التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

صيد البحر صيد الذات ، وهي ذاتان ذات إلهية هي الوجود إطلاقا وتعينا ، وذات موجودة بالوجود الإلهي وهي مجموع النفوس الجزئية ، والله كما ورد في الحديث : (خلق الخلق ليظهر به) ، فالذات الإلهية استودعت الذات المتعينة قواها وإمكاناتها ، وجعلت صيد مالدى هذه الذات من علوم حلالا ، وهذا هو معنى ظهور الله بالخلق.

وقوله : (وَلِلسَّيَّارَةِ) يعني رحلة النفس من أرض المحسوسات إلى سماء المعقولات ، وللنفس في هذا السفر زادها من المعقولات التي صيدت إذ لا سفر من غير زاد.

وقوله : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) هو عودة إلى الخلوة حيث يحرم مد العينين إلى الحياة الدنيا وزينتها وويخصص الوقت كله لله.

٩٧ ، ٩٩ ـ (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩))

[المائدة : ٩٧ ، ٩٩]

الكعبة رمز الصدر ، وكونها البيت الحرام لأن فيها السر الإلهي حيث الله مقيم في الصدر بلا كيف ولا حلول ، والشهر الحرام هو الشهر الذي يرصد لله لكي يتابع القلب سفره حتى يصل إلى الذات الإلهية فتتجلى له وينجلي لاستقبال أنوارها.

١٠٠ ـ (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠))

[المائدة : ١٠٠]

الخبيث كثير مما يرد من المحسوسات ، لأن هذه الواردات حجب عن الله ما لم تسفر عن الله ، ولهذا شرع الحق الشرايع لتكون الشريعة الصراط لبلوغ الحقيقة ، إذ بالفكر وحده الذي يعتمد المحسوس لا يبلغ الإنسان هذه الحقيقة.

والطيب ما تطيب به النفس من كريم الأخلاق لبلوغ القصد ، فالأخلاق لا الفكر السبيل إلى الكعبة حيث الوجود الإلهي ، وقوله : (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يعني أولي القلوب لا أولي العقول ، لأن اللب باطن الشيء وجوهره ، وجوهر الإنسان لطيفته المودعة فيه ، والتي يعد الفكر آلة من آلاتها وقوة من قواها لا العكس.

١٠١ ، ١٠٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢))

[المائدة : ١٠١ ، ١٠٢]

١٨١

السؤال عن الشر وماهيته وسبب وجوده ، وكيف يكون الله خالقا له كما جاء في سورة الفلق : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ ،) وكما جاء في الحديث القدسي : (أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الشر وقدرته فويل لمن خلقت له الشر وأجريت الشر على يديه) ، وهناك السؤال عن القدر كما حدث حين مر النبي يوما بناس يتحدثون عن القدر فقال لهم :(إذا ذكر القدر فأمسكوا).

والإساءة تخص ممثلي أسماء الجلال الذين خصهم الحديث القدسي المذكور والله حكيم يعلم أين يجعل أسماءه ، ولماذا يجعلها ، وعلة جعلها ، والأجوبة التي يحصل عليها صاحب العلم اللدني في الميقات المعلوم.

١٠٣ ، ١٠٥ ـ (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

[المائدة : ١٠٣ ، ١٠٥]

ما خلق الله الروح الحيواني إلا ليكون مطية للروح الإنساني ، ولهذا قال الإمام الغزالي : إن الله الذي أوصى بالرفق بالحيوان أمر بذبحه ، وجعله مسخرا للإنسان ، وعلى مستوى الإنسان وجب أن تدخل النفس في مجال التضحية المعنوية كما دعي إبراهيم إلى التضحية بولده ففدي بذبح عظيم.

١٠٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦))

[المائدة : ١٠٦]

الموت للنفس الجزئية ، والاثنان ذوا عدل الخاطران الإلهي والملكي اللذان هما ملك لله عزوجل ، وقوله : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) يعني من بعد حدوث الكشف ، فيتصل العبد بربه ، فينفى العبد ، ويبقى الرب ومعه الشاهدان المحبوسان من الخواطر.

١٠٧ ، ١٠٩ ـ (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى

١٨٢

أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨) يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩))

[المائدة : ١٠٧ ، ١٠٩]

استحقاق الإثم حلول الخاطرين النفسي والشيطاني محل الخاطرين الإلهي والملكي ، وعندئذ لا بد من استبدالهما ، لأن الأمر الإلهي ارتبط بالشهادة ، والشهادة القيامة ، والشهادة المشاهدة ، فلا بد من وجود الحق وخواطره في النفس حتى تصل إلى مقام اليقين. قال الإمام علي رضي الله عنه : (جبار الخواطر شقيها وسعيدها).

١١٠ ـ (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠))

[المائدة : ١١٠]

قوله سبحانه : (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) يعني خروج ما في باطن العارف الواصل إلى مقام التكليم والمشاهدة ، والمهد هو الجنين الخارج ، وهو الروح القدس الذي أيد به العارف لدى وصوله سدرة المنتهى ومقام قاب قوسين أو أدنى ، والكهل الكهولة التي يكون فيها العارف لدى وصوله إلى ليلة القدر وهي تقارب الأربعين ، وما بعث نبي ولا رسول ، ولا أنزلت عليه الرسالة إلا في الكهولة ما عدا عيسى عليه‌السلام الذي خوطب في المهد ليكون حاله للناس رمزا ، فما دام عيسى ممثل الروح وتعينه ولسانه الناطق فلقد خرج إلى العيان من غير أب طبيعي ، وكان الروح الكلي أباه ، ولأنه ممثل الروح الفاعل فلقد أوتي القدرة على أن يبرئ الأكمه ويحيي الموتى ..

١١١ ـ (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١))

[المائدة : ١١١]

الحواريون ممثلو العقول العشرة والأنوار الشريفة ، الذين يشكلون الدائرة الإلهية ، ويساعدون على خروج ما يكون بالقوة إلى ما يكون بالفعل ، فهم مقولات أرسطو العشر ، وهم أعداد أفلاطون والفيثاغوريين المثالية ، وهم العقول العشرة الشريفة التي تحدث عنها الفارابي وابن سينا.

