التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

٢٣ ـ (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣))

[إبراهيم : ٢٣]

السّلام هو الذي قيل في إبراهيم والنار التي صارت سلاما عليه والسّلام نتيجة ونهاية رحلة التناقض الذي تمارسه الأسماء. فما دام الإنسان أسير التناقض والإزدواجية فهو في النار ، وهو في بئر جهنام البعيدة القعر ، فإذا كتبت له النجاة خرج من البئر كما خرج يوسف ، وأنقذ من نار التناقض وعذاب الإزدواجية ، فنعم من ثم بحياة هانئة هادئة ، يجد فيها السعادة والغبطة ، ويحقق حالة التوازن بين الذات والموضوع كما جاء في الفلسفة. قال اسبينوزا : الإنسان الحر الذي ينظر إلى جميع الناس على أنهم أجزاء من النظام العام لا يشعر إلا بالنشوة إزاء معرفته حتى ليستحيل عليه كراهية أحد من الناس.

٢٤ ، ٢٦ ـ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦))

[إبراهيم : ٢٤ ، ٢٦]

الشجرة الطيبة اسم المؤمن الذي يخلق مؤمنا وهو في بطن أمه ، فهو تعين إلهي وظهور نوراني لهذا الاسم. والأصل الثابت كون هذا الاسم ممدودا أصلا بالنور ، فهو وإن ارتكب المخالفات محفوظا عقلا ونفسا وجسدا إلى أن يتحقق أمر الله فيه والفرع الظهور نفسه ، وضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلا لهذا حين قال : (أنا أبو الأرواح وآدم أبو البشر) ، وقال : (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر) ، وقال : (كنت نبيا وآدم منجدل في طينته) ، وسمي هذا الظهور في الفلسفة التجسد الدوري ، فهذا النور له ظهور في كل نبي وولي ، ولهذا قالت الصوفية : إن النبي محمد هو حقيقة كل نبي ورسول ، ونضيف : وهو حقيقة كل ولي عارف وارث أيضا.

والشجرة الخبيثة الفكر التي اجتثت من الفكر الكلي أو العقل الكلي ولهذا لم يرد في الآية وصف هذه الشجرة بأن لها أصلا ثابتا كالشجرة الطيبة ، بل ولم يرد أن لها فرعا أيضا ، بل ورد في وصفها أنها اجتثت من فوق الأرض. فالأرض لله والفكر قبس من الفكر الإلهي ولكنه فكر ضعيف كما قال جلال الدين الرومي. والفكر قد يذهب بصاحبه يمينا ، وقد يذهب به شمالا ، فلا أمان للفكر ، ولا أمان لصاحبه منه.

٢٧ ، ٢٩ ـ (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ

٤٢١

الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩))

[إبراهيم : ٢٧ ، ٢٩]

التثبيت معرفة حقيقة التوحيد حيث يصبح الفكر من ثم قولا ثابتا لا مجال للشك فيه وفي معطياته بسبب المدد النوراني الذي أتاه من قبل الروح.

أما ضلال الظالمين فهو من باب المكر الإلهي الذي كنا تحدثنا عنه. فما دامت هناك أسماء خافضة ، والله غالب على أمره والقاهر فوق عباده ، فلا بد من أن يضل فريق من الناس ضلالا إلهيا ... نقول إلهيا لأنه ما على الأرض شيء له خروج على الإرادة الإلهية هدى وضلالا ، خفضا ورفعا ، إيمانا وكفرا ، ولهذا ختمت الآية بالقول : (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ ،) والآية من المحكمات اللواتي يلقين الضوء الساطع على بقية الآيات ليميز صاحب البصيرة المحكم من المتشابه من آيات الله.

٣٠ ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠))

[إبراهيم : ٣٠]

الأنداد أن تقول هذا لله وهذا لي ، وهذا للطبيعة ، وهذا للعقل ، وهذا للغريزة ، وللهوى ، فتجعل من ثم في الأرض آلاف الآلهة ، حاشاه سبحانه أن يكون في الوجود كله إله آخر إلى جانب الحق. قال جلال الدين الرومي : ما كل هذا الخراب إلا بسبب التثنية ، يعني الوجود الإنساني إلى جانب الوجود الإلهي.

٣١ ـ (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١))

[إبراهيم : ٣١]

الإنفاق بالسر نقل السر الإلهي بالرفق إلى أهله ذوي القلوب المؤهلة لحمل السر التوحيدي العظيم ، والإنفاق علانية بث العلوم الدينية والعقلية للناس جميعا كما فعل الرسول حين علم الشريعة ، وأضاف إلى القرآن السنة من قول له أو عمل.

٣٢ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢))

[إبراهيم : ٣٢]

الفلك البدن ، وقد يكون الفكر ، والبحر الوجود العياني ، فمن دون البدن وآلاته والفكر وقواه ما كان للإنسان أن يوجد أولا ، وأن يكون إنسانا ثانيا ، وأن يعرف الله ثالثا.

٣٣ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣))

[إبراهيم : ٣٣]

الشمس الذات الكبرى المشعة ، وإشعاعها الأسماء والصفات ، والقمر مستقبل لأشعة الصفات ومظهرها في عالم العيان ، فالإنسان على التحقيق مستقبل ومرسل ، كما القمر ،

٤٢٢

مستقبل لإمدادات ربه ومرسلها عن طريق الفعل. وقالت عائشة : أخذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة بيدي وأشار إلى القمر قائلا : (إستعيذي من شر هذا ، فهذا هو الغاسق إذا وقب) ، وقد أراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم التنبيه على ضرورة أن يتجاوز الإنسان ذاته إلى ذات الله.

٣٤ ـ (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))

[إبراهيم : ٣٤]

الظلوم من يظلم نفسه ، ولا يقدرها حق قدرها. فتحت جدار الأنا كنز من العلوم عظيم ، ومع هذا فالإنسان غافل عن وجود هذا الكنز ، متجه إلى العالم الظاهري ليأخذ عنه ، علما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إذا أخلص العبد لربه أربعين يوما تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه). ووصف الإنسان بالكفر دلالة على غفلته عن ربه والعلوم التي أهل لحملها ، لأن الكفر ستر وحجاب.

٣٥ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥))

[إبراهيم : ٣٥]

البلد القلب ، وأمنه إشعاع أنوار الإيمان والهدى في جنباته. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما أفاد العبد شيء بعد الإيمان كالمرأة الصالحة). والأصنام الوجوه الظاهرة ومالها من صفات حيث يعلق الإنسان المظاهر ، وينسى ربها بها الظاهر.

٣٦ ـ (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦))

[إبراهيم : ٣٦]

النظر إلى الناس على أنهم أنيات وصفات وأفعال هو الذي يضل الإنسان ، ونتيجة النظر إلى الإنسان كمخلوق فاعل حر يفعل ما يشاء فصل الإنسان عن الله الخالق الفاعل المختار والحر الذي يفعل ما يشاء. وليتساءل الإنسان : إذا فصل الله عن الوجود وجعل في السماء فقط ، فكيف يكون رب العالمين ، ويكون الله في السموات وفي الأرض جميعا ، وكيف يتحقق قوله سبحانه مخاطبا نبيه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى؟) [الأنفال : ١٧].

