التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

من الأسماء جميعا ، وأرسلوا إلى عالم العناصر وعملوا ويسروا للتعلم ليمتلئ حاسوبهم بالمعلومات الضرورية ، حتى إذا بلغوا أشدهم ، وقاربوا الأربعين ، جاءهم النصر والفتح ، وأنزل عليهم قرآن الحقائق في ليلة القدر ، وكشف لهم الغيب فاطلعوا الأسرار ، وعرفوا الحقيقة الإلهية ، وبوصف علمي يتصل هؤلاء الأعلام بالحاسوب المركزي الذي هو الروح الفاعل فيعلمهم ما لم يكونوا يعلمون.

وقد يسأل سائل : إن كان الإنسان حاسوبا ، والإنسان نفس وجسد ، فكيف يكون الروح اللامادي حاسوبا مركزيا؟ والجواب في الرجوع إلى نظرية السهروردي في الأنوار ، وكيف أن من هذه الأنوار النور الأول والنور المضاف أو المعار ، فالصوفية تقول : إن العالم كل نور ، وإن أصل الأنوار المادية والنور العقلي هو النور المعنوي الذي هو الفاعل وحده ، وفي كتابنا الإنسان الكامل بينا أن العالم كله جسم كبير ، وأن الحواس الجزئية لها قاعدة هي الحواس الكلية باعتبار القوى التي تشغلها ، فلئن كانت الخلايا والحبال العصبية والمراكز الخاصة في الدماغ بالذاكرة والخيال هي مادية فالنور الأول هو أصل هذه المادة وهو قوة هذه المادة ، ويعرف الفارابي العقل قائلا : إنه غريزة يتهيأ بها درك العلوم ، ويقول أيضا : العقل قوة من قوى النفس مستعدة لأن تنتزع من هيآت الموجودات كلها صورها دون موادها ، وتلك الصور المنتزعة عن موادها الصائرة صورا في هذه الذات هي المعقولات ، فالإنسان إذن مستودع للمعلومات ، ولكن صاحب المعلومات هو الروح الكلي الكائن بالفعل والذي يقول للشيء كن فيكون.

فالاتصال بالحاسوب المركزي اتصال بروح الكون الحاوي للعلوم ، فهذا الحاسوب أبدع الحاسوب الجزئي ليعين المعلوم به والمعقول ، وليظهر النور على شاشة عالم المادة ، وعلى هذا فليس للحاسوب المركزي علاقة بالزمان والمكان لأن الزماكان من عالم المادة ، وعالم المادة تابع لعالم النور ، صحيح أن الحاسوب المركزي يستفيد من الحاسوب الجزئي المعلومات المتفتقة من عالم الحس وأحداث لا غير ، أما من حيث هي كليات فهي معلومة أصلا له ، ومن حيث الاستفادة فالماضي مسجل حاسوبيا على لوحة الحاسوب الكلي ، ومن هذا المنطلق أخبر الحاسوب الكلي النبي الحاسوب الجزئي بأحداث الماضي كما وقعت بلا تحريف ولا تزوير ، وقال عن نوح والطوفان وعاد وثمود ، وقال إن إبراهيم كان حنيفا مسلما ، وقال إن مريم حملت بالمسيح من غير أب إلا الروح ، وقال إن الله ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ، وإن المسيح ليس الله ولا ابن الله بل هو كلمة من كلماته.

والحاسوب الكلي مطلع على السرائر ، وما من حركة ظاهرة أو خفية بل ولا خاطرة تخطر في البال إلا ويعلمها ، ونجد في كتاب الله كيف أخبر الله النبي بالحديث الذي دار بين بعض

٦٠١

أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تحريم مارية ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أسره إلى حفصة وقال لها لا تفشيه فنبأت به عائشة ، فنبأ النبي حفصة بما ورد بينها وبين عائشة رضي الله عنها فقالت : من أنبأك هذا؟ قال : (نبأني العليم الخبير).

ومن هذا المصدر تعلم الأنبياء والأولياء علم الخواطر ، وسمي هذا العلم الفراسة ، وقال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور ربه) ، وقال الإمام الرفاعي : القلب إذا صلح صار مهبط الوحي والأسرار والأنوار والملائكة ، وإذا صلح القلب أخبرك بما وراءك وأمامك ، ونبهك على أمور لم تكن تعلمها بشيء دونه ، وقال الإمام منصور البطائحي : الكشف سواطع نور لمعت في القلوب بتمكين معرفة حملة السرائر في الغيوب من غيب إلى غيب حتى يشهد الأشياء من حيث يشهدها الحق ، فيتكلم عن ضمائر الخلق. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرى أصحابه في الصلاة وهم خلفه كما يراهم أمامه ، ورأى بيت المقدس عيانا وهو بمكة ، ورأى قصور الشام وأبواب صنعاء ومدائن كسرى ، وهو بالمدينة يحفر الخندق ، ورأى النجاشي بالحبشة لما مات وهو بالمدينة ، فخرج إلى المصلى وصلى عليه.

والمستقبل الذي كشف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو امتداد للماضي والحاضر ، بمعنى أن الشريط الذي يعرض على شاشة الوجود العياني هو شريط عبئ مسبقا بصور عقلانية محضة طبعت فيه ، وسمى هذا الطبع القضاء ، وهي ستصير أحداثا واقعية عن طريق الزمان والمكان ، فما سيقع في المستقبل خططه الله وقضاه ، وأخبار هذا القضاء كثيرة في كتب الدين ، وهناك كتاب اسمه الجفر ، وينسب ما جاء فيه إلى الإمام جعفر الصادق ، وفيه ذكر كل ما سيقع لأهل البيت إلى يوم القيامة ، والإمام هو الذي حذر زين العابدين من الخروج للقتال فخرج فقتل ، وفي الكتاب قصيدة عجيبة تنبئ عن هجوم للإيطاليين على طرابلس الغرب فوقع الحدث بعد انقضاء قرون عديدة.

فالحاسوب الكلي في هذا المجال هو بمثابة الإنسان العالم عند ما يشحن الحاسوب الجزئي بالمعلومات الموجودة في عقله هو ، فالحاسوب الجزئي لا يعلم ، والحاسوب الكلي يعلم ثم يعلم من بعد ذلك الحاسوب الجزئي ، فأحداث العالم إخراج لما هو موجود في العقل الإلهي الذي قضى كل شيء أزلا وقدره فما من حادث يقع في عالم العيان إلا والله قضاه ، ولا تبديل لقضاء الله ، والأنبياء والأولياء متحققون بهذا ولا يشكون في ما قضاه الله وهم بالتالي مستريحون إلى هذا القضاء خيرا وشرا من ربهم.

والحاسوب الكلي هو القادر على أن يجعل الجاهل عالما ، إذ الحق هو القائل : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥)) [العلق : ٥] ، قال الإمام الدسوقي : فيض الربوبية إذا فاض أغنى عن الاجتهاد ، وقال : قد يعطي المولى قاصرا ما لم يعط أصحاب المحابر ، وكان الإمام عبد

٦٠٢

الرحيم القناوي إذا قال لعامي : يا فلان تكلم على العلماء ، فيتكلم عليهم في معاني الآيات والأحاديث ، حتى لو كان هناك عشرة آلاف محبرة لكلت عنه ، ثم يقول له اسكت ، فلا يجد ذلك العامي كلمة ، واحدة من تلك العلوم.

