التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ٢

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ٢

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣

٤

سورة الحج

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ، ٢ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢))

[الحج : ١ ، ٢]

سبق أن تحدثنا عن الساعة ، وقلنا إنها ساعة صغرى وساعة كبرى ، والصغرى خاصة بأصحاب الكشف الذين تزلزل أبدانهم كما دك جبل موسى لما تجلى ربه له ، فيخرون صعقين وما هم صعقون ، فالكشف معنوي يرى المكاشف بانكشاف بصيرته كيف أن الناس مثل الحوامل يحملون ويضعون ، وما يحملونه الأمانة الإلهية من معلومات الأسماء ، وما يضعونه تلك المعلومات وقد أخرجت ما في بطنانها من كنوز.

ومع هذا فلقد وصفت العملية بالذهول والسكر ... ذلك لأن المكاشف حين يكاشف تنسل نفسه منه كما انسلخت حية البسطامي من جلدها فإذا نفسه التي كانت له وتحاوره لم تعد له بل هي الروح الفاعل نفسه وقد جعل يحاور القلب ليقلبه لاستخراج معادنه.

وانكشاف الكلي من بطنان الجزيئات هو سبب السكر الذي يأخذ كل من سلك الطريق العظيمة والصعبة في آن واحد ، قال الإمام الدسوقي : أه ، ما أحلى هذه الطريق ، ما أسناها ، ما أمرها ، ما أقتلها ، ما أجلاها ، ما أحياها ، ما أصعبها ، ما أكبدها ، ما أكثر مصايدها ، ما أصعب مواردها ، ما أعجب واردها ، ما أعمق بحرها ، وما أكثر أسدها ، ما أكثر مددها ، ما أكثر عقاربها.

٣ ، ٤ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤))

[الحج : ٣ ، ٤]

قال تعالى : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧] ، والحج الهجرة إلى الله والطريق إلى زلزلة الساعة ، وينهى النبي عليه الصلاة والسّلام عن التفكير في ذات الله ، وجادلت المعتزلة أصحاب الكلام في صفات الله ، وجادلت أصحاب الكلام أصحاب المذاهب الفقهية والصوفية في الصفات أيضا ، فهل هي الله أم غيره؟ وهل هي موجودة حقا ، أو هي موجودة معنى لا مبنى وكيف توجد؟ ووصفت العملية كلها في الآية بأنها اتباع شيطان مريد ، لأن من لا كشف له لا علم له في الله ، وهو بالتالي لا يستطيع الجدال فيه ، فالعلم للراسخين في

٥

العلم ، وهم الأولياء الذين قال فيهم الغزالي : إن لم يكن العلماء هم أولياء الله فليس لله من ولي ، والعلماء هم العارفون المكاشفون المحققون ، ورثة رسول الله والخلفاء الذين يعتلون سدة الخلافة كابرا عن كابر ، وكلهم مظهر اسمه تعالى العليم.

٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥))

[الحج : ٥]

الخلق درجات ، وأوله خلق الجسم من تراب ثم من نطفة ، وهذا الخلق هو المتعلق بعالم الروح الحيواني حيث يمكن أن يدرج كل ذي روح في نطاق جسم حيواني كلي سبق لنا أن فصلنا الكلام فيه في كتابنا الإنسان الكامل والإنسان الكبير.

والإقرار في الأرحام هو إقرار المعنى ، إذ الاسم معنى ، وكل معنى له مبنى يحمله ويظهره ، وهذا ما يفعله الحق حين يخلق الإنسان من نطفة ، ثم يجعله حاملا لاسم من أسمائه.

والإخراج إخراج ما هو بالقوة من الاسم إلى ما هو بالفعل ، وهذا الذي جعل أرسطو يعرف النفس بأنها كمال أول ، أي أن لكل نفس كمالا أول أي مبدأ تسعى إلى تحقيقه طوعا أو كرها عالمة أو جاهلة بل هي إلى الجهل أقرب ، فما يقع من فتق للاسم هو أشبه بالغريزة التي تجعل الرضيع يلتقف ثدي أمه ، ثم يحاول النطق فالوقوف على ساقيه ، فالزحف فالمشي ، وهذا هو ما عبر عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : (كل ميسر لما خلق له).

أما التوفي والارتداد إلى أرذل العمر فهما حال الصوفية الذين أبعدوا في علم بحر الأسماء حتى غرقوا في بحر علومهم ، وبلغوا مقاما أخيرا سمي الحيرة الذي هو نهاية رحلة العلم حيث تتمر أى صور الله في كل مظاهر الوجود سوداء وبيضاء ، جليلة ، وجميلة ، وقيل : العارف يرى في الوجود حكمة بينما لا يرى الفاني إلا قدرة ... والسبب أن عملية فتق الأسماء دورية ، ويحققها الإنسان في كل ساعة من حياته .. ثم إن لهذه الأسماء أجلا إذا بلغته ارتدت فتقوقعت وتخنذقت على نفسها من جديد ، ولهذا قال عليه‌السلام لما توفي معاذ بن جبل : هكذا يقبض العلم ، ولا يرى الفاني في هذه العملية إلا قدرة إلهية حية ذات ديمومة تظهر في هذه الصيرورة الحية المسماة أسماء أي المعاني وبشرا أي المباني.

٦

والأرض الهامدة النفس الجزئية أسيرة عالم الحس ، حتى إذا أنزل الحق عليها ماء رحمته من العلوم الإلهية اهتزت وربت وآتت أكلها طيبة من المعقولات التي قلنا إنها لله ، وإن الله يستخدمها في معادلات علمية لها صور تعلم الإنسان ما لم يعلم.