وفي بعث النبوة ، تتعين هذه الجواهر أفرادا كما تعين أسباط بني إسرائيل وحواريو المسيح

١٨٣

وصحابة رسول الله الذين بشر عشرة منهم بالجنة ... فهم خالدون يظهرون في كل زمان ومكان ليكونوا عونا للأنبياء أصحاب الرسالات ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله) وقال : (لو كان نبي بعدي لكان عمر).

١١٢ ، ١١٥ ـ (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

[المائدة : ١١٢ ، ١١٥]

المائدة سماوية وطعامها سماوي ورمزها العلم الإلهي ، والمائدة علميا مستديرة ، لأن الكون كله كروي مستدير ، وهذه المائدة لها مركز كالدائرة هو الحق سبحانه ، ولهذا المركز إشعاع يصدر عنه في جميع الجهات هو الروح ، أو العقل الأول ، ويقع هذا الإشعاع الفعال على مرآة مستديرة هي بمثابة مسقط له ومحل ، وتدعى النفس الكلية ، وسميت في الحديث الشريف حوضا فهي الحوض الجامع ، وهذه النفس شفافة من جهة الروح ، كثيفة من جهة المادة ، فهي الجسر بينهما.

والنفس ذات أسماء هي بمثابة تكثرها ، والأسماء المعقولات أو الكليات أو المثل ، فوجه الشفافية من النفس هو عالم المثل كما سماه أفلاطون ، ودمج أرسطو الصورة بالمادة وقال : لا وجود للصورة بلا مادة ، ولا مادة بلا صورة ، فالنفس على هذا حامل العالم الحسي ، وهو حاملها ، ولا انفصام بينهما.

والكليات كليات من جهة الشفافية ، وجزئيات من جهة الكثافة ، وقال أفلوطين : إن هذه العوالم الثلاثة الروح والنفس والعالم متشابكة مرتبطة ، وصفها سبحانه بعد ما ردها جميعا إليه فقال : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : ٣] ، فكل إنسان مظهر الألوهية ، فيه الروح الفاعل ، وفيه النفس المنفعلة ، وهو ممثل اسم ، أي صفة ، فهذا بمثابة العين أو القضاء والقدر.

هذه الدائرة هي ما كشفها المسيح للذين سألوه إنزال المائدة فأبان التوحيد وشرح علمه ، ولهذا كان المسيح إمام أهل الباطن ، وكانت النصرانية تمثل علم الباطن باعتبارها وصفت هذا الباطن أي العلم الباطن للألوهية ، وسميت سورة المائدة في القرآن المائدة ، وفيها رد ذكر المسيح وأمه مرارا ، ومدخل السورة كله مجاهدة وجهاد ، لأنه المدخل إلى علم الباطن ، وما

١٨٤

من مدخل إلى هذا المدخل سوى المجاهدة كما سبق أن بينا من قبل ، وقلنا إنه ما من معقول كلي إلا والجهاد مفتاحه ، والتضاد ساحته ، والإنسان فارسه ، والروح الحيواني حصانه ، والحواس عتاده.

فلئن لم تسم هذه السورة المائدة لكانت قد سميت سورة الجهاد أو المجاهدة فالإنسان ممثل الاسم يشق طريقة لفلق بذرة اسمه بالجهاد شاء ذلك أم أبى ، ولهذا قال سبحانه في موضع آخر مخاطبا السماوات والأرض : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصّلت : ١١] ، فالكافر مجاهد بالضرورة ، لأنه الشطر الآخر من معادلة المؤمن ، وعلى هذا فليس في الوجود إلا عبيد ، ولهذا سمي الإنسان عبدا ، لأن الناس كلهم حملة أسماء فكون الإنسان حليما يعني أنه ممثل اسمه تعالى الحليم ، وهذا الحلم يقتضي من الحليم دوره ، فإن لم يجاهد الحليم الجاهل بالصبر عليه والحلم عن سفاهته فلن يكون حليما ، ولن يتفتح فيه برعم الحلم ، فيظل من ثم عاطلا عن العمل ، وبالتالي عاطلا عن الوجود.

ولما كانت الأسماء كلها لله ، فلقد كتب على الناس جميعا فتق الأسماء ، أي إخراجها من كونها بالقوة إلى كونها بالفعل ، ولما كان الفاعل الحق كل شيء قام الروح بهذا الفعل متخذا الإنسان بدوره آلة ووسيلة ، ولهذا كان الوجود العياني كله حصانا يمتطيه الفارس الإلهي ليحقق الوجود الإلهي قصده من الوجود وهو ظهوره وكمالاته ، وكمالاته صفاته ، وصفاته وجهه عزوجل.

ولهذا قيل ليس في الوجود إلا الله ، لأن النفس هنا ، ومنها النفس الإنسانية ، ليست إلا مرآة تعكس الصفات ، وتكون مستودع القوى والإمكانات ، ومحصلة الحياة أن يحيا الله حياته بالروح والنفس.

فمن وعى ما أنزل من طعام في المائدة السماوية كان من الموحدين وسمي حكيما إلهيا ، وإلا لبقي الإنسان في غفلة الجهل ، وسمي هذا الجهل جهالة وقيل في الغافلين إنهم موتى ، ووصفوا بأنهم صم بكم عمي لا يبصرون.

١١٦ ـ (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦))

[المائدة : ١١٦]

قوله سبحانه للمسيح : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) يعني اتخاذ المظهر إلها يعبد ، كما يتخذ الناس الأوثان ، آلهة تعبد ، فعبادة المظهر والتعلق به مثل عبادة الوثن ، والأم

١٨٥

النفس الكلية ، وهي باطن الوجود الظاهري وشاشته ، أي هي كناية عن عبادة الوجود الظاهري وحده كما يفعل الطبيعيون والماديون ، وجواب المسيح : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) يعني أن المسيح ، وهو ممثل العين ، لا يستطيع أن يقول إلا ما يوحى به الروح إليه ، لأن الروح حقيقته ، فكيف يقول ما لا يلهم ويوحى إليه؟ قال ابن عربي : هو المتكلم المكلم والكلام ، فمنه وإليه ، فمن أنت ، وأين أنت؟

وقوله : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) يعني حضور الحق في الوجدان والشعور ، فيكون هو الموحي والملهم ، ولا ينطق اللسان إلا بالوحي والإلهام كما قال سبحانه في موضع آخر : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشّورى : ٥١] ، ولهذا قالت الصوفية : إن الله هو الناطق على ألسنة الخلق ، وما يعي هذا إلا العالمون.

وقوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) يعني رد العارية الجزئية إلى أصلها الكلي ، فاللسان الناطق يرد إلى الوحي الناطق بغير صوت ، والنتيجة أن الباطن يعلم الظاهر ، إذ ليس الظاهر إلا وسيلة وأداة ، والظاهر لا يعلم هذا الباطن ، لأن الباطن باطن كل شيء ، فهو الكل ، فكيف يحيط الجزئى بالكلي وكيف تسع قطرة الماء البحر؟ ... ثم إن النفس الإلهية جامعة ، وما دامت جامعة فهي عالمة بكل شيء ، لا يعزب عنها مثقال ذرة في السماوات والأرض أما الذرة نفسها الكائنة في عالم المادة فكيف تعلم هذا الكلي؟

ولقد قال سبحانه في موضع آخر : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨] ، فذات الله لا تعرف ، ولا تعرف إلا بظهورها أي بالخلق الظاهرين ، والنتيجة أن الله يعلم حقيقة المسيح ، أما المسيح نفسه ، وهو مظهر الروح المتعين ، فهو يجهل الذات الإلهية التي ظلت أبدا مجهولة كما وصفها سبحانه في موضع آخر قائلا : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] ، وقالوا : الروح حكمة الله وقدرته ، وقالوا : الروح ليس الله ، وليس شيئا غير الله.

١١٧ ، ١٢٠ ـ (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

[المائدة : ١١٧ ، ١٢٠]

١٨٦

قول المسيح عليه‌السلام : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) يعني كون العبد واسطة الحق للتكلم ، فالعبد بوق إلهي ، وحاشا عيسى عليه‌السلام أن يقول على الله ما لم يأمره به ، وكيف يقول ما لم يلهم أو يوحى إليه؟

وقوله : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) يعني استرداد العارية التي هي النفس الجزئية ، فيبقى الحق في النفس الكلية التي هي ذات صلة دائمة ببقية النفوس الجزئية ، وبها يكون الحق رقيبا على الناس ، إذ هو ربهم ، ولأنه ربهم فهو عليهم شهيد.

١٨٧

سورة الأنعام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١))

[الأنعام : ١]

السماوات سماء الروح ، والأرض أرض البدن ، والظلمات النفس الحيوانية التي هي الوجه الباطن لعالم المحسوسات ، والتي وصفها بأنها أمارة ذات قوتين هما الشهوة والغضب ، إذ طغت استعبدت القلب ، فأبعد عن ربه ، وهذا معنى خروج آدم القلب من الجنة وهبوطه مع حواء النفس إلى العالم المادي.

وقيل : إن حواء مخلوقة من ضلع آدم ، كما جاء في الحديث إن المرأة خلقت من ضلع عوجاء أو أعوج ، وللقول لطيفة ، فما دام آدم مخلوق على صورة الرحمن ، فإن معنى خلق حواء من صدره هو صدور النفس الأمارة من نفس آدم التي هي صورة إلهية ونفس إلهي.

فالذات الإلهية شطرت منها شطرا جعلت فيه القوى ، ووكلت بها عالم المادة ، فلا انفصام بين هذه النفس والمادة ، ولهذا أطلق عليها اسم النفس الحيوانية ، والحيوان من الحياة ، والانشطار ذاته فعل إلهي لتحقيق قصد إلهي هو إخراج النور من الظلمات كما ورد في الآية ، وهذا هو القصد من تضاد الأسماء وصراعها ، إذ الشيء بنقيضه يعرف ، فهبوط آدم إلى الأرض بواسطة النفس الحيوانية كان بقصد تحققه من الأسماء التي ركزها الله فيه بالقوة كما يركز الشيء في الأرض.

ولما كان آدم جامعا ، وكان له مقام الجمعية الأسمائية لأن قلبه حوى علم الأسماء فإن آدم هو الإنسان الكامل ، وهو خليفة الله في الأرض ثانيا ، وهو نائبه يوحي إليه ، فخارج هذه الجمعية لا وجود لبشر ، ولهذا تابعت الآية قائلة : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يجعلون لله آلهة تساويه في القيمة والعبادة ، وهذا مستحيل لأن السماوات والأرض أي الوجود ظاهرا وباطنا هو لله وحده.

٢ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢))

[الأنعام : ٢]

الطين مثل الذرات المادية التي يتكون منها كل شيء حي ، وخارج عالم الذرة لا يوجد عالم آخر ، واختلفوا في عالم الذرة وأصله وخروجه ، فقالوا هو موجود بذاته ، وقال آخرون :

١٨٨

هو موجود بالفعل ، وهو نتاج وجود عقلي صرف ، فهم إلى اليوم في أصل الوجود الذري مختلفون.

والأجل أجل العالم الذري الذي ثبت أنه ابتدأ من انفجار سديم أول ، كما ثبت أن له عمرا مثلما تحدد العلماء اليوم عمر الشموس والكواكب ، كما تحدد عمر الأرض وطبقاتها وصخورها ، والأجل الذي تحدثت عنه الآية عمر هذا العالم الذري الذي سيأتي عليه حين من الدهر لن يكون شيئا مذكورا ، إذ يتوقف فيه دوران الكهارب السالبة حول الكهارب الموجبة فيصبح كل شيء هباء منثورا.

