التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

ما خلق الله نور نبيك يا جابر). فالنور الأول القديم الظاهر هو الإنسان الكامل الذي هو الصورة الإلهية الباطنة الظاهرة.

وظهور نوح إنسانا يعني أنه مثل بقية البشر ، فباطن نوح مثل باطن إبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمد. فهذا النور واحد يظهر في الأنبياء والأقطاب ، فيكون ممثل اسم الله العليم والبشير والنذير.

والبينة التي أوتيت نوحا هي اطلاعه كشفا على قدره عند الله وأنه لديه مكين ، وأنه في مقعد صدق عند مليك مقتدر. وهذا الكشف يؤتى كل ظهور للإنسان الكامل ، وما أنزلت ليلة القدر إلا لهؤلاء الأعلام وفيهم.

وقول نوح لقومه إنه ليس عنده خزائن الله ، ولا يعلم الغيب ولا هو ملك ، يعني أن ظهور النور هو ظهور سلبي قابل مثلما كل المظاهر العيانية سالبة قابلة. فالنبي عليه‌السلام على عظيم منزلته وقدره عند الله ، ما كان يعلم شيئا عن منزلته قبل نزول الوحي عليه ، كما أنه لم يكن يعلم شيئا من العلوم التي علمها بعد نزول الوحي ، ولقد خوطب من قبل الحق : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) [الكهف : ١١٠] ، فظاهر النبي ظاهر بشري ليس له من الأمر شيء ، والحياة كلها ظهور حياتي.

أما ما يقع لهؤلاء المصطفين بعد هذا فهو انتقال من السلب إلى الإيجاب ، ومن الإنفعال إلى الفعل ، أي من كون النبي قابلا إلى كونه فاعلا ، ومن كونه جاهلا إلى كونه عالما ، وهذا النقل هو ما يطلع النبي كشفا على منزلته القديمة النورانية عند ربه باعتبار الحقيقة بين منزلتين ، بين النور الفاعل والنور القابل ، أو بين الروح الفاعل والروح المنفعل ، أو بين النفس الإلهية والنفس الآدمية المخلوقة على صورة الرحمن. فوجها الحقيقة هما الحقيقة ذاتها ، فهو سبحانه المتجلي بنفسه لنفسه الظاهر بها له ولها به.

٣٦ ـ (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

[هود : ٣٦]

الوحي التكليم الذاتي للمصطفين ، وهو الصلة بين شطري الذات الفاعل والمنفعل. وعلى هذا فكل مخلوق حتى الحيوان والنبات والجماد يوحى إليه. ونجد في كتاب الله أن الله سبحانه أوحى إلى النحل ، وإلى أم موسى ، وهو القائل سبحانه : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشّورى : ٥١]. فالوحي العلاقة الحية بين الله والكائنات ، وهو سر القيومية والجبروت.

٣٦١

وقوله : (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) يعني إطلاع نوح كشفا على خارطة الأسماء الحسنى حيث يظهر الناس فيها مثل دود على عود. فالأعواد الأسماء والديدان البشر ، وقد ضمّ كل عود عددا منهم ، فمنهم الكافر والمؤمن والحليم والمغضوب عليهم والرفيع والذليل والحليم والمنتقم. ولما رأى نوح هذه الخارطة علم أنه لن يؤمن له إلا فريق من هؤلاء البشر الظاهرين ، وأن من آمن له هم المدرجون في اسمه تعالى المؤمن والمنضوون تحته .. أما الباقون فلن يؤمنوا لأنهم كافرون محجوبون بحجب بقية الأسماء.

٣٧ ـ (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧))

[هود : ٣٧]

الفلك ما يعوم في الماء ، والماء هنا هيولى العالم المادي ، فالفلك العوم في هذا العالم والنجاة من الغرق فيه. وقوله : (بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) إشارة إلى التكليم الذاتي الذي هو الوحي والتعليم بواسطة الأعين التي هي صور العالم العياني. والملاحظ أن الخطاب كان من الأعين جمع العين إلى المخاطب ، والعين الصفة من الإنسان وحقيقته ، والنتيجة أن التعليم اللدني يتم بواسطة تحريك هذه الصور عن طريق كشف اليقظة والمنام ، وهذا ما أشار إليه الحديث الشريف : (إن في الجنة سوقا ما فيه بيع ولا شراء إلا الصور من الرجال والنساء فإذا أراد الإنسان صورة دخل فيه).

٣٨ ، ٣٩ ـ (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩))

[هود : ٣٨ ، ٣٩]

السخرية من نوح ومن فلكه السخرية من الأنبياء والأولياء العارفين الذين يعتمدون الرؤى وسيلة للتعليم الذاتي. والملاحظ أن موقف أصحاب المنطق كان طوال التاريخ شديدا وساخرا من أصحاب الذوق والرؤى ، وعلى رأس هؤلاء وقف أرسطو وشيعته من الفلاسفة اليونانيين الذين كانوا يؤمنون بالوحي ، ثم وقف هيغل وقفته الشهيرة من الصوفية الشرقيين حين تمسك بأساليب المنطق ، ورفض الإيمان بطريق غيره إلى الحقيقة.

وقوله : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) يعني رد فعل أهل العرفان على أصحاب المنطق بلغتهم ، إذ يكيلون لهم الصاع صاعين كما فعل الإمام الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة ، وكما فعل كانط في العصر الحديث حين شنّ هجومه على العقل وطرقه فاضحا عيوبه ، كاشفا نقاط ضعفه ، ورافضا التدليل على وجود الله بالأساليب المنطقية ، والقائل : إن الأخلاق وحدها هي البوابة والمدخل إلى عالم الشيء في ذاته ، لأن القانون

٣٦٢

الأخلاقي ذاته هو من القوانين الماورائية نفسها ، وهو يعد دليلا على وجود تلك القوانين.

٤٠ ـ (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠))

[هود : ٤٠]

أمر الله حلول ليلة القدر ، ورفع الأستار المضروبة دون الغيوب ، والإيذان ببدء عملية التعليم اللدني. والتنور إشارة إلى طلوع صبح اليقين ، كما قال الإمام علي. وقال ابن عباس : (التنور انبجاس الماء من وجه الأرض) ، والعرب تسمي وجه الأرض تنورا. وقال قتادة : التنور أشرف موضع في الأرض وأعلى مكان فيها.

