التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧))

[الإسراء : ٥٦ ، ٥٧]

كل الأنبياء مظهر لله ، وكلهم قائمون به حتى الروح الأمين ، فما فعل عيسى من معجزات فعلها بإذن الله ، ولو لا الله ما استطاع فعلها ، ولهذا تحدت الآية الناس بأن يأتوا الله بآلهة تستطيع أن تفعل شيئا لأنه لا فاعل إلا هو.

٥٨ ـ (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨))

[الإسراء : ٥٨]

قلنا القرية البدن ، وهلاكها يكون عن طريق الخواطر المتحكمة فيها كما جاء في موضع آخر في وصف ملوك الخواطر قوله تعالى : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) [النّمل : ٣٤] ، ولقد حدد سبحانه الهلاك قبل يوم القيامة ، وهذا بدهي إذ ما من إنسان إلا وتحكمه خواطره فهو بحكم الهالك ، وختمت الآية بالقول : (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) والكتاب اللوح المحفوظ أي النفس الكلية التي تتقبلها بدورها من العقل الفعال ، فالعملية مسلسلة حتى الله سبحانه ليكون صاحب القبضة وصاحب الفعل والقهر ، ولهذا وصفت هذه العملية بأنها مسطورة أي محتمة ، فلا وجود يخرج عن الوجود الإلهي ، لا صفة ، ولا فعل بل الملك لله الواحد القهار.

٥٩ ـ (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩))

[الإسراء : ٥٩]

ناقة ثمود إشارة إلى النفس الحيوانية ، وكونها مبصرة إمداد هذه النفس بصفة البصر الإلهية ، وما دامت الصفات لله فالناقة إذن إلهية مثلما كان البراق ناقة إلهية حملت النبي ، فالناقة إذن كلية هي الجسم الكلي الحيواني الجامع للأجسام الجزئية ، ولهذا قال ابن عربي في الفتوحات : الإنسان ظاهره خلق وباطنه حق.

وقوله : (فَظَلَمُوا بِها ،) يعني أنهم ظلموا بالناقة أي بواسطتها ، أي أن الظلم البشري تم عن طريق النفس الحيوانية ، وهذا ما أشار إليه ابن عربي أيضا عند ما وصف هذه النفس : بأنها دابة قد تكون حرونا صعبة القياد ، أو تكون طيعة سهلة القياد كما كان براق النبي وأتان المسيح ، والمغزى أنه عن طريق النفس الحيوانية يتم تحقيق العدل أو تحقيق الظلم ، الذي هو وجه من وجوه العدل أي إظهار له كما يكون الظلام إظهارا للنور.

٦٠ ـ (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ

٥٠١

الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠))

[الإسراء : ٦٠]

الرؤيا الرؤية النبوية أو البصيرة التي قالت فيها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : أول ما بدئ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرؤيا الصالحة ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) ، وفسر صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...) [يونس : ٦٢ ، ٦٤] فسر البشرى في الدنيا بأنها الرؤيا الصالحة ، فالرؤيا الانتقال من عالم الحس والشهادة إلى عالم الغيب والسموات ، وهذا ملخص وجوهر قصة الإسراء والمعراج للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولما كانت العلماء ورثة الأنبياء كما جاء في الحديث ، فإن الرؤيا الصالحة هي التي تفرق بين الناس ، وتختار منهم ، وتصطفي إنسانا تجعل منه إنسانا كاملا كما حدث للإمام الغزالي الذي دخل الخلوة في دمشق والقدس وللإمام ابن عربي الذي دخل الخلوة فتى لم يطر شاربه بعد في مرسية بالأندلس ، وكما حدث لكثيرين من العلماء كجلال الدين الرومي الذين دخلوا الخلوة أناسا عاديين فخرجوا منها أولياء عارفين.

والشجرة الملعونة شجرة التناقض والتضاد ، ولهذا قال ابن عربي : الشجرة من الشجار ، ويقال في اللغة : شجر بينهم نزاع ، جاء في كتاب الله : (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النّساء : ٦٥] ، فأصل الشجرة التناقض لما في طبيعة الأسماء من تضاد ، وأما ذوائبها فمباركة كما وصفت في موضع آخر وسميت سدرة المنتهى ، فما في هذا الوجود إلا هذه الشجرة وأوراقها ، ولقد سبق وقلنا إن هذا الدين مبني على أساس من الجهاد ، جهاد النفس وجهاد الغير ، وبسبب التناقض نرلت سورة الفلق التي قال فيها سبحانه : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) ،) وبسبب التضاد اعترضت الملائكة على خلق آدم وبنيه إذ قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠].

فلا مدخل إلا من باب التناقض الذي هو أساس الفلسفة الهيغلية ، المدعوة الديالكتيك ... بل إن الملحدين تبنوا التناقض من بعد هيغل ، وإن لم يؤمنوا بمبدأ فلسفته الذي هو الروح ، كما فعل ماركس وسارتر وأمثالهما الذين قالوا إن الديالكتيك هو الحياة والحياة الديالكتيك ، وبسبب التناقض قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا راحة لمؤمن إلا بلقاء ربه) ، فما في هذه الدنيا إلا التضاد شئنا هذا أم أبينا ، ومع هذا فالعبرة في النهاية التي قد تكون مسك الختام ، فتسمى الشجرة من ثم سدرة المنتهى ... والمنتهى الراحة الكبرى التي وجد بردها إبراهيم بعد أن ألقي في نار الأضداد ، وهي السّلام الذي يجده الإنسان بعد أن يبلغ شاطئ اليقين فينعم بما في هذا اليقين من العلوم.

٥٠٢

٦١ ، ٦٤ ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤))

[الإسراء : ٦١ ، ٦٤]

تستمر الآيات في الضرب على وتر التناقض ، وهي تفسر عملية التناقض نفسها ، وفي كتابنا النصوص في مصطلحات التصرف عرّفنا إبليس قائلين إبليس صفة الحق التي قامت في وجه الحق ظهورا لصفته الثانية ، والقيام أحدي ، وإلا فمن هو إبليس ، وكان رئيسا للملائكة ، أي قائما على المعقولات المجردة التي كانت طوع أمره.

ولهذا قلنا من بعد كما قالت الصوفية من قبل : إن عدم سجود إبليس أمر أملته الضرورة الوجودية التي اعتمدت التناقض مبدأ للحياة ، فإبليس شعار التناقض ، وبواسطته تم إحداث الشق في الذات التي انشطرت شطرين سمي أحدهما نفسا ، ودعاها ربها أمارة ، ودعتها الفلاسفة حيوانية وترابية ومادية.

