التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

عبدا في كتابه) فهذا الفهم الذي خص الله به عبدا هو ما سماه سبحانه التأويل ، أي استنباط المعاني البعيدة في كتاب الله.

وقوله : (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) له صلة بقوله تعالى في موضع آخر : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤] ، فالإسلام درجات ، ومنها درجة التكليم الذي قال فيه عليه‌السلام : (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله كفاحا ليس بينه وبينه ترجمان) ، وهذا المقام ما يخص الله به العبد المصطفى فيعلمه تأويل الأحاديث ، وما جعل الله في كتابه من معنى بعيد والله سبحانه يقول إن التأويل إلهي له ميقات محدد كما قال ابن عباس : (لا تفسروا القرآن الزمان يفسره).

٤٠ ، ٤٢ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢))

[يونس : ٤٠ ، ٤٢]

لما كان القرآن كتاب الجمع وصدوره عن العين الجامعة كان صدوره وحي أسماء ، ولما كانت الأسماء ضروبا منها المتآلفة ومنها المتضادة كان وحيها ضروبا أيضا ومنها الوحي الحاجب الذي أبقى بعض الناس محجوبين لحكمة ، وهؤلاء المحجوبون هم المبعدون الذين قال فيهم سبحانه في موضع آخر : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [الإسراء : ٤٥ ، ٤٦] ، فبين سبحانه أنه هو الذي جعل الحجاب بين القرآن والكافرين ، والنتيجة أن القرآن يقرأ بالقلب قبل العقل ، فمن كان ذا قلب سليم تقبل القرآن وفهمه وتأثر به وانفعل ، حتى أن أبا بكر كان يبكي إذا قرأه حتى يسمع بكاؤه من الطريق ... أما من كان قلبه مقفلا كما قال سبحانه : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمّد : ٢٤] فهو لا يتقبله ، ولا يؤمن به ، ويرفضه كما كان حال أبي جهل وأبي لهب حين كانا يسمعان كلام الله.

وللبحث صلة بموسيقى الروح من جديد ، ونضيف أن هذه الموسيقى تذوق وذوق ، والتذوق أعمق جذورا من الفكر لأنه ذو صلة بالشعور والوجدان ، ولهذا قلنا إن كثيرا من الأعاجم يقرؤون القرآن ، وينفعلون ، ويبكون ، وهم لا يكادون يفقهون إلا قليلا منه ، فصلة القرآن بالإنسان صلة روحية والروح وجود سابق على الفكر ، وهو أصل له ، والروح خالد والفكر مادي قابل للزيادة كما في حال بلوغ الأشد ، وقابل للنقصان كما في حال بلوغ الكبر.

٤٣ ، ٤٤ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ

٣٤١

لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤))

[يونس : ٤٣ ، ٤٤]

النظر إلى النبي النظر إلى نوره ، وهذا النظر هو النظر الحقيقي ، إذ حقيقة الإبصار روحية ، والروح مسببها ، لاكما حاولت العلماء أن تفسر سبب الإبصار بالضوء الصادر عن الشيء المبصر ، أو النور الصادر عن العين نفسها ، إذ كلا العين والشيء المبصر مادي عرضي لا جوهري ، وكلاهما قائم بالأصل وهو الروح.

وعليه فالمؤمن يرى النبي بنور الإيمان كما قال سبحانه في وصف المؤمنين : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) [التّحريم : ٨] ، ولما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيد المؤمنين بل سيد الخلق ، كان وجهه نورا ، ولما كان المؤمن ذا قلب منور رأى ببصيرته ثم ببصره وجه النبي المنور ، فصدق به ، وآمن واتبعه ، أما الكافرون فهم أصحاب حواس لا غير ، وحواسهم مظلمة ، وهم إذا رأوا النبي لم يروا إلا وجهه الظاهر كما قال له أبو جهل : تبا لك ألهذا جمعتنا؟ ولهذا وصف سبحانه هؤلاء بأنهم ينظرون ولكنهم لا يرون الحقيقة التي هي النور فهم عمي لا يبصرون.

٤٥ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥))

[يونس : ٤٥]

الحشر حشران معجل ومؤجل ، فالمعجل هو دائم بحكم كون الناس في القبضة والله بهم محيط ، وبأمره تكون الأشياء والصفات والأفعال ، فالكل بسبب الإحاطة والأمر محشورون ، والحشر المعجل عودة متشخصات الأسماء إلى التجريد الكامل بعد انفكاكها من أسر التعينات ، وهذه العودة خارجة على نطاق الزمان والمكان لأنه ما إن يخلص الاسم من تعين حتى يدخل في تعين ، لأن الاسم لا يكون اسما إلا بالتعين ، واسم من غير تعين لا وجود له ، لأن الصفة تقتضي الموصوف مثلما الموصوف يقتضي الصفة.

أما الحشر المؤجل فهو انتهاء دورة الزماكان الوجودية التي بدأت بانفجار السديم الأول ، فتشخصت الأجرام على جميع المستويات حتى إذا استوفت الدورة أجلها أي زمانها النسبي انفجرت الأجرام ، فعادت سديما أول كما كانت ، واستراحت الدورة الكونية إلى أن يحين موعد دورة جديدة.

٤٦ ـ (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦))

[يونس : ٤٦]

الرؤية هنا رؤيا ، وهي خاصة بالكشوف الصوفية ، وفيها يرى المكاشف كيف تخلص الصورة من المادة ، فتكون صورة خالصة معلقة في عالم الخيال المنفصل ، وهذا ما تراه

٣٤٢

الأنبياء والصوفية الموحدون في كشوفهم ، وعودة هذه الصور هي المرجع إلى الله.

٤٧ ، ٤٨ ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨))

[يونس : ٤٧ ، ٤٨]

الأمم هنا أمم الأسماء ، ولكل اسم جامع صفة خاصة به حتى قيل : إن معجزة كل نبي تكون من جنس ما غلب على زمانه لتكون أدعى للاستجابة ، ففي زمن موسى شاع السحر ، وفي زمن عيسى شاع الطب ومعجزاته ، وفي زمن محمد شاعت الفصاحة فيكون بعث الرسول من طبيعة الاسم الجامع القاهر فوق الزمان الخاص.