٣٧ ، ٣٨ ـ (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨))

[إبراهيم : ٣٧ ، ٣٨]

الوادي النفس ، إذ خاطب سبحانه موسى في موضع آخر قائلا : (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) [طه : ١٢] ، ووصف الوادي بأنه غير ذي زرع يعني كون النفس فطرة مغلقة ، لم تفتح مغاليقها وأبوابها الداخلية المطلة على عالم الروح.

٤٢٣

وذرية إبراهيم الموحدون في كل زمان ومكان ومن أي دين كانوا ، إذ أن إبراهيم هو نبي التوحيد وأبو الموحدين وهو الذي سمى المؤمنين مسلمين.

وسؤال إبراهيم ربه أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم يعني مناشدة الموحد ربه أن يجعل له من الناس أنصارا ومحبين.

٣٩ ، ٥٢ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١) وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

[إبراهيم : ٣٩ ، ٥٢]

الإنسان وجودان فكر ووجدان ، والفكر فكران متناقضان مثلت النفس الأمارة أحد الشطرين المتناقضين ، وإبراهيم تزوج هاجر ، أي هاجر من بلاد ما بين النهرين ، أي نهري عالمي الوجوب والإمكان ، ساعيا في الأرض لجمع المعلومات ، وعن طريق فكره تم جمع هذه المعلومات الحسية كما كنا ذكرنا من قبل ، كما أن لاسم إسماعيل رمزا أيضا ، إذ أصل التسمية يسمع إيل ، وايل هو إله التوحيد المعبود منذ الألف الثالث قبل الميلاد ، فإبراهيم سمع صوت الله عن طريق فكره ، أي أن فكره الساعي إلى جمع المعلومات من العالم الظاهري كان يسمع في الوقت نفسه صوت الله في ذاته ، وكنا سمينا هذا الصوت في أول مراحل هجرة الإنسان إلى ربه الضمير ، فهناك عاملان في اكتساب القلب للمعلومات ، الانطباعات عن العالم الخارجي والحدس العقلي الذي يسمع أصوات ملائكة المعقولات ، وسمي هيغل هذه المعقولات مقولات ، وعرفها بأنها : كليات عقلية خالصة هي تعريف للمطلق.

ولقد ولد إسماعيل ببكة الصور ، وسعت أمه وهي تحمله متنقلة بين الصفا والمروة باحثة

٤٢٤

عن ماء لتسقيه ، إذ كان المكان غير ذي زرع وغير ذي ماء حتى فجر الله نبع زمزم ...

والمعنى أن الفكر يظل حيران في هذه الدنيا حتى يأتيه اليقين وتأتيه البشرى بحلول ليلة القدر ، وفيها يرفع الستار ، ويكشف الحجاب عن الحقيقة.

فليس من قبيل المصادفة أن يكون مقام إبراهيم بجوار الكعبة ، إذ أن الكعبة رمز الوجود العيني العياني ، وهو وجود إلهي روحي كما قال هيغل ، والحجر الأسود الموجود فيها إشارة إلى الذات اللطيفة التي تنتظر الميقات فتستيقظ ، وهذا ما أشارت إليه الآية بولادة الولد الثاني لإبراهيم وهو إسحاق ، وأمه سارة من أسر إلى النفس ، فالحديث كله خاص بإبراهيم ، وإن كان ثم ذكر لولادة ولديه إسماعيل وإسحاق ، فنحن أمام الإنسان الموحد ، تعين الإنسان الكامل وممثل الجنس البشري كله ، والإنسان الكامل روح الوجود كله.

فإبراهيم عاش أولا مرحلة فكرية تناقضية كان الضمير فيها يلهمه ، ويسدد خطاه في رحلته الروحية ، ومثل هذه المرحلة اسم إسماعيل أي سماع صوت إله المقولات كما قلنا ، ثم جد في الأمر جديد لما ولد لإبراهيم ولد ثان أو ولد هو ولادة معنوية فاكتشف أن وراء طور الفكر فكر ثان هو عقل جمعي جامع فاعل وهو صوت الحق والتوحيد ، وهو الله على الحقيقة.

وفي الفلسفة اليونانية اشتهر ضرب المثل بالولادة الذاتية هذه ، ففلاسفة الغنوصية قالوا بالولادة ، وضربوا مثلا كيف يولد الشيء من الشيء أي يخرج منه ، أي يخرج الباطن من الظاهر ، فإذا الله ظاهر للعيان كما تراه الصوفية ، وفي الغنوصية ولادة العقل الفعال من الذات الصرفة ، وولادة النفس الكلية من العقل ، وولادة النفوس الجزئية من النفس الكلية ... ومجموعة الولادات هي الإنسان الجامع ، ومثله إبراهيم عليه‌السلام الذي كان أبا الأنبياء ونبي التوحيد.

فما ضرب الله الأمثال في القرآن إلا ليتعظ الإنسان ، وابن عربي يقول : وتحسب أنك جرم صغير ، وفيك انطوى العالم الأكبر ، فالإنسان صورة الكون ، وهو الوحدة في الكثرة ، وهو الكثير في واحد ، وهو البضع ، وهو الجمع ، وهو الأجزاء ، وهو الحق ، وهو الخلق ، فنحن أمام صورة الرحمن آدم ، جاء في كتاب كشف الوجوه الغر يمكن قياس ظهور الحق بصورة العبد من غير حلول على ظهور جبريل بصورة دحية دون أن يحل فيه ، فلم يكن جبريل دحية بسبب ظهوره في هيئته ، كما لم يكن الحق عبدا بسبب ظهوره بصورته.

٤٢٥

سورة الحجر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١))

[الحجر : ١]

القرآن المبين الكتاب المظهر للآيات نفسها ، فالقرآن إشارة إلى الوجود العياني المنفلق من الوجود العيني الروحي ، وما في العالم الظاهري من آيات هي آيات العالم الباطني نفسه.

٢ ـ (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢))

[الحجر : ٢]

في الآية نكتة لطيفة وهي كون الكافرين محجوبين ، ولا يعلمون أنهم محجوبون ، وسر الحجاب فيه ومنه وبه ، فحين يعلن الكافر أن لا إله إلا الله يكون قد أقر بأن أنيته إلهه ، ولما كانت أناه هي الحجاب ، وهي شعاع من الأنا الخالصة ، وأنها هي الحجاب عن الأنا الكبرى ، فالنتيجة أن الكافر حجبته أناه أو عينه أو صفته أو اسمه وكلها من الله ولله ، علم هذا أم جهل ولو علم الكافر هذه الحقيقة لتمنى أن يكون مسلما ، إذ منذا الذي يرضى بأن يحجب عن الحق والحقيقة؟ سبحانه خلق الإيمان والكفر والطاعة والمعصية بقدر ولحكمة يعلمها هو والراسخون في العلم ، قال ابن عربي : الكل طائع وإن كان فيهم من ليس بمطيع مع كونه طائعا.