وفي الآية الواحدة والستين كان اعتراض إبليس مبنيا على أساس أن آدم مخلوق من طين ، أي من العناصر الأرضية ، والاعتراض قوي لأن إبليس رئيس المعقولات كما ذكرنا ، والمعقول هو دائما أشرف من المحسوس ، ونجد في الآية الثانية والستين كيف سلط إبليس على فريق من ذرية آدم الذين كتب عليهم أن يكونوا من أصحاب الشقاوة أزلا ، وقال المفسرون إن الأسماء المزدوجة كالهادي المضل تقتضي وجود مهدين وضالين وإلا لما تحقق وجود الاسم نفسه ، فعلى هذا الأساس انقسم الناس فريقين فريقا هم أصحاب إبليس ، وفريقا هم أصحاب الهدى ، فلا إبليس ولا غيره من أتباعه خرجوا على الله بغير مشيئة ، ودعيت العملية الإرادة الكونية التي اقتضت بدورها وجود الإرادة الدينية الممثلة للشطر الثاني من المعادلة والمتعلقة بأصحاب الهدى المهديين ، وهذه الإرادة هي التي تحدثت عنها الآية الخامسة والستون.

٦٥ ـ (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥))

[الإسراء : ٦٥]

كل إنسان يعيش حوارا ذاتيا دائما ، وهو يتخذ قرارا ما في موقف ما من قضية ما ، وعلى هذا الأساس من الاختيار الحر بنى الفيلسوف الوجودي سارتر فلسفته قائلا : إن كل ما في الوجود موجود بذاته إلا الإنسان فهو موجود لذاته ، فالإنسان على هذا حر يعيش حريته ويتخذ

٥٠٣

قراراته ، وبسبب هذه الحرية التي تترتب عليها المسؤولية قال سارتر : إن لم تعجبك حياتك فبدلها.

أما النظرة القرآنية فلها موقف آخر ... وفي هذه الآية والآية التي سبقتها فرق الناس فريقين ، كما أسلفنا القول ، فريقا ضالين وفريقا مهديين وعلى هذا فعباد الله المخلصون يعيشون الحوار الذاتي ولكن قرارهم يكون من نوع خاص ، نوع غيري مؤمن ، فالحرية التي تحدث عنها سارتر والمسؤولية التي ألقاها على عاتق الإنسان الحر هي وهم في نظر القرآن لأن الحرية والمربوبية لا تتفقان ، وهذا مادعا الفيلسوف كانط إلى القول إنه لم يستطيع أن يفهم سر لغز الحرية الإنسانية التي يحسها ويعيشها كل إنسان مع وجود قانون السببية الكوني الجبري.

فالقول بالاستقلال يؤدي إلى الفوضى وانتشار الآلهة في الأرض ، في حين أن الحكم لله ، وهو الواحد القهار ، وهو الذي فرق الناس فأعطى إبليس فريقا ، وتولى هو فريقا آخر ، وهذا هو جوهر التضاد الذي قلناه قبلا وليس ثم سواه.

٦٦ ـ (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦))

[الإسراء : ٦٦]

الفلك البدن ، والبحر عالم المادة أو الهيولى العامة أو الذرة التي يتكون منها العالم الحسي ... والآية تشير إلى أن جريان الفلك هو بالله ولله ولو لا الله ما تحرك متحرك في الأرض ولا في السماء ، والابتغاء من الفضل الإلهي الأكل من المائدة الإلهية التي ورد حديثها وهي مائدة ملآى بالمعقولات الشريفة.

٦٧ ـ (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧))

[الإسراء : ٦٧]

الضر الأذى الذي يلحق بالإنسان من جانب نفسه الترابية فيفر القلب من ثم إلى الله ، ويستغيثه ، فينجده الله ، ويجيئه إلى بر الأمان ، والمشكلة أن الإنسان لا يعرف كنه التناقض الذي يعيشه ولا كيف تحاول النفس أسره وقتله ، ولا كيف ينقذه الله بالرحمة وذلك من خلال عملية الحوار الذاتي نفسه ، فإذا انتهى الحوار ، ووضعت حربه أوزارها إلى حين نسي الإنسان فضل ربه ، وكيف أنقذه من النار التي أنقذ منها إبراهيم ، وهذا النسيان كفر لأن الكفر ستارة وستر.

٦٨ ، ٦٩ ـ (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩))

[الإسراء : ٦٨ ، ٦٩]

٥٠٤

الآيتان توضحان سير عملية الحوار الذاتي وذلك بكشف مدى الهيمنة الإلهية على القلب ، فالحاصب من الحصباء أي الرمي بالحصى التي هي الأفكار الموسوسة السود ، والريح ريح الأهواء والغضب متى ثارت كان الإنسان أمامها ريشة في مهب الريح في الفلاة كما قال رسول الله ، والعملية تشير إلى كيفية كون الإنسان في القبضة ، وأن الأفكار سودا كانت أم بيضا ، هي لله مليك الفكر والفكر ، وأن القلب هو ميدان هذه الأفكار التي تصطرع أبدا.

٧٠ ـ (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠))

[الإسراء : ٧٠]

تكريم بني آدم اصطفاؤهم للإلهام والنجوى والمكالمة أي تخصيصهم بالذات الناطقة الشريفة التي جعلت فيلسوفا يعرف الإنسان قائلا : إنه حيوان ناطق ، فكل المخلوقات تقاد بالغريزة إلا الإنسان الذي يقاد بالعقل ... فمن جهة هو عقل قابل ومن جهة أخرى هو عقل فاعل.

والحمل في البر والبحر حمل في عالمي الوجوب والإمكان أو الروح والمادة ، فمن جهة الوجوب فشطر الإنسان الواجب بذاته وهو الروح ، والروح نفخ إلهي ، ومن جهة الإمكان فشطر الإنسان الآخر خلق من تراب كما قال سبحانه في موضع آخر : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤)) [الرّحمن : ١٤] ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كلكم لآدم وآدم من تراب).

والرزق من الطيبات تعليم الإنسان بالإلهام والوحي كما قال سبحانه : (خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ ،) (٤) وهو رزق خص به الإنسان أيضا من دون المخلوقات ، فالإنسان المخلوق العاقل الواعي المتعلم العالم الوحيد على هذه الأرض ، ولهذا كان رد هيغل على كانط الذي قال : إن النجوم فوق رأسه تملؤه إعجابا ، كان الرد : أن النجوم لا قيمة لها وهي بالقياس إلى عظمة الإنسان مثل طفح جلدي ، والإنسان هو المخلوق المهم الوحيد لأن فيه الروح.