وقوله : (زَوْجٍ بَهِيجٍ ،) يعني المعقولات نفسها ، فالله سبحانه هو القائل في موضع آخر : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [هود : ٤٠] ، والإنسان نفسه مخلوق من زوجين اثنين كما قال سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الأعراف : ١٨٩] ، فليس في الوجود إلا الزوجان الإثنان وبسبب هذه الازدواجية عانى الإنسان من غربته في عالم العناصر ، وكدح إلى ربه كدحا ليلاقيه ، فالإنسان يصارع الدنيا ظاهرا ونفسه باطنا ، وينتزع قوته من المعقولات المعلومات عن طريق الصراع أيضا ، ولهذا كان ابن آدم متعبا جاهدا ، ولهذا قالت الصوفية : توقع الأكدار ما دمت في هذه الدار ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) ، وبشر سبحانه عباده الصالحين برحمة منه ، ورحمته تقريب الإنسان منه ، وما هو عنه ببعيد ، بل هو أقرب إليه من حبل الوريد ، حتى إذا أذن المؤذن لصلاة فجر اليقين انكشف الزوجان عن وجود واحد فقط هو الروح باطنا.

٦ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦))

[الحج : ٦]

كل بني آدم موتى إلا من أحياهم الحق كما أيقظ أهل الكهف من سباتهم في كهف البدن.

والأحياء هم الذين عند ربهم يرزقون العلوم الحقيقية ، والله هو المحيي وهو المميت ، ولا حياة ولا موت إلا بالعلم والرفع والتقريب ، فالإنسان ميت ما ظل بعيدا عن الله ومحجوبا ، وهو حي إذا قرب ولم يعد يحجبه عن الله حجاب.

٧ ـ (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧))

[الحج : ٧]

القبر بمثابة البدن ، والبدن الكهف ، فالقبر الكهف ، والله هو الباعث الرافع المعز ، يحيي من في القبور من عباده الذين اصطفى واصطنع ليشهدهم أين هو ، وكيف يكون بالمعية ، وكيف يكون أقرب إلى الإنسان من قلبه ، بل هو قلبه وزوجاه وروحه ونفسه وقوى حواسه وما يعلم.

٨ ، ٩ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩))

[الحج : ٨ ، ٩]

قوله : (ثانِيَ عِطْفِهِ ،) يعني لاوي عنقه ، والعنق تحمل الرأس ، وفي الرأس الدماغ ، وفي

٧

الدماغ فعل الروح الذي تحدثنا عنه قبل قليل ، فليس في هذا الهيكل إلا الله ، هو الذي اتخذ من القلب مكانا للنجوى والمخاطبة وما وسعته سبحانه السموات ولا الأرض ولا الجبال ووسعه قلب الإنسان ، وأي إنسان؟ ذلك الذي لم يثن عطفه ، أي لم يلو عنقه راغبا عن الله ، سارقا عاريته الموجودة في الدماغ وفي الروح الحيواني وفي الحواس ظاهرة وباطنة مدعيا أنها له ، وهي ليست له ، وكيف تكون له وهو لم يكن شيئا ثم كان شيئا هو هذا الوجود الحق الذي وهبه سمعه وبصره وفؤاده ووعيه وإدراكه ، أنشد العارف بالله عبد الغني النابلسي :

نحن في ذاتنا وفي العلم أيضا

والكلام النفسي أصل التناجي

عدم نحن في الثلاث وأما

هو فهو الوجود عقلة تاج

ما ظهرنا به سوى بكلام

أزلي يضيء في ظل داجي

وهو أيضا مراتب ليس تخفى

عن إمام مكمل المعراج

رتبة الذات قبل رتبة العلم

بعدها رتبة الكلام المناجي

١٠ ـ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠))

[الحج : ١٠]

لا يطالب الله الناس بأكثر مما في نفوسهم وفي طبيعة استعدادهم ، وعند ما توجه الاسم الرحمن إلى الانتشار نشر المعقولات والمفاهيم ، التي هي حقيقته ومعناه فخرج الإنسان صورة هذه المعقولات والمفاهيم ، فكيفما كنت عليه من طبع فأنت هو ذلك المعقول المفهوم ، وعلى هذا الأساس يعامل الحق الخلق باعتباره أصلهم وباعتبارهم صورته ، فما ظلم الله أحدا لما وهبه اسمه ، وما سأل أحدا شيئا لم يطبع عليه.

واليدان هما كالقدمين ، وهما تمثيل للحقيقة الإنسانية الجامعة للحق والخلق ، فيد هي الأصل ، ويد هي الفرع ، الأولى قديمة والثانية محدثة ، يد تعطي مفهوما والثانية تأخذ من ذلك المفهوم ، فمسؤولية الإنسان محصورة في أن يأخذ من الله وإليه بكلتا يديه ، وأنشد ابن عربي قائلا :

فلولاه ولولانا

لما كان الذي كانا

فإنا أعبد حقا

وإن الله مولانا

وإنا عينه فاعلم

إذا ما قلت إنسانا

فلا تحجب بإنسان

فقد أعطاك برهانا

فكن حقا وكن خلقا

تكن بالله رحمانا

٨

وغذ خلقه منه

تكن روحا وريحانا

فأعطاه ما يبدو

به فينا وأعطانا

فصار الأمر مقسوما

بإياه وإيانا

١١ ، ١٢ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢))

[الحج : ١١ ، ١٢]