والإنسان هو الذي يحتل مكانة الشرف في الأرض لأن قلبه وسع الله ، وفيه انفجرت عيون علوم التوحيد.

وقوله : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) إشارة إلى أن الفلك العائم هو مجموعة الأسماء المتقابلة كما أشرنا من قبل إلى أن نوحا هو نبي توحيد هذه الأسماء ، ولا توحيد دون توحيد هذا التضاد الكوني الواقعي. فما هو باق من عالم العيان هي تلك الأسماء المسماة الأعيان الثابتة ، وثبوتها من أزليتها ، وهذه الأسماء هي أساس فلسفة أفلاطون القائل : إن الصورة بدء الخلقة. فالبقاء للعين ، والفناء للأعيان الظاهرة.

٤١ ـ (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١))

[هود : ٤١]

بسم الله هو اسم الله الأعظم ، وهو الروح الفاعل أول خلق الله. والمجرى حركة الفلك المحيط بعد تكوكبه وتكثفه من السديم الذري اللطيف الذي هو بدء ظهور النور الإلهي. والمرسى الإيواء إلى الاسم نفسه بعد التحريك ، إذ التحرك منه إليه ، ولهذا قلنا إن النفس ذات أصل إلهي ، وما هي إلا مرآة ومستودع وشاشة لعرض قوى الوجود وعلومه.

٤٢ ـ (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢))

[هود : ٤٢]

الموج حركة الأسماء الدافعة لأشباح العيان. فما تحرك متحرك إلا بداعية من اسمه القاهر فوقه منذ بدء تخلقه. وما هذه الأمواج الظاهرة سوى التعبير عن وجود الأعماق الساكنة تحتها والتي هي أصلها ، ومعلوم أنه لا يمكن فصل الموج عن البحر ، فهو موجه ، وموجه هو ، وما عالم الظهور سوى تحرك ما هو ساكن.

ونداء نوح ابنه نداء الاسم الأعظم ممثل الاسم الجزئي ، وللأمر لطيفة ، فأنت تقول أنا ، وأنت جزء من كل ، ويعرف هذا بالفلسفة بالجزئيات والكليات ، فالإنسان ممثل النوع ، والنوع

٣٦٣

فرع من الجنس ، والجنس كلي ، فكل إنسان ممثل الجنس البشري ، ولا وجود له إلا بالكل. ولما كانت الجزئيات كثيرة كانت أسماؤها القاهرة كثيرة ، ولهذا يقول الناس أنا وأنا ، علما أن الأنا الجامعة جمعت كل هؤلاء الناس. ونوح الذي بلغ مرتبة الذات الكلية نجا من شر الأنا الجزئية وسورها المحيط بها ، وهذا ما سمي النجاة من الغرق. إذ يمّ الهيولى الكلية مغرق كل هذه الجزئيات. والعارفون يعرفون ويشهدون كيف أن الكل غرقى بحر الكلي حتى من قبل أن يغرقوا بالموت الطبيعي. ولهذا قال أبو يزيد البسطامي لما بلغ هذا المقام : رأيت الناس موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات. وقال عليه‌السلام : (موتوا قبل أن تموتوا) ، أي أفنوا هذه النفس الجزئية في بحر الكلي ، لكي تنجوا من الغرق فيه إذا ظللتم تقولون أنا وأنا ، وما ثم من أنا إلا أنيته سبحانه ، وهي كونه موجودا وجودا أصليا حقيقيا قائما بذاته أزليا أبديا.

٤٣ ـ (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣))

[هود : ٤٣]

الجبل الذي أوى إليه ابن نوح الأنا الجزئية نفسها ، لأن الجبل ما علا من الأرض ، والرأس هو الذي يعلو الجسد ، فالجبل إشارة إلى الرأس حيث الدماغ الذي هو مستودع الأنا الجزئية ، وتجد الناس يفرون من كل جهة في البحر ليرسوا في مرسى الأنا ، علما أن في هذا المرسى الهلاك وما يدرون ، ولهذا كان جواب نوح لولده لا عاصم اليوم من أمر الله.

وقوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) يعني نجاة العارفين من الغرق في البحر الكلي ، وذلك بأن يصيروا إليه ، ويصيروا هو كما قال العارف أرسلان الدمشقي : الإيمان خروجك عنهم واليقين خروجك عنك. ففي النجاة من سجن الأنا الجزئية يجد الإنسان نفسه في رحاب الأنا الكلية حيث بحر الألوهية الرحيب الذي هو الغبطة والنور العظيم ، وهو ما عبر عنه ابن الفارض بالتنعم بالأنية الإلهية.

٤٤ ـ (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤))

[هود : ٤٤]

تمثل العملية ابتلاع الأرض النفس الجزئية التي مستودعها الدماغ كما قلنا. فالأرض تبلع ماء العلم المتفجر منها ، وقلنا الأرض إشارة إلى رأس الإنسان ، فالمعنى أن ما يحصله الإنسان من العلوم الحسية والمنطقية يعود فيتركه لها ، مادام علمه كله مرتبطا بالدماغ ورهينا بوجوده ، وكنا فصلنا الكلام في وصف حال الإنسان الدماغي في كتابنا «الإنسان الكبير» إذ قلنا : إن العجوز الخرف ينسى ما تعلمه في حياته حتى يعود جاهلا كما كان.

٣٦٤

وقوله : (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) إشارة إلى علوم الروح الملقحة لعلوم الدماغ ، وهذا ما تعتمده الفلاسفة القدامى القائلين : إن العقل الفعال هو الذي يقوم بتعليم الإنسان حتى وإن كان يعتمد علم المنطق والأساليب النظرية العلمية التحليلية.

وقوله سبحانه : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) إشارة إلى عودة الأعيان الثابتة إلى ما كانت عليه من طي قبل النشر ، ولكنها تكون قد تفتقت ، وأخرجت مكنونها ، فاستفاد الله منها علما ، وذلك بظهور ما في نفسه رتقا إلى نفسه فتقا.