٧١ ، ٧٢ ـ (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢))

[الإسراء : ٧١ ، ٧٢]

من معاني الإمام الطريق فالناس على طرق شتى ، والطرق هي التي تسلكها الأسماء نفسها فلا خروج لأحد على طريقه ، ولهذا جاء في الآية أن الله يدعو الناس بإمامهم ، أي من طريقهم ، أي من الجهة التي يكونون فيها ، وهذا حاصل من باب حديث نجوى الاسم نفسه ، وإذا كان صاحب الاسم من النوع الجليل ، أي القاهر ، أي البعيد ، فهو بالضرورة أعمى لأنه يكون محجوب البصيرة ، ومن سلك طريقا مظلمة فكيف ينتهي إلى النور؟

٥٠٥

٧٣ ـ (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣))

[الإسراء : ٧٣]

ظاهرا عنيت الآية أصحاب النفوس المظلمة الذين لا يريدون إلا الظلام ويكرهون النور ، ويفرون منه ، ويحاولون جاهدين حمل الناس على أن يسلكوا طريقهم ، وباطنا فالآية عنيت إلهام الاسم من جديد ، وإلى هذا أشير في الآية بالقول بالخلة والخلة ما تخلل الشيء ، وما يتخلل الإنسان حديث نفسه ونجواها أي حديث اسمه وصفته ، فمن كان من أصحاب اليمين توجه به اسمه جهة اليمين ، ومن كان من أصحاب الشمال توجه به اسمه جهة الشمال.

٧٤ ، ٧٥ ـ (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥))

[الإسراء : ٧٤ ، ٧٥]

تمييز الخير من الشر وتمييز الخواطر نفسها هو من فعل الله عزوجل ... وإلا فكيف يفسر الإنسان قبول الإنسان معقولات ورفضه أخرى؟ وعند المماراة والمحاورة كثيرا ما يصادف الإنسان من لا يوافقه على رأيه ... فمعقول الشجاعة نفسها هو في نظر الجبناء جنون وكذلك الكرم والتضحية بالمال والنفس.

والحق خاطب الرسول باعتباره وحيه وإلهامه ، وكثيرا ما قلب الناس للنبي الفكر والأمور وخاصة وأنه كان زعيما في ميداني الروح والمادة ، ويقول الحق سبحانه : إنه لو لا تأييده النبي بما هو أصح وأحكم لما استطاع النبي الصمود في موافقه المشهورة.

لهذا تابعت الآية الخامسة والسبعون موضحة ما يقع للإنسان الذي يرغب عن سماع وحيه وضميره ... ففي هذه اللجة منذا الذي يهدي الإنسان في الظلمات إلا الله؟

٧٦ ـ (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦))

[الإسراء : ٧٦]

الخروج من الأرض الخروج عن العقيدة ، فالمعقولات المطروحة من قبل الحق جديدة ، وقد يبدو منها ما هو معقول مقبول ، وقد يبدو منها ما هو صعب أو مستحيل كالنفير في الحر ، والصيام في الصيف ، وبيع الله المال والنفس ... وهذه كلها مواقف صعبة ولكن الله يثبت الذين آمنوا ، ويؤيدهم ، ويربط على قلوبهم ، ويفرغ عليهم الصبر ، وينزل في قلوبهم السكينة حتى يجيء نصر الله والفتح.

٧٧ ـ (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧))

[الإسراء : ٧٧]

سنة الله الجهاد ، وسبق أن بينّا دور الجهاد في الحياة ، إذ لا حياة بلا جهاد ، وأشرنا إلى

٥٠٦

طروحات الفلسفة الحديثة وتأثير فلسفة هيغل الديالكتيكية التي تبناها حتى الملحدون من ماديين ووجوديين ، ولهذا قال سبحانه في موضع آخر من كتابه : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١)) [مريم : ٧١] ، ثم ننجي الذين آمنوا ونذر الظالمين فيها جثيا.

٧٨ ـ (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨))

[الإسراء : ٧٨]

بين دلوك الشمس أي زوالها إلى غسق الليل أي إقبال ظلمته تقام الصلاة ولإقامتها لطيفة ... ذلك أن الشمس رمز الذات ، والليل ليل المادة ، فالصلاة صلة بين ما هو باطن الذات أي الذات الإلهية وبين الجسم المادي ، ولهذا كانت الصلاة على المؤمنين كتابا موقوتا ، ولهذا أمر الحق النبي عند عروجه إليه بالصلاة ، وجعلها خمسين صلاة ، ثم خففها إلى خمس صلوات ، فليس بعد الصلاة فريضة ، وليس من دونها وعي ولا إدراك ولا بصيرة بل ولا وجود ... إذ الخلق كلهم مصلون وإن جهلوا ، فما من مخلوق إلا وهو يصلي ، ولهذا قال سبحانه في موضع آخر : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤]. أما قرآن الفجر فهو إشارة إلى اليقين الذي تشرق فيه أنوار الهدى ، ومطلعها بروز جبريل الروح الأمين من لباس المادة ، فمن قرأ القرآن فجرا أسفر له الروح الجامع من ذاته ، وعلم أنه ذاته ، وشهد أن لا إله إلا الله ، كما سئل البسطامي عن اسم الله الأعظم فقال للسائل : قولك لا إله إلا الله ، ولا تكون أنت هناك.

٧٩ ـ (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩))

[الإسراء : ٧٩]

النافلة الزيادة في الصلوات وهي من متطلبات الدخول في مقام الإحسان كما جاء في الحديث القدسي : (ما يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فمتى أحببته صرت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ورجله التي يمشي بها ويده التي يبطش بها) ، فالنافلة الزيادة في التواصل بين العبد والرب إلى أن تأتي البشرى ويطلع صبح اليقين ، ويبلغ العبد مقام الصالحين ، ويدخل في الصالحين ، فيكون عبدا صالحا صار هيكلا للاهوت الإلهي كما أنشد الحلاج قائلا :

سبحان من أظهر ناسوته

سر سنا لاهوته الثاقب

وسمي هذا المقام المحمود ، وخصت به الأمة المحمدية ، أي الموحدون القدامى المتجسدون دورا بعد دور ، فهؤلاء هم ظهور الله المطلق كما وصف ابن عربي فقيل فيه :

٥٠٧

تجلى الله فيه باعتباره الوجود المطلق ، فهذا العبد هو الحق ظهورا ، وله من ربه السمع والبصر والكلام ، والفعل ، لهذا دعي عبد الله أي عبد لله أي مركبة لله ودابة ظهر الله عليها وبها نطق العبد من ثم بالكلام الإلهي والحكمة.

وسمي المقام المحمود مقام القرب ، والحقيقة أن ليس بين العبد المقرب ـ بفتح الراء ـ والحق المقرب ـ بكسر الراء ـ قرب ، إذ الحقيقة وجها عملة الوجود الواحدة ، فوجه للعبد ، ووجه للرب ، وظهر الله بالعبد ، وتكلم العبد بالرب ، فتم التوحيد والعين على حالها وكما كانت في الأزل قديمة وواحدة.