لا يرتبط الإيمان بالله بما يقع في العالم من أحداث ، صحيح أن الله هو الدهر كما ورد في الحديث ولكنه سبحانه هو كل يوم في شأن ، فلا سبيل إلى حصره سبحانه ضمن مطلب مادي أو معنوي ، فهو مقلب الأمور والقلوب ، حر يفعل ما يشاء ، ومشيئته حرة تتأبى على التقيد بمطلب إنسان ، فالإيمان بالله إيمان في الوقت ذاته بحرية الله وبأنه مقلب القلوب والأمور خيرا وشرا منه ، والمؤمن الحق هو الذي يتقبل الأمور كيفما كانت باعتبار الله صاحبها ، ولكونه سبحانه عليما حكيما خبيرا أدرى بالإنسان أولا وبخيره ثانيا ، وله سبحانه في العالم قضاء محكم وقضاء مبرم ، فالإيمان لا يرتبط بنتيجة مثل تلك التي تقول أن مجموع واحد وواحد اثنان ، صحيح أن المعادلة رياضية ومنطقية ولكن الله هو قبل المعادلات ، وهو رب الواحد أهل الأعداد ، من دونه ما كان علم ولا معادلات.

١٣ ـ (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣))

[الحج : ١٣]

تحذر الآية من جديد من عالم الصور ، لأن هذا العالم هو مجموعة الحجب الحاجبة عن الله ، فمن تبع صورة وقع في أسرها وهواها فكان لها ضحية ... أما من يعبد الله فهو حر نجا من شباك الصور وفخ الصور.

١٤ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤))

[الحج : ١٤]

ثمة ترادف بين الفعل والإرادة في الآية ، فالإرادة هي المشيئة في حكم التنفيذ ، وإرادته إخراج للمشيئة التي هي قانون الوجود الرياضي الفلكي الإنساني الحيواني النباتي ، فما خرج عن الله هو الظهور الإلهي.

١٥ ، ١٦ ـ (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦))

[الحج : ١٥ ، ١٦]

٩

قد تتطابق الإرادة الإلهية مع الإرادة الإنسانية وقد تخالفها صحيح أن الصوفية قالوا : إن الإرادة الإنسانية داخلة في نطاق الإرادة الإلهية ولكن يبقى للجزئي نظره وهواه ، إذ الجزئي محدود بنظره ذاك ، ولهذا قد يريد الجزئي شيئا لا يريده الكلي وقد يريده ... وما دام الكون ظهور الكلي ومسرحا لفعله العام فإن من المستحيل تحقيق ما لا يريده الكلي ، فأنى توجهت الإرادة الجزئية فلا بد لها من أن تبقى داخل الإرادة الكلية ، وهذا هو سبب التعارض والخلاف الذي يقع بين الفرد عادة والآخرين والذي قد يؤدي إلى الصراع ، والتنازع ، فالحكم للكلي ، ولو لا هذا القهر لذهب كل إنسان بما يريد ، ولتعارضت الإرادات وتصادمت وأدت بالتالي إلى فساد الأرض وخرابها ، قال سبحانه : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢].

وثمة بطن آخر يشير إلى فعل الله في القلب وقهره إياه عن طريق الخواطر ، فالسماء في الآية سقف البيت ، والبيت إشارة إلى القلب لدى الصوفية ، والسبب الحبل ، وقطعه قطع الحبل ، والصورة تبين ما يقع في القلب إذ تغزوه الخواطر يمينا وشمالا ، ثم تتحقق إرادة الله فيه بتحقيق معنى اسم من أسمائه ، والاسم في الآية الناصر ، والنصر لنبيه محمد ، فالاسم هو سبيل تحقق كونه تعالى القاهر ، فلا مهرب للإنسان من اسمه وصفته ، ولهذا قال الإمام الغزالي الإنسان مجبور على الاختيار ، أو هو مجبور في عين اختياره ، وإن انجزام الإرادة بعد التردد بين الخواطر فعل الله فإن أراد الإنسان شيئا أم لم يرد فحكمه إلى قلبه ، والتردد واقع في العقل ، ولهذا كان القلب مستودع الروح هو الأصل ، وهو الغالب ، وهو القاهر.

١٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧))

[الحج : ١٧]

الاختلاف بين الأديان والفرق والمذاهب حادث بالمشيئة الإلهية ، ولهذا ذكرنا من قبل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنبأ بانشقاق أمته عن ثلاث وسبعين فرقة ، كما انشقت اليهود عن إحدى وسبعين ، والنصارى عن اثنتين وسبعين ، والمشيئة شاءت الانشقاق تحريكا للصراع ، حتى إذا تحققت الأسماء بمعانيها وفتقتها كشف الروح عن وجوده فإذا هو الحق ، وهو المحرك ، وهو ممثل اسمه تعالى المريد ، ولهذا جاء في الآية أن الله يفصل بين الفرق يوم القيامة الذي هو يوم الكشف ، فيمتد بصر العارف فيرى الوحدة في عين التضاد ، ويرى السّلام أصلا للحرب ، وختاما.

١٠

١٨ ، ١٩ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩))

[الحج : ١٨ ، ١٩]

الإشارة إلى فعل الله في أرض البدن وسماء المعاني ، وفعله في الروح الحيواني والنفس الناطقة ، وفعله في عوالم الجماد والنبات والحيوان ، ولهذا جعل هيغل الروح هو الأصل ، وما عداه ظهور للكليات وتحول وصيرورة وتضاد.