٣ ـ (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

[الأنعام : ٣]

لا وجود على الحقيقة إلا لله ، فله سماء الروح أي مجمع المعقولات وتكثرها وتصرفها في المادة ، وله أرض المادة وهي عالم الذرة بدءا من أكبر مجرة إلى أصغر جرم ، وهو يعلم السر لأنه الباطن من كل شيء ، وهو الفاعل وصاحب المشيئة والقادر جبار الخواطر ومليك القلب الإنساني.

وقوله : (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) يعني كسب الصفة من عالم الحس ، فكل صاحب صفة يأخذ ما يوافق صفته ، ولما كانت الصفات لله فكل كسب داخل في العلم الإلهي باعتبار مرتبة الرب وعلاقة المربوب به.

٤ ، ٥ ـ (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥))

[الأنعام : ٤ ، ٥]

الآيات المعقولات المحصلة من المحسوسات ، إذ كل محسوس معقول لابس لباس المحسوس ، والجمع آيات إلهية ، ولقد أفاض الفيلسوف كانط في الحديث عن الأفكار القبلية ، أى المعقولات التي تنصب فيها المحسوسات والانطباعات الحسية ، فيكون العالم الخارجي صورا عيانية لهذه الأفكار المسبقة العينية.

٦ ـ (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦))

[الأنعام : ٦]

مثل إرسال السماء إرسال العلوم الإلهية من لدن الروح إلى القلب ، والأنهار نتائج تلك العلوم بعد أن تنفجر عيون ممكنات العالم الخارجي ، فإذا كفر القلب بعد ذلك ، أي لم يهتد إلى الله ، وظل محجوبا عنه ، فإن الله يهلك الكفار بذنوبهم ، ولما كان الذنب هنا هو الكفر ، أي

١٨٩

الحجاب ، فإن الهلاك يكون هو الحجاب نفسه ، إذ لا ضلال أضل من البعد عن الله وإنكاره.

وقوله : (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) يعني إعادة شحن الدائرة الإلهية بتعينات لأسماء إلهية جديدة ترجح كفة الإيمان ثانية ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، سبحانه إذا أراد أنفذ.

٧ ـ (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))

[الأنعام : ٧]

الآية توضح أن الإيمان والإلحاد مسألة لا علاقة لها بالفكر ، والآية تقول إنه حتى وإن أوتي الكافرون دليلا مبينا ما كانوا ليؤمنوا ، ذلك لأن الإيمان نور يجعله الله في القلب ، وليس هو حاصل تفكير ، ولهذا كانت المفكرون فريقين مؤمنين وكافرين.

٨ ـ (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨))

[الأنعام : ٨]

الملك كشف البينة ، ونزوله بمثابة كشف التضاد الذي يثبت أن التضاد لله ، وأنه به يعرف ، وبظهور سر التضاد يرجع كل شيء إلى الوحدة الجامعة التي لا تبقي ولا تذر ، وقال فيها التستري إن للربوبية سرا لو عرف لبطل العلم ، وإن للعلم سرا لو عرف لبطل العمل ، فالله أخفى سر التضاد لحكمة ، والحكمة فلق المعقولات نفسها بالظلمات والنور.

٩ ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩))

[الأنعام : ٩]

الملك الروح المتعين المتكثر ، والجعل جعلان جعل من جهة المعقولات وجعل من جهة التعينات ، وكل معقول صفة ظاهرها الإنسان ولهذا قال سبحانه : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ،) فعلى هذا ليس في الوجود إلا الله ومعقولاته الظاهرة بالخلق ، وهذه الحقيقة الجامعة هي ما يقف عندها الكافرون محجوبين ، فهم يرون المظاهر ، ولا يرون الظاهر ، فيكون ما يرون لبسا عليهم فيضيعون.

١٠ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

[الأنعام : ١٠]

الإحاقة إلاحاطة ، وذلك لأن الكافر هو بدوره اسم من أسماء الله ، وقال الضحاك إن للكافر حفرة في النار يكون فيها ولا يعلم ، فالكافر مأخوذ بناصيته ولا يدري ، فالإحاقة حكم الإنسان بالعين أي بالصفة الباطنة

١١ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١))

[الأنعام : ١١]

الخطاب موجه إلى الموحدين الذين بلغوا مقام اليقين أو الإحسان وصاروا يعبدون الله كأنهم يرونه ، وعبادتهم هذه علمية ذوقية تريهم أن الخلق أشباح وهياكل وآلات ، وأن الله هو

١٩٠

الوجود الحق وأن عاقبة المكذبين الموت ، قال سبحانه في موضع آخر : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام : ١٢٢].

١٢ ـ (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢))

[الأنعام : ١٢]

الرحمة هنا وجودية شاملة لكل موجود ، وفي الحديث القدسي ورحمتي سبقت غضبي ، فالغضب الإلهي عارض ، والرحمة أصيلة سابقة وهي صفة الرحمن الذي منح الوجود للمعدوم ، ويوم القيامة مثله المشاهدة ، والمشاهدة مقام فيه يرى المشاهد الناس في القبضة ، هي نورهم ، وهم مظاهر صفاتها ، ولهذا وصف هذا المقام بالجمع.

١٣ ـ (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣))

[الأنعام : ١٣]

السكن بمعنى حل أولا ، وبمعنى هدأ ثانيا ، أي كف عن الحركة ، وهذا من حاصل كشف الفعل حيث يشاهد الموجود متحركا بالنور الأصيل لأن قيامه أصلا به ، فالحركة لله ، والتحريك لله ، والمحرك بفتح الراء هو المخلوق ، ولهذا شاهدت الصوفية الناس في قيامتهم الصغرى أمواتا أو كالأموات محمولين على عرش الرحمن ، قال البسطامي لما بلغ المقام : رأيت الناس موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات.