وكان الإمام أبو عمرو القرشي يفعل مثل ذلك ، فلقد كان الرجل العربي إذا اشتهى أن يتكلم بالعجمية ، أو العجمي يريد أن يتكلم بالعربية ، يتفل في فمه فيصير يعرف تلك اللغة كأنها لغته الأصلية ، وكان للإمام أبي العباس أحمد الملثم مكاشفات عجيبة في مستقبل الزمان ، فكان لا يخبر بشيء إلا جاء كما قال ، ويقول : أنا ما أتكلم باختياري ، وذكر ابن عربي في بعض كتبه صفة السلطان جد السلطان سليمان بن عثمان الأول وفتحه القسطنطينية في الوقت الفلاني ، فجاء الأمر كما قال وبينه وبين السلطان نحو مائتي سنة ، وقد بنى عليه قبة عظيمة وتكية شريفة بالشام فيها طعام وخيرات ، وقال الإمام الشاذلي : إذا نطق المحجوب بغرائب العلوم وعجائب الفهوم فلا تستغربن ذلك ، فإن مداد قلم الغيوب فياض ، وقال : حاشى قلوب العارفين أن تخبر عن غير يقين ، وقال : إذا أراد الله بعبد خيرا أوصل إلى قلبه العلوم الحقيقية المتلقاة من حضرة الربوبية بطريق ليس فيه إشكال على الظواهر الشرعيات.

أخيرا إن دعوتنا التي نلح عليها هي الاستفادة من وجود الحاسوب الكلي الأزلي الوجودي الذي قال فيه الإمام الشاذلي : من العجب كون الإنسان ينظر إلى شمس الدنيا فيستضيء بنورها وينتفع بآثارها ، وفي سر وجوده شمس أنوار ، وهو غافل عن شهود حقيقتها لظلمة ذاته الطينية.

إنها دعوة للاستفادة من عالمي المادة والروح جميعا ، فمن ظفر بهما حقق الإنسانية التامة فيه فكان نجما ، وكان علما ، وكان عالما أوتى خير الدارين كما فعل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي تعد شريعته جامعة للدنيا والآخرة ، صالحة لكليهما ، والتي تعد الإنسان بحياة متوازية صالحة هانئة سعيدة ، والله سبحانه القائل : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) [الجنّ : ١٣] والقائل : (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) [الجنّ : ١٤] والقائل : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) [الجن : ١٦].

١٣٠ ، ١٣٥ ـ (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ

٦٠٣

قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥))

[طه : ١٣٠ ، ١٣٥]

قال سبحانه : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) [الأعراف : ٣٢] ، وفسرت الزينة باللباس ، وتتابع الآية قائلة : (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢] وفسرت الطيبات بالملذات. وقال سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذاريات : ٥٦] وفسر ابن عباس العبادة هنا بالمعرفة.

ونجد هنا قوله سبحانه : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ). ولدى المقارنة نجد أن ثمة زينتين ، زينة للمؤمنين وزينة للفتنة ، والزينة الأولى جزاء من يعبد الله أي يعرفه. فالمؤمن مأمور بأن يجاهد نفسه ، ويعقل قلبه إلى أن يعرف الله ، فمتى عرفه جازاه الله خيرا ، ورزقه من حيث لا يحتسب.

والرزق الإلهي خلعة الأخلاق الإلهية التي يخلعها على عبده ، كما قال رسول الله تخلقوا بأخلاق الله ، ومعرفة سر اليقين الذي هو مطمح السالكين كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (تعلموا اليقين فإني أتعلمه).

فبجهاد النفس يتوجه المجاهد من الموضوع إلى الذات .. أي من عالم الإمكان والظلال والتبدل والتغير إلى عالم الوجوب والحق والثبات والجمال.

فمن كتبت عليه الشقاوة وهو في بطن أمه كانت زينة الدنيا له فتنة. ذلك لأن زينة الدنيا حجاب عن الله ، وحجاب بالنفس عما في النفس من أسرار ، والله سبحانه يقول : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١)) [الذّاريات : ٢١] ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من عرف نفسه عرف ربه).

فالجهاد مكتوب على الإنسان ليعرف نفسه ، فمتى عرفها عرف سر نفسه ، وتفتحت بصيرته فرأى ربه نورا في نفسه ، ومليكا لنفسه ، فخرّ ساجدا لربه ، فأهداه الحق نفسه نفسا طيبة صالحة ، متخلقة بأخلاق الله. وعلمه عن طريق نفسه أيضا العلم اللدني وما لم يكن يعلم.

وهذا التعلم الرباني الذي يتم عن طريق صراع الأضداد ، أي الديالكتيك النفسي ، وما يتمخض عنه من خير يؤدي إلى ما سمي فقها إقامة الصلاة. فإقامة الصلاة شرط أساسي لها ، وإقامتها تحقيق الصلة بين الإنسان وربه ، ومتى اتصل فلا انفصال ، وأشرقت شمس الحق فأنارت النفس والعقل والقلب ، وصار الإنسان عبد الله الصالح ، مأمورا من قبل ربه ، لا يأتي أمرا ، ولا يحرك ساكنا إلا بإذنه ، وهذا العبد جوزي خيرا ، كما جوزي يوسف عليه‌السلام الذي آتاه الله الملك ، وعلمه تأويل الأحاديث وتوفاه مسلما ، وألحقه بالصالحين ، وهذا ما اختتمت به السورة قائلة : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى).

٦٠٤

سورة الأنبياء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١))

[الأنبياء : ١]

الحساب بالمرصاد ، وهو قائم باعتبار الموصوف محكوما بالصفة ، فكما أن الأجرام في أفلاكها لها نظامها وحسابها الذي تدرسه العلماء حتى يعلمون ما سيقع بعد مئات السنين في تلك الأفلاك ، كذلك الحق يحاسب الناس مثل هذا الحساب الذي هو في حقيقته خروج ما هو بالقوة إلى ما هو بالفعل.

٢ ، ٣ ـ (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣))

[الأنبياء : ٢ ، ٣]

الخطاب موجه إلى التعينات الحجب الظلماء من الناس ، وهؤلاء محجوبون أصلا فلا يسمعون صوت الضمير ، وإن استمعوه لا يجيبون ، ونجواهم هي أصلا إلهام الاسم البعيد الذي قضى بإبعادهم فكيف يقربون.

٤ ـ (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤))

[الأنبياء : ٤]

حاسة الروح كلها قوة ، والحواس المادية ظاهرة وباطنة تعمل بقوة الروح ، فالوجود المادي قائم بالوجود الروحي ، ولكن الوجود الروحي لا يقوم بغيره بل بذاته ، وما خلق الوجود المادي إلا لعرض صور وإمكانات الوجود الحق.

