث عن الولد والولادة ، ولقد سبق أن بينا كيف يستحيل أن يكون لله ولد ، كما بينا كيف يستحيل أن يكون لله من وجود حق سوى الوجود الشبحي النسبي الإضافي ، ولهذا قال سبحانه : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) أي باعتبار الكثرة خروج الوحدة إلى عالم العيان وكونها هي المظاهر للاسم الإلهي الظاهر ، فالكل عبيد مربوبون مألوهون ، والأمر في الأرض هو كما ترى علماء الفلك المجرات في الفضاء ، ويرون النظام هو السائد وهو السلطان ، ولقد أوغل أينشتاين في دراساته حتى تنبأ بظهور كوكب جديد في زمن معين ، فتتحقق ما قاله إينشتاين في الوقت المحدد.

٩٦ ، ٩٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

[مريم : ٩٦ ، ٩٨]

الود شدة المحبة ، وهو تحقيق قوله تعالى : (يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] ، فعملية الاصطفاء دائمة تمارس دورها ، إذ تصطفي من الناس أنبياء وأولياء علماء عارفين محققين يجعل الرحمن لهم ودا ، فيحبهم ويحبونه ، والملاحظ أن هذا الود قرن باسمه تعالى الرحمن من جديد ، وقلنا الرحمن الرحمة العامة ، فالفارق بين الرحمة العامة والرحمة الخاصة المسماة الرحيمية هو الود الذي خص به العارفون ، وشهد التاريخ نماذج ممن خصهم الله بوده فكان ابن الفارض سلطان العاشقين ، وكانت رابعة سلطانة العاشقات ، وينسحب معنى الآية الأخيرة لا على الماضي فحسب بل على الحاضر والمستقبل ففي عالم الذرة تبين أن كل ما هو مادي أساسه الذرة ، كما تبين أنه لو توقفت الكهارب السالبة عن الدوران حول الكهرب الموجب لتفكك العالم كله في ثوان ، ونسف نسفا ، وعاد ذرا غير مكثف كما كان ، أما في عالم المعقولات فيكفي ألا تشع شمس الذات أشعتها حتى تكف المعقولات عن أن تكون

٥٧٢

معقولات ، وتتوقف بالتالي عن ممارسة عملها ودورها ، فلا يوجد من ثم خير ولا حق ولا عدل ولا إحساس بالجمال ، وقبل هذا كله لا نظام ، والنتيجة الفوضى والهلاك.

والخطاب موجه إلى النبي كعارف محقق مكاشف ، وما كوشف به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو كون الناس أشباحا ، ولهذا قال له الله : (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ ،) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، ولو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا ، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله).

٥٧٣

سورة طه

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (طه (١))

[طه : ١]

تكثيف الذر ، وهو أول تعين للروح الكلي ، ولهذا كان الخطاب من الله إلى الحقيقة المحمدية التي سميت هنا طه ، فالطاء للخطاب ، والهاء لله والذي هو خروج الشيئية منه سبحانه صدورا أول كما هو معروف في الفلسفة والتصوف.

٢ ـ (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢))

[طه : ٢]

القرآن شفاء لأن فيه تفصيل كل شيء ، ومتى علم الإنسان أسرار الوجود استراح ، علما أن القول ، كما وصفه سبحانه في موضع آخر ، ثقيل ويحتاج إلى صدور ذات سعة.

٣ ـ (إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣))

[طه : ٣]

التذكرة لمن كان له نصيب من أسماء الآلاء ، فهولاء خلقوا ليذكروا ، والأمر منه وإليه ، فإذا كان صاحب الاسم سعيدا مهديا خشي الرحمن بالغيب ، وتقبل الوارد والخاطر الحسن ونور الهداية ، واستمع القول فاتبع أحسنه ، فالقرآن نزل إلى أصحاب الهداية والسعادة ، ومعلوم أن المشركين ما كانوا يتأثرون بالآيات لما كانت تنزل ، بل إن المنافقين كانوا يخافون ما ينزل لئلا تفضح سرائرهم.

٤ ـ (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤))

[طه : ٤]

التنزيل منه إليه ، وسياق الآية يدل على هذا ، فهو سبحانه خالق الأرض والسموات ، والأرض جرم ، وكل جسم جرم ، فالأرض جرم البدن ، ومادام الخالق مع المخلوق أي بالمعية ، بل بالتخلل أيضا باعتباره النور الساري في المخلوقات ، كان التنزيل من الكلي إلى الجزئي باعتبار الجزئي المرآة والمحل والآية ، أو كما يقال في الفلسفة الامتداد.