٤٥ ، ٤٧ ـ (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧))

[هود : ٤٥ ، ٤٧]

ابن نوح نفسه الجزئية نفسها ، وقد رآها غارقة في البحر الوجودي الكبير ، وهذا مقام الفناء الذي يعيشه العارف لدى بلوغه إياه ، وفيه قال عليه‌السلام : (إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، ولو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا ، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله). وجواب الله إنه ليس من أهله إطلاع نوح على أن الأنا الجزئية ليست من الحقيقة في شيء ، إذ الحقيقة للكلي وحده ، وما الجزئي إلا ظهوره ومرآته. قال ابن عربي : النفس الجزئية متولدة من الطبيعة ، وهي أمها ، والروح الإلهي أبوها. وقال : وما الفخر إلا بالجسوم لأنها مولدة الأرواح ناهيك من فخر. وقال الجيلي : النفس الحيوانية تطلق على الروح باعتبار تدبيرها للبدن فقط.

٤٨ ـ (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨))

[هود : ٤٨]

الهبوط بالسلام من السفينة العودة إلى البقاء ولكن بالله بعد الفناء فيه ، وهو مقام جليل يبلغه العارفون المحققون بعد أن يكونوا قد استبدلوا الكلي بالجزئي ، والأزلي بالفاني ، والحقيقي بالوهمي ، واللاهوتي بالناسوت البشري ، والصفات الإلهية بالصفات الإنسانية التي هي ميدان التناقض.

قال عبد الكريم الجيلي في المحققين : أهل القرب الإلهي الذين بنى الله أساس هذا الوجود عليهم ، وأدار أفلاك العوالم على أنفاسهم ، فهم محل نظر الحق من العالم ، بل هم محل الله من الوجود ، ولا أريد بلفظ المحل الحلول ولا التشبيه ولا الجهة ، بل أريد به أنهم

٣٦٥

محل ظهور الحق تعالى بإظهار آثار أسمائه وصفاته فيهم وعليهم ، فهم المخاطبون بأنواع الأسرار وهم المصطفون لما وراء الأستار ، جعل الله قواعد الدين بل قواعد جميع الأديان مبنية على أرض معارفهم ، فهي ملآنة من أنواع اللطائف لهم ، لا يعرفها إلا هم ، فكلامه سبحانه عبارات لهم فيها إلى الحقائق إشارات ، ولأمره وتعبداته رموز ، لهم عندها من المعارف الإلهية كنوز ، ينقلهم الحق بمعرفة ما وصف لهم من مكانة إلى مكانة ، ومن حضرة إلى حضرة ، ومن علم إلى عيان ، ومن عيان إلى تحقق إلى حيث لا أين ، فجميع الخلق لهم كالآلة حمال لتلك الأمانات التي جعلها الله تعالى ملكا لهذه الطائفة ، فهم يحملون الأمانة مجازا إليهم ، وهؤلاء يحملونها حقيقة لله تعالى ، فهم محل المخاطبة من كلام الله ومورد الإشارات ومجلى البيان ، والباقون ملحقون بهم على سبيل المجاز ، فهم عباد الله الذين يشربون من صرف الكافور. فعباد الله مع الله على الحقيقة ، والأبرار مع الله على المجاز ، والباقون مع الله على التبعية والحكم فالكل مع الله كما ينبغي لله ، والكل عباد الله ، والكل عباد الرحمن ، والكل عباد الرب.

٤٩ ـ (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩))

[هود : ٤٩]

الآية تشير إلى أن في وسع النبي والولي أن يعلما الغيب من دون الناس. وهذا العلم هو الحياة على الحقيقة ، وما عداه جهل ، بل هو سبات ، بل هو موت.

٥٠ ، ٥١ ـ (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١))

[هود : ٥٠ ، ٥١]

قوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) يعني أن مصب أنهار الوجود كلها في بحره هو ، وكل نظر إلى الخارج نظر إليه على التحقيق ، ومن لا يشاهد هذه المشاهد التوحيدية الجامعة فهو محجوب.

٥٢ ـ (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢))

[هود : ٥٢]

عودة إلى التذكير بأن العلوم التي يكتسبها الإنسان بفكره من العالم الخارجي هي قوة ، ومع هذا فإن في وسع الإنسان أن يزداد قوة إلى قوته هذه إذا ما تدفقت عليه أمطار علوم الروح.

٥٣ ، ٥٥ ـ (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ

٣٦٦

بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥))

[هود : ٥٣ ، ٥٥]

الإصرار على التمسك بالمظاهر التي هي المعبودات من الأوثان وغيرها دون تجاوزها إلى من هو ظاهر بهذه المظاهر.

وقوله : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) يعني اعتماد قوانين السببية في الوجود وهي ظاهرة تاريخية ما زالت تحيا حتى زماننا هذا ، بل إنها لتزداد مع مرور الأيام قوة. وهذه الظاهرة هي التي شنّ عليها الإمام الغزالي ومن قبله الأشعري حربا عند ما أعلنا أنه لا يمكن اعتماد فكرة كون النار سبب الإحراق حتى وإن شاهدنا هذا ، وأن ما نراه ظاهرة طبيعية ، ولكل ظاهرة طبيعية سبب خفي هو الأصل ، وهو الفاعل الحقيقي وهو الروح.

٥٦ ، ٥٧ ـ (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧))

[هود : ٥٦ ، ٥٧]

سبق وتحدثنا عن الدابة التي ناصيتها بيد الله عزوجل. والمفتاح قريب ، إذ لما كان الإنسان صاحب فكر ، ففي فكره يكمن الله وهو بالمرصاد كما أجاب الأعرابي لما سئل : أين الله فقال : بالمرصاد. فناصية الإنسان قلبه ، وقلبه فكره ، وفكره مجرى الخواطر ، والخواطر هي القبضة ، فالنتيجة أن الله هو الآخذ بناصية كل دابة ، وهذا هو معنى لا إله إلا الله ، أي لا معبود إلا الله. فالكافر مثلا يستمع فكره ، ويحسب أن فكره له ، ويجهل أن في فكره عقلا يدير فكره ، فهو محجوب لحكمة مفادها أن يؤدي دور الكفر ليسهم في إبراز دور الإيمان ، إذ لا إيمان بلا كفر ، وأجمعت العلماء والصوفية الأعلام على أن مشيئته سبحانه شملت الطاعة والمعصية ، والكفر والإيمان ، واليمين والشمال ، وضرب ابن عربي مثلا لصراط الله المستقيم فقال : تعويج القوس للرمي عين صراطه المستقيم ، وقال أيضا الكل طائع وإن كان فيهم من ليس بمطيع مع كونه طائعا. وقال جلال الدين الرومي : نهر فكرك في انطلاقته لا تخلو صفحته من قش محبوب وقش قبيح الشكل ، فهذه القشور فوق صفحة هذا الماء الجاري قد أقبلت مندفعة من ثمار بستان الغيب.