٥ ، ٦ ـ (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦))

[الأنبياء : ٥ ، ٦]

الملاحظ في الآية السادسة أن القرية ، وقد أولناها سابقا بأنها إشارة إلى البدن ، قد حكم عليها بالهلاك من قبل أن تسمع صوت الإيمان ، والأمر متعلق بأصحاب الشقاوة المبعدين.

٧ ـ (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧))

[الأنبياء : ٧]

الاستخفاف بالنبوة وظهورها ، علما أن الله ما أرسل إلا أنبياء من البشر مبشرين يوحى إليهم ، فالفرق بين النبي والإنسان العادي هو الوحي ، وكنا تكلمنا عن الوحي ، وقلنا إنه

٦٠٥

درجات أولها الإلهام خوف ، ووحي النبوة أعلى الدرجات ، ثم وحي العارفين.

وهناك درجات للوحي لا حصر لها كالوحي إلى الحيوان كقوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النّحل : ٦٨] ، ثم الوحي إلى البشر كقوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) [القصص : ٧] ، فكلمة وحي عامة ، وأصلها صلة الخلق بالحق ، ولكن الناس عن سماع الوحي صم لا يسمعون ، ولو سمعوه ووعوه ما تفرقوا ذات اليمين وذات الشمال.

والوحي يدخل من كل باب من أبواب القلب ، وبه أخذ دواب الأرض بالنواصي والأقدام ، فكل قول مسموع أو هو نجوى خفية هو وحي ، فما في الكون إلا صوت الوحي المرموز إليه دينا بالنفخ في الصور ، قال سبحانه : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشّورى : ٥١].

٨ ـ (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨))

[الأنبياء : ٨]

الجسد الجسم الكلي ، وصلة الحق بالخلق صلة الروح بالجسم الكلي ، فما في الوجود إلا الجسد ظاهرا والروح باطنا ، والأنبياء هم صوت الحق فهم ممثلوه ، وحقيقتهم النور المحمدي المخلوق أزلا صدورا عن الله ، فحقيقة النبي نور ، وظهوره تعين وصدور ، وللجسد أجهزته وقواه وغذاؤه طعام وشراب وقضاء الوطر وإشباع غرائز ، فما تميز النبي عن الناس إلا بحقيقته التي هي وحي يوحي إليه.

٩ ـ (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩))

[الأنبياء : ٩]

قوله : (فَأَنْجَيْناهُمْ) أعقب قوله : (وَما كانُوا خالِدِينَ) في الآية السابقة ، والمعنى أن للجسم أجله ، متى قضى مات كما قال سبحانه كل نفس ذائقة الموت ، أما النجاة الواردة في الآية فهي العودة إلى النور الأصيل الذي هو حياة حقية نورانية ، ولهذا قال عليه‌السلام أنا حي في قبري ، وقال الجنيد العارفون لا يموتون ولكنهم ينتقلون من دار إلى دار ، ولما كان الأصل النور المحمدي كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أنا من نور الله والمؤمنون من فيض نوري) ، كانت النجاة لمن يتحقق بهذا النور ويصير إليه.

١٠ ـ (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠))

[الأنبياء : ١٠]

الكتاب الصورة الإنسانية التي هي نسخة من الصورة الإلهية ، ولما كان الإسلام دين الإنسانية كافة فكتابه كتاب الإنسانية كافة أيضا ، ولهذا تجد كتب الصوفية التي تحدثت عن حقائق علم التوحيد ، وكشفت غطاءه منتشرة في جميع أنحاء العالم ، مقروءة من كافة المتدينين من أي دين.

٦٠٦

١١ ، ١٥ ـ (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥))

[الأنبياء : ١١ ، ١٥]

القرية الأمة التي تريد أن تطغى ، وتكون لها السيادة في الأرض من دون الله فهي هنا أمة كافرة ، فإذا جاء أمر الله بعث عبادا مؤمنين ، كما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قومه ، فدعا لله وللدين الجديد ، فأيده فريق من بني قومه وخالفه آخرون ، فواجه المؤمنون المشركين والكافرين فغلبوهم وانتصر الدين المبين ، وعلى مدى التاريخ لا تزال الحروب تشهد كم ظهرت أمم كافرة ثم اندحرت وبادت ، فالأيام متداولة بين الناس ، والحكم لله ، والغلبة له ولأسمائه.

١٦ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦))

[الأنبياء : ١٦]

القصد من الخلق ظهور الحق ، وظهور الحق ظهور أسمائه وصفاته أي المعقولات ، فبنو آدم خلقوا ليكونوا جسرا يعبر عليه الحق بمعقولاته فتظهر للعيان بالعيان ، فوظيفة الحاسوب الجزئي جمع المعلومات وترتيبها وتصنيفها ثم فرزها ثم إظهارها عند اللزوم ، والنتيجة أن اللون الأخضر لا يظهره إلا ورق الشجر فيكون وسيلة لظهور اللون ، وعلى هذا قس كيف تظهر المعاني بالمباني ، فلو لا البشر كيف كان الله يظهر ، وكيف كنا نتعرفه ويتعرف هو إلينا؟

١٧ ـ (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧))

[الأنبياء : ١٧]

معنى (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) أنه كان بوسع الله أن يحتفظ بأسمائه خالصة من دون تعين ما ، وهذا ممكن لأنه هو صاحب الأمر والفعل ويكون مثل الله مثل المؤلف يريد أن يؤلف فيتخذ أوراقا وأقلاما ومدادا ثم يخلق شخصيات وأحداثا ، ثم يجعل من شخصياته من يمثل الجمال والحق والخير والعدل ، ويجعل من يمثل التضاد ، ثم تلعب الشخصيات دورها في القصص والمؤلف يحركها ويدخلها ويخرجها ويظهرها ويخفيها ويميتها ويحييها ، فالمؤلف مؤلف سواء كتب مؤلفاته أم لا ، ولكن لما كان المؤلف مؤلفا اقتضى هذا أن يكون الخلق الفني نتاج المؤلف ، فيكون ما خلقه فيضا عنه وينبوعا أخرج عطاءاته.

١٨ ـ (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨))

[الأنبياء : ١٨]

النصر للكليات ، ولا عبرة في جولات الظلمة ولكن العبرة بالخواتيم ، وخاتمة أي قصة ظهور صفات الجمال ، وهذا أمر بدهي مسلم به لدى الله والناس والتاريخ.

٦٠٧

١٩ ـ (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩))

[الأنبياء : ١٩]

من عند الله الكليات خالصة من التعينات ، فهي مثل الفراخ تكون في البيض ، وهي بحكم وجودها في البيض ، والبيض أنواع ، فهي محكومة بأن تفقس بيوضها وتخرج نسورا وصقورا وبلابل وعصافير فما يخرج إلى العيان هو ما يكون في البطنان ، وما يكون في البطنان يدل على البطن الكلي الواحد ، فسواء خرج المعقول ممثلا في محسوس ، أم ظل مطويا ، فهو في علم الله معقول ويبقى معقولا.