٣ ـ (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣))

[الحجر : ٣]

قوله سبحانه : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ،) يفيد تحقق الكافر ، بحقيقة كفره وحجابه ساعة الموت حيث يكشف عنه الغطاء فإذا هو أمام ملك الموت الذي يأتيه في صورة تناسب صورته هو ، ولأن الهو الجامع يصبح من طبيعة الأنا الجزئية فإن الكافر يرى عند ذاك الحقيقة ألا وهي كونه شعاعا من الشمس الكبرى ، وأنه لم يكن إلا لها مظهرا.

٤ ـ (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤))

[الحجر : ٤]

سبق أن أولنا القرية البدن ، فهلاك القرية هلاك البدن ، والكتاب المعلوم أمد هذا البدن في الحياة.

٥ ـ (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥))

[الحجر : ٥]

الإشارة إلى الدورة الوجودية الجامعة ، فالأمر خارج داخل ، ظاهر باطن ، فما خرج إلى العيان من العين عائد إلى العين ، والدورة محدودة ولها أجل ، وهذا الأجل مجموع آجال

٤٢٦

النفوس الجزئية ، وهذا المجموع هو أجل النفس الكلية ، ولا أجل لهذه النفس لأنها شعاع الله الصادر الدائم ما دامت السموات والأرض.

٦ ، ٨ ـ (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨))

[الحجر : ٦ ، ٨]

طلب الإتيان بالملائكة طلب رؤية ما لا يرى ، أو أنه يرى ولكن لا تعلم حقيقته ، والملائكة معقولات صرفة بحاجة إلى ما به تظهر ، فهي مثل الحق صفات بحاجة إلى موصوف لتظهر به ، فلا فصل لهذا عن ذاك ، والحقيقة أن الحقيقة في صور كل بني آدم ولكن الغافلين لا يعلمون ، ولقد سأل رجل أبا يزيد البسطامي عن اسم الله الأعظم وأين يكون ، فالتقط البسطامي حصاة ، ورمى بها السائل إشارة إلى أن السائل هو المسؤول ، وأن كل جزيء هو جزء من اسم الله الأعظم ، وما هذا الاسم الجامع سوى الوجود الظاهر ومن فيه ، فطلب الإتيان بملك ورؤيته مستحيلان ، لأن فصل المعقول عن المحسوس مستحيل ، وهذه حقيقة اكتشفها أرسطو ، وانتقد بها أستاذة أفلاطون الذي قال بوجود مثل خالصة في عالم منفصل ، فرد أرسطو بأن فصل المثل عن ظواهرها مستحيل.

٩ ، ١١ ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١))

[الحجر : ٩ ، ١١]

الذكر القرآن ، وسبب نزول الآية أن كتب الله السابقة كالتوراة والإنجيل حرفت وبدلت ، وقالت : إن الله يلد ، وإن الإنسان إله أو هو الله ، فشوهت بذلك حقيقة التوحيد ، وكان الرد أن أنزل الله القرآن ، وحفظه من التحريف ، ولقد ظل القرآن أربعة عشر قرنا كما أنزل لم يبدل منه حرف على الرغم من كل ما تعاقب على الإسلام والمناطق التي انتشر فيها من حروب وكوارث وفتن كانت تستهدف العبث بكتاب الله وتحريفه تحقيقا لأهداف سياسية وأطماع توسعية.

١٢ ـ (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢))

[الحجر : ١٢]

قوله سبحانه : (نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ،) يعني أنه هو سبحانه الذي ألهم الكافرين أن يستهزئوا بالقرآن ، فهذا أيضا من المكر الإلهي الذي يأخذ العيان بالعين ولا إله إلا هو ، ولهذا قال سبحانه في موضع آخر : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) [البقرة : ٢٥٣].

١٣ ، ١٥ (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا

٤٢٧

فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥))

[الحجر : ١٣ ، ١٥]

عدم الإيمان سنة مثلما أن الإيمان سنة ، لأن سنة الإيمان تقتضي سنة عدم الإيمان ، فمن دون عدم الإيمان ما كان للإيمان قيمة ولا دور ، وهذا جوهر اللعبة الأسمائية لإبراز جوهر التوحيد ، والكافرون محجوبون بالاسم ، والاسم عين ، فعينهم أي بصيرتهم هي المحجوبة ، ومثلهم كمن يضع على عينيه نظارة سوداء ، فيرى الدنيا سوداء ، ولا يمكنه أن يراها إلا سوداء ، ولا يصدق أنها ليست سوداء حتى وإن قال له الناس جميعا إنها بيضاء.

١٦ ـ (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦))

[الحجر : ١٦]

البروج اثنا عشر برجا وهي معروفة في علم الفلك ، وهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان العقرب والقوس والجدي والدلو والحوت ، وهي منازل الكواكب السيارة.

والأبراج تتحكم في طباع الناس وأجسامهم ونشاطاتهم وقلوبهم وميولهم وولادتهم وحياتهم ومماتهم ، فالأمر من الواحد الذي هو ليس بعدد كما تقول علماء الرياضيات بل هو أصل الأعداد ، ثم إلى الاثنين الذي هو الروح أو العقل الفعال ، ثم إلى النفس الكلية ذات الأسماء المشعة ، ثم إلى النفوس الجزئية ، فمن حيث المنظور فالمنظر دائرة مركزها الحق ومحيطها الخلق ، ومن المركز إلى المحيط أشعة يبثها العقل ، فتستقبلها النفس ، فتنكسر هذه الأشعة عبر مرايا المعقولات ، فيصدر منها الخواطر سلبية وإيجابية تفعل في الأفكار فعل الباطن في الظاهر ، ودور الأبراج في هذا المنظور الوصل بين الباطن والظاهر ، والمحّدث والمحّدث ، والملهم والملهم.

١٧ ـ (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧))

[الحجر : ١٧]

ليس في دائرة الأسماء شيطان لأن الشيطان هو البعد كما يعني فعل شطن ، فعلى الله لا يخرج أحد حتى ولا الشيطان ، فالوجود للفتق ، والفتق تحريك ، والتحريك حركة العالم ، وحركة الشيطان تحريك ولها قصد هي من الإبعاد تقريب.

١٨ ـ (إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨))

[الحجر : ١٨]

الشهاب النور المساعد وهو الذي يقوم بدور حفظ السموات وأبراجها أي النفوس والأفلاك الدوائر الدائرة فيها ، فلكل اسم فلك ، ما لصاحبه على الخروج عليه من قوة ، فهو في فلكه دائر كما الأجرام جميعا ، كبيرها وصغيرها ، نباتيها وحيوانيها وإنسانيها ، فما في الوجود إلا أجرام محركها الحق سبحانه.

٤٢٨

١٩ ـ (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩))

[الحجر : ١٩]

الموزون المحسوب حسابه في ميزان التوازن البيئي الوجودي ، فلو أن الإنسان فعل ما يحلو له لأخل بتوازن الوجود وهذا معنى قوله سبحانه في موضع آخر : (لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) [المؤمنون : ٩١] ، فما من لعب بالميزان ، وما من يد تزن به إلا اليد النورانية القاهرة.