٨٠ ـ (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠))

[الإسراء : ٨٠]

مدخل الصالحين ومخرج الصالحين ، وهو أن يكون الإنسان اسما من أسماء الجمال الإلهية ، وأن ينعم بالسعادة وهو ما يزال بعد في بطن أمه ، ومخرج الصدق تحقق التوحيد وعلمه ، وهو ما كنا قد تحدثنا عنه في تأويل الآية السابقة ، فأي فضل يكون للإنسان مادام الله هو الذي يدخله مدخلا صادقا ، ويخرجه مخرجا صادقا ، ويتكلم من ثم بكلام إلهي موحى صادق يصيب المفصل؟

٨١ ـ (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١))

[الإسراء : ٨١]

الباطل زهوق لأنه لا وجود حقيقيا له ، وكيف يكون له وجود وأصل الوجود الوجود الحق ، وقالت الصوفية : الشر للاعتبار ، وهو وجود نسبي لا أساسي ، وقلنا : إن وجوده هو إضافة إلى الوجود الحقيقي تأييدا للوجود الحقيقي وإظهارا له.

٨٢ ـ (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢))

[الإسراء : ٨٢]

أساس القرآن علم إلهي أسمائي قبل أن يكون كلاما في قرطاس ويتم الشفاء بفعل الأسماء نفسها ، فيكتب صاحب الاسم مؤمنا أو مجاهدا أو حليما أو عالما وهو في بطن أمه ، والرحمة هي نجاة العبد من ظلمات عالم النفس المادية وانتقاله إلى عالم الروح الجوهر اللطيف والتحاقه بالملأ الأعلى.

وعلى العكس فإن الظالمين في دار البوار يخلقون في ظلمة ، ويحيون في ظلمة ، ويموتون في ظلمة ، فحياتهم ظلمات بعضها فوق بعض ، والظلمات ظلم ، والظلم ظلمات ، فما لهذه الظلمات من بديل.

٥٠٨

٨٣ ، ٨٤ ـ (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤))

[الإسراء : ٨٣ ، ٨٤]

الشاكلة العين ، والعين الصفة ، والإنسان يتكلم بعد سماع صوت صفته ، فهو واسطته ، ولقد وصفناه في كتابنا الإنسان الكبير : بأنه بوق ، فالعمل على الشاكلة السير على الصراط الذي هو قانون الوجود القديم لا سبيل إلى تبديله ، وفي هذا المعنى قال سبحانه : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود : الأية ٥٦].

٨٥ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥))

[الإسراء : ٨٥]

ليس للإنسان من علم الروح إلا ما يعلمه الروح إياه ، فالمسألة أشبه بطالب وأستاذ ، فالطالب يرى أستاذه ، ويسمع ما يقول ويفهم عنه ، لكن أنى للطالب أن يفهم كل ما يعلمه الأستاذ؟ فما نحن إلا مظاهر نستمع وحي الاسم الظاهر ، والظاهر هو الروح ، فلا سبيل للإحاطة بكنه علم الروح إلا بما يسمح هو بتعلمه ، والله سبحانه حد للإنسان ما يتعلمه ، وما حده وصفه بأنه قليل ، ولا سبيل إلى خرق السدود المضروبة دون غيب الروح ، لأننا نحن أدوات الروح نفسه فلا خروج لنا عليه ولا إحاطة لنا بجوهره ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تفكروا في ذات الله) ، والروح أمر من الله وهو حكمته وقدرته ، وقال القشيري مفسرا قوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [غافر : ١٥] ، هذه الروح هي روح الرسالة ، وروح النبوة ، وروح الولاية ، وروح المعرفة.

٨٦ ـ (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦)) [الإسراء : ٨٦]

حدث للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تلبث الوحي ، أى تأخر عن النزول ، كما حدث له في قضية حديث الإفك المشهورة ثم جاءه ، والمهم القول إن مدد النبي هو من روحه ، أي من ذاته أو ذات ذاته ، فلا مدد غير هذا المدد ، ولا علم يستمد من غير هذه العين ، وإذا جفت العين فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشر مثل بقية البشر لا حول له ولا طول ولا علم أيضا ، فهذه الصلة أشبه بصلة المصباح بالتيار الكهربائي فلا ضوء من غير كهرباء ، والنبي من دون التأييد الإلهي لا يستطيع شيئا ، وهو نبي بالتأكيد.

٨٧ ـ (إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧))

[الإسراء : ٨٧]

يذكر الحق نبيه بالرحمة التي خصه بها هو ومن معه من المؤمنين ، ويذكره بفضله عليه ،

٥٠٩

فلقد ظل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى الأربعين من عمره يتجر بمال زوجه خديجة متنقلا بين الأمصار ، لا علم له يميزه عن الناس علما أنه كان على خلق عظيم ، وقد اشتهر بأمانته ، وقال له عمه أبو لهب : ما جربنا عليك كذبا.

أما بعد النبوة فلقد حدث التحول العظيم ، واحتل النبي مكانته الكبيرة التي خلدته على مر القرون ، ولو شئنا أن نبيّن أبعاد فضل الله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كفتنا المجلدات ، ولقد ألفت ألوف الكتب في شرح هذا الفضل العظيم ، ويكفي ضرب القرآن مثلا لفضل الله على نبيه حيث جعله اللسان الناطق بالقرآن ، ثم آتاه الصفات السبع الإلهية المسماة المثاني والفصاحة والبلاغة حتى احتلت أحاديث النبي الدرجة الثانية في الفصاحة والبلاغة بعد القرآن ، كما تعتبر هذه الأحاديث الأساس الثاني في الاستشهاد باللغة العربية الفصحى بعد القرآن أيضا ... وكل هذا والنبي أميّ لا يقرأ ولا يكتب ، وكان كتاب الوحي يكتبون ما يقول.

٨٨ ، ٨٩ ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩))

[الإسراء : ٨٨ ، ٨٩]

القرآن من وحي الروح ، والروح هو الفاعل في الإنسان وهو وحده الفاعل ، وللروح الخلق والأمر ، ومن أسمائه الحي أي كل ما يتعلق بالحياة ، ويقول هيغل إن من نتاج الروح ما يوجد من فلسفة وفن وأدب وشعر ، فالروح هو الملهم لكل ما يدرج تحت أسمائه تعالى المصور والخلاق والبديع.

والآية تتحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثل القرآن ، والحقيقة أن نتاج كل فن حقيقي أصيل يكون نسيج وحده لا يمكن تقليده أو الإتيان بمثله هو من عمل الروح ، ولهذا احتلت الأعمال الفنية الأصيلة مكانتها العظيمة عند الناس وخلدت على مر الزمان.

وما يقوله الروح لا يقوله الإنسان ... ذلك أن الإنسان من قوابل فعل الروح ، والقوابل درجات ، وما لم تجل النفس جليا ، كما يجلى السيف فإن قبول القابل لإلهام الروح يكون على درجات ، ومن القوابل الأمثل فالأمثل.

والقرآن مثل أعلى في الفصاحة والبيان والتصوير البياني وفي تركيبه اللغوي ... ذلك لأنه نزل على النبي الذي هو صورة الإنسان الكامل ، فالإلهام كان من مستوى وحي ، أي أن المرآة المتلقية كانت من الجلاء للاستقبال والتلقي في الغاية ، وسمى ابن عربي أعلى درجات هذا التلقي إملاء حيث يكون الروح الفاعل وحده بلا واسطة النفس فيملي كما يملي الأستاذ على التلميذ.