٥ ـ (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥))

[طه : ٥]

الاستواء التمكن والتحكم والتملك ، وما دام العرش هو الوجود الباطني والظاهري فالرحمن هو المتصرف في الوجودين ، ولهذا قرن الاستواء باسمه تعالى الرحمن ، وكنا قد تحدثنا من قبل عن دور الرحمانية في الوجود ، فتحت هذا الاسم تنضوي قوى القيومية التي تمد الوجود بالحياة.

٥٧٤

٦ ـ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦))

[طه : ٦]

الإشارة جامعة وتدل على تصرف الله في الملك والملكوت ، قال سبحانه في موضع آخر : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها).

٧ ـ (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧))

[طه : ٧]

الإشارة إلى اسمه تعالى الباطن ، فهو الباطن من كل ظاهر ، ولئن كان الإنسان عقلا فالله عقل العقل أو جوهر العقل أو نور العقل ، وكل حركة ظاهرية أساسها دفع باطني ، وعلى هذا الأساس تفسر علاقة الأجهزة بالدماغ وكيف يصدر الدماغ الإشارات الكهربائية إلى الأجهزة لتتحرك ، وقلنا : إن قوى الروح تنصب على الدماغ فتنتج الوعي والإدراك ، وهذه القوى سبب صدور الإشارات الكهربائية التي ما يزال العلم حائرا أمامها ، وكنا قد بينا في كتابنا الإنسان الكامل كيف يكون الإنسان آلة الحق محركها ، فما دام هو المحرك فالنتيجة العلم بالمحرك بفتح الراء ، وما خفي أمر إلا وعلمه الله باعتباره خفاء الخفاء ، ولهذا قال سبحانه في موضع آخر : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سبإ : ٣].

٨ ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))

[طه : ٨]

الأسماء الحسنى دائرة المعقولات الصادرة عن الروح الكلي باعتباره مركز الدائرة ، ولئن كان الإنسان جرما صغيرا فمن الممكن تصوير أمره على النحو التالي يلهم الروح الكلي الموجود في الإنسان اسمه أي صفته ، وتسمى هذه الصفة الميل أيضا ، أو الغريزة في عالم الحيوان ، فتكون الصفة علة للإنسان الذي هو معلول فينطق أو يتحرك أو يعقل ، قال الفارابي ليس في جواهرها أي المعقولات كفاية في أن تصير من تلقاء أنفسها معقولات بالفعل ، ولا أيضا في القوة الناطقة ... بل تحتاج أن تصير عقلا بالفعل إلى شيء آخر ينقلها من القوة إلى الفعل ، والفاعل الذي ينقلها من القوة إلى الفعل هو ذات ما ، جوهره عقل ما بالفعل ومفارق المادة ، منزلته من العقل الهيولاني شبيه بفعل الشمس في البصر ، فلذلك سمي العقل الفعال ، وإذا حصل في القوة الناطقة من العقل الفعال ذلك الشيء الذي منزلته منه منزلة الضوء من البصر حصلت المحسوسات حينئذ عن التي هي محفوظة في القوة المتخيلة معقولات في القوة الناطقة ، وتلك هي المعقولات الأولى التي هي مشتركة لجميع الناس.

ففي الإنسان انطوى إذن العالم الأكبر كما قال ابن عربي ، الله يشاء ويقدر والإنسان يتحرك لتحقيق القصد ، ولا فاصل بين المشيئة وبين ما يفعله الإنسان من قول أو فعل إلا التتابع ،

٥٧٥

وضرب لهذا مثل اليد عند ما تحمل شيئا وتحركه ، فالحامل والمحمول متلازمان ، وإن كان المحمول يتبع الحامل.

٩ ، ١١ ـ (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١))

[طه : ٩ ، ١١]

موسى إشارة إلى القلب الذي سلم وصار مستعدا لاستقبال الأنوار ، والنار التي رآها هي من نوع النار التي تستهوي الفراش فيهوي إليها ... أي أن موسى ظل يطيع صوت ضميره ، فإذا الضمير ينكشف عن أنه الذات الإلهية التي تدعو الذات الجزئية إليها ، فيكون جواب الذات الجزئية أنها تقول للجسم وآلاته ، وأشير إلى هذا الجسم بالأهل ، امكثوا ... أي كفى تحركا ، فما لي إليكم الآن حاجة ، وإنما قصدي التوجه إلى ذلك الجاذب الروحاني الذي هو قبس لعلي أعثر على ما أنشده ألا وهو الهدى أي الحقيقة والحقيقة كنز ثمين ، جد في طلبه المريدون السالكون من الصوفية والبوذيين والهندوسيين وعبدة النجوم وصوفيي المسيحية وآخرين ، ولقد أوتي موسى الكنز العظيم ، فكل مريد صار مرادا نودي من ذاته الباطنة هو مثل موسى الذي صار رمزا لهذا الارتياد الروحي العظيم.