٤٩ ، ٥٠ ـ (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠))

[يونس : ٤٩ ، ٥٠]

ليس للنبي من أمر ولا إرادة إلا ما أراد له ربه ، فما النبي إلا واسطة بين الله والناس ، وقوله : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ) يعني كون النبي منفذ مشيئة إلهية ، إن شاءت وجهته يمينا ، وإن شاءت وجهته شمالا ، كما فعل بالعبد الصالح الذي لقيه موسى عند البحرين ، فالنبي عبد من عباد الله الصالحين هو ممثل العبدية التي هي مقام يتم فيه انسلاخ الإنسان من بشريته ليصير مستودعا للصفات الإلهية وممثلا للمشيئة الإلهية ومنفذا للإرادة الإلهية.

أما أجل الأمة فهو بحث عالجته الفلاسفة قديمآ وحديثا ، ويعدّ الفيلسوف وايتهيد على رأس من درس ظاهرة ولادة الحضارات وترعرعها ، ثم انتقال الحضارات ... ومن قبله طرق الموضوع ابن خلدون فجاءت مقدمته دراسة تاريخية شاملة في شأن الحضارة وبلوغها أشدها ثم انحطاطها وذهابها ، وفي المانيا قام اشبنغلر بوضع كتاب سقوط الغرب ، وعالج فيه موضوع ظاهرة الحضارة الغربية الحديثة ، وتنبأ بسقوط هذه الحضارة في المستقبل لأسباب ذكرها في كتابه الكبير.

وتتفق البحاثة والمؤرخون على استحالة ذكر الأسباب الجوهرية التي تكون سببا في ولادة الحضارات ، ويقول وايتهيد : إن السبب الجوهري ظل سرا من الأسرار ، في حين تقول الآية الكريمة إن الله هو الفاعل المولد للحضارات ، وعبر عن ذلك بآجال الأمم ، كما جاء أيضا أن هذا الأجل محدد إذا جاء لا يستأخر ساعة ولا يستقدم.

٥١ ، ٥٥ ـ (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ

٣٤٣

لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥))

[يونس : ٥١ ، ٥٥]

فطرت النفس البشرية على التكبر والتجبر ما لم يشع فيها نور الهوى ، فيعلمها التواضع لخالقها الذي هي بضع منه ، ولأن هذه النفس شطر مشطور من الذات الكبرى فإنها تشعر في ساعة الشدة والعسرة بضرورة لجوئها إلى خالقها حتى وإن لم تعترف فكريا به ، كما المشركون الذين يبغون في الأرض بغير الحق ، حتى إذا أخذتهم الشدة استغاثوا الله بالفطرة أيضا ، وهذا ما عبرت عن الآيات.

٥٦ ـ (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦))

[يونس : ٥٦]

الإحياء والإماتة هنا إشارة إلى اسمه تعالى المزدوج الهادي المضل ، فالضلالة موت والهدى حياة ، وكلاهما من صنع الله عزوجل وفي علمه القديم لإظهار مقتضيات الأسماء الإلهية القاضية بوجود النور والظلام.

٥٧ ، ٥٨ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨))

[يونس : ٥٧ ، ٥٨]

شفاء الصدور شفاؤها من خواطرها ، إذ أن علة الصدر المزمنة هي هذه الخواطر التي لا تغادره وهي له بالمرصاد ، فليحاول الإنسان إيقاف هذا السيل الذي كتب عليه أن يكون هو الإنسان قشة محمولة على زبده ، ولا خلاص من أسر هذا النور إلا بالنور الهادي الذي هو رحمة للمؤمنين ينجيهم من جهنم هذا العذاب.

٥٩ ، ٦٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠))

[يونس : ٥٩ ، ٦٠]

لا يحق للإنسان أن يحل ويحرم من عنده فهذا أمر فوق مقدور البشر ، والإنسان جاهل جهول بمصلحته ، والله أدرى به ، فالنصارى الكنسيون الذين حرموا الزواج بأكثر من واحدة عانوا من هذا التحريم ما عانوا ، وإذا الغربيون اليوم يعانون من مشاكل الزنى واتخاذ العشيقات ، وما يتبع من إنجاب الأطفال غير الشرعيين بحيث لا تجد من حل لهذه المشكلة الاجتماعية سوى تعدد الزوجات ، كما نجد في المجتمعات التي تتقيد بالزواج من امرأة

٣٤٤

واحدة مشاكل أخرى كمشكلة العنس اللواتي يشكلن أحيانا ثلث النساء ، ووجود الأرامل والمطلقات ، وخاصة في زمن الحروب التي تأتي أحيانا على معظم الرجال كما حدث للألمان في الحرب العالمية الثانية.

كذلك فإن تحريم الطلاق لدى المسيحيين أثار مشاكل اجتماعية لم يكن لها من حل سوى قبول شريعة الطلاق نفسه وهو حل تبنته دول الغرب دولة بعد أخرى واشترعته.

ونحن نضرب هذه المشاكل الاجتماعية الحديثة مثلا للخلاف الجوهري بين نظرة الإنسان والنظر الإلهي ، فالإنسان لا ينظر إلى أبعد مما يبلغه فكره ، أما الفكر الإلهي فهو الفكر الكلي الأزلي الجامع أصلا للعلوم ، والذي هو خالق النفس وخواطرها والعليم بحاجاتها ومتطلباتها ، فإذا أحل الله شيئا فحلاله هو الذي يناسب طبيعة الإنسان ، وإذا حرمه فحرامه هو الأصلح أيضا ، فهو سبحانه الواصف نفسه بأن العليم الحكيم الخبير.

٦١ ـ (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١))

[يونس : ٦١]

الذات المطلقة بشرط الإطلاق هي غير الذات المطلقة لا بشرط الإطلاق فالأولى غنية عن التعين ، والثانية هي المتعينة ، وقالوا : إن ما يكون به التعيين هو غير التعين ، وهذا معنى قول ابن عربي إن الظاهر هو غير المظاهر.