٥١٠

والقرآن تنزيل من لدن الحضرة ، والحضرة إشعاع علمي نوراني خلاق كامل ، وهو أساسا أساس الحياة وأساس ما فيها من كل شيء حي ، فمن هو القادر على مجاراة عطاء هذه الحضرة التي لا حضرة قبلها ، ولا وجود يوازيها ، ولا وجود يعقبها ، فما نزل من لدن الروح هو المحكم والبديع والنظم الصادر عن موسيقى الكلمة ، وموسيقى الحرف ، ومن قبل ذلك موسيقى الروح ، فللقرآن إيقاعه الخاص الخفي الذي يحسه القارئ إحساسا من قبل أن يعي معانيه ويفهمه ، ولهذا انفعل بقراءة القرآن الصغير قبل الكبير ، والأمي قبل المتعلم ، وكان تأثيره عظيما في الناس أجمعين ... ذلك لأن القرآن يخاطب العين من كل عيان ، فهو ما عني به قول القائل ما صدر عن القلب وقع في القلب ، وما صدر عن اللسان لا يجاوز الآذان ، ولهذا كانت المشركون يسمعونه فيبهتون ، وتظل أعناقهم له خاضعين.

فلا سبيل إلى تحدي إشعاع الحضرة ، وما نظم من شاعر ، وما دبجت يراعة ناثر ، ولا صدر من ألحان إلا كان النتاج من إشعاع الحضرة ، ولهذا قسمت الخلاقون فريقين فريقا خصوا بالإبداع وأوتوا هباته ، وفريقا كانوا دون درجة الإبداع على درجات ، وكان آخرهم فريق المحجوبين الذين يحاولون ركوب سور الحضرة ومحاكاة المبدعين فإذا النتاج عقيم سقيم لا حياة فيه ، ولا تنفعل له النفوس والقلوب.

٩٠ ، ٩٤ ـ (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤))

[الإسراء : ٩٠ ، ٩٤]

أكثر الناس لا يؤمنون بأن يظهر منهم نبي يوحى إليه ، وتكشف له أستار الغيوب ، فيكون بصره حديدا ، ويكون ريسا يشرع ويهدي ، ويفصل الكلام في الحلال والحرام ، ويعلمهم التوحيد ووجود الله وآيات الله وقدرته ولقد طالب الناس النبي بالمعجزة علما أن المعجزة لا تقدم ولا تؤخر وقال عارف : يستحي الصوفي من إظهار كراماته كما تستحي المرأة من طمثها ، وأي دليل على وجود الله وقدرته أكبر من هذا الوجود العياني نفسه؟ ولماذا يطلب الإنسان المعجزة ، والمعجزة خرق القانون الكوني وإظهار ما هو غير عادي وغير مألوف؟ وألحت الفلاسفة قدامى ومحدثون على القول : إن ما في الكون من نظام بديع محكم كامل متكامل هو خير دليل على وجود الصانع ، أما الأنبياء فلكم شهد التاريخ أنبياء كشفت لهم الحجب ،

٥١١

واستمعوا الوحي ، وأملي عليهم ، ومنهم من قصهم الله علينا ومنهم من لم يقصص ، ولماذا نذكر الأنبياء فقط ولا نذكر العباقرة الأفذاذ الذي جاؤونا بكل عظيم فريد مظهرين قدرة الخلاق الذي خلقهم وأمدهم بقوى الخلق وطاقات العبقرية العجيبة؟ قال فرويد : أمام ظاهرة الخلق الفني على التحليل النفسي وا أسفاه أن يلقي سلاحه. أي أن فرويد أقر واعترف بأن ظاهرة الخلق الفني لا يمكن أن تدرج في نطاق فلسفته النفسية التحليلية من قريب أو بعيد.

فخلق الوجود هو المعجزة عامة وخلق الإنسان هو المعجزة بخاصة ومطالبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإتيان المعجزة هو ضرب من الحمق بل هو ضرب من التعنت ، والنبي ما كان عاجزا عن الإتيان بمعجزة ، وله في هذا المجال شواهد ذكرها التاريخ ... ولكن الله سبحانه أبى أن يبني الإسلام على قاعدة هي المعجزة ، ودعا إلى التفكير في معجزة الوجود نفسها ، وقال سبحانه : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) [آل عمران : ١٩١] ، ونجد في المحاورة بين إبراهيم ونمرود أن إبراهيم عليه‌السلام قال متحديا : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر.

فإن لم يعكف الإنسان على نفسه وفي نفسه ، ويتأمل ما حوله من بديع الخلق ، وما لم يكتشف أن الله باطن كل حي بل باطن كل شيء فإنه لن يصل إلى الله ، ولن يعرف الله ، ولن يكون للمعجزة فيه من تأثير حتى وإن رآها بعينيه ، قال سبحانه : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)) [الأنعام : ٧].

٩٥ ـ (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥))

[الإسراء : ٩٥]

في الآية لطيفة وهي كون العالم العياني مظهر أعيان الله ، وتذكر الآية بالأعيان المعقولات من الملائكة الذين لهم ظهور في البشر مشيرة إلى هذا بالقول (لو كان) في حين تبين الدراسات والتأملات الدينية والفلسفية أن المعقول يظهر في المنظور ، وأنه لا معقول بلا محسوس يظهر به ، فلا يوجد ملائكة إذن منفصلين عن البشر إذ الملائكة جند الله ، والجند الفعلة ، والفعلة الخواطر ، والخواطر الفعلة في الناس ... فظاهرا هناك الناس وباطنا هناك الأعيان المعقولات ، وعليه فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مظهر اسمه الظاهر ، واسمه العليم ، واسمه الحكيم ، إلى آخر الأسماء الصفاتية التي تسمى الحق بها ، فالمطالبة بالفصل بين النبي وحقيقته التي هي الروح مستحيلة ، لأن الروح الأمين ظهر بالنبي مثلما ظهر له في صورة دحية كما ورد في الحديث ، ولهذا كانت الصوفية علم التوحيد ، ولا توجد إلا بالتوحيد بين الظاهر والباطن ، وبين

٥١٢

المحسوس والمعقول ، وبين البشر والملائكة وبين البشر والروح

٩٦ ـ (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦))

[الإسراء : ٩٦]

الشهيد من شهد ، وعلى الحقيقة فالله هو السميع البصير الشهيد ، وما العبد إلا واسطة وآلة للروح الكلي الذي اخترع آلة الإنسان ليظهر بها ، ولهذا جاء في الآية قوله : (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ،) فبين الناس والنبي ليس ثمة إلا الله ، والنبي يعلم هذا لما له من الكشف.