وقوله سبحانه : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ،) يعني فعل الاسم في قلب صاحبه ، فمن تحقق فيه اسم الله المذل ذل ، ويكون ذله على يديه بالذات ، وذلك بأن يكون هو نفسه الهدف من تحقيق القصد الإلهي ولا يعلم ، ولهذا جاء في الحديث القدسي : (كلكم ضال إلا من هديته) ، فالإنسان مأخوذ بناصيته ، والآخذ الله ، ولهذا وصف سبحانه أخذه هذا بأنه : (أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٤] ، أو كما قال في الآية : (يَفْعَلُ ما يَشاءُ).

٢٠ ، ٢٤ ـ (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤))

[الحج : ٢٠ ، ٢٤]

الاستمرار في الحديث عن فعل الله ، فأصحاب النار يعملون بعمل أهل النار حتى يدخلوا النار ، والعمل حتى الدخول هو من فعل الخاطرين المضل والمذل ، ووصفت العملية في الآية بأنها مثل ثوب قطع أي فصّل ، ويذكر هذا بالمادة والصورة اللتين تحدثت عنهما الفلاسفة ، فالطاولة صورة وخشبها المادة ومن كليهما تكون الطاولة ، ولا فصل بين صورة الطاولة وخشبها وإلا لما كانت الطاولة طاولة ... كذلك حال الناس جميعا ، فأصحاب النار لهم صفات نارية تأخذهم بالنواصي ، ووصف سبحانه هذا التسيير بالنار التي تصب من فوق الرؤوس أي الحكم القاهر الذي يقهر الرأس نفسه أي فعل الدماغ ، وفصلنا الكلام في دقائق هذه العملية في كتابنا «الإنسان الكبير» ، فالإنسان محكوم من باطنه ، مقاد ، أراد ذلك أم لا وينطبق الوصف أيضا على أصحاب الجنة الذين يقادون إلى الجنة بالسلاسل كما جاء في الحديث لكي يتعلموا فيعلموا ثم يعملون ، والتعلم هو ما أشير إليه في الآية الثالثة والعشرين بأنها كالتحلي بأساور الذهب واللؤلؤ ولبس الحرير ... وجاء في الآية الرابعة والعشرين كيف

١١

يهدي الله المؤمنين ، وكرر فعل الهدى مرتين تأكيدا لكونه تعالى الهادي والذي ليس سواه هاد.

فعلى مسرح الحياة ليس ثم إلا المهديون والضالون ، وهذا ما جاء في سورة الفاتحة فاتحة القرآن ، لتحقيق العدل الإلهي البعيد القصد قال ابن عربي : إن أهل النعيم منعمون في نعيمهم وكذلك أهل الجحيم ، وذلك استنادا إلى الحديث القدسي القائل : إن رحمته سبحانه سبقت غضبه ، فيكون غضبه سبحانه مؤقتا ذا أجل إذا انقضى عمت المغفرة والرحمة ، وثمة رحمة رحمانية وجودية تتحقق في تنعم أهل الجحيم في جحيمهم عن طريق تلاؤم الصفة مع الموصوف والعلة مع المعلول ، وقد فصلنا الكلام في هذا الموضوع في كتابنا فتح الوجود ، قال ابن عربي : النعيم ليس سوى ما يقبله المزاج وغرض النفوس ، فحيثما وجد ملايمة الطبع ونيل الغرض كان ذلك نعيما لصاحبه.

٢٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥))

[الحج : ٢٥]

الناس في كل زمان ومكان يحاربون التوحيد إلا ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ، لأن فيه خروجهم عنهم وفناءهم أو كما قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [التّوبة : ١١١] ، والموحدون قلة من الناس قدامى أحرار ، قدموا من اللاأين كما قال جلال الدين الرومي وحبسوا في هذه الدار دار البوار ، فهم يتشوقون إلى الخلاص والفرار إلى عالم الأنوار ، ولهذا ورد في الآية ذكر سبيل الله والمسجد الحرام الذي هو إشارة إلى الجمع حيث الحق والفناء فيه ... والمعتكفون فيه يمدون أعينهم إلى رب المسجد ليتغمدهم برحمته وتعمهم أنواره.

٢٦ ، ٣٠ ـ (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠))

[الحج : ٢٦ ، ٣٠]

البيت بني في زمن الطوفان ، وهذا ما ذكر في كتب التاريخ ، وبين الله لإبراهيم عليه‌السلام مكانه ليرفع قواعده من جديد ، والإشارة تذكرنا بالطوفان النوحي نفسه الذي أتى على كل ما يعبده

١٢

الإنسان من أوثان وأصنام وصور العالم الخارجي ، ولم يبق إلا على الفلك الذي فيه من كل شيء زوجين من المعقولات ، فالبيت إذن بيت المعقولات ، ولهذا كان مقام إبراهيم إلى جانب البيت ، ومقام إبراهيم السماء السابعة حيث سدرة المنتهى ، وهي الشجرة الجامعة التي يدخلها كل يوم سبعون ألف ملك بين ملائكة المعقولات فلا يعودون ، والإشارات كلها إلى أن الله في البيت ، وهو رب البيت ، ولهذا كان الحج إلى البيت هو الحج إلى الله والحج إلى أسمائه وصفاته ، ولهذا كان الطواف حوله سبعا إشارة إلى عدد صفاته ، فالحج إشارات أيضا ورموز ، والجوهر أن الله هو الوجود ظاهرا وباطنا ، وأن الإنسان فيه مرآة ومحمل ، ومحمله جسمه الذي يدخل في باب الحيوان أي الأنعام ، وهو مطية إلهية أيضا مسخرة لحمله ، مثلما جعل هو مطية إلهية ليحمل المعقول ، وليكون جسرا بين المعقول والمحسوس ، وليكون مرآة الله تعكس أسماءه وصفاته ، ويظهر بفعله فعله.