٢٠ ، ٢١ ـ (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١))

[الأنبياء : ٢٠ ، ٢١]

التسبيح التنزيه ، والصوفية تنزه الله حتى عن الاتصاف بصفات ، وهذه عقيدة أفلوطين الموحد ، ثم تجعل له تشابيه هي المعقولات والصفات ، والحقيقة أن المعقولات أمارات وجهه الواحد ، ولكنه في ذاته يبقى منزها عن المعقولات لأنه ربها وموجدها.

٢٢ ـ (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢))

[الأنبياء : ٢٢]

الآية توجب خضوع المعقولات للواحد الأحد ، ولهذا هجمت الصوفية على عبدة الأوثان والأصنام والصور والطبيعة والنار ، وقالوا إن هؤلاء يعبدون الله حتى وإن عبدوا تلك المظاهر ، لأن الله حقيقة كل شيء ، وهو موجد الشيئية أصلا ، وهو ملهم النفس خواطرها ، فأنى توجه والإنسان كان الله وراءه وقدامه.

وقوله : (لَفَسَدَتا) يعني أن الوجود لا يستطيع الاستمرار في وجوده إلا لكونه واحدا محكوما من قبل واحد ، ولهذا ترى فيلسوفا مثل هيغل يرى حتى في الحروب حكمة وخيرا مؤجلين ، وإن بدا الخراب والفساد معجلين ، لأن الله له من وراء الحرب قصد ، ومعجل البركان حمم ونار ودمار وموت للمخلوقات وللطبيعة ، ومؤجله ظهور حياة جديدة غنية فتية ، إذ تكون الحمم تربة جديدة غنية بالمواد والحياة.

٢٣ ـ (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣))

[الأنبياء : ٢٣]

لا يمكن مماراة الله في ما يفعل ، وفي الحديث القدسي (من لم يرض بقضائي فليخرج من تحت سمائي وليبتغ ربا سواي) ، فالخليقة مخلوقة وفق هذه القواعد ، وإن حاول الإنسان تغيير هذه القواعد وتبديل سنة الوجود ، عادت السنة فاحتوت التغيير والتبديل ، فتكون الثورات

٦٠٨

الاجتماعية والسياسة بركانا ينبت أرضا جديدة ، يقول هيغل : حين تضع الفلسفة لونا رماديا فوق لون رمادي فإن معنى هذا أن شكلا من أشكال الحياة قد شاخ ، وأنه لا يمكن أن يعود الشباب إلى هذه الألوان الدكناء بعضها فوق بعض ، وإنما يمكن أن يفهم فحسب أن بومة منيرفا لا تبدأ الطيران إلا حين حلول الظلام.

٢٤ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤))

[الأنبياء : ٢٤]

سبق وتحدثنا عن علم الحاسوب الكلي الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، والذي يحدث بأخبار الأولين ، وينبئ بما هو آت ، فالنبي مستند إلى قوة وجودية نورانية هي أصل الوجود وماضيه وحاضره ومستقبله ولهذا ما خابت دعوة الأنبياء قط وإن قتلوا ، فالمؤجل النصر والفتح.

٢٥ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥))

[الأنبياء : ٢٥]

سبق أن تحدثنا عن دعوة التوحيد الواردة في كتب التاريخ ، وفي كتابنا الإنسان الكبير ، أوردنا ما قاله الفيلسوف شيلنغ في كتابه فلسفة الأسطورة والكشف مبينا أن للأساطير القديمة والديانات القديمة أصلا هو التوحيد ، وأن الوثنية دخلت بعد تحريف ديانة التوحيد. وحلل شيلنغ بعض هذه الأساطير ، وردها إلى مصادر قديمة وكشف الأسس التي قامت عليها مؤكدا دور التوحيد في نسج الأساطير.

٢٦ ـ (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦))

[الأنبياء : ٢٦]

الحق حق والخلق خلق ، والحق وجود أبدي أزلي سرمدي فعال عليم علام ، والخلق وجود متجدد منفصل متعلم وهو وسيلة للظهور ، ومن الحق والخلق كان الوجود التام الذي هو ظاهر باطن ، والذي هو الوجود الإلهي نفسه ، قال عبد الغني النابلسي : التصاوير من حيث التعين غير الموجود الواحد ، لأن التعينات غير ما به التعين وهي غيرية اعتبارية ، وقال أيضا : جميع الموجودات من حيث ماهيات مختلفة فليست هي الوجود الحق سبحانه بل هي مقدراته وتصوراته ولكن ليس لها وجود آخر غير وجود الحق سبحانه وقال أيضا : لو لا سريان الوجود الحق في الموجودات لما وجدت ، وسريانه فيها بلا سريان لأنها عدم ، والسريان إنما يكون من موجود في موجود ولا موجود إلا الوجود وحده بحيث يكون ذلك الوجود في تلك الذوات عين تلك الذوات ، كما كانت تلك الذوات قبل الظهور في ذلك الوجود عين ذلك الوجود ،

٦٠٩

وقال جلال الدين الرومي : أنا لست من جنس ملك الملوك فما أبعدني عن ذلك ، وإنما أنا مستضيء بنور من تجليه.

٢٧ ـ (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧))

[الأنبياء : ٢٧]

قوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) يعني أن العاقل لا ينطق إلا بعد أن يفكر وفكره حوار داخلي أساسه انشطار الروح إلى إيجاب وسلب لكي تملأ الدائرة وتشحن كما سبق لنا القول ، وعليه فالإنسان بوق ينفخ الروح في مدخله فيخرج الكلام من مخرجه.

٢٨ ـ (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨))

[الأنبياء : ٢٨]

الشفاعة تدخل في باب الأسماء ، فمن كان من النور وإلى النور فهو مشفوع له ، ومن كان من الظلمة وإلى الظلمة فهو غير مشفوع له ، وقال ابن عربي إن أصحاب الظلمة في تلاؤم مع ظلمهم عملا باقتضاء الطبع والتلاؤم بين الصفة والموصوف ، وقال جلال الدين الرومي : لما كان الكفار قد جاؤوا من جنس سجين ، فإن سجن الدنيا وافق هواهم.

٢٩ ـ (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))

[الأنبياء : ٢٩]

تدخل الأنا أو الأنية في نطاق الألوهية ، ولهذا قالت الصوفية قولك أنا أكثف حجاب ، فأنيتك نور من أنيته ، وشعاع من أشعته ، وبعض من أبعاضه ، فهو يتكثر من جهة معلولاته ، وأنت تكثره ، فمن أنت حتى تقول أنا؟

والملائكة معقولات وصفات ، والمعقولات إشعاع الأنوار الإلهية أيضا ، فليس للملائكة أن يقولوا نحن إله من دونه كما فعل إبليس.

وقوله : (نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ال] ، يعني أن من احتجب بالأنية ، كانت أناه حجابه عن الله وبعدا ، فكانت جهنم مثواه باعتبار أصل جهنم جهنام وهي بئر بعيدة القعر.

٣٠ ـ (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠))

[الأنبياء : ٣٠]

الرتق والفتق أساس الوجود ، فالرتق كونه سبحانه في حال العماء ، أي كالسحاب الرقيق ، كما جاء في الحديث ، أو كونه في السديم الأول قبل الانفجار الذري الكوني كما أثبت العلم الحديث ، فالرتق وجوده سبحانه بذاته من غير فتق ، أي من غير فض وخروج وتكثر.