قيل لموسى عليه‌السلام : بم عرفت أن الله تعالى هو الذي كلمك؟ فقال : (لأن كلام المخلوق إنما يسمع من جهة واحدة بحاسة واحدة هي السمع ، وإني كنت أسمع كلام الله تعالى من جميع الجهات بجوارحي كلها ، فعرفت أنه كلام الله تعالى).

١٢ ، ١٣ ـ (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣))

[طه : ١٢ ، ١٣]

قلنا : الرب المربي ، وما دام الاسم الهادي هو الداعي فالنتيجة رفع ستارة الأسماء وانكشاف الذات الخالصة التي هي الرب في نزولها إلى أفق الخطاب ، والنعلان رمز إلى الحوار الذاتي الإنساني كقولك أنا وأنا ، أي الفكر بشقيه الهادي والمضل ، فالفكر يكون إنسانيا ، فيكشف عن وجود أساس له إلهي ، فيخلع الإنسان أناه ، ويعكف عليها ليسمع وحي الأنا الخالصة ، وقلنا : إن الوحي درجات أولها الإلهام ، وآخرها الوحي أي العقل القدسي الذي يقترب منه الإنسان ليستمع ما يوحي إليه.

١٤ ـ (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤))

[طه : ١٤]

انكشاف حقيقة الآلهة أي صور الوجود الظاهري عن وجود الله ، وكون هذه الصور أبواق

٥٧٦

اسمه الظاهر ... لهذا خاطب الحق عبده قائلا : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا ...) أي كف يا عبدي عن النظر إلى هذا العالم وما فيه من صور وأصوات وتوجه إلي ، وحيثما نظرت تجدني لأنني أنا حقيقة الصور وحقيقة هذا الوجود الذي تراه ، وتابعت الآية تقول : (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ،) أي تحول يا عبدي من العالم إلي مع بقائك الجسمي في العالم ، وهذه هي حقيقة الصلاة التي هي صلة ، وفي الحديث : (المصلون كثير والمقيمون قليل).

١٥ ـ (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥))

[طه : ١٥]

الساعة ميقات انكشاف الحقيقة ، ولهذا قال عليه‌السلام : (بعثت أنا والساعة كهاتين) ، وضم السبابة والوسطى ، وذلك لأنه عليه‌السلام رأى النار التي رأى موسى ، وخوطب من ذاته الباطنة كما خوطب موسى ، وقامت قيامته الصغرى ، وهذه القيامة هي الساعة أي الوقت المحدد للكشف.

وقوله سبحانه : (أَكادُ أُخْفِيها ،) يعني قرب الساعة ، ولهذا ضم صلى‌الله‌عليه‌وسلم السبابة والوسطى ، فالساعة بالمرصاد ، وهي مثل ربها أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.

١٦ ـ (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

[طه : ١٦]

كثيرون رأوا الإشارة التي هي النار وما أتوها ، أو أتوها فما اتبعوا هداها ، أو اتبعوا هداها ولكنهم لم يتابعوا سلوك طريق الهدى وارتدوا ، فالقول ثقيل ، والإنسان مدعو إلى طرح ما تزمل وما تدثر من صفات وأهواء ، وعليه أن يلبي دعوة ربه ، والوادي عظيم وعميق ، وهو بحاجة إلى رجال غواصين على الحقائق يفدونها بأنفسهم وأموالهم ، كما قال سبحانه في موضع آخر : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [التّوبة : ١١١].