قال سيدنا عمر رضي الله عنه : الركب كثير والحاج قليل ، وللحج إمام هو الذي يخطب الحجاج على جبل عرفة ، وهذا الإمام هو ممثل الإنسان الكامل الذي تحدثنا عنه ، وذكره ابن عربي وعبد الكريم الجيلي وآخرون ، وهو القطب وهو الغوث ، وهو التجسيد الدوري للنور الشريف والظهور الإلهي لاسميه الظاهر والباطن ، وقال القاشاني : النبوة تمثل بدائرة لها وجود في الذهن ووجود في الخارج هو مظهر الوجود الذهني وصورته ، والذهني حقيقته ومعناه ، ولا توجد حقيقة الدائرة في الخارج إلا عن تكامل الأجزاء وتواصلها بوجود النقطة الأخيرة المتصلة بالنقطة الأولى فمثل النبوة دائرة لها وجود في الغيب هو حقيقتها ومعناها ، ووجود في الشهادة هو مظهرها وصورتها ، وحقيقة هذه الدائرة هي الروح الأعظم الذي هو حامل معنى النبوة ، وله حركة دورية ونهاية منطبقة على البداية.

٣١ ـ (حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١))

[الحج : ٣١]

ما نهى الإسلام عن شيء أكثر مما نهى عن الشرك. وقال أرسلان الدمشقي : كلك شرك خفي ، فالشرك باب كبير لو عرف الإنسان سعته لخاف وهاب بل لصعق كما صعق موسى لما تجلى ربه لجبل بدنه وأعضائه.

فالله يريد أن يوفى حقه ، وحقه عواريه التي أعارها الإنسان واستودعه إياها حتى يبين للإنسان الله ، وأين الله ، وما صفاته وفعله ، وما لم تتحقق هذه الغاية فالإنسان ضائع حيران ، وصفته كما قال سبحانه (تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ).

١٣

٣٢ ، ٣٧ ـ (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧))

[الحج : ٣٢ ، ٣٧]

البدن الإبل والإشارة إلى النفس الحيوانية التي قال فيها ابن عربي : إنها مولدة من الطبيعة فالطبيعة أمها والروح أبوها ... وما دام حالها كذلك فهذه النفس رهينة محبس العالم تظهر به وتفنى فيه ، وهذه النفس هي المطية للمعقولات التي لا بد لها من حوامل وإلا ما ظهرت ، وسمى هيغل المعقول الحد ، وسماه الصفة ، ولهذا كان ارتباطه بالعالم ، لأن الحد ما يحد ، فهو محدود من جهة ، وحد من جهة ، فلا وصف أعجب من وصف هذه الصفة التي لا تظهر إلا بالعالم.

أما النصيحة بها فضرورة لخلاص الإنسان من أسر العالم ، وشعائر الحج تهدف كلها إلى تنبيه الإنسان على حقيقة النفس التي هي مطية ، ولكنها مطية إلهية تحمل الإنسان إلى كعبة الحقيقة ، وفي الكعبة الحجر الأسود الذي هو إشارة إلى اللطيفة الإنسانية المودعة فيه والتي هي حقيقة الإنسان وجوهره والذات الشريفة الناطقة ، فمن تحقق حقيقة الحج قدم نفسه إلى الله مثلما تقدم البدن أضحية في الحج ، وما قصة تضحية إبراهيم بولده إلا رمز لكشف هذه الحقيقة ، ولهذا افتدى الله إسماعيل بذبح ، وهذا الذبح هو النفس الحيوانية ، قال سقراط : عندما فتشت عن علة الحياة لقيت الموت ، وعند ما وجدت الموت عرفت حينئذ كيف ينبغي أن أعيش ، ويقول هيغل : العقل يجب أن يكشف عن أنه روح ، وأنه ليس أنا فقط بل هو نحن أيضا ، والعبارة جامعة لعلم التوحيد ، إذ من ظل داخل نطاق الأنا فلقد ظل أسير نفسه الحيوانية ، إذ تتبدى هذه النفس في أنا جزئية ، وللأنا الجزئية كما قال هيغل أيضا شهواتها وأنانيتها ومطامحها ومخاوفها ، فهي حبيسة هذه المغاليق من الغايات الجزئية ، والحاج الحقيقي يكون من نسل إبراهيم ، كما كان محمد عليه‌السلام من نسله ، وهو الذي يتحقق فحوى الحج بأن ينصل من نفسه الجزئية ليبلغ كعبة الذات الكلية أو الأنا الخالصة كما سميت

١٤

في الفلسفة ، وهناك يعود الحاج طاهرا كما ولدته أمه ، نقيا شفافا عرف الحقيقة وبلغها وصار ممثلا ولسانا.

٣٨ ـ (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨))

[الحج : ٣٨]

يكون الدفاع الإلهي بواسطة أسماء الله نفسها ، فالأسماء أسلحة الله الفعالة ، بها يجعل المؤمن يدافع عن المؤمن ، بل ويجعل الكافر يعترف بقيمة المؤمن وأخلاقه ، وقصة أبي جهل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معروفة ، إذ دعا النبي قومه لملاقاته فلما أتوه قال : (أرأيتم لو أخبركم أن خيلا خلف هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم تصدقونني؟) فقال أبو جهل : (ما جربنا عليك كذبا) ، فأخلاق المؤمن أكبر نصير له ، وما دامت الأخلاق متعارفا عليها بين الناس ، فإن الكافر قد يدافع عن المؤمن إذا ما سعى أحد به عنده ، والكافر يعلم حقيقة المؤمن ، ويعلم أنها الحق ، ولكنه يكون هو نفسه لا يطيقها ولا يريدها فيحاربها.