والذات المطلقة لها الوجود الأصيل لأنها متجوهرة بذاتها كما قال الفارابي ، أو متهوية بهويتها ، أما الذات المتعينة فهي المتقوية بالأولى لا فكاك لها عنها لحاجتها إلى القوامة والقيومية ، كما لا فكاك لها عن العالم الحسي الذي هو مادة التعيين ولما كانت الذات الجزئية مضافة فلقد وصفت بأنها عدم ، وعرف الفارابي العدم بأنه نقص في الوجود ، وذلك بحكم كون هذه الذات مضافة إلى الذات الخالصة ، وعليه فالذات الخالصة تتصف بالصفات الآتية أولا هي الوجود الأصيل ، ثانيا لها القوامة على الذات الجزئية ، ثالثا لها القوى التي تمد بها الذات الجزئية ولها عملها أيضا ، فما الأخيرة إلا برمجة حاسوب ، فهي تموضع ومركز ومحل لا أكثر ، وإلى هذا أشارت الآية الكريمة.

٦٢ ، ٦٤ ـ (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤))

[يونس : ٦٢ ، ٦٤]

٣٤٥

أولياء الله تجسيد كلمته القديمة التي كان آدم أول تجسيد لها ، ثم الأكمل فالأكمل من الأنبياء والأولياء ، فالولي اسم الله العليم ، وإذا قارب الولي الأربعين رأى الرؤيا الصالحة التي هي إيذان بحلول ليلة القدر ، وفيها يرى الولي قدره عند الله ... ومن علمه بقدره ، وبأنه ظل للصورة الأزلية القديمة الحية القيومية والتي ترعاه وتحفظه ، ولعلم الولي بمدخله ، ومخرجه ، وبأنه محفوظ من خاطر النفس والوسوسة ، وبأن الله مبلغ عبده مأمنه ، ومقربه منه ، فإن الولي لا يعود يخاف أو يحزن ، كما أن لياليه تصير كلها قدرا حافلة بالرؤى الصالحة الملهمة المعلمة الصادقة. وهذه الرؤى هي ما سمتها الآية البشرى في الحياة الدنيا.

٦٥ ـ (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥))

[يونس : ٦٥]

العزة القوة ، والعزيز المنيع الذي لا يدرك. واتصاف العزة الإلهية بالجمعية إشارة إلى أن الله حاصل كل قوى العالم ، وأن هذه القوى هي منه أصلا ورفدا وقيومية ومددا.

٦٦ ـ (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦))

[يونس : ٦٦]

الشركاء إشارة إلى التعينات الظاهرة ، فكل الناس سوى الموحدين ينظرون إلى الوجوه فيظنون أن لها الفعل والأمر والمشيئة والإرادة والتدبير. والموحد وحده هو الذي يرى الله الظاهر بالوجوه المتعينة ، قال عبد الكريم الجيلي : الخلق حجابك عن نفسك ، ونفسك حجابك عن ربك ، مادمت ترى الخلق لا ترى نفسك ، ومادمت ترى نفسك لا ترى ربك.

٦٧ ، ٧٠ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

[يونس : ٦٧ ، ٧٠]

الليل الروح وهو هنا بمثابة الظل بالنسبة إلى الإنسان. والسكن في الليل سكن إلى الروح وغشيان عوالم الرؤى والمنامات الصادقة ، والليل راحة للأعضاء والحواس ، ومنها الفكر الذي يستريح في النوم ، ويبقى الروح أو روح الروح هو الساهر على الإنسان لا تأخذه سنة ولا نوم. فكل نشاطات الجسم خلال النوم ، ومنها استمرار تمثل الغذاء وترميم الخلايا التالفة ، أي كل ما له علاقة بالنفس النباتية التي وصفت بأنها جاذبة ما سكة هاضمة دافعة ثم أخيرا مربية ، هذه العلاقة الروح الفاعل هو المسؤول عنها يمدها بالقوى والنشاط.

٣٤٦

أما المنامات فلقد فصلنا الكلام فيها في كتابنا النصوص في مصطلحات التصوف ، ونوجز القول هاهنا فيها فنقول : إن المنامات ذات رفدين منامات لها صلة بالنفس الحيوانية ، وما يحدث في هذه النفس من تأثيرات خارجية وانطباعات حسية لها علاقة بالعالم ، ولها مخاوفها وترددها وشكها وخيالاتها وأحلامها وتطلعاتها إلى المستقبل ... فهذه كلها لوحة عصبية تهتز أسلاكها فتنتج تلك المنامات وسماها سبحانه أضغاث أحلام ... وهناك المنامات التي وصفها النبي بأنها بشرى ، وهي ذات صلة بالنفس الكلية ، فالقلب ينفتح هنا على العالم الداخلي للذات الباطنة التي تريه صورا هي محاكاة الصور الظاهرة ، ولكن لها معاني سماها سبحانه تعبيرا ، والتعبير استخلاص المعنى الباطن للمنام وحل مرموزاته.

والحقيقة أن الناس جميعا يرون منامات واردة من عالم الروح الباطن ، ولكنهم لا يفهمونها لأنهم لا يعبرون ، إذ التعبير علم إلهي اصطفى الله لهم عبادا فهمهم إياه ، وسيد هذا المقام يوسف عليه‌السلام.

وقوله : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) إشارة إلى الحواس الظاهرة والباطنة في تثقيف القلب عن طريق مده بالمعلومات التي هي الوجه الظاهر للمعقولات ، ولهذا ربط النهار بالإبصار. والقلب من غير الإبصار ما كان لينتهي إلى المقام الذي تتفتح فيه البصيرة ، إذ عالم البصيرة عالم المعقول والرمز ، فلا بد من شهود العيان لفهم هذه الأعيان الثابتة التي لو لا العيان الظاهر لظلت مرموزات مطويات مكنونات معطلات حكمها حكم العدم.

٧١ ، ٧٢ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢))

[يونس : ٧١ ، ٧٢]

كنا قد تحدثنا عن نوح ، وكونه في مقام الصورة الجامعة. فنوح خليفة آدم الظاهر ، وآدم أبوه الباطن ، والإثنان ممثلا الاسمين الظاهر والباطن لله عزوجل. ونوح دعا قومه إلى الوحدة والتوحيد والإيمان بالألوهية الشاملة وأنكر على قومه إشراك الشركاء في هذه الألوهية. ولهذا وصف نوح بأنه مسلم ، وهو من إسلام الوجه أي حقيقة الإنسان ، لله عزوجل.