٥٨ ، ٦٠ ـ (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠))

[هود : ٥٨ ، ٦٠]

٣٦٧

العذاب ترك الإنسان محجوبا ظانا فكره فكره ، فهو أسير هذه القبضة التي يظنها الأنا ، والأنا هوية جامعة ولكن في ظهور جزئي ، فيظل الجزئي سجين جزئيته وشيئيته ، ولهذا جاء في وصف العذاب أنه غليظ ، والغليظ هو الكثيف السميك ، أي أن الكافر سجين عالم المادة والأنا الجزئية الحاجبة عن الله.

٦١ ، ٦٢ ـ (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢))

[هود : ٦١ ، ٦٢]

كنا قد تحدثنا عن الحكمة من إخراج آدم المعقولات من الجنة وهبوطه مع حواء نفسه الحيوانية إلى الأرض ، وقلنا إن في الأرض جزئيات المعقولات المساعدة على فتق المعقولات نفسها ، ولهذا جاء في الآية : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها).

وقوله : (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) يعني كون الله بالمعية يسمع النجوى والخاطر ، وهو في الخفاء ، بل هو الخفي اللطيف في كل كثيف غليظ ، ولهذا كانت النفس الناطقة ظلا له ومرآة وأداة وجرسا موسيقيا تعزف عليه أنغام موسيقى الكون الخفية.

٦٣ ـ (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣))

[هود : ٦٣]

البينة الفتح المبين الذي يجيء في فجر اليقين. والإنسان لفي شك ما لم يأته الفتح الذي يؤذن برفع الحجاب بين الإنسان والله ، فإذا الإنسان متحقق بأنه عبد لرب ، وأن هذه العبودية تؤدي إلى مقام العبدية الذي هو عين الحرية الحقيقية ، إذ فيه خلاص من سجن الأنية والشك والبعد عن الله ، وهذا معنى الرحمة الرحيمية التي يؤتيها الله عبده ، ويدخله في الصالحين.

والملاحظ أن صالحا قال في الآية : (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) ولم يقل مثلا على بينة من الله أو من الحق ، ولقوله لطيفة متعلقة بكونه تعالى قريبا مجيبا ... ذلك أن صفة الرب تقتضي المربوب ، فلا رب بلا مربوب ، ولا مربوب بلا رب ، وكل مربوب مربوب لرب ، فالعلاقة متبادلة كما فصلنا الكلام في سر العلية والمعلولية. ولهذا قلنا إن الإنسان الداخل في رحمة الله يكتشف أنه عبد الله ، بعد أن يتحقق أنه مربوب للرب ، والمربوب عبد ، ولهذا جاء في اللغة في معنى العبد أنه الإنسان علما أن من معانيها العبودية كما أوضحنا ، ومن هنا القول الشائع فلان عبد فلان.

٣٦٨

٦٤ ، ٦٥ ـ (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥))

[هود : ٦٤ ، ٦٥]

الدابة الجسم الكلي ، وما تأكله في أرض الله تحقيق الغاية من خلقها وهي كونها مطية الروح الذي لا يتحقق ولا يتعين من دونها ، فالدابة تعين الروح ، وعقرها الرضا بالجسم الجزئي دون الرجوع إلى الكلي ، والعقر الذبح فكأن الإنسان بحصره وجوده في نطاق جزئه قد اقتطع من الوجود الذي هو وحدة تامة قطعة ليست له ، وادعى ملكيتها وهذا هو الكفر المبين.

٦٦ ، ٦٨ ـ (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨))

[هود : ٦٦ ، ٦٨]

أمر الله ظهوره لتعين الإنسان الكامل الذي هو نبي أو ولي ، ولهذا نجى الله صالحا بعد أن عقر قومه الناقة ... إذ بتجاوز الجزئي إلى الكلي ينجو الإنسان من الجزئيات وعالمها وتناقضها وتغيرها وصيرورتها من عدم إلى وجود ، ثم من وجود إلى عدم ، ويبلغ شاطىء الأمان ببلوغ عالم ربه الثابت الأزلي.

٦٩ ، ٧٠ ـ (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠))

[هود : ٦٩ ، ٧٠]

البشرى الرؤيا الصالحة التي هي الإيذان بحلول ليلة القدر ، وقد سأل أبو الدرداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما عن البشرى في الحياة الدنيا كما قال سبحانه : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [يونس : ٦٤] فقال عليه‌السلام : (ما سألني عنها أحد غيرك ، إنها الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له). فإبراهيم بلغ باب السّلام لما رأى الرؤيا المبشرة.

والرسل الخواطر التي هي في الأصل جند الله ، وهم جند محاربون لإعمار الأرض ومساجد الله ، فإذا تحقق ذلك ، وانفلقت المعقولات التي هي الأسماء التسع والتسعون في قلب العارف صار الجند رسلا ، ووضعت حرب التناقض أوزارها ، ودخلوا القلب من كل باب ، أي لم يعد ثمة خواطر متفرقة يمينية وشمالية ، بل صارت خاطرا جمعيا أصله واحد هو المطاع وهو السّلام. ولهذا قالت الرسل لإبراهيم : سلاما ، قال : سلام.

والعجل النفس الحيوانية الجزئية التي يقدمها العارف أضحية إلى الله في خلوته. وأيدي

٣٦٩

الرسل الأفكار الغازية عقل الإنسان. وعدم وصول هذه الأيدي إلى العجل معناه أن الفكرة لا يمكنها أن تتحول إلى فعل إلا بواسطة النفس الحيوانية نفسها ، لأن الفكرة عقل خالص ، والعقل الخالص من دون نفس حيوانية هي سر الحياة وقوامها ومحركها ، لا يمكنه أن يظهر ... ولهذا خلق الله الإنسان ليظهر به ، إذ كيف بمقدور الله أن يتكلم لو لم يخلق الإنسان ويكلمه وحيا وإلهاما ، ثم يجعل الإنسان بدوره يتكلم؟

فالإنسان الواسطة لظهور العقل الصرف الخالص الذي هو صورة الحق سبحانه وعلمه وقوته.