٣٩ ـ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩))

[الحج : ٣٩]

الآية تحول عن مبدأ المسيح عليه‌السلام القائل : (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر) ، والسبب أن الكشف بجميع مراحله قد تحقق للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان الكشف الذاتي له ولأصحابه ولإخوانه ، وهذا الكشف رفع الحرج عن المسلمين الذين بلغوا مقام الإحسان فعبدوا الله حق عبادته ، واتقوه حق تقاته ، فكان جزاؤهم أن ردت إليهم قوى الفعل والصفات ، وأصحاب كشف الفعل الموسويون الذين أفاض ابن عربي في وصفهم في الفتوحات ، وأصحاب كشف الصفة العيسويون الذين مثلوا مبدأ المسيح القاضي بالتسليم حتى يأتي أمر الله باليقين ، فلما جاء اليقين ، وكان صاحبه محمدا تمت الكشوف الثلاثة فحق للمسلم المؤمن المحسن الموقن أن يقاتل الظالمين وأن يعلي كلمة الحق والدين.

٤٠ ـ (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠))

[الحج : ٤٠]

دفع الله الناس بعضهم ببعض دفع الأسماء بعضها ببعض ، والأمر أشبه بلعبة البلياردو حيث تكون الأكر في هذه اللعبة ملونة وكذلك الصفات لعبة الأسماء ، فالصفة حد لا يظهر إلا بالنقيض ، ولهذا كانت أسماء الله مخفية مطوية حتى يحركها الله بالدفع أي بالنقيض ، وقال سقراط : ما أعجب فعل السياسة الإلهية حيث قرنت الأضداد بعضها مع بعض ، فإنه لا يكاد

١٥

أن يكون لذة إلا يتبعها ألم ، ولا ألم إلا يتبعه لذة ، ولقد جعل هيغل هذا الدفع الوجودي الصفاتي أساس الحياة ، وأثبت علميا أن لا وجود بلا دفع وسبق الله هيغل بأزمان حين أعلن أن لو لا دفعه الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد ... والإشارات كلها إلى الاسم الجامع لكل أماكن العبادات هذه ... ويعد الجامع الذي يصلي فيه المسلمون رمزا للاسم الجامع الذي هو اليقين ، والذي تعريفه ظهور الحق بلا أنت معه.

وثمة إشارة إلى الحقيقة المستسرة في الصوامع والبيع أي الكنائس والصلوات وهي الكنائس للموسويين بالعبرية والمساجد ، وهذه الحقيقة هي الوحدة الظاهرة بالتضاد ، ولهذا ربط بين القتال وإقامة الصوامع والبيع والصلوات والمساجد ... فعلى مدى التاريخ ما قام دين إلا بالجهاد ، وما أتى الله قوما رشدهم إلا بعد أن امتحن قلوبهم للتقوى ، وميز الخبيث منهم من الطيب ، فلئن بدت الصوامع والبيع والصلوات والمساجد بيوتا للسلام والسكينة فإن هذا السّلام هو نتيجة الجهاد نفسه ، وهذا أمر أكدناه مرارا في كتبنا ، فلا يطمعن كسول أو قاعد عن الجهاد في أن يبلغ الجنة التي حفت بالمكاره كما جاء في الحديث.

٤١ ـ (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١))

[الحج : ٤١]

التمكين في الأرض نصرة الأسماء الجميلة بواسطة الأسماء الجليلة نفسها ، فالذات هنا هي التي انشطرت خارجا إلى سلب وإلى إيجاب وإلى نور وإلى ظلمة ودافع بعضها بعضا حتى أخرجت ما في بطنانها من العلوم ... ولهذا جاء في الآية : أن الذين مكنهم الله في الأرض أقاموا الصلاة أي كشفوا حقيقة صلتهم بالله ، وآتوا الزكاة أي آتوا زكاة علومهم التوحيدية التي علمهم الحق إياها ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر أي رفعوا رايات أسماء الجمال خفاقة كالحق والخير والعدل والجمال.

٤٢ ، ٤٥ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥))

[الحج : ٤٢ ، ٤٥]

الإشارة إلى الكثرة الكاثرة الذين يكذبون عادة الوحدة والتوحيد ، والسبب أن الكثرة مرتبطة بالصفات فهي تجسيد هذه الصفات ، ولما كانت الصفات كثرة ارتبطت الصفات بتعيناتها فارتبط بالتالي التعين بصفته فما عاد يبغي عنه حولا ، ولما كان الموحد يطالب بخروج صاحب

١٦

الأنا عن أنيته وبالتالي عن صفته فإن هذه المطالبة نفسها فناء وإفناء ، وليس كل أحد يقبل هذا الفناء لشدته ، قال أبو العباس السياري : ليس في المشاهدة لذة ، لأن المشاهدة فناء لا حظّ فيه ولا احتظاظ ولا لذة ولا التذاذ ، فالفناء تبرؤ من الحول والطول ، بل من الوجود نفسه ، فكيف يقبل الإنسان العادي الخروج عن وجوده؟

والفناء سار في الموجودات باعتبار أن هذه الموجودات لا تقوم بنفسها بل بالجوهر وهي أعراض ، ولهذا وصف ابن عربي عالم التعينات بأنه عالم هياكل وأشباح ، فالفناء ليس حالا يحل فيه المكاشف الفاني بل هو أرضية تحتية وجودية مخفية هي التي وصفها اسبينوزا قائلا إنه لم يهبط بالله إلى مستوى الطبيعة بل رفع الطبيعة إلى مستوى الله ... وهذا ما عبرت عنه الآية الخامسة والأربعون قائلة إن الوجود قرية هالكة خاوية على عروشها وهي بئر معطلة وقصر مشيد ... والبئر تذكر بالمقولات الصوفية والأعداد الفيثاغورية العشرة التي جعلت العالم الظاهر أثرا بعد عين ، بعد أن كشفت حجابه فإذا هو الواحد ، وإذا هو الموسيقى روح الكون.