وتحفل كتب الصوفية بوصف المشاهدة التي يكون ظاهرها الخلق وباطنها الحق ... وتعد فلسفة ابن عربي مثلا على أن الله هو الوجود والموجود فقط ، وأن لا حقيقة سواه ، وأن ما سواه هياكل وأشباح ، ولهذا يتصل الصوفي بربه ، ولا ينفصل عنه حتى وإن ظل بين البشر.

٩٧ ـ (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧))

[الإسراء : ٩٧]

الإشارات إلى الحجب المسدلة بين الحق والضالين الذين يرون ويسمعون ويتكلمون ، ولكنهم يجهلون من الرائي والسامع والمتكلم على الحقيقة ، وأورد ابن عربي قول أبي بكر ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله ، وتساءل من الرائي؟ وأجاب هو ، ثم تساءل من القائل؟ وأجاب هو ، ثم تساءل من السامع؟ وأجاب هو ، فليس ثمة إلا هو.

٩٨ ، ٩٩ ـ (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩))

[الإسراء : ٩٨ ، ٩٩]

كنا قد تحدثنا عن الخلق المتجدد والبعث المتجدد ، ويكفي الإنسان مثلا أن يحاول إيقاف تنفسه وعمل آلاته أو حتى تفكيره فيكتشف كم هو عاجز عن تحقيق ذلك ... ثم كم حاولت العلماء الاحتفاظ بالشباب وإبعاد شبح الشيخوخة ، وكم حاول جبارون الفرار من الموت ، ويكتشف الإنسان ، على مر الزمان مدى عبوديته ومدى كونه آلة ومركبة للحق والروح والقوى الغيبية.

١٠٠ ـ (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠))

[الإسراء : ١٠٠]

جبلت الأنفس على الشح ، وأول ما تتصف به النفس بعد تفتح وعيها هو الشح الذي سمي

٥١٣

الأنانية ، فيقال فلان أناني أي محب لنفسه مؤثر إياها على غيره ، وهذا أمر بدهي وطبيعي لأن حب النفس مرتبط بغريزة البقاء.

أما التضحية فهي مخلوقة لتحقيق التوازن على جميع الأصعدة ، فعلى الصعيد الحيواني تسعى القطة الأم على قطيطاتها حتى إذا ظفرت بشيء عادت به إليها ، فأطعمتها بينما هي جائعة ، وتجود الظبية بنفسها دفاعا عن ولدها إذا ما تعرض للخطر ، فتجابه الذئاب حتى الموت لتمكن صغيرها من النجاة ، وتكشف الخطة عن القدرة الإلهية التي مكنت الصغار من البقاء على قيد الحياة ، وكفلتها أمهاتها اللواتي يقمن بالرعاية والحفظ والتغذية حتى يكبر الصغير ، ويصبح قادرا على العيش ، وعلى المستوى الإنساني جعل الله الناس فريقين فريقا ذا شح ، والشح غريزة كما قلنا ، وفريقا ذا مروءة يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة كما فعل أهل المدينة المنورة الفقراء لما جاءهم المهاجرون المسلمون من مكة ، ومن دون الفريقين جميعا لا تستمر الحياة ، وقد علمت الصوفية مدى تحقق المشيئة الإلهية بالأسماء الجميلة والخلال الحميدة حتى أنهم لم يفرقوا بين الإنسان الكريم واسم الله الكريم ، ولا يستنكف الصوفي عن سؤال الناس لعلمه بأنه إذا سأل الكريم شيئا فكأنما سأل الله ، قال الفضيل بن عياض من طلب الحمد من الناس بتركه الأخذ منهم فإنما يعبد نفسه وهواه ، وليس من الله في شيء.

والعملية هي ما عبر عنها في الآية بخزائن الرحمة الإلهية ، وسميت هذه الرحمة رحمة ربي ، وللتسمية رقيقة ، ذلك أن الربوبية نفسها هي مجال الفعل والانفعال ، فليس الوجود العياني سوى مسرح نشاط الربوبية نفسها ، لذلك لما اشتكى رجل إلى صوفي فساد الناس في زمانه صاح الصوفي فيه ، مالك تدخل بين الله وعباده؟ أتريد أن تبقى الربوبية معطلة؟ والجواب يدل على أن أحداث الدهر هي من فعل الله ، ولهذا نهى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن سب الدهر ، وقال : (إن الله هو الدهر).

١٠١ ، ١٠٢ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢))

[الإسراء : ١٠١ ، ١٠٢]

الآيات التسع هن ما يمسكن الوجود العياني ، ولو لا هن لكان هذا العالم هباء منثورا ، ونجد في سورة القارعة قوله سبحانه : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) ،) والإشارة إلى أن ثمة أسسا للوجود يقوم عليها ، ولو لاها لا يقوم ، ولهذا قالت الفلاسفة بالوجود الحقيقي أو الجوهر ، ويا لوجود الإضافي أو العرض ،

٥١٤

ولقد أوتي موسى عليه‌السلام كشف الفعل ، ولهذا جاء في قصته أنه أيد بعصا القدرة التي تفعل المعجزات ، أي أن القدرة الإلهية هي صاحبة الأمر والفعل ، وبعد فما عصا القدرة؟

في الفلسفة ثمة ذكر للتسع اللائي لهن الفعل الوجودي ، وقد ذكرها ابن عربي.

وجاء في التفسير أن الآيات التسع هن اليد والعصا والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص الثمرات ، والإشارات كلها إلى أن الله لو رفع يده عن الوجود لتهاوى ونسف نسفا كما قلنا ، ولقد أدلى هيغل دلوه ، وضرب بسهمه ، فقال إن الكليات هن العالم الحقيقي ، وما العالم الحسي إلا وهم ، ومن قبله قال أفلاطون القول نفسه ، ضاربا مثلا الكهف الشهير ، والمهم أنك حين ترى إلى هذا الوجود العياني تجده مركبا من مادة وصورة كما قال أرسطو ، ومن فعل وانفعال كما قال اسبينوزا ليس في الطبيعة ، إلا طابع ومطبوع ... وهناك الزمان وصلته بالمكان والعكس بالعكس ، كما هناك صلة العالم الحسي بالعالم المعقول وسمي هذا القيام نسبة وإضافة ، فمن هذا التراكب ظهر العالم الظاهري ، ولقد علم موسى هذا كشفا لما تجلى له ربه بوادي نفسه المقدس وقال له ها أنذا ، بل إنه تجلى له نارا ، والمعنى يفيد نار العناصر ، أي أحد عناصر الوجود ... فموسى شاهد كشفا أن ليس في الوجود إلا الله ، وأنه عند ما ناجاه خلعه من نفسه ، واسترد نفسه منه ، فبقى موسى بلا موسى ، أو كما قال أبو يزيد البسطامي : انسلخت من بايزيدتي كما تنسلخ الحية من جلدها ، ثم نظرت فإذا أنا هو.