٧١ ـ (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١))

[هود : ٧١]

امرأة إبراهيم النفس ذاتها أو حواء ، وضحكها فرح النفس بظهور اليقين عن طريق اتحاد الخواطر في خاطر قهار واحد. والبشرى بإسحاق ويعقوب التبشير بمكانة النفس عند الله ، وما سيتحقق لها من مكانة وغنى فالأمر بمثابة ولادة جديدة للنفس رمز إليها بالبعث ، وأشير إليها بإسحاق ويعقوب ، أي المكاشفة ثم المشاهدة.

٧٢ ـ (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢))

[هود : ٧٢]

سؤال النفس الرسل أن كيف ستلد علما جديدا ويكون لها فتح مبين ، وهي التي قضت عمرها في طلب العلم فحصّلت ما حصلت ومع هذا فلقد ظلت محدودة العلم وثمة سدود مضروبة دون الغيوب.

وقوله : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) يعني الفكر الذي هو زوج النفس ، فلقد سبق أن قلنا إن الإنسان زوجان كما قال سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الأعراف : ١٨٩] ، فالإنسان وليد آدم وحواء النفس الحيوانية وحواسها.

٧٣ ـ (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣))

[هود : ٧٣]

الجواب الإلهي أن رحمة الله قريب ، وهو خلق الإنسان ليعلمه علما طبيعيا تجريبيا وتجريدا ، ثم يصطفي من الناس أهل البيت ليمن عليهم بعلم الغيب الإلهي. وأهل البيت أهل القلب المصطفى ، إذ البيت رمز القلب الموجود في الصدر

٧٤ ، ٧٦ ـ (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦))

[هود : ٧٤ ، ٧٦]

٣٧٠

بدء ورود الواردات الإلهية من الرؤى الصادقة على إبراهيم القلب المنور الذي جعل يجادل في قوم لوط الذين يمثلون خواطر القلب ، وكان جواب الله أن الله معذب هذه الخواطر وذلك برد أنيتها إليه هو ، ونفيها بظهوره هو لها.

٧٧ ـ (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧))

[هود : ٧٧]

السوء الذي وقع برسل الله موقف الخواطر من الواردات الإلهية ، حيث تشكك فيها وفي مصدرها وفي كونها حقا اليقين الثابت والحق الذي لا مرية فيه.

٧٨ ـ (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨))

[هود : ٧٨]

قوم لوط إشارة إلى أفكاره وقد استغاثته على الواردات الطارقة الماحقة ، فكان جوابه : (هؤُلاءِ بَناتِي) أي المعقولات التي ولدها عقلي وفكري ، وهن طاهرات لأنهن لم يمسسن من قبل العالم الخارجي حيث الفكر استنتج واستخرج واستنبط هذه المعقولات بجهده وحده ، وذلك بتجريد الصور العيانية من العيان نفسه وتصييرها صورا مجردة تامة هي ملك القلب والخيال الإنساني نفسه.

٧٩ ـ (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩))

[هود : ٧٩]

رد الخواطر بأنها لا علاقة لها بالمعقولات ووجودها ، ومتى كانت الخواطر تقيم وزنا للمعقولات .. بل إنها لا تحس وجودها وإن حضرت ما عدا الفلاسفة الذين يستخدمون هذه المعقولات وفق أساليب شتى تفضي إلى نتائج مختلفة يخالف بعضها بعضا.

٨٠ ـ (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠))

[هود : ٨٠]

ضيق الصدر بالخواطر ووجودها فيه واحتلالها له طوعا أو كرها فيتمنى العارف أن يأوي إلى ركن شديد يحميه من أذى هذه الحرب التي أعلنت على القلب منذ ساعة خلقه.

٨١ ـ (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١))

[هود : ٨١]

جواب المبشرات ونجدتها القلب في محنته حيث تكف عنه أذى خواطره وذلك بأن تريه رأي البصيرة كيف أن الخواطر لا تتجاوز أفقا محدودا هو الأفق البشرى ، وأن لا طاقة لها على بلوغ القلب المصطفى الذي رقى أفق الروح والعقل الفعال فبدأ يطلع الغيب وعلمه.

٣٧١

والسير بالأهل بقطع من الليل رقي القلب في سماء المعارج حيث ليل الروح ساد وهيمن وبسط سلطانه على العالمين.

وقوله : (إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) يعني اطلاع القلب كشفا على فناء النفس الحيوانية والجزئية وغرقها في يم النفس الكلية.

والصبح صبح اليقين الأدوم حيث يفيق القلب من سباته فإذا الصباح قد أشرق ، وإذا أنواره ملأت الأفق العريض.

٨٢ ، ٨٣ ـ (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣))

[هود : ٨٢ ، ٨٣]

أمر الله الكشف الذاتي الماحق الذي يجرد العالم العياني من لباسه فإذا هو عريان كما عراه العلم الحديث ، فأثبت أن ليس في هذا العالم من أصول إلا ذرات وذريرات" فوتون" هي ضوء لطيف أصله ذر لطيف هو نور لطيف تكثف. وسبق أن قلنا إن العالمين أدينغتون وجينز قالا : إن الطبيعة النهائية للكون هي طبيعة عقلية صرفة تشكل بنية المادة الأساسية.

٨٤ ـ (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤))

[هود : ٨٤]

المكيال والميزان يمثلان وجهي وشطري الحق والخلق ، فمن جهة فالكون هو حق باعتبار الحق أصلا وأساسا ، ومن جهة فالكون خلق باعتبار الخلق ظهور الحق. وهذا القديم والمحدث ، واللانهائي والنهائي ، والثابت والمتحول والسرمدي والفاني هو ما شكل بنية الوجود كوجود مطلق رمز إليه بالمكيال.

٨٥ ، ٨٦ ـ (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦))

[هود : ٨٥ ، ٨٦]

الوزن بالقسط النظر إلى الوجود بعيني وجه الحق الخلق. فلا تطغى عين وحدها لأن الإنسان يطغى إذا نظر إلى الوجود كطبيعة لا خالق لها وعدّها هي البداية بذاتها وهي الخالق وهي خالقة قوانينها ، كما أن الإنسان يطغى إذا فصل بين الله والخلق ، وجعل الله بعيدا في السماء عن الأرض والخلق ، وجعله تنزيها صرفا كما فعل أرسطو وأشياعه الذين شبهوا الله بحاكم مدينة ليس له من الأمر إلا الإرشاد والتوجيه.