١٤ ، ١٦ ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦))

[الأنعام : ١٤ ، ١٦]

الإطعام من الله وبالله إذ له سبحانه المعقولات ، ولو لا الله ما كانت المعقولات ولا قبلها الإنسان على أنها كذلك ، كما أنه ما كان ليقر بأن الخير خير وأن الشر شر ، وأن الجمال جميل في نظر الجميع ، وأن العدل صفة مطلوبة بالفطرة حتى لدى الأطفال ، وعلى مدى التاريخ ما اختلف الناس في معقول أو في صفة جميلة كالحلم أو الكرم أو العفو ، وهي جميعا ما قلبت لو لا الله ولو لا أنه جعلها مقبولة وركزها في القلب ركزا ، ولكان الناس قد رغبوا عنها إلى غيرها ، فقالوا مثلا الحلم جبن ، والكرم حمق ، والعدل ضعف ، والقانون هو القوة ، والشريعة هي شريعة الغاب ، ولقد طرح هذه الشعارات بعض الناس حينا من الدهر ، ولكنها لم تلق من المجتمعات الإنسانية قبولا ، فالإنسان مفطور على حب ما اتصف به الله من صفات ، وهذه سنة الله في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

١٩١

١٧ ، ١٨ ـ (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨))

[الأنعام : ١٧ ، ١٨]

العلم والمشيئة والقدرة من الصفات الإلهية ، ولا يتحرك القلب إلا بداعية ، والدواعي منه سبحانه هو مقلب الأفئدة ، وعليه فالإنسان آلة لله ووسيلته للتنفيذ ، ولهذا كان من تمام التوحيد أن تشهد أن النفع والضر منه تعالى ، وأنه هو الضار النافع ، وأن ما أصاب الإنسان هو من عند الله وفي كتابه المسمى اللوح المحفوظ ، وإيمان كهذا يجعل الإنسان في راحة ، يتقي الله حق تقاته ، ويتوكل عليه في غدوه ورواحه وكسبه وكدحه وجهاده ، فما شاء الله كان ، ومشيئة الإنسان هي تحقيق المشيئة الإلهية ، وإرادته إرادته ، وتقلب الفكر داخل ضمنا في مجال كل يوم هو في شأن.

فهذا العالم الظاهر هو مسرح الله الفعلي ، فعند الإنسان لا تقف ، نافعا كان فعله أم ضارا ، وتجاوزه إلى الله وتوكل عليه ، واعلم أنه ما اختار الله من قدر للإنسان إلا كان اختياره صلاحا للإنسان ، وأن البلاء كثيرا ما يكون مثل مبضع الجراح ، وأن الله يريد بالعباد اليسر ، ولا يريد بهم العسر ، وهو القائل سبحانه : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦].

١٩ ـ (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩))

[الأنعام : ١٩]

الوحي الصوت الذاتي الباطن للإنسان ، وبدؤه نور الهدى أو الضمير ، وهو في أعلى درجاته وحي علمي لدني يعلم الإنسان ما لم يعلم ، وهذا الوحي هو الذي قال القرآن.

والإنسان يتقلب عادة بين الخواطر ، فتارة يكون مع خاطر السوء ، وطورا مع خاطر الشك ، وهو يظل يتذبذب بين الشك واليقين ، والكفر والإيمان والأنانية والغيرية ، وهذه كلها آلهة أخرى جعلها الإنسان شريكا لله في الملك ، في حين يأبى التوحيد شهود إله غير الله ، وهو واحد متصف بالكمال والجمال قاهر فوق العباد خيرا وشرا بإذنه.

٢٠ ، ٢١ ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١))

[الأنعام : ٢٠ ، ٢١]

الكتاب بعض ما يوحي الضمير ، ولهذا كان من النصارى قسيسون ورهبان إذا سمعوا كتاب الله يتلى خشيت قلوبهم وفاضت أعينهم من الدمع ، وعلموا أن القرآن حق ، وأن محمدا حق.

١٩٢

٢٢ ، ٢٤ ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤))

[الأنعام : ٢٢ ، ٢٤]

الحشر حشران ، حشر يكون قي القيامة الصغرى ، وهي قيامة الموحدين الذين قاموا من نوم الغفلة والجهل لما دعاهم الله لما يحييهم ، وحشر يكون في القيامة الكبرى هي بمثابة الجمع ، وتكون القيامة الصغرى صورة للكبرى. وسؤال الحق المشركين في الحشر الأصغر : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) هو من نتائج الكشوف الثلاثة التي يراها المكاشف ، والتي يرى الناس فيها مظاهر صفات إلهية لا غير ، وينضوي في هذا الكشف كل عابد وثن وعابد هوى ومتعصب ، إذ ليست كل هذه العبادات إلا صورا ، والصور لله لأنها مظاهر أعيان ثابتة تلهم خيرا وشرا فلا يخرج على هذه القبضة الجامعة أحدا

٢٥ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥))

[الأنعام : ٢٥]

الأكنة الحجاب ، وكل الأسماء حجب ، وكل الأسماء أكنة ، لكن منها ما هي أكنة نورانية ، ومنها ما هي أكنة ظلمانية ، ولهذا جاء في الحديث : (إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه البصر من خلقه) ، والاستماع إلى النبي الاستماع إلى الصوت الجامع ، أو صوت الحق ، وهو نور ، فمن كان على قلبه قفل لم يسمع صوت النبي ، وإن سمعه لا يؤمن به.

ووقر الآذان يعني أن الأذن وسيلة ، والمهم الذي توصل الأذن إليه الصوت ، فمن كان قلبه نورانيا سمع كلام النبي وصدق به وخشع ، وإلا فإن الآيات لا تغني ، ولا كلام النبي ينفع ، لأن كلام النبي نور ، والنور لا يوافق الظلمة ، ولا الظلمة تناسب النور.

٢٦ ـ (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦))

[الأنعام : ٢٦]

الإهلاك النزول إلى أسفل سافلين وهو مقر النفس الجزئية الحيوانية التي هي خلق إلهي ونفخ في الجنين حتى تدب فيه الحياة ، فإذا خرج هذا الروح الحيواني منه صار إلى عدم ، قال جلال الدين الرومي : هذه الروح مرتبطة بالبدن ، وقال : هذه الروح تصير ترابا.