٢٠ ، ٢٢ ـ (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢))

[الحجر : ٢٠ ، ٢٢]

الرزاق هو الله ، والرزق المدد القيومي للحياة بجميع أشكالها ، والوجود كله رزق ، رزق ظاهري كما يرى في الحياة العيانية ، ومثل هذا دورة الرزق المائي حيث أمد الله الأرض بسماء المحيطات ، ثم جعل هذه سحابا ، فساقه بالرياح إلى البر ، فأنزله مطرا سقى الأرض فأحياها ... وهناك الرزق الباطني إذ جعل الله للحيوان مثلا غريزة يهتدي بها ويتغذى ويتناسل ، كما جعل لكل حيوان رزقه ، كأن تكون الحيوانات الأليفة رزق الحيوانات المفترسة ، وأن يكون النبات رزق الحيوانات المفترسة والأليفة ضرورة لتحقيق التوازن الطبيعي.

وهناك الرزق الروحي حيث ميز الإنسان عن بقية المخلوقات بالفكر ، فجعل الله الذات الناطقة ، وهي لطيفة إلهية لها على الوجود الخارجي إطلالة من الحواس ، ولها على العالم الروحاني إطلالة من الحس والوجدان ، ثم جعل لكل مخلوق رزقه من هذا العالم ، فرفع هذا وأخفض ذاك ، وأعز هذا ، وأذل ذاك ، وهدى هذا وأضل ذاك ، وفعله كله موزون محكم غايته إعمار الحياة وتعرفه سبحانه إلى خلقه.

٢٣ ـ (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣))

[الحجر : ٢٣]

الإحياء نفخ الروح في الجماد ، فإذا هو حي ، ولقد ثبت علميا أن الجنين لا يكون حيا ، بل هو علقة فمضغة لا غير ، ثم تدب فيه الحياة حين بلوغه أشهرا من العمر ، فمن غير مدد الاسم الحي فليس للحي أن يحيا ، فالحياة سر اسمه الحي ، وهذا الاسم بحد ذاته إعجاز ضربه الله مثلا بقوله في موضع آخر : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) [البقرة : ٢٦] ، فعلى الرغم من كل ما بلغه العلم من تقدم فهو عاجز عن خلق بعوضة.

والإماتة استرداد الروح من الهيكل فإذا هو ميت ، ولقد حاولت العلماء أن يضعوا أيديهم على سر الحياة فعجزوا ووقفوا أمام هذا السر حيارى خانعين ، فالله هو الذي يحيي ويميت.

٤٢٩

وقوله : (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ ،) يعني أن لله مصير الحياة والموت ، والمصير الحركة اللولبية الوجودية الداخلة الخارجة المبتدئة المنتهية بلا بداية ولا نهاية ، والهدف إخراج مخزونات الصفات العلمية الإلهية وجعلها مرئية ، ولما كان الرائي جزء وهو حلقة من سلسلة الحياة نفسها ، أي أنه هو نفسه حي ثم يموت ، فإن الحصاد النهائي هو لله عزوجل ، فهو الذي خلق النفس ومدها بالقوى والمعقولات ، فإذا استوى الزرع ، ونضج ، وآتى أكله ، رجع الجزء إلى الكل ، أي رجع الإنسان إلى الروح الكلي ، فإذا الله وارث الأرض ومن عليها ، وإليه تصير عاقبة الأمور ، ولما كانت النفس صورته ومرآته كان هو المشاهد نفسه بنفسه عن طريق السامع حديثه بنفسه عن طريق آذان خلقه ، سبحانه هو الملهم السميع البصير.

٢٤ ـ (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤))

[الحجر : ٢٤]

المستقدمون الذين تقدموا الآخرين وهم أصحاب النور الإلهي ، ويعد كل واحد منهم أمة كما سمي إبراهيم أمة ، فهؤلاء يتقدمون أممهم وشعوبهم وهم ملوك الناس وإن ظلوا مخفيين.

والمستأخرون الوجه الآخر من هذه العملة الوجودية ، وهم الظلال ، ولا بد لكل حقيقة من أن يكون لها ظلها ، وللشمس ظلالها ، وللمخلوق ظله ، وللاسم ظله هو شطره السلبي النقيض ، والله يعلم هؤلاء وهؤلاء لأنه هو الذي قسم بين الناس معيشتهم وأرزاقهم من الرزق الباطني والظاهري.

٢٥ ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥))

[الحجر : ٢٥]

الحشر دائم وهو كون القلب في القبضة ، وإذا كان القلب الكلي في القبضة فالقلوب الجزئية هي بالتالي في القبضة يوحى إليها ، وتلهم فجورا وتقوى ، فالحشر معنى كونه تعالى القاهر فوق عباده والآخذ بنواصيهم.

٢٦ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦))

[الحجر : ٢٦]

خلق الإنسان من رحم الطبيعة ، وخلقت الطبيعة في رحم النفس الكلية ، وخلقت النفس الكلية في رحم العقل الأول ، وخلق العقل الأول وهو الروح صدورا من الله وفيضا.

والمهم أن الإنسان كان بعد الطبيعة ، ولهذا قالت الصوفية : إن النفوس الجزئية ما خلقت إلا بعد تسوية الجسد وهو جنين في بطن أمه ، وهذا ما عبر عنه الحديث الشريف : (إذا بلغ الجنبين أربعة أشهر بعث الله إليه ملكا ، وقال له أكتب رزقه وأجله وعمله وشقي هو أو سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح).

وعلى هذا فالنفس الجزئية مرتبطة بوجود العالم الطبيعي ولا انفصال لها عنه ، ولهذا قيل :

٤٣٠

إن النفس الكلية لا وجود لها إلا كتجريد ، وأنها ليست إلا مجموع النفوس الجزئية ، فالأمر بين ظاهر وباطن ... فظاهرا هناك الطبيعة والجسم الكلي ، وباطنا هناك النفس الكلية التي هي جماع النفوس الجزئية ، وعليه فالنفس موجودة ما وجدت الطبيعة ، فإذا زالت الطبيعة زالت النفس ... ولا يفهم من هذا القول إننا نقول بالنفوس الطبيعية لأن الطبيعة نفسها في منظور الصوفية ليست إلا نورا ، وهي اسم الله الظاهر ، وهي ذرات كهربائية موجبة سالبة لا غير كما أثبت العلم الحديث.

٢٧ ـ (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧))

[الحجر : ٢٧]

الجان الفكرة ، والفكرة جسر بين العالم الكثيف والعالم اللطيف ، ولهذا وصف الجان بأنه خلق من نار السموم ، والسموم النار التي لا دخان لها ، فيستدل من الوصف على شفافيتها علما أنها نار أيضا أي أنها من العناصر ، فالفكرة النقل من الكثيف إلى اللطيف ، وما وجد الإنسان إلا ليكون متكأ ، عليه يتكئ اللطيف والكثيف.