١٧ ، ٢٣ ـ (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣))

[طه : ١٧ ، ٢٣]

قلنا في العصا من قبل ما قلنا ، والملاحظ أن السؤال : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ ،) وقلنا في يمين الله من قبل : إنها اليمين النورانية أو اليد النورانية ، وربطنا بين عصا موسى ويمين الله هذه ، فالعملية إطلاع المراد كشفا على أن قواه قوى الله من سمع وبصر وكلام وفكر ، وأنه ليس إلا آلة لله ، فبين المكاشف والإنسان العادي سر هو الذي قال فيه التستري : إن للربوبية سرا لو علم لبطل العلم ، وإن للعلم سرا لو علم لبطل العمل ، فثمة عملية تبادل تجري بين

٥٧٧

العبد وربه فيصير العبد ممثل الرب كما جاء في الحديث القدسي : (ما يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته صرت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها) ، والنتيجة بدهية وتتبع ما قلناه عن يد الله النورانية والعصا ، فالكشف يكشف عن أن العبد جسر وواسطة للظهور لا غير ، وأن الله هو الظاهر ، وأن العبد شبح فان.

٢٤ ـ (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤))

[طه : ٢٤]

فرعون بمثابة النفس الأمارة ، فالنفس في تجربة الكشف تراقب وتتأمل وترى وكيف تغرق في بحر الهيولى فلا يبقى منها إلا ما يبقيه الله لها وهو الوجود المضاف والمعاد.

٢٥ ، ٢٦ ـ (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦))

[طه : ٢٥ ، ٢٦]

شرح الصدر طلب المدد من الله والعون لاستيعاب الحقيقة التي هي القول الثقيل والتي عبر عنها أبو سعيد الخراز قائلا إنها الجمع بين الضدين ، فمن غير شرح الصدر لا يستطيع العبد أن يتقبل حقيقة التوحيد ، ومن دون المدد الإلهي يبقى العبد على الساحل الذي قال فيه البسطامي : خضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله.

٢٧ ، ٢٨ ـ (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨))

[طه : ٢٧ ، ٢٨]

حل العقدة معرفة سر الأعداد العشرة التي تحدثنا عنها في كتابنا الإنسان الكامل ، وقلنا : إن الفيثاغوريين جعلوا العدد عشرة أساس الوجود ، وقال فيثاغورس : السلم الموسيقي يقوم على أسس عددية ، فالفواصل الموسيقية الرئيسية في السلم الموسيقي يمكن أن يعبر عنها في نسب من الأعداد الأربعة الأولى ، وهذه الأعداد مجتمعة تشكل العدد عشرة ، ولما كانت الموسيقى لها قوة خاصة على الروح ، وهي التي تتخلل الكون ، فإن العالم كله لا بد وأن يكون مؤلفا من العدد.

وقيل في الأعداد : إنها جواهر روحانية هي أولى المبدعات عن الله ، وتحدثنا في كتابنا المذكور عن العقدة وصلتها بالعدد عشرة ، وقلنا : إن العقدة أول ظهور لعالم الحس والعيان ، وعليه فالإشارة في الآية إلى طلب العارف للمدد الإلهي لاستيعاب حقائق العالم وما فيه من عقد مؤلفة من العدد عشرة المثالي لا الحسابي ، ولقد ربط في الآية بين العقدة واللسان لأن لغة اللسان الحروف ، والحروف أداة للتعبير ومنها التعبير عن الحقيقة ، والحقيقة ذات أساس هو موسيقى كونية مركبة من العدد عشرة أيضا ، وعلى الراغب في معرفة المزيد من صلة الأعداد بالموسيقى وبالعقدة مراجعة كتابينا الإنسان الكامل والإنسان الكبير ، والمهم القول :

٥٧٨

إن لسان النبوة لا ينطق عن الهوى ، وهو وحي يوحى ، ولهذا سأل موسى ربه أن يحلل عقدة من لسانه ليفقه قومه قوله ، والله سبحانه آتى نبيه البيان والفصاحة وجوامع الكلم ليصيب المفصل ، ويكون ما يقوله وحيا صادرا عن القلب ، وما صدر عن القلب يقع في القلب كما يقول المثل.

٢٩ ، ٣٢ ـ (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢))

[طه : ٢٩ ، ٣٢]

هارون إشارة إلى علم الحقيقة الذي يلي علم الشريعة وقلنا في موضع سابق : إن الحقيقة متممة للشريعة ، وإنها كمالها وهي البداية إلى الغيب والمدخل ، وكان موسى قد لقي العبد الصالح الذي أوتي العلم اللدني عند مجمع البحرين فعلمه هذا العلم ، فهارون هو مقام العبد الصالح ، وكونه أخا موسى له نكتة ، ذلك أن الأخ من الأب والأم هو الشقيق ، والشقيق من اشتق ، وما يشتق من القلب هو الروح ، والروح هو الموحي المعلم ، وفي عالم التوحيد لا تثبت قدم الموحد ما لم يشد الروح الأمين أزره من باطنه.

