التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

قال أبو هريرة : (إنها تخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان) (١) ، وعن ابن عمرو بن العاص أنه قال : (تكتب على وجه الكافر نكتة سوداء ، فتعثوا في وجهه حتى يسود وجهه ، وتكتب على وجه المؤمن نكتة بيضاء ، فتعثوا في وجهه حتى يبيض وجهه ، فتعرف المؤمن من الكافر عند ذلك) (٢). وعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أنه قال : (إذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذلك الوقت وقت أشراط الساعة وخروج الدابة) (٣).

قوله تعالى : (أَنَّ النَّاسَ ؛) قرأ أهل الكوفة ويعقوب (أَنَّ النَّاسَ) بفتح الألف على وجه الحكاية من قول الدابة وعلى معنى : أخرجنا الدابة بأن الناس (كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) (٨٢) ؛ وقرأ الباقون بالكسر على الابتداء.

وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [بئس الشعب جياد ـ مرتين أو ثلاثا ـ] قالوا : ولم ذلك يا رسول الله؟ قال : [تخرج منه الدابة ، فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين](٤).

وقال بعضهم : كنت مع ابن عباس بمكة ، فبينما هو على الصفا إذ قرع الصفا بعصاة وهو محرم وهو يقول : إن الدابة تسمع قرع عصاي هذه ، قال ابن عباس : (هي دابة ذات زغب وريش ، ولها أربعة قوائم) (٥).

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٢ ص ٢٩٥ مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والترمذي في الجامع : أبواب تفسير القرآن : الحديث (٣١٨٧). وابن ماجة في السنن : كتاب الفتن : الحديث (٤٠٦٦). والطبري في جامع البيان : الحديث (٢٠٦٢٤).

(٢) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٣٧٩ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد بن حميد).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٦١٦) عن عطية العوفي عن ابن عمر. وذكره القرطبي من قول أبي سعيد وابن عمرو في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٢٣٤.

(٤) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٧٠. وفي الدر المنثور : ج ٦ ص ٣٨٢ ؛ قال السيوطي :

(أخرجه ابن مردويه والبيهقي في البعث).

(٥) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٣٧٨ ؛ قال السيوطي : أخرجه عبد بن حميد.

٤١

وعن أبي هريرة قال : [تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، فيجلوا وجه المؤمن بالعصا ، وتحطم وجه الكافر بالخاتم](١) والمحاطم هي الأنوف ، واحدها محطم بكسر الطاء ، وعن حذيفة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [دابة الأرض طولها ستون ذراعا لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب](٢).

وعن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال : (رأسها رأس ثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مفصلين من مفاصلها اثنا عشر ذراعا ، معها عصا موسى وخاتم سليمان) (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [تخرج الدابة من الصفا ، فيبلغ صدرها الركن اليماني ، ولم يخرج ذنبها بعد ، وهي دابة ذات قوائم وبر](٤). وعن ابن عمر أنه قال : (تخرج الدابة من صدع في الصفا ، تجري كجري الفرس ثلاثة أيام ، وما خرج ثلثها) (٥).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [بينما عيسى عليه‌السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون ، إذ تضطرب الأرض تحتهم حتى يتحرك القنديل في المسجد ، وينشق الصفا مما يلي المسعى ، فتخرج الدابة ، فأول ما يبدأ منها رأسها ، ذات وبر ورأس لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب ، تسمي الناس مؤمنا وكافرا ، أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري ، وتكتب بين عينيه : مؤمن ، وأما الكافر فتكتب بين عينيه نكتة سوداء ، وتكتب بين عينيه : كافر](٦).

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٢ ص ٢٩٥ مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والترمذي في الجامع : أبواب تفسير القرآن : الحديث (٣١٨٧). وابن ماجة في السنن : كتاب الفتن : الحديث (٤٠٦٦). والطبري في جامع البيان : الحديث (٢٠٦٢٤).

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٢٣٥ ؛ قال القرطبي : (ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة ، وحكاه بطوله). وأخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٢٠٦٢٠) عن حذيفة ابن أسيد.