وإهلاك النفس حاصل لأن أصحاب النفوس الحيوانية لم يرتقوا ولم يعرجوا ، وبالتالي لم يعبدوا الله ولم يعرفوه ، فحياتهم تساوي حياة البهائم ، وموتهم موت البهائم ، وقال الرومي :

١٩٣

إن وقوع القتل والموت على صورة الجسم كقطع الرمان والتفاح ، فكل ما كان منه حلوا أصبح شراب الرمان ، وكل ما كان غصنا لم يعد صوت كسره.

٢٧ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧))

[الأنعام : ٢٧]

النار الحجاب ، وكشفها كشف حجاب الفعل ، فالله هو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد يكشف الحجاب ساعة قبض النفس ، فإذا صاحبها يرى حقيقة الأمر ، وأن الله قريب ، وأنه هو الهوية ، وأنه لا إله إلا الله ثم لات حين مناص.

٢٨ ـ (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨))

[الأنعام : ٢٨]

العودة إلى ما نهوا عنه العودة إلى حكم الاسم ، فلكل إنسان اسمه ، والاسم كلمة ، ولا تبديل لكلمات الله ، والله خص كل نفس باسم في الكتاب أو اللوح المحفوظ ، ولا مجال لشطب ما خط من قدر في الأزل.

٢٩ ـ (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩))

[الأنعام : ٢٩]

الإيمان بالحياة الدنيا دون الآخرة حاصل إلهام الاسم البعيد الذي يوسوس في الصدر أن لا إله إلا الطبيعة ، وأنها الخالقة ، وأن الإنسان فيها وحيد ، حر ، عليه أن يتصرف ، وأن ولادته وحياته وموته مصادفة بدأت من عدم ، ثم صارت وجودا ، ثم ارتدت إلى عدم.

٣٠ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠))

[الأنعام : ٣٠]

الرب المرتبة الثالثة للذات الإلهية التي لها المرتبة الأولى وهي في حال كونها صرفة مطلقة وسميت العماء كما جاء في الحديث ، ثم المرتبة الثانية وهي الألوهية ، وهي ربط المألوه بالإله ، وهي فلك الكليات المعقولات ، أي فلك الغيب والروح ... ثم تأتي المرتبة الثالثة التي هي الربوبية ، وهي ربط المربوب بالرب ، وهي فلك الحسيات المادية الظاهرة حيث تقتضي الربوبية وجود المربوب لتفعل فيه ، وتؤثر بأسمائها التي هي أسماء الأفعال كالرازق والمحيي والمميت والهادي المضل.

والوقوف على الرب وقوف القلب على الرب الذي هو القبضة ، فالوقوف رمزي معنوي ، يعلمه الله باطنا لأن له مرتبة الرب ، ولا يعلمه العبد ظاهرا لأن مرتبة المربوب تقتضي حرية الإرادة والبعد عن الله والتردد بين الخواطر وهو ما رمز إليه بهبوط آدم وزوجه من جنة القرب ،

١٩٤

فالوقوف حادث حقا ولكنه مستور ، والعبد محجوب لا يدري أنه مقلب ، وأن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء.

٣١ ـ (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١))

[الأنعام : ٣١]

الساعة ساعتان صغرى وكبرى ، وهي إشارة إلى انكشاف حقيقة الأمر ، فالساعة الصغرى للمكاشفين المحققين الذين يتحققون من كونه تعالى الفاعل على انفراد ، والساعة الكبرى إنباء عن كون الجميع في القبضة ، والوزر العبء والثقل ، وهو حمل الأسماء ، فالإنسان حامل الاسم ولهذا فهو حامل الوزر.

٣٢ ، ٣٣ ـ (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣))

[الأنعام : ٣٢ ، ٣٣]

الحياة الدنيا كناية عن كون الإنسان محجوبا عن الله لأن الدنيا من الدني وهو القرب من أرض العناصر والبعد عن سماء الروح ، والحياة الدنيا لعب ولهو لأن الإنسان فيها لم يعرف نفسه وبالتالي لم يعرف ربه ، فكان عمله لعبا ولهوا ، لأن القصد من خلق الإنسان عبادة الله وتعرفه.

والدار الآخرة انكشاف الحجاب ، فإذا الله حاضر ، وإذا حضوره في الذات الإنسانية بلا كيف ولا حلول ، فالدار الآخرة هي الحيوان لأنها تحقق الإنسان باسمه تعالى الحي الذي هو مفتاح الصفات الإلهية ، وتليه بقية الصفات الست ، كالعلم والقدرة والإرادة ، والسمع والبصر والكلام.

٣٤ ـ (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤))

[الأنعام : ٣٤]

كلمات الله ظهور الكليات في صور التعينات ، وظهورها بقدر كما قال سبحانه في موضع آخر : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) [فصّلت : ١٠] ، وقوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤٩) [القمر : ال] ، فالأسماء مخلوقة بقدر ، وقدرها صراعها ودفعها بعضها بعضا إظهارا لأسماء بواسطة أسماء ، فهذه المعادلة نتيجتها النصر والفوز لأصحاب أسماء الجمال والكمال وهم الرسل ، كما أن الخسران من نصيب أصحاب أسماء القهر والجلال.

٣٥ ، ٣٧ ـ (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي

١٩٥

السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧))

[الأنعام : ٣٥ ، ٣٧]

المشيئة الإنسانية المتمثلة في النبي وقد وقفت بين يدي المشيئة الإلهية المتمثلة في حقيقته ، فالنبي وقف أمام مرآته ضائق الصدر بالوضع الوجودي للأسماء ، وقد أحزنه عدم إسلام عمه أبي طالب ، كما كبر عليه إعراض المشركين ومنهم بعض عشيرته الأقربين ... فكان جواب الحق أن هذه هي المشيئة الإلهية ، ولا راد لها ولا مبدل لأسسها فالنفق في الأرض محاولة خرق أرضية الأسماء ، أي أسماء الأفعال ، والسلم في السماء محاولة خرق أرضية الأسماء ، أي أسماء الصفات ، والإتيان بآية الإتيان بدليل قاطع تظل أعناق المشركين لها خاضعين ، والله بعد التذكير بأن السالب ضروري للموجب ، وأن الأسود الوجه الثاني للأبيض ، وأن حكمته تعالى قضت هذا القضاء الوجودي المحكم ، ولو شاء سبحانه أن يجمع من هم في الجمع حقا لجمعهم ، فالجمع هنا جمع للون دون لون ، وهذا مستحيل في حقه تعالى لأنه بالتضاد برز وظهر وفعل ، كما أنه لو شاء ألا يجعل التضاد صفة الوجود لفعل أيضا ، فالقانون الوجودي من وضعه وحده ، ولو لم يشأ ما كان لشاء شيئا آخر وهو الجمع على الهدى.