٣٧٢

٨٧ ـ (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧))

[هود : ٨٧]

عبادة الآباء عبادة الصور ، سواء الصور المتحركة كتعلق الإنسان بالبطل الشجاع والكريم والحليم والعظيم ، والغفلة عمن جعل في قلوب هؤلاء الدواعي لإتيان الأعمال الفاضلة والكريمة أو الصور الثابتة من الأصنام والأوثان التي لا تنفع ولا تضر ولا تغني شيئا.

٨٨ ـ (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨))

[هود : ٨٨]

الرزق الحسن الإشراقات النورية التي تضيء القلب ، فإذا هو مصباح منير قد عرف الأمر حقيقة وذوقا من غير شك ولا لبس ، وهذا ذوق الأنبياء والأئمة الذين شاهدوا الله كشفا ، وأيقنوا أنه أصل كل شيء ، وأنه القبل الذي لا قبل قبله ، والبعد الذي لا بعد بعده ، وأنه لا إله إلا هو.

٨٩ ، ٩٠ ـ (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠))

[هود : ٨٩ ، ٩٠]

التحذير من عاقبة الغفلة عن الحضور الإلهي ، والعاقبة بالمرصاد ، إذ فعل الذر هو الأصل ، وكل من لا يعود إلى الله فالهاوية أمامه. وترى الكفرة اليوم ضحايا اليأس والبؤس ونفض اليد من الحياة الدنيا وزينتها التي لا تستطيع أن تقدم للإنسان إلا ما قدمت ، وما تقدمه محدود العطاء لا يغني الروح ولا القلب ، وقالت النقاد في «فاوست» للشاعر غوته : لا الملكية ولا القوة والسلطان ولا المتعة الحسية تستطيع أن تشبع شوق الإنسان إلى معنى حياته ومضمونها. ففي كل هذه البدائل الزائفة كان فاوست يبقى وحيدا منعزلا عن الكل وبالتالي تعسا.

٩١ ـ (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١))

[هود : ٩١]

إصرار الكفار على عدم العودة إلى الله والإيمان بوجوده خالقا أول أصيلا أزليا قادرا به يتجوهر كل شيء ويكونه.

٩٢ ، ٩٣ ـ (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما

٣٧٣

تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣))

[هود : ٩٢ ، ٩٣]

الرهط المعقولات لأن معنى الرهط اللغوي العشيرة أي ما يحيط بالإنسان من أهل وأقرباء ... والمعنى الرمزي ما يحيط الإنسان به نفسه من معقولات تكون على الحياة عونا. فما من حركة صغيرة ولا كبيرة إلا ويركب الإنسان فيها فلك المعقولات ليمخر عباب الوجود ، ومع هذا فإن الإنسان يؤمن بالمعقولات ويتخذها فلكا يمخر به عباب الحياة ، وينسى رب المعقولات أي رب الفلك المشحون

٩٤ ، ٩٧ ـ (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧))

[هود : ٩٤ ، ٩٧]

الصيحة صيحة الحق ، وهي هنا صوت جبريل العقل الفعال الذي ينادي القلب من الداخل. وأصل الصيحة حوار الفكر ، وهو حال يعيشه الإنسان ، فما من إنسان إلا ويناجي نفسه وتناجيه وهذا هو التفكير ، ويظل الإنسان جاهلا سر هذا الحوار ومصدره وكيفية حدوثه وسبب تناقضه حتى تعلو الصيحة.

فالصيحة إذن جوانية وتقع في الخلوة بعد حبس الحواس ، ويشدد الضمير على أداء الفرائض ثم النوافل حتى يصير العبد طيفا أو كالطيف وميتا أو كالميت ، وعندئذ تتردد صيحة الحق. وتأتي الصيحة من الجانب الآخر من وادي النفس ، أي من النقيض والتضاد ، فإذا القلب قد فوجئ وهو يكتشف أولا أن كل ما يقع في ذاته ليس هو ذاته بل هو العقل الفعال الموجود في الإنسان بلا اتصال ولا انفصال ولا حلول. وهذا الإنخلاع من الأنا ، والتحاق الأنا بالأنا الكلية يبقى الإنسان هيكلا ومستودعا للأنا الكلية ، وهذا ما وصفه هيغل قائلا العقل يجب أن يعي أنه روح وأنه ليس الأنا فقط بل هو نحن أيضا ، ونحن هي الكلية والأبدية وصاحبة الوجود الأصيل ... أما الآخرون فهم كما قالت الآية ، قد أصبحوا في ديارهم جاثمين ، أي لم يبق منهم سوى بقائهم في ديار أبدانهم جاثمين أي جالسين ساكنين لا حول لهم ولا قوة ، والحق يحركهم ، ويقيمهم ، ويقعدهم ، ويقلبهم يمينا وشمالا كما فعل بأصحاب الكهف.

٩٨ ، ٩٩ ـ (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩))

[هود : ٩٨ ، ٩٩]

٣٧٤

ورود النار إحكام الحجاب ، وفرعون رمز الأنا المحجوبة ، وورود النار ليس نتيجة بل هي بداية وهي أيضا نهاية ، وبدؤها ارتداد الإنسان أسفل سافلين منذ إطلاقه صرخة استهلال الحياة عند ولادته. فالحياة الطبيعية كلها حجاب ، وما لم يشق الإنسان هذه السجف ويخرج إلى فلك ربه فإنه في نار البعد دائما وأبدا.

١٠٠ ، ١٠١ ـ (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١))

[هود : ١٠٠ ، ١٠١]

أوّل السهروردي القرية البدن ، وعلى هذا فأنباء القرى أنباء البدن وحالاته. فالعارف المحقق عالم نفسي وجودي من الطبقة الأولى ، علم تركيب بنية الإنسان ونفسه وقلبه ، وروحه ومدخله ومخرجه ومآله ومستقره ومستودعه ، وهذا ما أوضحته الصوفية ووصفوه في كتبهم ، كما فعل الإمام الغزالي في «إحياء علوم الدين».