٧٣ ، ٧٤ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤))

[يونس : ٧٣ ، ٧٤]

٣٤٧

الفلك الأزواج من الصور الظاهرة. فعند نفي العيان تبقى الأعيان الثابتة ، والأعيان صور ، وهي مزدوجة لأنها متقابلة. وما في الوجود إلا هذا الفلك العائم في بحر العماء ، وما عداه من موجودات ظواهر لهذه الأعيان ، أشباح لها وظلال ، إذ للأعيان الثابتة الوجود الحق المشع أزلا عن الله.

٧٥ ـ (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥))

[يونس : ٧٥]

موسى وهارون القلب ثم الروح وبعثتهما إلى النفس المادية ، والآيات آيات الروح من المعجزات وعلى رأسها الكشف الروحي.

٧٦ ، ٧٧ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧))

[يونس : ٧٦ ، ٧٧]

السحر التهمة التي يوجهها أصحاب الفكر النظري إلى أصحاب الكشف عند ما ينكرون ما يأتونهم به من علوم ذوقية عجيبة عظيمة.

٧٨ ـ (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨))

[يونس : ٧٨]

ما وجدوا عليه آبائهم هم أصحاب الفكر أنفسهم الذين لا يؤمنون بغير الفكر طريقا إلى الحقيقة واستخلاص العلوم عن طريق التجربة وأساليب الحس والعمل ثم التجربة.

والكبرياء العلو في الأرض ، وذلك عند ما يكشف أصحاب العرفان أوراقهم فإذا علومهم عالية على علوم الفكر ، وإذا أحكامهم مسددة عالمية شاملة ، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها كأحكام الشريعة التي أنزلها الله على الأنبياء.

٧٩ ، ٨٢ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢))

[يونس : ٧٩ ، ٨٢]

مواجهة علوم الفكر وأساليبه علوم الروح وأساليبه. فالأول سلاحه التجربة والمنطق من مقومات وقياس ونتائج واستدلال ، والثاني سلاحه تجريد القلب من كل ما سوى الله الذي هو نور أتم وعقل كامل حوى العلوم كافة ، وهو لا يسأل الإنسان شيئا سوى أن يكون مجلو المرآة لاستقبال الأنوار

قال محمد إقبال : ترى فلاسفة بالألوف ورؤوسهم مطمورة ، وصاحب الوحي وحده يتحرك

٣٤٨

ورأسه مرفوع ، والمعنى أنه مهما جد الفكر واجتهد ، ووصل إلى حلول القضايا ومشاكل اجتماعية ونفسية فإن هذه الحلول تتأرجح بين الصواب والغلط. فبعض الفلاسفة مصيب وبعضهم غلطان ، وقد يخطىء خطأ لا سبيل إلى إصلاحه. والمشكلة أن لا سلاح في يد الفلاسفة سوى الفكر وآلاته وأساليبه ، وإلى هذا الفكر المسمى العقل في الفلسفة الحديثة وجه الفيلسوف كانط قذائف نقده ، إذ بيّن تهافت العقل كما فعل الإمام الغزالي من قبل ، كما بيّن أن أساليب المنطق العقلي تثبت الشيء ونقيضه مثل إمكان إثبات أن الإنسان حر ومسيّر. فحسب قانون السببية الطبيعي فالإنسان مسيّر لأنه مخلوق من مخلوقات الطبيعة يخضع لقوانينها وعند القيام بعملية استبطان ذاتية يتبيّن للإنسان أنه مخيّر قادر على أن يفعل ما يشاء أو أن لا يفعل. ولم يجد كانط حلا لهذا التناقض فلسفيا ، وقال إن هذه المسألة تبقى لغزا من الألغاز. في حين شنّت الصوفية هجومهم الكبير على هذا السور فدكوه عند ما أعلنوا أن الإنسان مجبور في اختياره ، أي أنه إن اختار فاختياره من اختيار الله ، وأنه متحرك داخل الإرادة الإلهية ، وتعد الأحاديث النبوية نبراسا اهتدى بهديه أعلام الصوفية وفلاسفة المسلمين الموحدين أمثال الفارابي وابن سينا الجامعين بين علوم الفلسفة والدين ، وهذا ما أشارت إليه الآية الواحدة والثمانون قائلة : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ).

٨٣ ، ٨٦ ـ (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦))

[يونس : ٨٣ ، ٨٦]

علو فرعون علو النفس الأمارة في أرض البدن والحواس ، ولهذا وصف سبحانه علو النفس الترابية هذه بأنه أسفل سافلين ، وقد وصف أتباع النفس الدنية هذه في كتاب الله بأنهم كثير لما قال سبحانه : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [النّحل : ٧٥] ، (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [المؤمنون : ٧٠] ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) [يونس : ٦٠] ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [العنكبوت : ٦٣].

فعلو فرعون كون أتباعه أكثر أهل الأرض ، ولهذه الكثرة غاية ومن وراء وجودها حكمة .. ذلك أن المعادن كلما كثرت رخصت ، وكلما ندرت غلت وعظمت في عيون الناس قيمتها. فلو أن الصادقين كثروا ، وكذلك المؤمنين المحسنين ، وكذلك الحلماء العافين عن الناس إلى آخر من يمثلون المعادن النفيسة النادرة لما احتلوا المكانة التي يحتلونها في أعين الناس ، ثم إن

٣٤٩

قيمة الجهاد كامن في شدة البلاء ، وعظمة الصبر والمصابرة كائنة في ساعات الشدة والعسرة والرعب. ولو أن جهاد النفس الأمارة لم يكن شديدا كما وصفه عليه‌السلام بأنه الجهاد الأكبر لما سمي جهادا أصلا ، إذ الجهاد من المجاهدة والجهد أي التعب العظيم ، ويقال في اللغة لقد بلغ به الجهد ، أو بلغ منه.

٨٧ ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧))

[يونس : ٨٧]

مصر مدينة البدن ، والبيوت كوى الأسماء في هذه المدينة ، فمصر المدينة الجامعة ، أو البدن الجامع ، أو الجسم الكلي ، أو العالم المادي الكبير وبيوت الأسماء موضع الأسماء من هذا العالم كما كنا تحدثنا عن سبق وجود المعقولات للمحسوسات كما قال كانط وهيغل ، ومن قبلهما فلاسفة المسلمين ، ومن قبلهم فلاسفة اليونان وعلى رأسهم أفلاطون.