٢٨ ، ٣٠ ـ (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠))

[الحجر : ٢٨ ، ٣٠]

شرف الإنسان بالذات الناطقة ، وهي لطيفة إلهية وصفت بأنها إلهية لأنه سبحانه هو الذي أضافها إليه بقوله : (مِنْ رُوحِي ،) وهذه الذات هي التي تقوم بدور الإلهام والوحي إلى الإنسان بالكلام ، وكلامها تسبيح لأنها تنطق عن الوحي الأعلى الذي هو عقل خالص ونور ، ووحي هذه الذات وإلهامها هو مشكاة الأسماء الآدمية ، ولهذا كانت الذات الناطقة جامعة ، توحي إلى المخلوق وتلهم حسب المحل وبمقتضى الاسم الذي هو الجزء من الدائرة الكلية ، فالذات توحي في القلب عبر بوق الاسم ، ولهذا كان كل إنسان موحى إليه وملهما فجورا كان أم تقوى.

وهذا التشريف الإلهي بأن يكون آدم هو المصطفى للتكلم الذاتي هو الذي رفع آدم فوق الملائكة لأن كل اسم ملك ، والاسم جزئي ، والجزء لا يحيط بالكلي ولا بالجزئي مثله ، ولا بالجزئى النقيض ... أما آدم فهو ممثل النوع الإنساني الجامع ، فهو متقدم على الملائكة لكونه في عين الجمع.

٣١ ، ٣٤ ـ (إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها

٤٣١

فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤))

[الحجر : ٣١ ، ٣٤]

إبليس كان رئيس الملائكة أي رئيسا للمعقولات الكلية الإلهية ، وبهذا كان إبليس أقرب الخلق إلى الحق ، فلما خلق الله آدم رفض إبليس السجود له باعتباره من النار ، وباعتبار آدم من طين ، أي باعتبار إبليس شفافا لطيفا كما فسرنا نار السموم من قبل ، وباعتبار آدم مخلوقا جمع بين الكثافة والشفافية ، والشفاف اللطيف أفضل من المظلم الكثيف هكذا اعتقد إبليس ، ولكن كان لله اعتقاد آخر ، فالشفافية ذاتها لا قيمة لها من دون الكثافة ، ونار بلا دخان العناصر ليست نارا أو تكون نارا بالقوة إن صح القول ، فآدم وإن كان مخلوقا من تراب إلا أنه مصطفى ليسمع الإلهام والوحي ويكون مظهرا للحق ، فعن طريق آدم أمكن إخراج ما في خزائن الجود الإلهي ونشر الصفات والأسماء ، ولو لا آدم لظلت هذه الكنوز من العلوم مطوية حكمها حكم العدم.

فما قيمة الصفة إن لم تظهر بالموصوف ، وأين تكون إن لم يكن؟ صحيح أن منطق إبليس سليم ، ولكن العبرة بالفعل والنتيجة ، والنتيجة أن الله حقق قصده من الخلق كما جاء في الحديث القدسي : (كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني) ، ولهذا رفع الله آدم فوق الملائكة أي فوق المقولات العقلية الخالصة ، وأمرهم بالسجود له.

وللسجود لطيفة وهي علاقة العلة بالمعلول ، وقد عالجت الفلاسفة والصوفية هذه العلاقة قائلين : لو لا معلولية المعلول ما كان لعلية العلة أن تتحقق ، وبهذا تكون معلولية المعلول علة لعلية العلة وهذا هو بالتحديد سبب تفضيل آدم الجامع بين الصفة والموصوف على الصفات نفسها.

٣٥ ، ٤٠ ـ (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠))

[الحجر : ٣٥ ، ٤٠]

حدد أجل اللعنة بحلول يوم الدين ، وهو يوم القيامة الصغرى والكبرى ، وهو عند الصوفية يوم الكشف واليقين ، وعندئذ ترفع اللعنة لأن الله رحمن رحيم ، ولأن للشيطان دورا قضى عليه أن يمثله بمشيئة الحق ، وكنا قد وصفنا هذا الدور بالتحريك ، والتحريك التضاد والتناقض ، فبعد أن كان إبليس يمثل صاحب أسماء الجمال اختاره الحق ليمثل أسماء الجلال والقهر ، فكانت النتيجة أن إبليس جعل يوسوس في قلب آدم ، والوسوسة خفية القصد منها تنبيه قلب ابن آدم عن طريق ارتكاب الخطيئة ، والخطيئة باب الندم ، والندم باب التوبة ، فلو لا الخطيئة ما انتبه ابن آدم ، ولا فكر في الله وفي الهجرة إليه ، وهكذا نجد أن دور إبليس إيجابي وإن بدا

٤٣٢

سلبيا ، وأن الله حين كلفه بالإغواء إنما جعل الشر إليه ، والشر ليس شرا إن أفضى إلى الخير.

وقول إبليس : إلا عبادك منهم المخلصين ، يعني أن إبليس قاهر فوق القلب حتى يصطفي الله من عباده عبادا يصطفيهم ويصنعهم على عينه ، فيصبحون عبيدا له مربوبين مكاشفين بحقيقة دور إبليس فإذا هم مبصرون ، وإذا هم قد نجوا من طغيان إبليس ، إذ بنور الله يطلع المراد المصطفى كشفا على حقيقة دور إبليس فيسلم من إغوائه كما سلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرينه من الجن ، وكما سلم موسى وعيسى وهارون عليهم‌السلام.

٤١ ـ (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١))

[الحجر : ٤١]

الصراط ما كتب الله على نفسه في الأزل من إخراج ذخائر الأسماء عن طريق أصحاب الشمال وأصحاب اليمين ، ثم لا يمين ولا شمال بل أحد واحد صمد فعال لما يريد.

٤٢ ، ٤٤ ـ (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))

[الحجر : ٤٢ ، ٤٤]

الأبواب السبعة قوى الفكر كالخيال والذاكرة والوهم والظن والقياس والاستدلال والاستنتاج ، وهي كلها مبعدة عن الله ما لم يقربها الله إليه ، وبعدها جهنم كما أسلفنا الكلام من قبل ، فلا قبل للفكر على الاستدلال على وجود الله وفعله ما لم يشرف نور الإيمان في القلب ، ولهذا رفض كانط إثبات وجود الله بالأدلة العقلية ، وقال : إن العقل يستطيع أن يثبت وجود الله بالأدلة ، ويستطيع أن ينفي ذلك أيضا.

وقوله : (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ،) يعني كون هذه القوى لها عبيد لا يستطيعون من أسرها فكاكا ولا عنها حولا ، فما يظن الكافر أنه من فعله هو من فعل القوى فيه ، فإذا أراد الله له الكفر حجبه ، فكفر عن طريق خياله وظنه ووهمه وفكره وقياسه واستدلاله واستنتاجه ، وإلى هذه الحقيقة أشار كانط أيضا قائلا : إن الإنسان لا يستطيع النظر إلى العالم الخارجي إلا من خلال منظار المقولات أي الأفكار القبلية ، وإن هذه المقولات هي الحاكمة للإنسان ، فمثل الإنسان كمثل من يضع على عينيه نظارة زرقاء ، فيرى الدنيا زرقاء ، ولا يستطيع أن يراها كما هي ، فالحكم من الداخل وفيه عودة إلى القبضة وفعلها.