٣٨ ـ (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨))

[الأنعام : ٣٨]

دواب الأرض يدبون بقوى الروح الحيواني وهو قدرة إلهية ، والطير المعقولات ، وجناحا الطير المعقولات وتضادها ، والجناحان في الإنسان فكره بتناقضه ، فأنا تثبت وأنا تنفي ، وكلتاهما تحملان المعقول وقوله : (أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) يعني أن حقيقة الجماد ، والنيات والحيوان روح إلهي ، ولهذا فلا جماد ولا نبات ولا حيوان بل ثمة روح إلهي اتخذ هذه الدابات والصور ، وإلا فكيف يفسر وجود الغريزة لدى الحيوان ، والغريزة ليست عقلا والحيوان لا عقل له ، ومع هذا فالغريزة سلوك فطري ذو نظام كامل يحقق القصد من وجوده وهو حفظ النوع وضمان استمرار الحياة وترجع العلماء الغريزة إلى أنها نمط من أنماط الحياة هاد ، ويعترفون بأنها سر ، ومع هذا فهم لا يشرحون كيف حصلت الغريزة على قانونها ، ولا من أين حصلته ، ولو طبقنا مثل الحاجة أم الاختراع ، ونظريته التلاؤم مع البيئة ، لكنا سلمنا جدلا بأن ثمة عملية فكرية قد جرت في الغريزة حتى وصلت إلى استحداث قانونها ، وما دام هذا يناقض تعريف الغريزة ، بأنها سلوك فطري عفوي ثابت مشترك بين أفراد النوع متكيف مع هدف لا

١٩٦

يشعر به الفرد فالنتيجة هي عدم إمكان حل أحجية الغريزة نفسها والتسليم بالتالي بأن ثمة قوة عليا وراء الغريزة وداخلها هي التي هدتها وعلمتها وسلحتها بالقوانين.

٣٩ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩))

[الأنعام : ٣٩]

تحدثنا عن المشيئة الإلهية والمشيئة الإنسانية ، وكان الخلاف حول حرية المشيئة هو الذي فصل المعتزلة عن الأشاعرة الذين هم أهل السنة.

وقيل : إن الصاحب بن عباد المعتزلي دخل يوما على صاحب له وعنده الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني ، فقال ابن عباد : سبحان من تنزه عن الفحشاء فقال الأستاذ : سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء ، فقال ابن عباد : أفيريد ربنا أن يعصى؟ فقال الأستاذ : أفيعصى ربنا كرها؟

والتوحيد يقضي التسليم بوجود مشيئة إلهية جامعة قاهرة ، وإلا لما كان الله إلها ، ولكثرت الآلهة في السموات والأرض ، ولذهب كل إله بما خلق وهذا مستحيل قطعا في حقه تعالى ، ما دام هو نور السماوات والأرض ، وما دام هو الإله في السماوات وفي الأرض ، وما دام هو القاهر فوق عباده ، وما دام هو القائل : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) [هود : ٥٦].

٤٠ ، ٤٣ ـ (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣))

[الأنعام : ٤٠ ، ٤٣]

كل دعاء ، وكل رجاء ، وكل فرار من خطر والتجاء إلى مغيث ومنجد هو التجاء إلى الله تعالى ، لأنه سبحانه في القلب ، لأنه يسمع النجوى ، ولأنه حاضر لا يغيب فهو السميع المجيب ، وهو يجيب المضطر إذا دعاه ، ولهذا قال سبحانه في موضع آخر : (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] لأنه في الحقيقة ما من موجود سواه ، وما من أحد إلا هو من باب القوامة فهو الحي القيوم.

٤٤ ـ (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤))

[الأنعام : ٤٤]

الأبواب الخواطر وهي التي تمد الإنسان بأسباب الفكر لتنجيه مما هو فيه ، ولتساعده على العيش ، ثم هي التي توسوس له ، وتزين له حب الشهوات من المال والجاه ، فمجموع الخواطر أبواب التفرقة ، والأخذ رد الأبواب إلى باب واحد جامع هو الحق الملهم سبحانه ،

١٩٧

حاشاه أن يكون ملهم سواه ، وهو المليك يلهم القلب الفجور والتقوى ، مستخدما الظلام لإخراج النور ، ومستخدما النور لدحر الظلام ، ثم لا ظلام ولا نور بل هو وحده السميع البصير المتكلم ، ولهذا قال أبو يزيد البسطامي : إلام تبقى بيننا هذه الأنانية؟ إرفعها بيننا لتبقى أنت وحدك يا عزيز.

٤٥ ـ (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥))

[الأنعام : ٤٥]

الدابر الآخر وهو العالم الظاهر من الإنسان حصيلة اسمه ، وعند الكشف يتبين أن لله الاسم الظاهر ، فيلحق كل ظاهر به ، ومجموع الظاهر عالم الظواهر.

٤٦ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦))

[الأنعام : ٤٦]

إن هنا بمعنى فعل واقع ، إذ أن السمع والبصر والقلب أدوات له تعالى تعمل به ، ولا تعمل بذاتها ، ولهذا تابعت الآية قائلة : (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ،) والختم على القلب طبعه ، والطبع إلهي وهو مذهب أهل السنة والجماعة ، وسيأتي الحديث عنه عند الكلام عن الغلام الذي قتله الخضر.

٤٧ ـ (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧))

[الأنعام : ٤٧]

العذاب الآتي جهرة أي جهارا ، وهو ما يراه الإنسان من العالم فيتجه إليه ، ويرتبط به وبالأسباب والمسببات ، فيكون عذابه البعد عن الله ، قال السكندري : من اعتمد على المعلومات والمدخرات ، فقد عبد غير الله تعالى وهو لا يشعر.