وقوله : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) يعني يمموا وجوهكم شطر مسجد القلب حيث نور الروح يشرق في البصيرة ، فالإسلام لا يحول بين المسلم والعالم ، ولقد عدّل الإسلام موقف الزهد المسيحي حيث قال سبحانه : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) [الحديد : ٢٧] ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني). وقال سبحانه : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢] ، فالإنسان خلق من تراب الأرض ليأكل من خيرات الأرض ، ثم يولي وجهه شطر ربه يعد ذلك ، وهذا معنى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة : ٤٣] الوارد في الآية.

ولئن أعلن الصوفية وفلاسفة التوحيد حربهم على العقل الفكر وأساليبه المنطقية فلقد فعلوا هذا دفعا للإعتماد على العقل وحده كما فعل أرسطو وأشياعه. وما عملية تجريد المعقولات من المحسوسات سوى التطبيق العملي لعلم المنطق في المرحلة الأولى من جمع المعلومات ، حتى إذا بلغ العقل أشده وآن أوان حلول اليقين ، ألقى المجاهد سلاحه ويمم شطر المسجد الحرام ودخل من باب السّلام ، ليجد السّلام في ربوع الحرم وهو طائف بالكعبة ، ثم قصد جبل عرفات لتتم المعرفة ، فالمعرفة إذن درجات ، والطريق إليها ذو شعبين شعب يفضي إلى العالم العياني ، وشعب يفضي إلى العالم الروحي الجواني.

٨٨ ـ (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨))

[يونس : ٨٨]

٣٥٠

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من طلب الدنيا طلبته الآخرة ، ومن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه). والمعنى أن من يولي وجهه شطر الدنيا تأكله الدنيا لأنها حلوة خضرة ، هي في حقيقتها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، فالإنسان ما خلق إلا ليعرف ربه ، ومن دون تحقيق هذه الغاية فلا راحة لإنسان في هذه الدنيا. وتجد الغربيين الذين اعتمدوا الدنيا ، ومدوا أعينهم إلى زينتها فقط ، وأنكروا الله والروح ، تجدهم ضحايا الكآبة والسأم ، وتتفشى فيهم أمراض تعاطي المخدرات والأمراض النفسية كالعصاب ، وتبلغ نسبة الإنتحار عندهم أعلى نسبة في العالم ، وهذا كله ناجم عن أن الإنسان لا تشبع حاجاته عطايا الدنيا وحدها. وهو ما لم يحقق غاية الله من خلقه فستظل روحه ضائعة تحس الخواء وتعيشه.

٨٩ ، ٩١ ـ (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١))

[يونس : ٨٩ ، ٩١]

مجاوزة البحر مجاوزة العالم المادي إلى العالم الروحي ، أو عالم الإمكان إلى عالم الوجوب ، أو عالم الأعراض إلى عالم الجوهر. وبنو إسرائيل أصحاب القلوب السليمة المتوجهة إلى الله ، فإذا تحقق هذا غرق فرعون وجنوده أي النفس الأمارة وخواطرها.

٩٢ ـ (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢))

[يونس : ٩٢]

قوله : (نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) يعني أن النفس الأمارة لا تموت ، ولكن يموت طغيانها ، وإذا نظرنا إلى المثال المضروب على أساس أن الإنسان الواحد لا كالكثرة ، كان المعنى أن القلب بعد توجهه إلى عالم الروح تنكسر شوكة نفسه المضادة أولا ، ثم تقر وتؤمن بأنه لا إله إلا الله ثانيا ، وهذا ما فعلته زليخا امرأة العزيز بعد أن راودت يوسف القلب عن نفسه.

وعند بلوغ السالك مقام الفناء تكون نفسه فنيت ، وما تفنى نفسه بل تفنى آثارها وأفعالها ، أي إحساسها بأنها قائمة بذاتها لا بالله. والفاني ليس من فني ، بل هو من رأى فناء فعله وصفته وقيام نفسه بالله صفة وفعلا.

٩٣ ـ (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))

[يونس : ٩٣]

مبوأ صدق الوصول إلى اليقين ، وعند بلوغ عين اليقين تتفجر ينابيع العلوم منها ، وهذا ما

٣٥١

وصفته الآية بالطيبات ، فالفاني القائم بالله عالم وعارف بالله.

٩٤ ، ٩٦ ـ (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦))

[يونس : ٩٤ ، ٩٦]

الخطاب موجه إلى النبي للعظة ، ففي كتب الأولين خلاصة ما أنزل على النبي من علوم. وما من ديانة سماوية أو غير سماوية إلا وفيها حظ من هذا الجوهر النفسي المسمى علم التوحيد ، فما جاء النبي ببدع من القول ، وما جاء به تعرفه اليهود والنصارى والمجوس أهل فارس والروم والبوذيون والهندوس. إذ جوهر هذه الأديان واحد ، وما وقع من خلاف وقع بسبب التحريف وتحقيق المآرب الخاصة.

٩٧ ـ (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧))

[يونس : ٩٧]

أصحاب القلوب الغافلة لا يؤمنون بالآيات ولا بالمعجزات ، وأن رأوا معجزة قالوا هذا سحر وما هو من الحقيقة في شيء ، فبينهم وبين الإيمان سور مضروب من قبل الحق لا سبيل إلى اختراقه أو طفره.

٩٨ ـ (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨))

[يونس : ٩٨]

قوم يونس إشارة إلى أصحاب القلوب التي تنورت بنور الهداية فهدوا إلى سواء السبيل ، وانتبهوا من نوم الغفلة ، وأحياهم الله بعد أن ماتوا الموت النفسي المعنوي.