(٣) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٦٩.

(٤) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٣٨٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن مردويه والبيهقي في البعث).

(٥) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٦١٨).

(٦) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٢٠٦٢٣). والبغوي في معالم التنزيل : ص ٩٦٩.

٤٢

وعن الحسن : (أن موسى سأل ربه أن يريه الدابة ، فخرجت ثلاثة أيام ولياليهن تذهب في السماء ولم تخرج رجلاها ، فنظر منها منظرا فظيعا ؛ فقال : رب ردها ، فردها).

قوله تعالى : (تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) قال مقاتل : (تكلمهم بالعربية ، فتقول : إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ، تخبر أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن والبعث والثواب والعقاب) (١).

قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا ؛) الفوج : الجماعة من الناس كالزمرة والجماعة ، وإنما يحشر الرؤساء والمتبوعين ، والمعنى : يوم يجمع من كل أمة جماعة من المكذبين بالرسول ، وقوله تعالى : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) (٨٢) ؛ أي يحبسون ، يتلاحقون فيساقون إلى الموقف لإقامة الحجة عليهم. وقيل : يحشر أولهم على آخرهم ليجتمعوا ثم يساقوا إلى النار ، وقال ابن عباس : ((يُوزَعُونَ) أي يدفعون) (٢).

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً ؛) أي حتى إذا جاؤ إلى موقف الحساب ، قال الله لهم : (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي) استفهام بمعنى الإنكار عليهم ، والوعيد لهم ، قال ابن عباس : (معناه : أكذبتم أنبيائي وجحدتم فرائضي وحدودي) ولم تحيطوا بها علما ؛ أي ولم تخبروا حتى تفقهوا وتسمعوا. وقيل : معناه : (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) أنها باطل. والمعنى : أكذبتم بآياتي غير عالمين بها ولم تتفكروا في صحتها ، بل كذبتم بها جهلا بغير علم. وقوله تعالى : (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨٤) ؛ حين لم تبحثوا عنها ، ولم تتفكروا فيها ، وهذا توبيخ لهم وإن كان بلفظ السؤال.

قوله تعالى : (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا ؛) أي وجب العذاب عليهم بما أشركوا ، (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) (٨٥) ؛ بحجة عن أنفسهم ، بل يختم على أفواههم. ونظيره قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)(٣).

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٤٨٥.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٦٣٢).

(٣) المرسلات / ٣٥ ـ ٣٦.

٤٣

قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً ؛) أي مضيئا لطلب المعاش ، قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٨٦) ؛ أي إن فيما ذكرنا من اختلاف الليل والنهار لدلالات للمؤمنين والكافرين ، ولكنه خص المؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون بالذكر.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ؛) قال ابن عباس : (يعني النفخة الأولى ؛ وهي نفخة الصعق) (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ؛) أي ماتوا من شدة الخوف كقوله تعالى (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)(١) ، والمعنى : بلغ منهم الفزع إلى أن يموتوا.

وقوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ؛) قال ابن عباس : (يريد الشهداءو هم أحياء عند ربهم يرزقون ،) وقال الكلبي ومقاتل : (يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت). وقوله تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (٨٧) ؛ أي كل الخلائق يأتون إلى موضع الجزاء أذلاء صاغرين.

وأما النفخة الثانية فتسمى نفخة البعث ، وبينهما أربعون سنة. ويقال : ينفخ في الصور ثلاث نفخات ؛ الأولى : نفخة الفزع ، والثانية : نفخة الصعق وهو الموت ، والثالثة : نفخة القيام لرب العالمين.

وعن عبد الله بن عمر قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسأله عن الصور ، فقال : [هو قرن ينفخ فيه](٢). وقال مجاهد : (هو كهيئة البوق) (٣).

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لما فرغ الله من السماوات والأرض ، خلق الصور ، فأعطاه إسرافيل ، فهو واضعه على فيه شاخص يبصر نحو العرش ، ينظر متى يؤمر] قال : قلت يا رسول الله! وما الصور؟ قال : [هو قرن]

__________________

(١) الزمر / ٦٨.