٤٦ ، ٤٧ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧))

[الحج : ٤٦ ، ٤٧]

ضرب الله مثلا قلبا يعقل به وأذنا يسمع بها ، ثم تعدى الحواس ظاهرة وباطنة إلى منطقة أخرى من الإنسان هي الوجدان حيث الشعور وحيث البصيرة التي ضرب الله لها مثلا في موضع آخر مشكاة فيها مصباح والمصباح يوقد من شجرة مباركة ، فلإنسان ما لم تفتح بصيرته فهو أصم أبكم بل هو أبكم ، إذ المنشأ والمصدر والأصل الروح لا الفكر والعالم ، وهذا ما ألح عليه هيغل في موسوعته قائلا : إن ثمة مقولات هي كليات عقلية منبثقة عن الروح ، وهي أساس الوجود ، وليس في الوجود في الحقيقة من حقيقة إلاها.

وثمة ناحية أخرى أشارت إليها الآية وهي لا جدوى مماراة المشركين والملحدين الذين هم عمي القلوب ، فمن لا نور له لا كشف له ، ومن لا كشف له لا يعلم اليقين ولا علم اليقين الذي يمشي الإنسان به على الماء.

٤٨ ، ٤٩ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩))

[الحج : ٤٨ ، ٤٩]

قوله سبحانه : (أَمْلَيْتُ لَها ،) إشارة إلى مد القلب بخواطر الأسماء وكنا قد تحدثنا عن الأفكار القبلية التي قال بها كانط والمقولات العقلية التي قال بها هيغل ، وكلها تقول إن الفكر

١٧

سابق على الوجود ، وإن الوجود مفرغ في هذا الفكر وهو له ظهور ، والله سبحانه فكر خالص أوجد الفكر الجزئي ومده بمدد من عنده فشع الفكر الجزئي بحرارة من الفكر الخالص وبقوة منه هي قوة الروح ، ولا تزال العلماء حتى عصرنا هذا يجهلون سبب حركة المادة ونشاط الدماغ وحركة القلب.

فظلم القرية يعني كون أهلها ظالمين ، وأهل القرية بمثابة الحواس ظاهرة وباطنة وخاصة الباطنة حيث يظن الإنسان أنه هو الذي يتخيل ويتذكر ويتوهم ويفكر ويحلل ويستنتج ويستنبط ، علما أن زيادة درجات في حرارة جسمه تعطل معظم حواسه وقد تلغيها وقد تميتها ، فالإنسان ضيف في مضافة جسمه يقدم له الزاد من المعلومات سواء عن طريق الانطباعات الحسية أو عن طريق الحدس العقلي الذاتي ، حتى إذا آن الأوان ، وأتى أمر الله جعل الله الجسم وقواه أثرا بعد عين ، واسترد الله عاريته بل عواريه من القوى والإمكانات ، وهذا ما يحدث للإنسان العادي لدى موته .. أما العارفون فهم يعيشون ضربا آخر من الموت سميناه الموت المعنوي ، إذ يشاهد العارف بعين بصيرته كيف يكون ضيفا في هذا الندي الإلهي الوجودي الكبير فيعلن من ثم قائلا سبحان من سخر لنا هذا ، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ... ثم يرفع العارف راية الفقر شعارا له باعتبار الإنسان فقيرا إلى الله على الحقيقة ليس له من دونه شفيع ولا نصير.

٥٠ ـ (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠))

[الحج : ٥٠]

المغفرة غفران ذنب الوجود ، وهو ما تسميه الفلاسفة وشعراء الغرب والمسيحيون الخطيئة الأولى ، فما لم يمح الله أنا الإنسان بظهور أناه هو فإن العبد يظل محجوبا عن الحقيقة الإلهية وعن الوجود الحق العظيم.

٥١ ـ (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١))

[الحج : ٥١]

كل سعي في آيات الله معاجزين أي رمي الله بالعجز هو الحجاب الأكبر ، إذ في الحوار إثبات وجود تصرف في ملك ليس للإنسان بما في ذلك الفكر ، وتكون النتيجة أن ما يتسلح به الإنسان من منطق ينقلب عدوا له باعتبار الله هو الماكر ، وهو خير الماكرين ، وهو حقيقة الفكر المحاور نفسه ، وتكون نهاية المحجوب شبيهة بحال القط الذي دخل دكان نجار فجعل يلحس المبرد ، فخرج دمه ، فذاقه ، فاستلذه ، فظل يلحس حتى قضى بنفسه على نفسه.

٥٢ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢))

[الحج : ٥٢]

دور الشيطان الإبعاد وإثبات الأنا الجزئي وهذا ما بيناه من قبل ، والله حين يوحي إلى

١٨

رسوله أو نبيه يدخل الشيطان في هذا الوحي نفسه باعتبار الشيطنة وسوسة وصوتا خفيا ، والنتيجة حوار ، والقصد منه التنبيه على الانشطار الذاتي للأنا الخالصة ليكون منها الإبعاد ومنها التقريب ، فهو سبحانه الرافع الخافض ، المعز المذل ، المبعد المقرب ، وما الشيطان إلا وسيلة للتحريك كما بينا هذا من قبل.