٤٥ ، ٤٦ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦))

[الحجر : ٤٥ ، ٤٦]

الجنات والعيون هي علوم اليقين والتوحيد المؤدية إلى السّلام والأمن من فعل التناقض والازدواجية ، قال فريد الدين العطار : يا من حار في حوت النفس ، حتام تريد أن ترى عداوة النفس؟

٤٣٣

٤٧ ، ٥٠ ـ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠))

[الحجر : ٤٧ ، ٥٠]

الغل حادث بسبب مجابهة الأنا أنا أخرى إما بسبب العداء أو الحرب أو المجاهدة ، والحاصل الغل والحقد والضغينة والشنآن وهذا مشاهد في الحياة اليومية بين الناس ، فكيف يستطيع إنسان أن يدير خده الأيسر لمن صفعه على خده الأيمن كما أوصى المسيح؟ وكيف قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمشركي قريش بعد أن دخل مكة : (إذهبوا فأنتم الطلقاء) ، وكان فيهم هند ابنة أبي سفيان التي قال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أهند آكلة الكبود؟ فقالت : أنبي وحقود.

والحقيقة أن الموحدين وحدهم هم الذين يقدرون على عيش هذه المواقف ، والله سبحانه هو الذي نجاهم من نار الأحقاد والضغائن إذ أطلعهم كشفا على سر التناقض ، فوردوا عين اليقين ، وشربوا ماء علومه ، فشفيت صدورهم مما رأوا ، وما رأوه هو أن القضاء خيره وشره من الله تعالى ، وأنه هو القائل سبحانه في الحديث القدسي : (أنا الله لا إله إلا أنا ، خلقت الشر وقدرته ، فويل لمن خلقت له الشر وأجريته على يديه).

والسرر الصفات ، فلكل إنسان سريره ، وسريره صفته ، وهو في السرير بحكم النائم ، ولهذا قال هيغل : إن النفس مرحلة أولية للروح ، وأن الروح هي نائمة أو في حالة نعاس ، والتقابل هو ما أشار إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (الأرواح جند مجندة ما تعارف منها ائتلف ، وما تنافر اختلف) ، فالإنسان يميل إلى من هو على شاكلته ، وقال الشاعر : إن الطيور على أشكالها تقع ، ويتم التقارب بفعل جاذبية باطنة ، فيتقرب الإنسان إلى آخر ، ويميل إليه حتى من قبل أن يتعرفه أو يتعرف إليه ، والنساء بخاصة أكثر قدرة على هذا الاستشعار ، ومثله في القرآن نسوة المدينة اللواتي ما إن رأين يوسف عليه‌السلام حتى قلن ما هذا بشرا ، إن هو إلا ملك كريم ، فللإنسان إشعاع ، إشعاع الحضرة ، والعيون بخاصة مصابيح هذا الإشعاع ، ولغتها بليغة عالمية هي أبلغ من أي لغة وأبسط من أي لغة في الوقت نفسه.

٥١ ـ (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١))

[الحجر : ٥١]

ضيف إبراهيم هو مثل العبد الصالح الذي لقيه موسى عند مجمع البحرين ، فضيف إبراهيم الوحي الجبريلي الذي ظهر للنبي في الغار فقال له : (اقْرَأْ ،) وكنا قد تحدثنا عن الولادة الذاتية ، كما أوردنا قول هيغل : إن الروح تكون في حالة نعاس ثم تستيقظ ، ولهذا قلنا : إن الولادة ذاتية ، ففي كل روح روح هي روح الروح كما قال جلال الدين الرومي ، وفي كل عين عين هي إنسان العين كما قلت في كتابي الإنسان الكامل ، وهي أم الكتاب الجامعة لكل ذي عين.

٤٣٤

٥٢ ـ (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢))

[الحجر : ٥٢]

الإنتقال من المفرد إلى الجمع بقوله : (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ،) إشارة إلى انتشار الروح الكلي المخلوق أصلا للانتشار ، إذ أن الذات المحضة غير قابلة للتكثر لأنها أصلا وحدة محضة ، ولهذا قيل : إن الذات تتكثر من قبل المعلولات ، والمعلولات الصفات وأعيان الصفات والإشارة الجامعة إلى الخواطر المتفرقة من عين الجمع مع قوى الروح.

فالإنسان معتاد سماع خواطره ، وخواطره شتى ومتناقضة حتى إذا أتى اليقين اتحدت الخواطر في خاطر جامع هو صاحب القبضة ، ولهذا فزع إبراهيم لما رأى ذاته الجامعة تستيقظ فيه ، وتعلن قائلة ها أنذا ، فإذا خواطره إيجابية وسلبية متفقة ومتناقضة قد اتحدت كلها في إلهام جامع بين الفجور والتقوى وإذا القلب أمام الواحد القهار.

٥٣ ، ٥٦ ـ (قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦))

[الحجر : ٥٣ ، ٥٦]

الغلام العليم الولادة الذاتية لإبراهيم حيث يخرج معلمه من باطنه ليعلمه عن طريق الوحي والإلهام ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له قفل قلبه).

وقول إبراهيم : (مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) دلالة على عجب إبراهيم للأمر الذي بشر به ، فالفكر استنفد ما عنده من إمكانات ، كما استوفى زكريا من قبل إمكانات فكره ، وكما بشر زكريا بغلام اسمه يحيى كذلك بشر إبراهيم ، وكما عجب زكريا عجب إبراهيم ، ويتساءل الناس ما العلم اللدني؟ وكيف يكون؟ وكيف يبلغ الإنسان الأربعين من عمره أو الخمسين ثم يبشر بعلم جديد إلهي يخرجه من الحيرة إلى الهداية واليقين ، ويكون له نورا يمشي به في الناس ، ويخرجه من الظلمات إلى النور ، ولكن هذا على الله هين ، فهو سبحانه خلق العقل الجزئي ، وعلمه ، وفتق قواه بواسطة العالم الخارجي وصوره ، وهو سبحانه قادر على أن يعلم الإنسان علما آخر يشق الحجب ، ويعرج بالإنسان في سماء الروح ، فيرى ما لا يرى ، ويسمع ما لا يسمع ، ويعلم الغيب ، ويجد جوابا لكل الأحاجي والمعضلات.

٥٧ ، ٦٤ ـ (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤))

[الحجر : ٥٧ ، ٦٤]

٤٣٥

التبشير بالحق نتيجة جمع الخواطر في خاطر جامع ، ففي هذا نجاة للقلب من شرك الأنا وجحيم التناقضات ، وقوله : (إِلَّا امْرَأَتَهُ) يعني النفس الأمارة التي لا تكف عن الوسوسة ، ولكن القلب الذي كشف سر التناقض وسببه يسلم من هذا الأذى كما سلم عليه‌السلام القائل : (إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله سبعين مرة كل يوم).