(٢) رواه الإمام أحمد في المسند : ج ٢ ص ١٦٢. وأبو داود في السنن : كتاب السنة : الحديث (٤٧٤٢). والترمذي في الجامع : أبواب صفة القيامة الحديث (٢٤٣٠).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٦٣٥).

٤٤

قلت : كيف هو؟ قال : [عظيم ، والذي بعثني بالحق إن عظم دائرة فيه كعظم السماوات والأرض. فينفخ ثلاث نفخات ؛ النفخة الأولى نفخة الفزع ، والنفخة الثانية نفخة الصعق ، والنفخة الثالثة نفخة القيام لرب العالمين.

فيأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى ، فيقول له : انفخ نفخة الفزع ، فيفزع منها أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله ، ويأمره أن يمدها ويطيلها وهو الذي يقول الله (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ)(١) ، ويسير الله الجبال فتمر مر السحاب فتكون سرابا ، وترج الأرض بأهلها رجا ، فتكون كالسفينة الموثقة في البحر ، تضربها الأمواج وتلقيها الرياح ، وكالقنديل المعلق ترجه الرياح ، وهو قوله تعالى (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ)(٢) فتميد الأرض بالناس على ظهرها ، فتذهل المراضع ؛ وتضع الحوامل ؛ ويشيب الأطفال ، وتطير الشياطين هاربة من الفزع ، حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع ، وتولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا وهو قوله تعالى (يَوْمَ التَّنادِ ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ)(٣). فبينما هم كذلك ؛ إذ تصدعت الأرض ، وتصير السماء كالمهل ، وتنشق الأرض وتنشر نجومها وتكسف شمسها وقمرها. ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة الصعق ، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله](٤).

وقوله تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) ، قرأ الأعمش وحمزة وخلف (أَتَوْهُ) مقصورا على الفعل بمعنى جاؤه. وقرأ الباقون بالمد وضم التاء (٥) ، قوله تعالى : (داخِرِينَ) أي صاغرين.

قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ؛) أي تحسبها يا محمد واقفة مستقرة فكأنها وتظنها ساكنة لا تتحرك في رأي العين ، وهي

__________________

(١) ص / ١٥.

(٢) النازعات / ٦ ـ ٨.

(٣) غافر / ٣٢ ـ ٣٣.

(٤) أخرجه الطبري بطوله في جامع البيان : مج ١١ ص ٢٣ ـ ٢٤.

(٥) ينظر : الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ٢٤٦.

٤٥

تسير في الهواء سيرا سريعا ، وترى السفينة تحسبها واقفة وهي سائرة ، وقوله تعالى : (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض فتستوي بها.

قوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ؛) نصب على المصدر ؛ كأنه قال : صنع الله ذلك صنعا على الإتقان والإحكام. وقيل : على الإغراء ؛ أي أبصروا صنع الله الذي أتقن كل شيء ؛ أي أحكم وأبرم ما خلق. ومعنى الإتقان في اللغة : الإحكام للأشياء.

وقوله تعالى : (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) (٨٨) ؛ قرأ نافع وابن عامر والكوفيون بالتاء (١) ، والباقون بالياء ، والمعنى : إنه خبير بما يفعله أعداؤه من المعصية والكفر ، وبما يفعله أولياؤه من الطاعة.

قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ؛) معناه : من وا في عرصات القيامة بالحسنات ، فله ثواب آجر وأنفع منها. وقيل : معناه : من جاء بالإيمان. قال أبو معشر : (كان إبراهيم يحلف ما ينثني : أن الحسنة لا إله إلا الله) (٢). وقتادة : (الحسنة هي الإخلاص) (٣). والمعنى : من جاء بكلمة الإخلاص بشهادة أن لا إله إلا الله يوم القيامة ؛ أي من وا في يوم القيامة بالإيمان فله خير منها. قال ابن عباس : (فمنها يصل الخير إليه) (٤) أي له من تلك الحسنة خير يوم القيامة ، وهو الثواب والأمن من العذاب. و (خَيْرٌ) هاهنا اسم من غير تفضيل ؛ لأنه ليس خير من لا إله إلا الله ، ولكنه منها خير.