وقوله : (قائِمٌ وَحَصِيدٌ) يعني أن مصير العلم الكشفي شعبان أو عينان ، عين يرى بها المكاشف الناس هياكل للروح الكلي ، وهذا معنى القائم ، أي أن الناس مازالوا أحياء يرزقون يأكلون ويشربون وينامون ويستيقظون ويتزاوجون ، ومع هذا فهم هو لا هم ، فهم هالكون ولا يشعرون ، والحصيد من الحصاد ، أي أن حصاد كل حياة إنسانية هشيم بالنسبة إلى الجزء أي الإنسان الفردي ، في حين أن الوارث هو الله باعتباره الوجود المطلق صاحب الوجود المقيد.

١٠٢ ـ (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢))

[هود : ١٠٢]

قرية البدن مأخوذة من داخلها ، ولهذا سمى سبحانه نفسه الظاهر والباطن .. أما الظاهر فلكون هذه الحواس تديرها النفس الحيوانية التي هي اسم من أسماء الروح الفاعل ، وأما الباطن فلأن الإنسان مخلوق على صورة الرحمن ، فكل ما له هو لله بما في ذلك قواه وإمكاناته ، ولا يعي هذا إلا العالمون.

١٠٣ ، ١٠٤ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤))

[هود : ١٠٣ ، ١٠٤]

المجموع الوصول إلى عين الجمع حيث الناس منضوون تحت النوع ، فالنوع واحد وهم كثر ، ثم ينضوي النوع تحت الجنس ، فيقال الجنس البشري وهو واحد أيضا ، فعين الجمع هي العين الجامعة للكثرة فهي واحدة من جهة العقل الكلي ، كثيرة من جهة الأعيان الظاهرة.

٣٧٥

وقوله : (مَشْهُودٌ) له علاقة بالجمع والمجموع ، إذ أن المكاشف يرى هذه الحقيقة الجامعة وذلك بعد كشف بصيرته فهو كما قال سبحانه في وصف نبيه : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق : ٢٢]. فالمشهود من الشهود ، والشهود رؤية الكثرة في القبضة هياكل وأشباحا ، وترى الأرض قد أشرقت بنور ربها ، أي ترى وجه الله ظاهرا في الكثرة ، وتراه من ثم الوارث.

١٠٥ ، ١٠٦ ـ (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦))

[هود : ١٠٥ ، ١٠٦]

تكليم النفس له علاقة بما جاء بالآية نفسها من قوله سبحانه : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ،) فأخذ الله الناس أخذ عزيز مقتدر هو تكليمه سبحانه عباده من بوق الشقاوة والسعادة. وهذا التكليم هو ما وصفه سبحانه في موضع آخر فقال : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [الشمس : ٧ ، ٨]. وبالتكليم يكون القهر وحكم الخلق ليتحقق كونه سبحانه القاهر فوق عباده ، وكونه صاحب القبضتين قبضة في الجنة وقبضة في النار.

١٠٧ ، ١٠٩ ـ (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩))

[هود : ١٠٧ ، ١٠٩]

الشقاء له علاقة بديمومة السموات والأرض ، أي أنه له علاقة بالزمان والمكان وحركتهما وكذلك السعادة. وما دامت السموات والأرض ذات أجل محدود تزول بعد انقضائه ، فإن الأشقياء والسعداء يخرجون من نطاق الخلود في الجنة والنار ، لتبدأ من ثم مرحلة أخرى هي الرحمة العامة التي بها بدئت الفاتحة وافتتحت بها كل سورة في القرآن ما عدا التوبة ، لهذا جاء في الآية قوله سبحانه : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ).

وكونه سبحانه فعالا يعني صلته بالعقل الفعال الذي هو جوهر ثان متجوهر بالجوهر الإلهي الأول آخذ عنه معط لسواه ، فهو صله الوصل بين الوحدة والكثرة ، وهو بدء التكثر ، فهو أصل صلة الرب بالمربوبين والمربوبين بالرب التي تحدثنا عنها سابقا.

١١٠ ، ١١١ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١))

[هود : ١١٠ ، ١١١]

٣٧٦

الكلمة الأمر الواقع والنافذ وهو خلق السموات والأرض وفق الناموس الإلهي الثابت والذي له الأجل المحدود. وهذا الأجل هو أجل الأسماء وتفتقها ، وانقضاؤه هو الختام فثمة مرحلة قضائية قدرية محتومة لا بد من حدوثها لملء كوى الأسماء بما تفتقه عياناتها.

١١٢ ، ١١٣ ـ (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣))

[هود : ١١٢ ، ١١٣]

قوله سبحانه : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) هو من قبيل التبليغ وإجراء الحوار بين شقي الذات الفاعلة والقابلة .. إذ هل كان بمقدور النبي أن يرفض أمر الله ولا يطيع ، وعينه عينه ، وعينه في القبضة ، وما له من الأمر شيء وهو لا يستطيع إلا أن يصدع بما يؤمر.

١١٤ ، ١١٦ ـ (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦))

[هود : ١١٤ ، ١١٦]

إقامة الصلاة تحقيق الصلة بين العبد وربه في الغداة والعشي. والنهار إشراقة الروح في فجر اليقين ، والمراد بالغداة استواء الروح على قلب السالك العارف ... أما العشي فهو بدء انسحاب الروح من حضرة التكليم والتمثيل بالصور في كشفي اليقظة والمنام إلى فلك آخر هو فلك الرموز لا غير. قال الإمام النفري : العبارة حرف ولا حكم لحرف. تعرفي إليك بعبارة توطئة لتعرفي إليك بلا عبارة. الأفكار في الحرف والخواطر في الأفكار ، وذكر الخالص من وراء الحرف والأفكار. الحرف فج من فجاج إبليس.

فالمخاطبة تبقى على حال فيه أنا وأنت ، وهو المدخل إلى علم التوحيد لكن بعد إتمام الدراسة في الخلوة تبدأ مرحلة أخرى تنسحب فيها الذات الفاعلة من الحوار لتخاطب بصور الرموز من المحسوسات في المنامات ، ليتهيأ العبد لاحتلال مكانة المرآة الإلهية حيث تصير الأنا هوية إلهية فيفنى العبد ، ويبقى بالله ، ويسمى عبد الله. وإلى هذه المرحلة أشارت الآية قائلة : (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ).