٦٥ ـ (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥))

[الحجر : ٦٥]

الأهل الحواس الظاهرة والباطنة ، والسير في الليل السير على درب المجاهدات والمخالفات حتى يأتي الله أمرا كان مقضيا ، وقوله : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ،) يعني أن على السالك ألا يتردد أو ينكص على عقبيه بعد أن أذن الله له في دخول خلوة الغار ، وأجرى عليه المقدور ، إذ أن هذه سنة الله في الأنبياء والأولياء.

٦٦ ـ (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦))

[الحجر : ٦٦]

قطع الدابر بث الفوضى في قوى الجسم ومنها الفكر ، وقد شدد الإمام الغزالي في الإحياء على ما للصوم والصلاة وقيام الليل من دور في جلو مرآة القلب حتى أنه قال في الصيام عن الطعام : اسمع مني واكتف بالبلغة.

ولقد اكتشف الطب الحديث تأثير الصوم في الجسم ، حتى أن الأطباء اعتمدوا الصوم عن الطعام لا من الفجر وحتى غياب الشمس فقط بل أربعين يوما يكتفي الصائم فيها بالماء المحلى بالعسل ، فإذا هو الضرب من الصوم الذي عرفته الصوفية منذ قرون وطبقوه يأتي بالمعجزات ، فنشاط الإنسان يزداد ، ويقضي الصوم على كل مرض يكون في الجسم ، ويحس الإنسان كأنه ولد من جديد ، وتقل ساعات النوم ، ويصير التفكير أصفى والقلب أرقى.

٦٧ ، ٧٢ ـ (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢))

[الحجر : ٦٧ ، ٧٢]

أهل المدينة الأفكار التي تغزو الدماغ والتي تنظر إلى ما يقع في القلب وتسأل وتنتظر ، وقوله : (هؤُلاءِ بَناتِي ،) يعني بنات الأفكار نفسها كما يقال في اللغة ، والمقصود الصور من النساء والرجال كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إن في الجنة سوقا ما فيه بيع ولا شراء إلا الصور من الرجال والنساء ، فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيه) ، فليس من مدخل إلى الجنة العلم إلا عبر سوق الصور ، ولعظم شأن هذا السوق خلق الله عالم العيان فجعل من صور المعقولات صورا

٤٣٦

ظاهرات وأشباحا متحركة من إنسان وحيوان بإذن ربها ، حتى يرى العقل وهو ما يزال طفلا هذه الأشكال البارزة ، فيبدأ التفكير والاعتبار ، فإذا نضج الزرع واستوى على سوقه وجاء الحصاد جاء البشير باليقين.

٧٣ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣))

[الحجر : ٧٣]

الصيحة بمثابة النفخ في الصور وطلوع الشمس من المغرب كما ورد في حديث يوم القيامة وأشراط الساعة ، والصيحة خروج الفكر الكلي من بطنان الفكر الجزئي ، فإذا الأخير سراب يباب شبح كفزاعة طيور ليس له من الأمر إلا رجع الصدى.

٧٤ ـ (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤))

[الحجر : ٧٤]

الإشارة إلى مدينة البدن ، وعاليها الرأس وما فيه ، وسافلها قوى الشهوة والغضب ، والحجارة التي أمطرها الله على أهل المدينة دخول جند الله من الخواطر القاهرة الموحدة القلب من كل باب دخل إخوة يوسف مصر من أبواب متفرقة.

٧٥ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥))

[الحجر : ٧٥]

الآيات للمتوسمين العبر للموحدين الذين أفاقوا من نوم أهل الكهف ، فرأوا ما في هذا الكهف من آيات ، وكيف أن الله اتخذ من الكهف وأصحابه هيكلا للظهور ، وقال الحلاج :

سبحان من أظهر ناسوته

سر سنا لاهوته الثاقب

حتى بدا لخلقه ظاهرا

في صورة الآكل والشارب

٧٦ ، ٧٨ ـ (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨))

[الحجر : ٧٦ ، ٧٨]

السبيل الطريق ، وإنها عائدة إلى القرى ، والمعنى أن لا طريق سوى هذه الطريق ، وقد توصلت النقاد إلى نتيجة فحواها أن الغربيين نهجوا منهج الحس والتفكير المنطقي ودراسة عالم الطبيعة وصولا إلى النتائج العلمية ومعرفة القوانيين الطبيعية والنفسية والاجتماعية والسياسية ... أي أن الغربيين اعتمدوا عالم العيان وأغفلوا عالم العين ، في حين أن الشرقيين اعتمدوا منهج الحدس وتعريفه قبول المفاهيم العقلية بالفطرة والإلهام دون الحاجة إلى الفكير المنطقي ، وهذا هو منهج الروحانيين من الأنبياء والفلاسفة والصوفيين ، أي أن الشرقيين اعتمدوا عالم العين بعد أن استتفدوا مالدى عالم العيان من معقولات جردت من المحسوسات حتى تحصل لدى العقل ذخيرته من المقولات.

٤٣٧

٧٩ ـ (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩))

[الحجر : ٧٩]

الإمام الطريق أيضا ، والطريق الثانية تؤكد أن الاعتماد على عالم العيان فقط لا يفضي إلى الحقيقة ، وترى الغربيين ما يزالون يلاحقون هذه الحقيقة ، فكلما لاح لهم قبس منها حاولوا الظفر به ، ثم إذا هم مفلسون خائبون ، ولقد وصل الغرب إلى القمر ، وحط رواده عليه ، وطافت مراكبه الفضائية بالزهرة والمريخ ، وغاص علماؤه في لجة النفس في محاولة لكشف حقيقة النفس والروح ، ومع هذا فهم لم يخرجوا بشيء ، وظلت أقوال الأنبياء والروحانيين القدامى مثل نجوم السماء مضيئة تهدي الناس في ظلمات البر والبحر ، فأقوال الروحانيين خالدة لا يغيرها الزمان والمكان ، وأقوال الماديين آنية متبدلة خاضعة لتأثير الزمان والمكان.

٨٠ ، ٨٤ ـ (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤))

[الحجر : ٨٠ ، ٨٤]

الجبال والبيوت القلوب في جبال الأبدان ، فما ثمة إلا قلب في جسد كليين في هذا العالم الكبير ، فمن لم يؤمن بالكليات الخالدة وكونها جميعا لله ، وأن الإنسان لها مظهر وصورة ، فمصيره الأخذ بصيحة الحق.

٨٥ ، ٨٦ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦))

[الحجر : ٨٥ ، ٨٦]

الصفح نتيجة لكون الوجود المادي مسرح نشاط الأسماء التي شاء الله إظهارها ليظهر بها ، ونشاط الأسماء لعبة ، وقد وصف سبحانه الحياة بأنها لعب ولهو وأنها متاع الغرور ما لم يكتشف الإنسان أين الله في الطبيعة ودور الله في حكمها ، والصفح المآل ، لأن الأصل كما قلنا لعبة فرقت الناس ، كشأن كل لعبة ، أصحاب شمال وأصحاب يمين ، ولا شمال ولا يمين وليس ثمة إلا الله وحده لا شريك له ، قال جلال الدين الرومي : لقد أوجدت ال ـ أنا ونحن ، لتلعب مع نفسك لعبة العبادة.