وقال بعضهم : دخلت على علي بن أبي طالب رضى الله عنه فقال لي : (ألا أنبؤك بالحسنة التي من جاء بها أدخله الله الجنة ، والسيئة التي من جاء بها أدخله الله النار ، ولم يقبل منه عملا؟) قلت : بلى ، قال : (الحسنة حبنا ، والسيئة بغضنا) (٥). ومعنى (خَيْرٌ مِنْها) : رضوان الله. وقيل : الأضعاف بعطية الله بالواحدة عشرا فصاعدا.

__________________

(١) في الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ٢٤٧ ؛ قال : (وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي : بالتاء) وقال : (فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بالياء).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٦٥١).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٦٥٥).

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٦٦٠).

(٥) لم أقف عليه.

٤٦

قوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) (٨٩) ؛ قرأ أهل الكوفة (فَزَعٍ) منونا بنصب الميم ، وقرأ الباقون بالإضافة ، واختاره أبو عبيد لأنه أعم ويكون شاملا لجميع فزع ذلك اليوم ، وإذا كان منونا كان الفزع دون فزع.

وقال أبو علي الفارسي : (إذا نون يجوز أن يكون الفزع واحدا ، ويجوز أن يعني به الكثرة لأنه مصدر ، والمصادر تدل على الكثرة وإن كانت مفردة الألفاظ كقوله سبحانه : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(١)) (٢). قال الكلبي : (إذا أطبقت النار على أهلها فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها أبدا ، وأهل الجنة آمنون من ذلك الفزع).

قوله تعالى : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ؛) أي من وا في بالشرك والكبائر (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي ألقوا على وجوههم في النار ، ويقول لهم خزنة جهنم : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٠) ؛ في الدنيا من الشرك.

قوله تعالى : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها ؛) أي قل يا محمد للمشركين : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) يعني مكة (الَّذِي حَرَّمَها) أي الذي حرم فيها ما أحل في غيرها من الاصطياد ؛ والاختلاء ؛ والقتل ؛ والسبي ؛ والظلم ، وأن لا يهاج فيها أحد حتى يخرج منها ، فلا يصاد صيدها ولا يختلى خلالها.

وقيل : معنى (حَرَّمَها) أي عظم حرمتها ، فجعل لها من الأمن ما لم يجعل لغيرها. وقوله تعالى : (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ؛) لأنّه خالقه ومالكه. وقرأ ابن عبّاس (الّتي (٣) حرّمها) أشار إلى البلدة.

__________________

(١) لقمان / ١٩.

(٢) قاله في الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٣) (التي) سقطت من المخطوط ، وضبطت كما في معاني القرآن وإعرابه للزجاج : ج ٤ ص ٩٨.

٤٧

وقوله تعالى : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩١) ؛ أي وأمرت أن أكون من المسلمين المخلصين لله بالتّوحيد ، (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ ؛) عليكم يا أهل مكّة ، يريد تلاوة الدّعوة إلى الإيمان. وفي الآية تعظيم لأمر الإسلام وتلاوة القرآن.

قوله تعالى : (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ؛) أي من اهتدى فإنّما منفعة اهتدائه راجعة إلى نفسه ، (وَمَنْ ضَلَّ ؛) أي ومن ضلّ عن الإيمان والقرآن وأخطأ طريق الهدى ، (فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٩٢) ؛ أي من المخوّفين ، فليس عليّ إلّا البلاغ ، فإنّي لم أؤمر بالإجبار على الهدى ، وليس عليّ إلّا الإنذار ، وكان هذا قبل الأمر بالقتال.

قوله تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ؛) أي قل الحمد لله على نعمه ، (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ ؛) يعني العذاب في الدّنيا ، والقتل ببدر ، (فَتَعْرِفُونَها ؛) حين تشاهدونها ، ثم أراهم ذلك ، وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وعجّلهم الله إلى النار ، (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣) ؛ من المنكر والكفر والفساد ، وهذا وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم.