وموسى إشارة إلى القلب الذي وصل مقام الروح فواجه من ثم فرعون الذي هو إشارة إلى الفكر بنتائج هذه المكاشفات فكان جواب الفكر : إني لأظنك يا موسى مسحورا ، فما هذا الذي تقول وكيف يكون الله الوجود ، ويكون الوجود الله ، ولا يكون من ثم إلا الله موجودا؟ وكان رد موسى : لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر ، فكان جواب موسى : أن البصيرة وحدها هي التي تكشف ويكشف لها ، وأن نتيجة كشف البصيرة كشف الآيات التسع التي أشير إليها بالدم والقمل والجراد وما شابه.

١٠٣ ـ (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣))

[الإسراء : ١٠٣]

الاستفزاز من الأرض محاولة الفكاك من النفس المادية الترابية التي قال عنها أرسطو : إنها صورة الجسد ، فكل من يظل سجين نفسه يظل أبدا سجين التراب ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كلكم لآدم وآدم من تراب) .. وإلى هذه النهاية أشارت الآية قائلة : (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) فهذا الغرق هو من نوع الطوفان الذي طغى ، ولم ينج إلا نوح ومن معه من أزواج الكليات في الفلك المشحون بهذه الكليات.

٥١٥

١٠٤ ، ١٠٥ ـ (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥))

[الإسراء : ١٠٤ ، ١٠٥]

قلنا : إن بني إسرائيل يمثلون أهل الظاهر ، ولهذا ورد في الآية أن الله من بعد إغراق فرعون قال لبني إسرائيل : (اسْكُنُوا الْأَرْضَ ...) وقلنا : أن لا فكاك لأصحاب النفوس المادية من عالم العناصر فالنتيجة أن أهل الظاهر وعبدة المظاهر هم من التراب وإلى التراب إلا من رحم الله ، فنجاه من هذه الأرض ورفعه إلى عالم الروح والنور الشريف ، فكان ممثل الإنسان الكامل الخالد.

١٠٦ ـ (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦))

[الإسراء : ١٠٦]

القرآن الجمعية العلمية قبل النشر العياني والتفصيل البياني ، فإذا بدأ التفصيل صار القرآن فرقانا ، وقراءة القرآن على مكث تعني حدوث التفصيل نفسه ، إذ من المعلوم أن للآيات أسباب نزول ، وأن ما نزل في زيد غير ما نزل في عبيد ، وما نزل في مناسبة هو غيرها ، وعلى هذا فالقرآن عند التفصيل والنشر هو مجموع الأحداث الوجودية الواقعة مع ذكر الأسباب والنتائج والقطع برأي أو قول ، ولهذا اختلفوا في القرآن هل هو قديم أم هو مخلوق ، والحق أن القرآن كأصل قديم لأنه كلام الله القديم ، أما عند التفصيل فهو تنزيل في التفصيل ، ولهذا جاء في القرآن المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ.

١٠٧ ، ١٠٩ ـ (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩))

[الإسراء : ١٠٧ ، ١٠٩]

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام) ، فالأخيار هم من قبل الإسلام وبعده ، والأمر ذو علاقة بالأخلاق ، فمن لا خلق له لا إيمان له ، ومن كان ذا خلق فهو المؤمن ، ولهذا كان المؤمنون الصادقون من أهل الكتاب إذا استمعوا القرآن انفعلوا ، وتأثروا ، ووقع كلام الله في قلوبهم ، ففاضت أعينهم من الدمع ، وعلموا أنه الحق من عند الله ... ذلك أن القرآن حديث الروح ، والروح واحد كلي ، فهو الباطن من كل إنسان ، فإذا كانت البصيرة مجلوة تقبلت حديث الروح حتى وإن كان صاحبهما عابد وثن أو نار.

١١٠ ـ (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠))

[الإسراء : ١١٠]

الوجود كله صور ، والصور ظاهرة الأسماء ، ولما كان الوجود لله كانت الأسماء بالتالي

٥١٦

له ... وقيل : سميت حسنى من الحسن ، إذ الحسنى تأنيث الكلمة ، والمعنى في التأنيث الأنوثة ، أي أن الأسماء قوابل الفعل الإلهي المعبر عنه بكن ، وبالتالي فإن الوجود الظاهري قابل كلي للوجود الباطن الفاعل الحقيقي.

وجاء في الآية : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ،) أي أن ذكر الصلاة ورد بعد ذكر الأسماء ، ولهذا التوالي لطيفة ذلك أنه لما كانت الأسماء قوابل تقبل الحديث الإلهي المسمى الإلهام ، والإلهام صوت خفي في النفس ، فالإنسان يستمع الإلهام أولا ثم ينطق بعد ذلك ، ولهذا قالت الصوفية : إن الحق هو المخاطب ـ بكسر الطاء ـ والمخاطب ـ بفتح الطاء ـ ، وما الإنسان إلا محل هذا الكلام فالصلة بين المخاطب والمخاطب هي جوهر الصلاة التي قلنا إنها الصلة بين الحق والخلق.

١١١ ـ (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١))

[الإسراء : ١١١]

ثمة إشارات ثلاث في الآية ، أولها أن الله لم يتخذ ولدا ، وثانيها أنه لا شريك له في الملك ، وثالثها أنه لا ولي له من الذل ...

والإشارات تفيد معنى التوحيد الذي هو لا إله إلا الله ، وقلنا لا وجود إلا الله ، فإذا كان الحق الظاهر والباطن فكيف يلد الحق ولدا ، والولادة وجود ثان مثل الوجود الأول؟ وإذا كان الحق الأول والآخر فكيف يكون له شريك في الملك وكل ما في الملك مملوك له قائم به؟

والإشارتان معا استدعتا الإشارة الثالثة وهي كون الحق غير محتاج إلى أحد يكون له وليا من الذل ، فهو الوجود الحق ، وهو العين ، وهو المصدر ، والوجود الظاهري كله مرايا له ، ولهذا ختمت الآية بالقول (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً).

٥١٧

سورة الكهف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١))

[الكهف : ١]

الكتاب النبوة والعلم الجامع وهو علم التوحيد ، ولهذا ختمت الآية بالقول : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ،) أي للكتاب ، وذلك بدهي لأن ما جاء في القرآن هو من باب العلم ، وعلم الله لا عوج فيه ، ويكون العوج في شطر من الأسماء تحقيقا للقصد ، وسقنا لهذا مثلا قول ابن عربي إن اعوجاج القوس للرمي هو عين استقامته ، فلا اعوجاج في القوس ولا في الكتاب ولا في الوجود ، وما يبدو للإنسان من اعوجاج من نوع ما يبدو من اعوجاج القوس ، فالضرورة اقتضت خلق الاعوجاج المقوّم ، وسقنا من قبل قول القائل : إن سوء الأدب إن أثمر أدبا فهو أدب.

٢ ، ٣ ـ (قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣))

[الكهف : ٢ ، ٣]

البأس العذاب ، وعذاب الله الحجاب ، ففريق قربوا من الحق نجيا ، وفريق أبعدوا وحجبوا ، وكلاهما مخلوق لتحقيق القصد ، فلو لا المبعدون ما تقرب المقربون ، والمبعدون يستعذبون عذابهم لتلاؤم الصفة والموصوف ، والأجر الحسن الذي يناله المؤمنون عطايا الإيمان.