والفتق خروج قواه ، وأول ما خرج منه الروح ، وسمته الفلاسفة العقل الكلي والعقل

٦١٠

الفعال ، وسمته الصوفية النور المحمدي والحقيقة المحمدية كما قال عليه‌السلام : أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر ، ومن الروح صورت النفس الكلية التي هي أم الأسماء أي المعقولات فكانت النفس الكلية أم الوجود وجسرا بين الله والعالم ، ومن النفس الكلية صدرت النفوس الجزئية باعتبار أن لكل اسم إلهي تعينا أي شخصا.

فالفتق تفتق الحق ، أي خروج ما فيه من علوم وقوى وإمكانات ، والمعقولات هي ما سميت في الآية السموات باعتبار السماء لطيفة شفافة ، والأعيان هي ما سميت الأرض باعتبار الأرض العالم الكثيف ، والماء أصل الوجود كله فهو الروح ، ولهذا جاء في الآية أن من الماء جعل الله كل شيء حي ، ونجد مثلا لهذا في كل كائن حي حيث يكون الروح سبب حياته وبخروج الروح يموت الحي ، ولأن الروح ممثل اسمه تعالى الحي فلقد قالت الصوفية فيه ما قالت من حيث كونه محل الأمر والفعل ، وأنشدت الشعراء شعرهم في الروح كما فعل ابن الفارض وابن عربي وعبد الغني النابلسي ، وسنعود إلى الحديث عن هذا الروح وكونه صاحب الأمر والفعل لدى الحديث عن الوصول إلى الجمع وعين الجمع بعد الإسراء بالنفس إلى عالم الروح.

٣١ ـ (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١))

[الأنبياء : ٣١]

الرواسي إشارة إلى العقائد ، فالثبات هو لصاحب العقيدة في الأرض ، والمؤمنون عامة ، والموحدون بخاصة ، قائمون على أرضية صلبة من إيمانهم وتوحيدهم ، فالعقيدة المرفأ الذي يؤوي السفن من العواصف ، ونور العقيدة مصباح المنارة المنير يهدي السفن في ظلمات البحر إلى حيث الأمن والراحة. والفجاج المسالك التي هي السبل إلى معرفة الله ، فهي الكشف اليقيني الذي يضيء القلب فيعرف الحقيقة ويرى الله عيانا ظاهرا في وجوده الأعم.

٣٢ ـ (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢))

[الأنبياء : ٣٢]

السقف المحفوظ إشارة إلى اسمه تعالى الحافظ الذي يحفظ القلب من الوسوسة وخواطر السوء ، ومن شعب الاسم الحافظ العفة التي تحفظ القلب من نار الشهوات ، ولا حافظ للقلب من هذه النار سوى الله ، فمن لم يحطه الله بسور العفة لا يعف ، والعفة تاج على رؤوس الأعفاء مثلما أن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء ، وكما أن تاج الصحة لا يراه إلا المرضى كذلك لا يرى تاج العفة إلا الفجار السادرون في شهواتهم ، فالإنسان خلق ضعيفا أمام الشهوات ، وليس له إلا الله حافظا ، اللهم اجعل قلبنا محفوظا بالعفة وطهرنا ، وأنت خير الحافظين.

٦١١

٣٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)) [الأنبياء : ٣٣]

عالما الروح والمادة ، وعبر عنهما في الفلسفة بالفكر والامتداد ، أو الذات والموضوع ، ولله جميعا هذان العالمان ، فهو مولج الليل في النهار ، ومولج النهار في الليل ... فتلج أنواره في ظلمات المادة فإذا هي قمر يشع ليلة بدر التمام قد عكس سنا ضياء شمس الذات البهية ، سبحانه لا يخرج عليه شيء ، خلق الوجود المقيد ليظهر المطلق ، وخلق قلب الإنسان ليسع أنوار الوجود المطلق ، فسبحان من ظهر لنفسه بنفسه وفي قلوب خلقه.

٣٤ ـ (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤))

[الأنبياء : ٣٤]

البشر بنو آدم ، وآدم من تراب ، فالبشرية صيرورة المادة وتطورها الدائم وحركتها اللولبية الصاعدة الهابطة الداخلة الخارجة التي ليس لها إلا الأمد الإلهي ، فكم ضمت الأجداث أجسادا ، وكم تحول الجسد إلى تراب ، حتى قال أبو العلاء خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.

وظاهر النبي بشري ، فبشريته تعينه وجسمه الذي يبدأ رحلة الموت من ساعة الميلاد ، فحياة الإنسان رحلة في قطار منطلقا من المحطة أإلى المحطة ب حاملا المتشخصات من المعقولات مستعينا بهذه الحسيات على تفكيك المعقولات لإخراج المكنونات المألوهات.

٣٥ ، ٣٩ ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩))

[الأنبياء : ٣٥ ، ٣٩]

الشر والخير لله جميعا ، وقدم الله الشر على الخير في القول باعتبار الشر الطريق إلى كشف الخير ومعرفته ، ومن هذا المنطلق ، وعلى هذا الأساس نزلت ديانات التوحيد رافعة شعار التوحيد وهو لا إله إلا الله ، ولكم حاولت المذاهب السابقة والفلاسفة القدامى أن يجدوا تفسيرا لظاهرة الخير والشر الوجوديتين ، حتى جعلت الثنوية الفارسية للنور إلها وللظلام إلها ، ولكن أديان التوحيد ، وآخرها الإسلام ، رفعت شعار التوحيد ردا على تساؤلات الإنسان عن سبب وجود الشر وممارساته فلا خير بلا شر ، ومن دون الشر لا يعرف الخير ، والخير والشر فتنة كما ورد في الآية ، لأنه إذا توقف الخير أمام حاجز الأنا وقال أنا الخير ، أنا الصائم المصلي المزكي ، ضاع من ثم في صحراء الأنا ، وغرق في يم الأنا ، فلا يعرف لمن الأنا ، ومن هي الأنا الخالصة من كل تعين.

٦١٢

٤٠ ـ (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠)) [الأنبياء : ٤٠]

الخبر الوارد في الآية كشفي ، إذ يفيد ما سيقع في المستقبل ، والمستقبل وأحداثه في علم الله الأزلي ، والنار هنا نار الوجود نفسه ، والإنسان يشعر بأنه موجود ، ويعيش هذا الشعور منذ ساعة مولده ، ثم يتطور الشعور إلى وعي ، ثم يتفتق الوعي نفسه ولهذا قال ديكارت : أنا أفكر إذن أنا موجود.