٩٩ ، ١٠٩ ـ (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ

٣٥٢

جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))

[يونس : ٩٩ ، ١٠٩]

الآيات القاهرة التي تظل أعناق الناس لها خاضعين. فموضوع المشيئة عالجناه من قبل ، ودارت حوله مناقشات ومحاورات ملأت المجلدات فهل الإنسان هو الذي يشاء أم الله؟ وإذا شاء الإنسان فأين مشيئة الله ، وإذا كان الإنسان حرا يحس أنه حر ، وأنه يقف في كل موقف أمام مفترق طرق وعليه أن يختار ، فكيف يكون الله القاهر فوق عباده؟ ومتى يتدخل الله ويقف في وجه الإنسان ليحقق مشيئته؟ والسلسلة لها أول وليس لها آخر. فكل يغني على ليلاه ، أما المحققون المكاشفون ، وعلى رأسهم سلطان العارفين ابن عربي ، فلقد بتوا الموضوع وشرحوا معنى لا إله إلا الله ، ومعنى كونه القاهر فوق عباده ، وناصية الجميع في يده.

والحقيقة أنه مادام الإنسان القابل المخلوق لاستيعاب الفاعل ، ومادام هذا القابل سلبيا أصلا لاتصافه بالقبول أولا ، ولاتصافه بقيامه بغيره ثانيا ، فهو ليس إلا مرآة وآلة وأداة لتحقق الفعل ، كما سبق أن بيّنا هذا من قبل.

فمفترق الطريق الذي يقف أمامه الإنسان هو مصدر القهر على الحقيقة فخاطر يثبت وخاطر ينفي ، وخاطر يقرب وخاطر يبعد ، والكافر يعتقد بأن فكره فكره ، وأن قواه العقلية منه وبه خيالا وذاكرة وتجريدا وفتقا إلى آخر المنظومة العقلية التي تؤلف عملية التفكير.

ويبقى السؤال : كيف اكتسب الإنسان أنيته وهو مخلوق لا خالق ، وكيف يفكر الإنسان ويختار ويتخد قرارا وهو يجهل من هو ويجهل كيف يفكر وكيف يتخذ القرار. وتجد الناس إذا رأوا أحدا يأتي أمرا نكرا قالوا له : كيف فعلت هذا أليس لك ضمير؟ فما الضمير؟ وكيف يكون موجودا في إنسان ، ولا يكون موجودا في آخر؟

أما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال في هذا الصدد : (القلب بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء) ، وقال : (أو ما يؤمنني أن القلب مثل ريشة في الفلاة تقلبها الريح كيف تشاء؟) فالنبي أنكر أن يكون للإنسان مشيئة أو إرادة ، ورد الأمر كله إلى الله. قال أنس : خدمت النبي عشر سنين فما قال لي عن شيء لم أفعله لم لم تفعله ، وكان إذا عاتبني أهله في شيء قال : (دعوه فلو قضي شيء لكان).

وتبعت النبي الصوفية الذين قالوا ما الإنسان إلا أداة. وذهب ابن عربي إلى أبعد من هذا حين شرح بلاثيوس المستشرق عقيدة ابن عربي القائلة إن الله سميع بصير عليم عن طريق استخدام الإنسان ، أي أن الله هو الفاعل في هذه الملكات التي هي منه وبه ثم هي له ، ولهذا

٣٥٣

وصفنا الحواس الحسية في بعض المواضع بأنها لاقطة ، وقلنا إن المعقولات تفتقت في عالم العيان وكان علم الله بها كليا ، فلما تفتقت علم تفاصيل العلوم ، فكان الله العلم والعالم والمعلوم ، وعلى هذا فالعملية كلها إلهية الغاية منها ظهور العلم المرتق المجمل في ما هو ظاهر مفصل ، فالتحقيق يكشف إذن نفي الإنسان كوجود حقيقي ، وإثبات أن للحق هذا الوجود عن طريق استخدام الآلية الفكرية الإنسانية.

والخلاصة التي تنتهي إليها أن الإنسان إذا فكر وتردد وشاء واختار فإنه يفعل هذا باعتباره القابل لمؤثرات إلهية باطنة ، وباعتبار أن اتخاذ القرار هو من فعل الفاعل الفعال الواحد القهار الذي لا شريك له في الملك ، بل لا وجود لأحد أيضا في حضرة هذا الوجود الأحد الكلي الصمد الذي كان ولا شيء معه وهو الآن على ما كان.

٣٥٤

سورة هود

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ، ٤ ـ (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤))

[هود : ١ ، ٤]

كنا قد أوّلنا حروف الألف واللام والراء سابقا ، والتأويل الجديد الداخل في المعادلة هو للراء. ورأرأ ، لغة ، حرك حدقته وأحدّ نظره ، ورأرأت المرأة نظرت في المرآة ، ورأرأ السحاب لمع ، فهذا الحرف خاص بالرؤية. ولما كان حرفا الألف واللام خاصين بالفعل الإلهي ، بخروج الوجود العياني من الوجود الرحماني ، فالنتيجة كما قال سبحانه في الحديث القدسي : (كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني). فالخلق إذن مرآة الحق ، ولهذا رأينا في معاني فعل رأرأ نظر المرأة في المرآة ، والمرأة الأنوثة ، وهي إشارة إلى الأنوثة الإلهية صاحبة العطاء والأمومة والنسل. فالحق سبحانه مراياه الخلق ، ولما كان الخلق خلقا بلا خلق ، أي خلقا شبحيا متوهما كما ذكرنا من قبل شرح الناقد بلاثيوس لعقيدة ابن عربي فالنتيجة أن الحق هو الناظر إلى نفسه عبر المرآة. وقيل إن ما يراه المرء عبر النظر في المرآة إلى وجهه هو غير ما يمكنه رؤيته إذا لم تكن أمامه مرآة. فالحق إذا ظل تنزيها ، أي لا تعينا ، فهو نور خالص ، والنور الخالص يظل أحدا واحدا من غير أن ينظر إليه ، وقالوا في الرياضيات : إن العدد واحد لا يعد عددا لأنه أصل الأعداد ومبتدؤها. فالواحد إذن في حاجة إلى وجود متعين ليرى نفسه بنفسه ونحن نورد عبارة نفسه بنفسه أو ما يقال بلغة الفلسفة بذاته لذاته لأن الصوفية وعلى رأسهم ابن عربي أبوا أن يكون في الوجود كله عيانا وعينيا ، إثنان أو أكثر ، وقالوا : إن أصل الشرك الإثنينية ، ويصر ابن عربي كما بيّنا على أنه لا وجود إلا له سبحانه ، وأنه هو أحد واحد ، وأن هذه الكثرة في حكم الإعتبار والنسبة الإضافة ، أي هي مضافة إلى هذا الوجود فقط.