٣٣ ـ (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣))

[طه : ٣٣]

التسبيج التنزيه ، وهو نتيجة للتوحيد كما سئل البسطامي عن اسم الله الأعظم فقال : دلوني على الأصغر لأقول لكم أين الأعظم ، فكل ما في الوجود دال على اسم الله الأعظم ، وتبوأ الإنسان مكانة الخلافة لأنه يمثل هذا الاسم العظيم ، وتمام التمثيل التنزيه حيث لا يكون ثمة موجود إلا الله.

٣٤ ـ (وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤))

[طه : ٣٤]

الذكر الإلهي هو نتيجة للتنزيه ، فالعارف العارج يظل يعرج في سموات المعقولات حتى لا يعود يرى إلا الله كما قال الصديق رضي الله عنه : (ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله) ، وعند ما لا يعود المكاشف يرى إلا الله فإنه لا يذكر إلا الله وهذا هو الذكر الحق.

وقال الشبلي : لا أستريح حتى لا أرى ذاكرا على وجه الأرض ، ومراد الشبلي أنه مادام الذاكر يرى نفسه ومن حوله فهو لم يتحقق من حقيقة الذكر الكامل ، إذ يقتضي هذا الضرب الرفيع من الذكر أن يغيب الذاكر ولا يبقى إلا المذكور ، ولهذا مد الشبلي عينيه إلى أن يرى الناس جميعا موحدين ، رأوا الله ظاهرا في المظاهر ، فغابت المظاهر ولم يبق إلا الظاهر ، ولم يعد ثمة من ذاكر على الحقيقة إلا الله ... وهذا حال عجيب تعيشه الذات التي شقت منها النفس وأهبطها إلى العالم الحسي ، وجعلت فيها خزائن المعقولات مغلقة ، أو كما يقال في

٥٧٩

الفلسفة كائنة بالقوة ... حتى إذا قضي الأمر ، وجاء الفتح ، فتحت النفس فإذا الذات الكلية فيها زهرة متفتحة نشرت أريجها من المعقولات ، وبثت الأريج في العالمين ، فردد الذاكرون الفانون ، الله ، الله ، لا إله إلا الله ، سبحانك إنا كنا عنك غافلين ، فلا تؤاخذنا واعف عنا ، وأدخلنا في رحمتك ، وأنت خير الراحمين.

٣٥ ، ٣٧ ـ (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧))

[طه : ٣٥ ، ٣٧]

البصير كناية عن العناية الإلهية الرحيمية بالعبد المصطفى والله سبحانه بعباده جميعا بصير ، إذ البصر هنا المعرفة والعلم ، والله عليم بعباده لا يخفى عليه شيء ، والبصير هو الواهب التعينات أسماءها ، فهو بها بصير من حيث الأسماء ، والبصير هو العليم بالمدخل والمخرج لأنه سبحانه المقدر المنفذ ، حاشاه أن يخرج عليه شيء ، فالله البصر العام وهو اسم الرحمن ، والبصر الخاص وهو اسمه الرحيم.

٣٨ ـ (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨))

[طه : ٣٨]

الأم كناية عن النفس الكلية الحاضنة للنفس الجزئية والوالدة لها ، والوحي ما يطلب إلى هذه النفس فعله عن طريق الخواطر لتستقيم النفس على الطريقة ويكون الإنسان عبدا.

٣٩ ـ (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩))

[طه : ٣٩]

التابوت بمثابة البدن ، واليم الهيولى وعالم العناصر ، والساحل القلب الذي هو جسر بين النفس المادية من جهة والروح من جهة أخرى ، والعدو النفس المادية التي لا تأمر إلا بالفحشاء وتوسوس في الصدور ، والمحبة الاصطفاء الإلهي للعبد الرباني الذي اصطفى ليكون ابنا لآدم صاحب المعقولات والأسماء ، والصنع على عين الله الهداية الحقانية بالنور اليميني الذي يلهم العبد اتباع سبيل الله المفضي إلى معرفة التوحيد ، وعين الله هنا الصوت الملهم نفسه ، وتظهر هذه العين بعد الاطلاع على سر التوحيد كاشفة عن أنها إنسان عيني الإنسان أي روحه ونفسه ، فلها اليمين والشمال ، ولها قضاء الخير والشر ، ولها الصفة والاسم والفعل ، فالعين الإلهية الوجود ظاهرا ، وباطنا وهي حقيقة كونه لا إله إلا هو.

٤٠ ـ (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠))

[طه : ٤٠]

٥٨٠