والوجود سابق على الفكر ، وسبق أن شرحنا هذا في كتابنا الإنسان الكبير مبينين أن المجنون موجود ، والخرف موجود ، والحيوان موجود ، والنبات موجود ، فللوجود الأسبقية ، ولما خلق الإنسان من العدم فالعدم أصله ، واكتسابه الوجود خلعة خلعها الوجود الحق عليه ، ولهذا فرقت الصوفية بين الوجود والموجود ، فالوجود الأصل والموجود التلبس بالوجود ، والكافر الذي يحيا وجوده ويشعر به هو كالسارق قد أخذ ما ليس له ، وادعى ما ليس ملكه ، وفي الكشف ، سواء أكان كشف العارفين ، أو الكشف الذي يحدث ساعة الموت ، يرى الإنسان كيف أن وجوده لباس له ، وأنه في الكشف عار من هذا اللباس ، وأن الله استعاد عاريته التي هي الوجود الحق ، ولهذا جاء في الآية التاسعة والثلاثين أن النار تأتي الكافرين من وجوههم ومن ظهورهم ، والوجه حقيقة الإنسان ، والظهر ظهوره وتعينه ، وعند ما يكاشف الإنسان بهذه الحقيقة يبهت ، ولا يستطيع رد ما يرى ، وكيف يرد ما يرى ، وما يراه ليس إلا حقيقته نفسها وقد انفصلت عنه ، وردت إلى الله صاحب العارية؟

٤١ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١))

[الأنبياء : ٤١]

الإحاقة إحاقة الاسم بالموجود المسمى ، ولهذا جاءت الإحاقة بمعنى نزلت والاسم نازل بصاحبه علم هذا أم جهل ، والكافر محكوم منذ نفخ فيه ، كذا قال عليه‌السلام في الغلام الذي قتله العبد الصالح ، ولهذا لما حزن رسول الله على الذين لم يستجيبوا لدعوته ، ومنهم عمه أبو طالب ، كان جوابه تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] ، وقال : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩].

٤٢ ، ٤٣ ـ (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣))

[الأنبياء : ٤٢ ، ٤٣]

في الآية لطيفة ألا وهي كون العذاب النار هو من الله ، وكنا قد ذكرنا أن الاسم هو

٦١٣

السبب والمسبب بإذن الرحمن ، فالرحمن هو المبعد المقرب ، ولما كان الإنسان تعين اسمه ، سماعا لخاطره ، كان بالتالي غافلا عن حقيقة أن الله من وراء كل شيء محيط ، وأنه أحاط بالكافرين خبرا ، وأبعدهم قسرا وأزلا تحقيقا لقصد إلهي تحقق في الصراع والتناقض.

٤٤ ـ (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤))

[الأنبياء : ٤٤]

الأرض بمثابة البدن ، وإنقاصها من أطرافها إحاطتها بالروح الكلي الفاعل الذي إن تجلى جعل جبل البدن دكا ، وخر صاحبه صعقا ، كما حدث لموسى لما تجلى ربه للجبل.

٤٥ ـ (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥))

[الأنبياء : ٤٥]

ذكرنا أن الوحي درجات تبدأ بالضمير ، وعلى المستوى النفسي ليس ثمة من موح إلا الله كما قال سبحانه ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها.

وقوله : (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ ،) يعني أن الكافر لا يسمع صوت الهدى وإن تردد في سمعه عن طريق خواطره ، والسبب أن الإنسان كما قلنا عبد اسمه ، حبيس أبوابه المغاليق ، فقلب الكافر يميل إلى صوت الكفر وحديثه وأصحابه ، ولهذا قال الشاعر إن الطيور على أشكالها تقع.

٤٦ ـ (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦))

[الأنبياء : ٤٦]

خلق الإنسان ضعيفا ، وما دام أصله ذرا ، وأصله الروح ، والفاعل فيه وبه الروح ، كانت أصغر مصيبة تصيبه تجعله يرجع مباشرة إلى الروح فيه فيستغيث ويستنجد ، ويعلم أنه كان ظالما بإعراضه عن سماع الضمير.

٤٧ ـ (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧))

[الأنبياء : ٤٧]

الموازين الأعيان الثابتة ، وهي الجسر بين الحق والخلق ، فهي المعقولات التي لا هي موجودة ولا هي مفقودة ، والتي ما كانت لتوجد لو لا وجود الإنسان ، وهذا هو السبب الذي من أجله طلب الله إلى الملائكة السجود لآدم ، لأن الملائكة تمثل المعقولات الخالصة من غير تعين.

٦١٤

فهي في نظر الفلاسفة موجودة بالقوة لا بالفعل ، في حين أن الإنسان الكامل هو الذي يجعل ما هو موجود بالقوة موجودا بالفعل ، يقول أرسطو : الجوهر سابق على ما عداه من المقولات ، لأن الجواهر توجد مفارقة ، بينما الكيفيات لا توجد إلا بوصفها كيفيات لجواهر ، وآدم ممثل النوع الإنساني هو مجموع الكيفيات التي لا بد لها من كم لتظهر ، ولهذا فضل آدم على ملائكته المعقولات لأنها به تظهر وتعلم.

وقوله : (الْقِسْطَ) يعني كون المعقول مشحونا بكيف محدد ، ولهذا قال النبي في نسم آدم الموجودين عن يمينه في الأزل ، ونسمه الموجودين عن شماله ، فالموازين القسط اتخاذ المعقولات أشكالا وأنماطا محددة في ميدان الوجود الكلي ، وهذا ما عبر عنه سبحانه بقوله في موضع آخر : (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) [يونس : ٦٤].

وقوله : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) يعني أن النفس لا تطالب بغير ما شحنت به من معقول ، وهذا عدل إلهي يقتضي أن يكون أصحاب الجنة في الجنة وأصحاب النار في النار أزلا ... وشرح ابن عربي جوهر هذا العدل قائلا في عذاب أهل النار إنه يسمى عذابا من عذوبته ، أي أن أصحاب النار يستعذبون النار لأنهم من جنسها وطبيعتها ، وقال عليه‌السلام الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.

وقوله : (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها ،) يعني الإحاطة ، وهذا طبيعي ما دامت الأسماء في القبضة ، مشعة عن القبضة ، والقبضة الروح والعقل والعاقل والمعقول جميعا.

وقوله : (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : الأية ٤٧] إشارة إلى العدد ، وأساس العدد الواحد ، ثم التسعة المنبثقة عن الواحد ، وكنا أشرنا إليها من قبل ، ثم التسعة والتسعون اسما التي إن أحصاها الإنسان دخل الجنة كما جاء في الحديث ، والمهم القول إن الله هو الحاسب ، لأنه هو أصل الواحد ومنه يشتق العدد بدءا من الاثنين كما جاء في الرياضيات ، وكونه سبحانه حاسبا يعني أنه محيط ، وهذا بدهي لأنه هو الأول باعتبار الواحد ، وهو الآخر باعتبار مالا نهاية له من الأعداد.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨))

[الأنبياء : ٤٨]

موسى وهارون إشارة إلى علمي الشريعة والحقيقة ، وكليهما يؤتى الإنسان الكامل ، ولهذا ورد في الآية ذكر الفرقان الذي هو فرق القرآن ، أو الفرق الثاني كما تقول الصوفية ، وفيه يعود الإنسان من عين الجمع ليباشر الدعوة إلى التوحيد ، وهو الضياء الذي ذكر في الآية وفيه يتقي

٦١٥

الإنسان ربه حق تقاته.