٨٧ ـ (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧))

[الحجر : ٨٧]

المثاني السبع الصفات الإلهية السبع وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، ولما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال : (إن المثاني هي الفاتحة) ، وكانت الفاتحة قد قسمت الناس قسمين مهديين وضالين ، كانت النتيجة الوصول إلى الحقيقة المحمدية التي هي الإنسان

٤٣٨

الكامل ، وقد وصف عبد الكريم الجيلي الحقيقة المحمدية قائلا : الإنسان الكامل مقابل لجميع الحقائق الوجودية بنفسه ، فيقابل الحقائق العلوية بلطافته ، ويقابل الحقائق السفلية بكثافته ، وأول ما يبدو في مقابلته الحقائق الخلقية ، يقابل العرش بقلبه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قلب المؤمن عرش الله) ، ويقابل الكرسي بأنيته ، ويقابل سدرة المنتهى بمقامه ، ويقابل القلم الأعلى بعقله ، ويقابل اللوح المحفوظ بنفسه ، ويقابل العناصر بطبعه ، ويقابل الهيولى بقابليته ، ويقابل الهباء بحيز هيكله ، ويقابل الفلك الأطلس برأيه ، ويقابل الفلك المكوكب بمدركته ، ويقابل السماء السابعة بهمته ، والسادسة بوهمه ، والخامسة بهمه ، والرابعة بفهمه والثالثة بخياله ، والثانية بفكره ، والأولى بحافظته ... ثم يقابل زحل بالقوى اللامسة ، والمشتري بالقوى الدافعة ، والمريخ بالقوى المحركة ، والشمس بالقوى الناظرة ، والزهرة بالقوى المتلذذة ، وعطارد بالقوى الشامة ، والقمر بالقوى السامعة ، ثم يقابل فلك النار بحرارته ، والماء ببرودته ، والهواء برطوبته ، والتراب بيبوسته ، ثم يقابل الملائكة بخواطره ، والجن والشياطين بوسواسه ، والبهائم بحيوانيته ، ويقابل الأسد بالقوى الباطشة ، والثعلب بالقوى الماكره ، والذئب بالقوى الخادعة ، والقرد بالقوى الحاسدة ، والفأر بالقوى الحريصة ، وقس على ذلك بقية قواه ... ثم أنه يقابل الطير بروحانيته ، والنار بالمادة الصفراوية ، والماء بالمادة البلغمية ، والريح بالمادة الدموية ، والتراب بالمادة السوداوية ، ثم يقابل السبعة الأبحر بريقه ومخاطه وعرقه ونقاء أذنه ودمعه وبوله والسامع المحيط ، وهو المادة الجارية بين الدم والعرق والجلد ... ثم يقابل الجوهر بهويته وهي ذاته ، ويقابل العرض بوصفه ثم يقابل الجمادات بأنيابه ، ثم يقابل النبات بشعره وظفره ، ثم يقابل الحيوان بشهوانيته ... ويقابل مثله من الآدميين ببشريته وصورته ، ثم يقابل أجناس الناس ، فيقابل الملك بروحه ، والوزير بنظره الفكري ، والقاضي بعمله المسموع ورأيه المطبوع ، ويقابل الشرطي بظنه ، والأعوان بعروقه وقواه جميعها ، ويقابل المؤمنين بيقينه ، والمشركين بشكه وريبه ، فلا يزال يقابل كل حقيقة من حقائق الوجود برقيقة من رقائقه.

٨٨ ، ٨٩ ـ (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩))

[الحجر : ٨٨ ، ٨٩]

الأزواج أصحاب الصفات ، ومنهم أصحاب الشهوات ومحبو زينة الحياة الدنيا ، وهؤلاء كالأنعام بل هم أضل ، والله سبحانه جعل الحياة الدنيا وزينتها سرابا يحسبه الظمآن ماء ، فإذا

٤٣٩

جاءه لم يجد شيئا والمقبل على اللذات مقبل على ما يظنه حقيقة ، ولكن الحقيقة براء من عالم اللذات الذي قوامه العطش والشرب وعدم الارتواء ، فمثل ناهل اللذات كشارب ماء البحر لا يزيده شربه إلا عطشا ، ويقال إن فلسفة دون جوان كانت تقوم على إمساك ساعة اللذة الهاربة ، وأن شدة إقباله على النساء كانت محاولة الظفر بتلك اللذة على نحو دائم في حين كانت اللذة تفلت منه كماء يتسرب من بين الأصابع ، أو كما تتسرب الرمال ، فاللذة لا تدخل في فلك الكليات ، بل هي تابعة للعالم المحسوس ، وهي والحس قرينان وتوأمان لا ينفصلان ، ولما كان هيراقليطس قد وصف هذا العالم بأنه يسيل ، وأن الإنسان لا ينزل في ماء النهر مرتين لأن الماء يتغير باستمرار ، وأن سمة الحس التبدل ، كانت النتيجة أن اللذة لا تلتقي بالكلي الثابت الدائم الأزلي الذي لا يغيره الزمان والمكان.

٩٠ ، ٩٣ ـ (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣))

[الحجر : ٩٠ ، ٩٣]

قوله سبحانه : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١)) يعني اليهود والنصارى الذين قسموا القرآن قسمين قسما مقبولا وقسما غير مقبول ، فما وافق هواهم قبلوه ، وما خالفه رفضوه ، والقرآن وحدة جامعة منزلة من حقيقة أم الكتاب التي لا تقبل التجزئة والانقسام.

٩٤ ، ٩٦ ـ (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦))

[الحجر : ٩٤ ، ٩٦]

الصدع الوصول إلى مقام العبدية الذي يلي مقام العبودية حيث يصير الإنسان عبدا لله مأمورا ليس له من أمره شيء ، وعليه تنفيذ كل ما أمره به ربه ، كذلك رأينا وصفا لهذا الإنسان في قصة العبد الصالح الذي لقيه موسى عند مجمع البحرين.

والعبد أمة الله كيفما وجهه توجه ، لا يستطيع مخالفة ولا ترددا ولا نكوصا ، ونجد حياة النبي بعد بلوغه هذا المقام تنفيذا لأمر الله الذي وصفه سبحانه بالصدع.

٩٧ ، ٩٩ ـ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

[الحجر : ٩٧ ، ٩٩]

ضيق الصدر سببه معرفة النبي الذوقية الكلية ، والتي يود بسببها أن يهدي الناس إليها ، وتكون النتيجة أن كثيرا من الناس يعرضون ، ويجعلون أصابعهم في آذانهم ويستهزئون ، وسبب الضيق كون العبد في مقام المكاشفة قبل المشاهدة ، والمكاشفة كشف الصفات وحقيقة

٤٤٠