١١٧ ، ١١٨ ـ (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨))

[هود : ١١٧ ، ١١٨]

قلنا القرية البدن ، والقرى الجسم الكلي الحاوي للأسماء والممثل لها والمظهر. ولما كانت الأسماء جمالية وجلالية ، وباطنها النور الإلهي. فإن الله لا يؤاخذ ممثلي أسماء الجلال بظلمهم ، فإن وجود هؤلاء ضرورة لممثلي أسماء الجمال ، وسمى الله تعينات

٣٧٧

أسماء الجمال المصلحين لأنهم أبرزوا صفات الله الجمالية. ولما كانت الأسماء كثيرة ، ومتضادة ومتقابلة كان لا بد من الاختلاف ولو شاء سبحانه أن يجعل الناس أمة واحدة لظلوا جميعا في عالم العلم المطوي ، ولظل الله كنزا مخفيا ، ولما خاطب الحق ذاته القابلة ولما رأى نفسه في مراياه.

١١٩ ـ (إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩))

[هود : ١١٩]

الرحمة هي التي تنقذ الموحدين المرحومين من نار التناقض. ولقد خلقهم ليختلفوا ، ثم ليتوبوا من هذه الإزدواجية الظاهرة والباطنة بعد أن يتوب الله عليهم ، أما الباقون فهم سكان جهنم جميعا.

١٢٠ ، ١٢٣ ـ (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

[هود : ١٢٠ ، ١٢٣]

أنباء الرسل أنباء الكشوفات الفائضة عن عالم الذات ، إذ كل رسول مظهر لهذا العالم ، فعالم الذات واحد والمظاهر كثيرة. والتثبيت تمكين العارف وذلك بأن يرى ويسمع ويقرأ عن الأنبياء والأولياء الذين عاشوا تجربة المعراج العظيم ، والمعراج واحد ، وكل نبي له فيه مقام معلوم كما ورد في حديث النبي عن المعراج ، فما من نبي ولا ولي محقق إلا شرب من العيون التي شرب منها العارفون السابقون. فالمعين واحد ، والواحد هو لا إله إلا الله.

٣٧٨

سورة يوسف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ، ٢ ـ (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢))

[يوسف : ١ ، ٢]

ألف لام راء متعلقة بالرؤيا التي رآها يوسف عليه‌السلام ، وهي من الرؤى النبوية المبشرة بمكانة الأنبياء والأولياء أزلا ، إذ الأرواح طبقات ، وأعلاها طبقة الأرواح الأولى المشعة عن الروح الكلي.

٣ ـ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣))

[يوسف : ٣]

قصة يوسف قصة تعين الإنسان الكامل ، وكنا قد تحدثنا عن هذه المكانة في قصة نوح ، وما نوح ويوسف ومحمد سوى التعينات للروح الكلي فهم ممثلو هذه المكانة المدعوة الوجود العلمي والحضرة العلمية.

٤ ـ (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤))

[يوسف : ٤]

فسر الإمام الغزالي الكواكب والشمس والقمر بأنها ليست هذه المرئيات من الأجرام ، بل هي الحجب بين الحق والخلق. وسجودها ليوسف إشارة إلى رفعها وكشفها حتى يطلع يوسف على الحقيقة ، ويعرف المجمل والمفصل والمحكم والمتشابه والأصول والفروع. فيوسف ممثل اسمه تعالى العليم ، والعليم جزء من ذاته بثه لتبدأ رحلة ما يكون فيه بالقوة من الأسماء إلى ما هو بالفعل.

٥ ـ (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥))

[يوسف : ٥]

الإخوة بقية الأسماء ، إذ الأسماء كلها حضرة وجودية جامعة ، تتنافس الأسماء فيها ليحتل كل منها المنصب الأسمى ، لكن الاسم العليم هو الذي تكون له الصدارة ، إذ أن من صفاته سبحانه السبع العلم ، وهي صفة تلي في المرتبة الحياة ، كما تحدثنا عن الحضرة العلمية التي هي أصل الوجود العياني وأساسه.

٦ ، ٧ ـ (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ

٣٧٩

يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧))

[يوسف : ٦ ، ٧]

في الآية رد على القائلين إنه لا يعلم تأويل القرآن إلا الله ، وأنكروا أن يكون الراسخون في العلم يعلمون التأويل ، بل هم يؤمنون فقط بوجود المحكم والمتشابه كما جاء في الآية : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [آل عمران : ٧]. فلو لم تكن ثمة صفوة مصطفاة لتعلم التأويل لمّا قال سبحانه إن للقرآن تأويلا ، ولمّا قال عليه‌السلام : (إن لكل آية من آيات كتاب الله ظهرا وبطنا ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن).

ف لله رجال اختيروا ليعلمهم الله تأويل الأحاديث ، وكتاب الله حديث من هذه الأحاديث.

٨ ـ (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨))

[يوسف : ٨]

قول الأسماء العلمية لبعضها بعضا إن الاسم العليم ، وهو ما رمز إليه بمقام يوسف ، هو أحب إلى الأب الذي هو الروح الفاعل في الإنسان ، فهو لهذا بمثابة الأب. ولهذا غارت الأسماء من الاسم العليم ، إذ لا يساوي في الوجود شيء قيمة العلم وأهل العلم. وتجد في إحياء الغزالي حديثا مطولا عن العلم ومكانته ونفاسته وشرفه وأهله ، وما أعد الله للعلماء الذين هم اسمه.

٩ ، ١٠ ـ (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠))

[يوسف : ٩ ، ١٠]

غيابة الجب عالم الطبيعة والعناصر ، فهو كالجب وظلمته لكثافته ، والسيارة النفس الكلية التي هي الوجه الباطن لعالم الطبيعة وهي أصله ولا انفكاك لها عنه.

١١ ، ١٣ ـ (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣))

[يوسف : ١١ ، ١٣]

الذئب النفس الحيوانية المدبرة أمور الجسد ، ولها قوتان الشهوة والغضب ، كما أن لها خواطر سميت وسوسة ، وهمّ هذه النفس أن تأكل القلب بالإستيلاء عليه بشباك الشهوات.

١٤ ـ (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤))

[يوسف : ١٤]

رد الأسماء على اعتراض الروح بأن لها وجودها أيضا ، فليست الخواطر كلها مصدر

٣٨٠