٤٩ ، ٥٠ ـ (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

[الأنبياء : ٤٩ ، ٥٠]

كنا قد تحدثنا عن الساعة ، وقلنا إن للمكاشف ساعته ، وهي هنا الساعة التي عاشها موسى بعد أن لقي العبد الصالح بمجمع البحرين فعلمه ما لم يكن يعلم ، وعلم أن ساعته جاءت ، وقيامته ، لما رأى الله عيانا في الوجود الظاهر ، وبعد أن تدكدك جبل جسمه وأنيته فإذا الله أمامه ، وإذا هو صورة الله وخليفته.

٥١ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١))

[الأنبياء : ٥١]

إبراهيم إشارة إلى مقام الكمال الذي يصل إليه السالك العارج في سماء المعاني حتى يصل شجرة المعاني الجامعة ، وهو مقام خص به إبراهيم ، ولهذا كان مقامه إلى جانب البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من ملائكة المعقولات فلا يعودون إليه.

٥٢ ـ (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢))

[الأنبياء : ٥٢]

عودة المحقق الكامل إلى الناس لينبههم على التماثيل التي يعبدون ، وعلى رأسها أناهم ثم صور الناس من حولهم ، والتماثيل المعنوية لله كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إن في الجنة سوقا ما فيه بيع ولا شراء إلا الصور من الرجال والنساء ، فإذا اشتهى الإنسان صورة دخل فيه).

ومن هنا انطلقت الصوفية في الحديث عن الله الضار النافع ، الخافض الرافع ، علما أن للاسم أداته من التعين أي الإنسان الجزئي الظاهر ليمارس نشاطه به ومنه ومن خلاله.

٥٣ ، ٥٦ ـ (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦))

[الأنبياء : ٥٣ ، ٥٦]

اعتاد الإنسان عبادة الصور الظاهرة لأنه لا يرى من حوله غيرها ، وإذا سألت كافرا لم لا يؤمن بالله ، سألك بدوره وأين الله حتى أؤمن؟ أي أن الكافر لا يؤمن إلا برؤية الصور المحسوسة ، والله سبحانه لا يحّد بصورة ولا بزمان ومكان حتى يرى كما يرى البشر ، ولهذا اخترع الإنسان عبادة الأوثان والأصنام ، إذ الصنم صورة محسوسة ظاهرة تلمس وترى ، وإن كان لا يضر ولا ينفع ، ولذلك استمر الحوار بين إبراهيم وأبيه وقومه حول عبادة التماثيل وحول الله رب هذه التماثيل وغيرها من الصور الظاهرة.

٦١٦

٥٧ ، ٦٨ ـ (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨))

[الأنبياء : ٥٧ ، ٦٨]

تحطيم إبراهيم عليه‌السلام للأصنام هو نتيجة إيمانه التوحيدي الذي أراه كشفا أن الله حقيقة هذه الأصنام والتماثيل ، وإلا فما الصنم حتى يعبد وهو حجر منحوت؟ ولقد ترك إبراهيم كبير التماثيل سليما ، وعلق الفأس التي حطم بها التماثيل الأخرى بعنقه ، وكانت وجهة نظره قوله : (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ...) والمعنى أنك إن تفكرت في حقيقة الصورة ، حتى صورتك أنت ، وجدت نفسك في متاهة ، وعلى حافة بئر مثل البئر التي ألقى فيها يوسف ، وأمام كهف مثل الكهف الذي أوى إليه الفتية المؤمنون ، والمغزى أن الإنسان يجهل نفسه ، وهو أجهل المخلوقات بنفسه ، فما نفس الإنسان وما حقيقتها ، وكيف تقول أنا ، وأنت تجهل من أنت؟ وكيف يقول الماديون أنا ، والوعي عندهم ليس إلا نتيجة تصادم جزئيات الخلايا العصبية في الدماغ فينتج الوعي؟

ولهذا لما سأل قوم إبراهيم من حطم آلهتهم قال : إنه كبيرهم ، ولما رجعوا إلى أنفسهم ، وفكروا في أنفسهم وفي ماهيتهم ، لم يستطيعوا أن يقولوا إن النفس فاعلة ، مثلما أن الماديين لا يؤمنون هم أنفسهم بوجود النفس مع أن في قولهم أنا وأنا دليلا على وجود النفس تجاهلوه.

والنتيجة أن التفكير في النفس وحقيقتها وماهيتها يوصل إلى رب النفس الذي هو حقيقتها وله ماهيتها أي صفتها ... هذا إذا كان المفكر من أصحاب التوفيق والهداية ، وإلا لبقي الإنسان كافرا بوجود الله محجوبا بالنفس كما حدث لقوم إبراهيم الذين لم تكتب لهم الهداية فظلوا كافرين ، وكان ردهم على إبراهيم أن حرقوه.

٦٩ ، ٧٧ ـ (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ

٦١٧

الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧))

[الأنبياء : ٦٩ ، ٧٧]

جاهد إبراهيم عليه‌السلام قومه وتماثيل العالم الظاهري حتى أتاه اليقين ، وكان جهاده فطرة فطره الله عليها حيث سبق أن قلنا إن الجهاد فريضة بل ضريبة من دونها لا يمكن فتق المعقولات وإخراج ما فيها من ضنائن ، والمجاهد حين يجاهد يكون قد حقق ما قاله العارف بالله أرسلان الدمشقي الإيمان خروجك عنهم ، ومع هذا فالمجاهد واقف مع أناه ، ومن دون هذا الوقوف لا يمكنه أن يجاهد ، فالمجاهد يقول أنا جاهدت ، أنا بذلت ، أنا ضحيت ، وهذا أمر بدهي مادام المجاهد مدعوا للجهاد من قبل الحق ، فالمجاهد اتخذ موقفا من العالم الخارجي وشطره شطرين ، أي أنه عرف بالجهاد من يجاهد ، وميز الخير من الشر ، والخبيث من الطيب ، والمؤمن من المنافق ، فكان هو مثال الخير والعدل والإيمان وهذا المقام هو الذي أشار إليه سبحانه قائلا : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤]. أما اليقين فهو كما عرفه أرسلان الدمشقي قائلا : اليقين خروجك عنك ، ففي هذا المقام يتحول المجاهد من مجاهدته العالم الخارجي ونفسه الأمارة إلى قلبه الذي ضاء فيه نور اليقين في فجر اليقين ، وهذا ما أشار إليه سبحانه في سورة النصر فقال : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١)) وقال الإمام الغزالي : لما أشرقت شمس الوصول على مصابيح الأصول تبين الحق لأرباب البصائر وأن كل إلى ما طبع عليه راجع وصائر.

وبعد ، فما اليقين؟ إنه التحول من الفكر ، أي العقل العادي ، إلى القلب أي الشعور والوجدان حيث الله حاضر هناك يدعو عبده إليه ، وعند ما يدخل العبد هذا المحراب معتكفا ، كما فعل زكريا وكما فعلت مريم عليه‌السلام ، فإن القلب ينار ، ونوره أصيل قديم عليم يعلم الإنسان ما لا يعلم.