أولا من سكينة وطمأنينة ورحمة.

وثانيا عطايا الإحسان وهي التقريب الإلهي وثماره العلم الإلهي.

ولهذا ختمت الآية الثالثة بالقول : (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣)) أي ماكثون في الأجر ، والمكوث الإقامة والسكن ، فالأجر هنا معنوي قلبي يمكث فيه الإنسان أي يسكن قلبه النور ويشع ، ويسكن قلبه هو للراحة.

٤ ، ٥ ـ (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥))

[الكهف : ٤ ، ٥]

عودة إلى التحذير من أن يتخذ الله ولدا ، وقلنا كيف يكون لله ولد وليس في الوجود إلا هو ، وكيف يولد شيء من شيء والشيئية أصلا إلهية نورانية كما بينا القول في أصل المادة

٥١٨

وتكوينها من ذرات سالبة وموجبة ، ثم ذريرات هي موجات ضوئية أصلها عقلي روحي؟

٦ ، ٨ ـ (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨))

[الكهف : ٦ ، ٨]

تحذير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن يهلك نفسه لأن الناس خالفوه وما صدقوه ، وتبين الآية السابعة أن تقسيم الناس هو بقصد الامتحان والفحص والتمييز ، والأمر منه وإليه ، لأن الأسماء أنى توجهت مرجعها إليه ، لأن منطلقها منه ومصدرها. فالقصد إذن ممارسة الأسماء والتعريفات الإلهية عملها لتظهر ، وما الناس إلا وسائط لتحريك الصفات ، ولهذا وصفت الآية الثامنة أن ما على الأرض هو صعيد جرز أي فتات يابس ، فالظاهر من غير باطن هو هذا الفتات اليابس ، والباطن هو الأصل ، وهو الحياة ، وهو المحرك.

٩ ـ (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩))

[الكهف : ٩]

الكهف يذكر بكهف أفلاطون الشهير ، فهذا الوجود الظاهري كله كهف كلي ، والإنسان فيه أيضا كهف كلي نوعي أي إنساني ، ودليل ذلك أن الأبحاث النفسية والفيزيولوجية تكشف عن وجود واحد هو الوجود الإنساني وما نتائج الدراسات النفسية ، والتي بإحصائها يحصل الدارس على شهادة عالم نفساني ، سوى هذا الدليل على الوجود الواحد وكون النفس واحدة ، وإن بدت في جزئيات ... وحتى الأبحاث الطبية تكشف عن وجود جراثيم معينة تحدث أمراضا معينة ، وعن مواقف للجسم من هذه الأمراض ، ولو لا وجود الوحدة الثابتة الكلية التي تحكم الجسد ما قام للطب من قائمة ولا انتصب له بنيان ، فالعلماء إذ يبحثون ويراقبون ويدرسون ويستخرجون إنما يفعلون هذا بسبب وجود حقيقة نفسية وفيزيولوجية للإنسان يحكمها قانون واحد ، ولا يختلف في هذه الحقيقة عالم مؤمن وعالم كافر ، بل العالم الكافر أشد اهتماما بهذه الوحدة من العالم المؤمن.

والله ضرب الكهف مثلا للبنيان الإنساني ، وصف هذا الإنسان بأنه آية من آياته وبأنه العجب ، ويذكرنا هذا القول بقوله سبحانه : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١)) [الذّاريات : ٢١].

وبحثنا يدور حول استخراج الكليات من هذه الجزئيات الإنسانية الظاهرة والرجوع إلى الأصول بملاحظة الفروع والنفوذ منها بالاستبطان إلى الداخل ، والقرآن كله إشارات إلى هذه الوحدة الإنسانية بله الوجودية الجامعة ولهذا تركنا ظاهر المعنى من الآيات ، وتسللنا إلى الباطن متأملين عالم الإنسان الخفي ، وهذا العالم الذي اتخذه الله عرشا له كما جاء في

٥١٩

الحديث القدسي : (ما وسعتني السموات ولا الأرض ولا الجبال ووسعني قلب عبدي المؤمن).

١٠ ، ١١ ـ (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١))

[الكهف : ١٠ ، ١١]

الفتية صور القوى الإلهية التي سكنت الكهف ، والضرب على الآذان إسدال الحجاب على هذه القوى لتمارس قواها بإذن ربها ، والسنون العدودة الأجل المحدد لهذه القوى لتبقى مستورة محجوبة ، ويمارس الإنسان قواه ، ويستخدم حواسه ظانا أنها هو ، وأنه هي ، وأن لا فصل بينه وبينها بينما تثبت الملاحظة الدقيقة ، ويثبت الاستبطان النفسي والتأمل في الخلق أن الذات غير الجسد ، وأن القوى خادمة للذات ولكنها ليست هو ، وقد فصلنا الكلام في هذه الحقيقة في كتابنا الإنسان الكبير ، وأوردنا نتائج الملاحظة واستبطان النفس خارجين بنتيجة أننا ضيوف نازلون على أجسادنا ، وأن جسدنا خادم لنا ، وأن للجسد عالمه ونظامه وغريزته ونفسه وولادته وحياته وموته وبعثه.

١٢ ـ (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢))

[الكهف : ١٢]

البعث تعين الإنسان الكامل وبعث روحه الكلي فيه ، والبعث هنا يقظة واستيقاظ كما قال هيغل إن الروح تكون في الإنسان في حاله نعاس أو سبات ثم تستيقظ.

والحزبان النفس الكلية من جهة والنفس الجزئية من جهة أخرى ، ومن كليهما كان آدم وحواء ، ومن آدم وحواء كان الإنسان ... فالحديث عن النوع ، والإحصاء تحقيق ماهية النوع ، فالحديث إذن عن الإنسان الكلي ، والناس أفراد هذا الإنسان.

١٣ ـ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣))

[الكهف : ١٣]

من الطبيعي أن يكون الفتية مؤمنين بربهم ، وقد ورد في كتاب الله كيف تشهد الجوارح على الإنسان يوم القيامة كالأيدي والأرجل والجلود ، فالجوارح مؤمنة بالضرورة ، لأن قوامها النعت الأصيل ، ومحركها هذا النور ، وهي آلات ، فكيف تكون غير مؤمنة؟

وزيادة الهدى ممارسة الجوارح عملها ، فالهدى هنا هدي الجارحة إلى عملها مثلما يلتقف الرضيع ثدي أمه بالفطرة والغريزة ويشرب ، ولو تفكر الإنسان في جسده وكيفية عمل أجهزته لأخذه الدهش بله الخوف ، فالجسد معمل كبير مدهش ، وما يزال الطب يكتشف أسراره شيئا فشيئا ، وما جهله أكثر مما عرفه.

٥٢٠