٤٨ ، ٤٩ ـ (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩))

[الأنعام : ٤٨ ، ٤٩]

الإيمان والصلاح هنا فريق الجنة المخصصون ، خصوا بالفهم عن المرسلين من مبشرين ومنذرين لأن لهم سمعا واعيا وبصرا حديدا وبصيرة مجلوة ، فتلين قلوبهم لذكر الله ، ويلبون داعي الله.

٥٠ ، ٥١ ـ (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١))

[الأنعام : ٥٠ ، ٥١]

النبي بين جوهر وتعين لهذا الجوهر وهو ما سمي النفس ، والخطاب هنا موجه إلى النفس

١٩٨

دون الجوهر ، أي إلى الشطر القابل من الإنسان ، وكل إنسان ظاهر هو الوجه القابل ، إذ أن الله ما خلق هذه القوابل إلا ليفعل بها ويظهر ، والقابل سلبي ، بعيد عن عالم الغيب ، مقرون بعالم العناصر مرتبط به ، وهو ليس بملك ، لأن الملك شفاف لطيف أي هو باطن العالم الكثيف.

وقوله سبحانه على لسان نبيه : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) هو إشارة إلى باطن النبي أي حقيقته ، أي الروح منه ، أي عالم اللطافة والنور ، وهذا العالم هو الفاعل والموجب والعليم والحكيم ، والعالمان موجودان في الإنسان الذي فضل على المخلوقات ، وسجدت له ملائكة المعقولات ، ولما كان النبي الإنسان الجامع الكامل فتعينه تعين فرد ذلك النوع الجامع أو الإنسان الكلي ولهذا أمر المسلمون بالاقتداء برسول الله ، لأنه لهم مثال وقدوة ومثل يحتذى.

٥٢ ـ (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢))

[الأنعام : ٥٢]

الخطاب موجه إلى الوجه القابل من النبي وهو النفس أو الفكر ، وكان المشركون قد اشترطوا ، على النبي أن يبعد الفقراء والأعبد عنه ليجالسوه هم ، ووافقهم النبي طمعا في كسبهم وإسلامهم ، فنزلت الآية محذرة ، فليس عند الله فقراء وأغنياء ، وكبراء وصغراء ، بل الكل عبيد لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، ورب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ، فالنبي هنا متعلم ، ومعلمه العلام الأكبر الذي هو جزؤه النوراني العظيم ، قال جلال الدين الرومي : (فمنا كان السؤال ومنا كان الجواب).

٥٣ ـ (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣))

[الأنعام : ٥٣]

الفتنة إظهار الكليات ، ولا كليات من غير فتنة ، إذ بالتناقض ظهرت الكليات ، ولو لا البخل ما ظهر الكرم ولا عرف ولا قوم ولا خلد طيء ، وقال الإمام الغزالي : لو لا خلق البهائم ما عرف شرف الإنس.

٥٤ ، ٥٦ ـ (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦))

[الأنعام : ٥٤ ، ٥٦]

عمل السوء بجهالة إجابة خاطر النفس الذي تكون له الغلبة والتأثير في البداية فيستجيب الإنسان له ظانا به ظن الخير ، حتى إذا خط الله في القلب كلمات الإيمان انتبه القلب وصحا وتاب من ذنبه وأناب.

١٩٩

٥٧ ، ٥٨ ـ (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨))

[الأنعام : ٥٧ ، ٥٨]

سأل المجرمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم بالعذاب كما قال ، وكان جواب النبي لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والمعنى أن النبي ما عنده إلا العلم بالأسماء ، وللأسماء أجل محتوم ، فلا يجوز أن يطغى فريق من الأسماء دون فريق ، لأن قوام كل فريق الفريق الآخر ، ولهذا تحدثت الصوفية عن ارتباط العلة بالمعلول ، والمعلول بالعلة ، وقالوا : لو لا طلب المعلول لعلية العلة ما ظهرت علية العلة ولا فعلت ، وكذلك لو لا علية العلة ما وجد المعلول ولا تحرك ، فالأمر بين ظاهر وباطن ... ثم إن العمليات نفسها متناقضة وهي في الوقت نفسه مترابطة ، والعالم هو الله ظهورا ، وما في العالم من اختيار هو اختيار الله فلا فصل ، بل لا وجود للعالم حقيقة بل وجود الله وظهوره هو الحقيقي ، وعلى هذا فكيف يأتي الله أمرا هو ضد ما هو موجود في العالم؟ ولهذا قالت الآية : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي لطوي الأمر الوجودي نفسه ، إذ بظهور العذاب الذي هو نصر لفريق دون فريق يكون خراب عالم الأسماء نفسه وبالتالي يكون خراب الوجود.

٥٩ ـ (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩))

[الأنعام : ٥٩]

مفاتح الغيب علم الوجود ، فما دام الحق باطن الوجود وعين الأعيان فهي هو ، وهي مفاتح بمعنى فتح الوجود الإلهي نفسه ، فالعلم هنا بين مطلق ومقيد ، والمطلق كونه في الصميم ، أي بالقوة ، أي في البذور ، أي مطوي مرتق ، والمقيد هو انتشار العلم عن طريق تعينات الأسماء ، فيأخذ كل اسم حقه من الوجود وينتشر ما فيه من علم ، وعلى هذا فالله عليم بالوجود ، لا يعزب عنه مثقال ذرة تكون في صخرة أو في الأرض أو في السماء ، وكيف يعزب عنه علم شيء وهو العين الجامعة ولها آلات السمع والبصر والكلام التي تصلها بعالم العيان؟

٦٠ ـ (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠))

[الأنعام : ٦٠]

الوفاة بالليل دخول النفس في كثافة عالم العناصر وخضوعها للشهوات فالوفاة هنا البعد عن الله والنفي من حضرته ، وهي هنا مثل هبوط آدم من جنة القرب والمعرفة ، والنهار بدء يقظة

٢٠٠