وما الذي يتعلمه الإنسان من الوجدان؟ أولا يعلم أن لفكره فكرا آخر هو جوهر الفكر كما قال جلال الدين الرومي ... أي أنه يكشف وجود الروح فيه ، القائم بالأمر وبفعل كن ، وما يتعلمه أيضا أن هذا الروح هو المطاع في الوجودين الظاهري والباطني ، وذلك أن يطلع المكاشف كشفا وذوقا وسماعا عن طريق التكليم الذاتي أن لله الخير والشر ، وأنه ما خلق شيئا عبثا ، وأنه ما خلق الإيمان والكفر سدى ، وأنه ما جعل النفس الأمارة أمارة بلا جدوى. وأنه

٦١٨

لو لا هذا التضاد ما كان ثم داع للجهاد والمجاهدة ، وأنه لو لا الجهاد ما ميز المجاهد الخير من الشر كما قلنا ... أي أنه يكتشف أن التجربة الإنسانية سلسلة ذات حلقات كاملة متكاملة لا يمكن إسقاط حلقة منها ، وأنه بفضل هذا الصراع وصل الإنسان إلى ربه وإلى تعرف ربه عند ما تعرف إليه في النهاية ربه.

هذا المقام هو ما سمته الصوفية المكاشفة ، وكنا تحدثنا عنه من قبل ، ومنه ينتقل الإنسان المكاشف إلى المشاهدة بعد المرور بمرحلة التعليم اللدني وتعريفه استنباط المعقولات الإلهية من دون قياس منطقي ودليل منطقي ، ثم استنباط الحكم والأخلاق والشرائع من هذه المعقولات التي تأخذ في تعليم القلب عن طريق الرؤى في المنام ، وهذا المقام هو مقام النبوة ، وقال فيه عليه‌السلام الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ، وقال أيضا لم يبق من النبوة إلا الرؤيا الصالحة ، وقال علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ، فالرؤيا الصالحة تولي الله الإنسان بالتعليم. وقال الدكتور مصطفى حلمي إن كان صاحب المنام من الصوفية ، فهو عندئذ من الأولياء الذين كشف عنهم الحجاب ، وانفتح لهم من علم الغيب كل باب ، ورؤياه التي رآها في منامه ، وصدقت في يقظته إنما هي كرامة من كراماته ، وقال الدكتور حلمي أيضا يرى القشيري أن الرؤى مصدر من مصادر المعرفة ، وكان اهتمامه بالرؤى يدل على أن سمة من سمات تجربته الذاتية تمتد من حياته الروحية إلى بحوثه ، وتدعوه إلى الاهتمام بها والتعويل عليها.

والخلاصة أن الصوفية عموما يعتمدون اعتمادا كليا على الرؤى لأنها الطريق الوحيد إلى عالم الباطن أي عالم الروح والحقيقة ، ولهذا قلنا إن ميدان هذا العالم الشعور والوجدان لا العقل العادي أو الفكر.

٧٨ ، ٧٩ ـ (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩))

[الأنبياء : ٧٨ ، ٧٩]

داود وسليمان إشارة إلى حال النبي والعارف بعد العروج إلى سماء إبراهيم حيث البيت المعمور بملائكة المعقولات ، فلإبراهيم كل المعقولات وهو حر في التصرف فيها ، ولهذا كانت النار بردا وسلاما عليه ، والنبي أو العارف بعد الوصول إلى شمس الوصول ، كما قال الغزالي ، يجد نفسه في كل موقف أمام خيارين ، فهو من ناحية بشر من لحم ودم يعيش كما يعيش الناس ، لكنه يزيد عليهم في الوحي أو الكشف ، كما سئل السهروردي يوما أأنت أفضل

٦١٩

أم أبو علي بن سينا فقال ربما كنت مثله أو أفضل منه ، إلا أني أزيد عليه في الذوق والكشف.

ولقد ذكرنا ما حدث للنبي في قصة إبار النحل أي تلقيحه ، فالنبي عاش موقفا إنسانيا عاديا ، وقال قولا يحتمل الصحة كما يحتمل الغلط كما ورد في القصة ، وهذا ما حدث لداود حين قضى في حادث نفش القوم في الحرث أي الزرع فأكلته وأفسدته ، فقضى داود لصاحب الزرع أن يأخذ الغنم ، لكن ولده سليمان رأى رأيا آخر ، وما رآه سليمان هو أن ينتفع صاحب الزرع بدّر الغنم وصوفها ونسلها إلى أن يعود الزرع كما كان فيعيد الغنم من ثم إلى صاحبها ولما سمع داود بهذا القضاء قبله وأقره ، وقيل إنه رجع إلى ولده سليمان بوحي ، ولهذا التفسير لطيفة هي بيت القصيد من التوحيد ... وذلك أن النبي أو العارف يرجع إلى وحيه الذي هو الإلهام وقد رقى بصاحبه إلى مرتبة الخطاب والتكليم المباشرين ، وما يقوله الوحي هو القول الفصل ، وما يقوله هو الحكمة والصواب كما قال جلال الدين الرومي كل من يتلقى من الله الوحي والجواب يكون كل ما يأمر به عين الصواب ، ولهذا قلنا إن العلم اللدني يلهم صاحب العقيدة والشريعة والحكمة وقواعد الأخلاق.

فالنبي أو الولي له موقفان من القضايا ، موقف الإنسان العادي ، وقد يكون موقف فيلسوف من الفلاسفة أيضا ، ثم يكون له موقف الإنسان الكامل الذي يوحي إليه روحه الكلي ، وحين زار إبراهيم عليه‌السلام ولده إسماعيل بمكة طرق باب بيته ، فخرجت إليه امرأته ، فسألها عن إسماعيل ، فقالت إنه خارج البيت ، ولم تدعه للدخول ولم تقم بحق الضيافة ، فقال إبراهيم لها إذا عاد قولي له أن يبدل أسكفة داره ، فلما عاد إسماعيل ، وسمع قول أبيه ، علم أن أباه يريده أن يطلق امرأته فطلقها وتزوج غيرها ، فإبراهيم قضى بطلاق المرأة السوء ، وهي قاعدة إستنها إبراهيم باعتباره نبيا يوحى إليه ، في حين أن إسماعيل لم يكن قد وصل المقام الذي يوحى إليه فيه.

وفي الحديث : (إن أبغض الحلال إلى الله الطلاق) ، فالله يبغض الطلاق ، ولكنه يقره باعتباره حلا لبعض الحالات ومنها كون المرأة سيئة ، ولسوئها عواقب كما حدث لنوح لما طغى الماء ، فهرع ولده إلى الجبل ليعصمه من الماء فناداه نوح فلم يجبه ، فدعا نوح ربه فكان جواب الحق : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) [هود : ٤٦].

وثمة نكتة في الجواب ... ففي موضع آخر من القرآن جاء أن امرأة نوح كانت خائنة ، فخيانة امرأة نوح تمخضت عن ولادة ولد هو ليس من نسل نوح وهذا أمر لم يعلمه نوح ، وإليه أشار سبحانه بقوله : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود : ٤٦] أي أنه كان كافرا ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس) ، فالمرأة السوء قد تخون ، وقد تنتقل صفاتها أو بعضها إلى نسلها كما هو معلوم في علوم الصبغيات والجينات اليوم.

٦٢٠