وعند حلول اليقين ترفع الستارة عن سر التضاد فإذا الله خالق الشيطان وقاهر الشيطان ، وإذا هو الآخذ بناصيته فإنه لا إله إلا الله ، وهذا هو إحكام الله لآياته ، فيدمر من ثم الشيطان علما أنه كان موحدا وظل موحدا كما قال ابن عربي ، لكن دوره اقتضاه أن يمثل ما كتب عليه تمثيله إخراجا للمقتضيات ، قال الإمام النفري : لي من ربي مقام لا أمر فيه ولا نهي ، وذلك مقامي الذي أرى ربي فيه ، فلا يستطيعني ملك في ملكانيته ولا يستطيعني جن في جنيته.

٥٣ ـ (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣))

[الحج : ٥٣]

وسوسة الشيطان فتنة القلب المريض المحجوب الذي منع نور الهدى ، فعاش في ظلمات الحيرة ، والجهالة والأنانية والضياع ، فمن لم يجعل الله نورا فما له من نور ، وابن آدم مردود أسفل سافلين منذ أن يخلق ثم يعي ، وما لم تتلقفه يد ربه لتعيده إلى شفافيته وطهره وإيمانه فإنه يبقى أسير النفس الحيوانية ، سئل ديوجانيس : كم عبدا لك؟ فأجاب : بقدر أربابكم ، وعني الشهوة والغضب.

٥٤ ـ (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤))

[الحج : ٥٤]

الهدى يلي الهبوط إلى عالم الفساد كما بينا ، وللهبوط والصعود لطيفة ذلك أن النفس حين تعي أنها جاهلة ، وأنها وحيدة ، وأنها أسيرة الشهوة ، وأنها تعاني صراعا وتحيا جهادا ، ثم يأتيها نور اليقين تكتشف عندئذ جوهر الصراع والمجاهدة ، ومعنى كون الله في الضدية ، وهذا هو الصراط المستقيم الذي يهدى إليه المؤمنون ولهذا تحدث النبي عن القرين الذي يلازم الإنسان أبدا ، إلا أنه بعد حلول اليقين يسلم هذا القرين أو يسلم صاحبه من أذاه بالعلم بحقيقته.

٥٥ ، ٥٧ ـ (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧))

[الحج : ٥٥ ، ٥٧]

١٩

لا يؤمن الكافر بالله وبوجوده ولا بالأنبياء والوحي النبوي لأنه محجوب عن النور ، أو أن النور محجوب عنه ، والساعة التي تأتي بغتة هي ساعة موت نفس الكافر الجزئية وفيها يكشف النقاب عن الحقيقة ، فإذا وجه الله قد أسفر ، وإذا الشيطان خيال لا أصل ، وإذا الإنسان قد مثل دورا كتب عليه ، وإذا الملك اليوم لله الواحد القهار ، وإذا حديث القبضة حي ، فقبضة تنعيم أهل الهدى ، وقبضة شقاوة أهل الحجاب ، وكلا الفريقين ضرورة لملء فراغ دائرة الوجود العقلانية القائمة على التضاد وبالتضاد.

٥٨ ـ (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨))

[الحج : ٥٨]

الرزق الكشف ، ووصف بأنه حسن ، لأن الصفة تذكر بأسماء الله الحسنى ، والحسنى تأنيث صفة الحسن ، فالمهاجرون قتلوا أو ماتوا موتا معنويا علميا لهم هذا الرزق الحسن وهو علم الأسماء الذي علمه آدم ، ففاق ملائكة المعقولات مكانة ، واستوى على عرش الوجود العلمي خليفة الله في الأرض.

٥٩ ـ (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩))

[الحج : ٥٩]

قوله : (يَرْضَوْنَهُ ،) يعني الوصول إلى مقام الرضا ، وهو من مقامات الإحسان ، وأصله قوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المائدة : ١١٩] ، وفيه انكشاف سر الصفات العيسوي للسالك فإذا هو في الحضرة وفي النعيم حيث الحور العين اللواتي هن أم الصفات المعقولة ، أي الأعيان الثابتة أزواج المطهرين من العارفين العارجين الواصلين إلى سدرة المنتهى علما ومعرفة.

٦٠ ـ (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠))

[الحج : ٦٠]

الآية تذكر بشعار المسيح عليه‌السلام : (أحبوا أعداءكم ، باركوا لا عينكم) ، فهاهنا نداء بأن تضع الحرب أوزارها بعد القتال والجهاد ، والمؤمن المكاشف بسر الصفات مدعو لإلقاء السلاح نتيجة كشفه نفسه الذي يريه رأي البصيرة وبعين اليقين أن عدوه أخوه ولا يعلم ، وهذا ما قاله المسيح نفسه الذي تابع قائلا : (لأنهم إخوانكم).

فإذا أثار كافر مؤمنا بلغ مقام كشف الصفة فقاتله ، وأخرجه من دياره فيكون إخراجه من قبيل البغي عليه ، ولهذا اتصف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعفو والحلم ، وهو الذي لما دخل مكة ، وجاره أهلها ، وجاءته هند : فقال : (أهند آكلة الكبد؟) ، إشارة إلى ما فعلته هند بحمزة عم الرسول لما أكلت كبده فقالت : أنبي وحقود؟ فذكرته وهي الجاهلة مقام الأنبياء وأخلاقهم ، فكان

٢٠