إذن كان الناظر هو سبحانه إلى نفسه بنفسه ، وهو الآن كما كان الناظر إلى نفسه بنفسه ، وذلك بعد أن بيّنا أنه ما من وجود حقيقي إلا له. وفلسفة إسبينوزا من ألفها إلى يائها تفسر كون الوجود إلهيا وإن تكثر ، وقال في معرض الرد على النقاد : أنا لم أهبط بالله إلى مستوى الطبيعة بل رفعت الطبيعة إلى مستوى الله.

٣٥٥

فما الطبيعة أولا ، وما الخلق ثانيا؟ ونحن قد شرحنا وبيّنا في كتبنا «فتح الوجود» و «الإنسان الكامل» و «النصوص في مصطلحات التصوف» معتمدين أحدث النظريات العلمية تفسيرا ذريا للوجود ، كيف أن الوجود الظاهري يرد بعد التحليل إلى مجرد ذرات ، ذرات سالبة وذرات موجبة ، وأن هذا السالب وهذا الموجب هما قطبا الألوهية ، لأن هذه الذرات ذات أصل هو السديم الأول الذي هو ذر لطيف تكثف فكون عالم الأجرام.

وفي كتابنا «الإنسان الكبير» بيّنا وشرحنا كيف يكون الله أساس الوجود وباطنه ، كما شرحنا كيف يحرك الله عالم الذر أولا ، ثم عالم الخلق على جميع المستويات ، وأنه هو روح الجماد وروح النبات وروح الحيوان ، ثم هو أخيرا الروح اللطيف الساري في الإنسان ، وأنه هو حقيقة الإنسان.

فمعنى التوحيد شرح معنى لا إله إلا الله ، أي لا وجود ولا موجود إلا الله ، وهذه الحقيقة هي ما أشارت إليها الحروف الثلاثة التي ابتدأت بها سورة هود.

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى كشفا هذه المكاشفات التي أطلعته علما على سر الوجود وحقيقته ، وهو القائل : (لي وقت لا يسعني فيه إلا ربي) ، أي أنه في حال لا يجد فيه من هذا الوجود إلا ربه ، لأن فعل وسع من السعة ، والسعة للوجود ... كما تذكر عائشة رضي الله عنها أنها دخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فوجدته ذاهلا ، نظر إليها وسألها : (من أنت؟ قالت : عائشة ، قال : ومن عائشة؟ قالت : زوجة محمد ، فقال : ومن محمد؟) فهو عليه الصلاة والسّلام عاش الفناء الذاتي لما قال لعائشة ما قال وهو في حال انتفى فيه كل شيء من حوله حتى وجوده هو نفسه.

هذه الحقيقة العرفانية هي ما يصل إليها المكاشفون المحققون بعد أن يبلغوا درجة القرب الإلهي ، وهو قرب بلا قرب ، لأنه لا يعود هناك عبد ورب ، بل رب واحد أحد يقول لعبده الذي هو نفسه ، ونفسه مرآته سبحانه ، يقول له ها أنذا ... ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (شيّبتني هود وأخواتها) ، لأن في سورة هود الإشارات إلى الحقيقة الكاشفة ذوقا وعرفانا معنى لا إله إلا الله.

٥ ـ (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥))

[هود : ٥]

الثياب الصفات ، والتغطي بالثياب الظهور بالصفات باعتبارها إنسانية ، وما للإنسان دور في هذا المجال ، فالكريم يولد كريما ، والشجاع كذلك ، قال عثمان رضي الله عنه لما طلب إليه النزول عن الحكم : (لا أنزع سربالا سربلنيه الله).

وقوله : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) يعني كون السريرة من مجاله تعالى ، وسبق أن قلنا :

٣٥٦

إن الإنسان مقر للذات والصفات وجسر ومعبر ، فإذا كان الله هو السر والعين والنجوى فكيف يستخفي الإنسان منه ، بل ما ذا يبقى من الإنسان بعد أن يجرد من سره وعينه ونجواه؟

٦ ـ (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦))

[هود : ٦]

الدابة في الأرض مثل الفكر في الجسد. فالفكر يشع عن الروح بواسطة الدماغ ، ولا فكر بلا دماغ ، مثلما أنه لا ضوء بلا مصباح ، ولا دماغ بلا روح مثلما أنه لا مصباح بلا كهرباء ، فالمصباح بلا كهرباء ليس مصباحا.

والرزق مقدار سعة الفكر ، ووصف سبحانه هذه السعة بقوله في موضع آخر : (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [الرّعد : ١٧]. وقال عليه‌السلام : (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس). ووصف اسبينوزا وجود البله والعجز بأنهم نوع من الخلق ، وأن لله كل أشكال الوجود.

فالفكر في ارتقائه حتى أفق الإبداع ، وفي هبوطه حتى حضيض البله هو ترمومتر ، عليه يصعد الروح الفاعل ، ويهبط موحيا إليه وملهما إياه ، ويشكل الوجود الفكري الإنساني هرما وجوديا يقف الأنبياء والأولياء والعلماء على رأسه ، ثم الأذكى فالأذكى ، وكل له موقعه في الوجود مثلما أن لكل حجر موقعه في الهرم.

والمستقر المقر ، وهو الإنسان الظاهر الشخصي الجزئي ، والمستودع انسحاب الجزء من البدن إلى الكلي الذي هو النفس الكلية. ولما كانت النفس الكلية لا تنفك عن الجسم الكلي كانت عملية الدخول والخروج والإرتباط والإنفكاك اعتبارية ضربنا مثلا لها في كتبنا السابقة قائلين إن الحركة الوجودية هي مثل حركة اللولب إذا ثبّت عينك على نقطة منه ترى أن هذه النقطة تصعد من أسفل إلى أعلى ، في حين أن حركة اللولب ذاتها دائمة ، وهي في تحركها ثابتة وفي تنقلها مستقرة ، والنقطة التي لا حقتها عينك وهمية لا وجود لها إلا في نظرك ، وكذلك هذا الخلق من ظاهر فيه ومن مستخف ، ومن خارج ومن داخل ، هو على الحقيقة حقيقة مشعة في هذه الثياب الملونة.

٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))

[هود : ٧]

الماء العلم ، والعرش على الماء السلطان الإلهي الذي في قبضته علم الوجود الأزلي ، وكل ما بدا ظاهرا في الوجود الظاهر ظهر من أصل علمي وإلا لكان الفساد قد ظهر فيه ، فإن

٣٥٧

لم يكن العلم للوجود أساسا فالبديل الفوضى والمصادفة ، ولا قوة ولا إمكان ولا استمرار للفوضى والمصادفة.

٨ ـ (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨))

[هود : ٨]

سبق أن تحدثنا عن أجل الأسماء. وكل إنسان اسم ومظهر اسم وحامل اسم ، وهو يعيش أجل اسمه حرا ضمن قوسي الاسم نفسه وترى الكافر يسرح ويمرح في الأرض متباهيا بقوته وكفره ، وكذلك يفعل الطاغية والجلاد حتى إذا استوفى الاسم أجله ظهر الحق فضرب بسيف الاسم نفسه ، فإذا موت طبيعي يصيب صاحب الاسم ، وإذا تحول في ميزان قوى الأسماء ، فيصير من كان ممثل الاسم الخافض هدف ممثل الاسم الرافع ، ومن كان ممثل الاسم المعز يحتل مكان الاسم المذل. وهذا التحول في القوى يجعل العدل الإلهي في النهاية من غير بداية هو القاهر.

٩ ، ١١ ـ (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١))

[هود : ٩ ، ١١]

الرحمة اسم من أسماء الجمال ، كأن يؤيد الإنسان بالاسم العزيز أو القوي ، فإذا مادار الزمان وبدل الاسم فزع الإنسان ويئس ، والسبب استناد الإنسان إلى الاسم لا باعتباره اسما إلهيا هو فضل من الله يؤتيه عبده ويبقيه عليه ، وقد يرفعه عنه بل باعتبار الاسم فرصة من الفرص أتيحت للإنسان وقوة اكتسبها بجهده لا بفضل الله ، والنتيجة أن الإنسان ما لم يبلغ مقام التوحيد وعلمه ، يظل في قبضة الأسماء معتمدا على نفسه ، وهذا حال متبدل لا ثبات له ، ولهذا قيل الدنيا غرارة غدارة ، والخلاص في اعتماد الله كمسبب الأسباب والقاهر فوقها والذي بيده ملكوت كل شيء.

١٢ ، ١٤ ـ (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤))

[هود : ١٢ ، ١٤]

الكنز إشارة إلى ما أيد به موسى من معجزة العصا التي قهرت سحر السحرة في عصره ، والملك ما رافق المسيح من ظهور معجزات كإحياء الموتى وشفاء المرضى بواسطة الملك

٣٥٨

الروح القدس. وقال الإمام الغزالي : معجزة كل نبي تكون من جنس ما غلب على زمانه لتكون أدعى للإستجابة وكانت البلاغة والفصاحة السائدين في زمن النبي ، فأيد بالقرآن الذي هو معجزة الدهر في البلاغة والفصاحة والبيان ، وضرب الله لمعجزة القرآن مثلا أن يأتي العرب أرباب البلاغة والفصاحة بمثل ما أتى به القرآن ، فلما أخفقوا تحداهم قائلا إن القرآن من عند الله وأنزل بعلمه.

١٥ ، ١٦ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦))

[هود : ١٥ ، ١٦]

الحياة الدنيا وزينتها مد العينين إلى المال والبنين والجاه وطلب الرئاسة والتمتع باللذات .. وهذا كله لا يحقق الهدف الذي من أجله خلق الله الإنسان. فالله ما خلق الإنسان إلا ليعبده ثم ليعرفه ، وما لم يعرف الإنسان الله فكل ما يعمله باطل وهو سراب.

١٧ ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧))

[هود : ١٧]

عودة إلى الحديث عن القرآن وعظمته وإعجازه الذي هو معجزة الدهر ، ويذكر هذا بالألواح التي أنزلت على موسى وقد كتبت فيها المواعظ والحكم.

١٨ ، ١٩ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩))

[هود : ١٨ ، ١٩]

الكذب على الله التقوّل عليه ما لم يقل ، وقد ضرب الله لهذا مثلا في موضع آخر قائلا : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة : ٤٤ ، ٤٦]. فالجرم أن يحدث الإنسان للناس حديثا يدعي أنه من عند الله وهو من عنده.

٢٠ ، ٢٤ ـ (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤))

[هود : ٢٠ ، ٢٤]

٣٥٩

قوله : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) يعني عدم قدرة الكافرين على سماع صوت الضمير ، فالسمع هنا سمع ذاتي جواني ولهذا سمي ضميرا ، والكافر محروم منه لأنه محجوب.

وكذلك الإبصار ، إذ أصل البصر البصيرة ، وهي النظر بالنور الإلهي إلى الناس كقوله تعالى : (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام : ١٢٢] والكافر محروم أيضا من هذا النور الهادي الذي يرى المؤمن به ما لا يراه الكافرون ، وسمي هذا الفراسة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور ربه).

٢٥ ، ٣٥ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥))

[هود : ٢٥ ، ٣٥]

قلنا من قبل في نوح : إنه الاسم الظاهر الإلهي مثلما إن آدم الاسم الباطن ، وإن نوحا جامع الأسماء الحسنى ، فهو كلي الذات وصل مرتبة الأفق الأعلى وسدرة المنتهى ، فهو تعين الإنسان الكامل الذي هو ابن آدم وخليفة الله.

وظهور الخليفة الإلهي يقابل برفض من الناس وبخاصة الكافرين والمنافقين ، ونرى قوم نوح قد أصروا على عدم تصديقه ، وأن دعواه بأنه نذير من الله لا أصل لها لأنهم لا يرونه إلا بشرا مثلهم.

وتعين الإنسان الكامل بشري بالطبع ، إذ كل تعين معناه الظهور في جسد كما حدث للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان نورا خالصا كما يقال في الآذان عادة إنه أول خلق الله ، وقوله مخاطبا جابرا : (أول

٣٦٠