وعن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : [من قرأ سورة النّمل كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من كذب وصدّق بموسى وهود وشعيب وصالح ولوط وإبراهيم واسحق ويعقوب وسليمان عليهم‌السلام ، وخرج من قبره وهو ينادي : لا إله إلّا الله](١).

آخر تفسير سورة (النمل) والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان : ج ٧ ص ١٨٨. وذكره الزمخشري في الكشاف : ج ٣ ص ٣٧٧ ، وإسناده واه.

٤٨

سورة القصص

سورة القصص مكّيّة إلّا آية واحدة (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) الآية ، فإنّها نزلت بالجحفة بين مكّة والمدينة ، وعدد حروف السّورة خمسة آلاف وثمانمائة حرف ، وألف وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة ، وثمان وثمانون آية.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : [من قرأ سورة القصص لم يبق ملك في السّموات والأرض إلّا شهد له يوم القيامة أنّه كان صادقا ، كلّ شيء هالك إلّا وجهه ، له الحكم وإليه ترجعون](١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢) ؛ قد تقدّم تفسيره ، وقوله تعالى : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ ؛) أي نقرأ عليك خبر موسى وفرعون بالصّدق بينهما ، (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢).

قوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ؛) أي تجبّر وتكبّر في أرض مصر (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً ؛) أي فرقا وأصنافا في الخدمة والتّسخير ؛ يكرم قوما ويذلّ آخرين. وقوله تعالى : (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ ؛) يعني بني إسرائيل ، ثم فسّر ذلك فقال : (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ ؛) يقتل الأبناء ويترك البنات فلا يقتلهنّ. وقيل : معناه : يذبح أبناءهم صغارا ويبقي نساءهم للخدمة.

__________________

(١) أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان : ج ٧ ص ٣٢٣. وذكره الزمخشري في الكشاف : ج ٣ ص ٤٢٣.

٤٩

وسبب ذلك : أنّ بعض الكهنة قالوا له : إنّ مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سببا لذهاب ملكك. قال الزجّاج : (والعجب من حمق فرعون إن كان ذلك الكاهن عنده صادقا فما ينفع القتل؟! وإن كان كاذبا فما معنى القتل؟) (١). وقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٤) ؛ يعني بالقتل والعمل بالمعاصي.

قوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ؛) أي نريد أن ننعم على الّذين استضعفوا في الأرض وهم بنو إسرائيل ، (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ؛) يقتدى بهم في الخير. قال قتادة : (ولاة وملوكا) ودليله قوله تعالى : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً)(٢)(وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (٥) ؛ لملك فرعون ، ولمساكن قومه ، يرثون ديارهم وأموالهم. قوله تعالى : (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ؛) أي يمكّنهم ما كان يملك فرعون.

قوله تعالى : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (٦) ؛ أي ما كانوا يخافونه من هذا المولود الذي به يذهب ملكهم على يديه ، وذلك أنّهم أخبروا أنّ هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل ، فكانوا على وجل منهم فأراهم الله تعالى (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) أي ما كانوا يخافون من جهتهم من ذهاب ملكهم على أيديهم.

وقرأ الأعمش وحمزة والكسائيّ وخلف : (ويري فرعون) بالياء وما بعده رفعا على أنّ الفعل لهم ، وقرأ الباقون بالنّون مضمومة وما بعده نصب بوقوع الفعل عليهم.

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ ؛) لم يرد بالوحي وحي الرّسالة ، وإنّما أراد الإلهام كما في قوله تعالى (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)(٣). ويقال : أراها الله في المنام فعرفته بتفسير الرّؤيا. وقال بعضهم : أتاها ملائكة خاطبوها بهذا الكلام. واسم أمّ موسى نوخابد بنت لاوي بن يعقوب.

__________________

(١) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٩٩.

(٢) المائدة / ٢٠.

(٣) النحل / ٦٨.

٥٠

قال وهب بن منبه : (لمّا حملت أمّ موسى بموسى كتمت أمرها عن (١) جميع النّاس فلم يطّلع على حملها أحد من خلق الله تعالى ، فلما كانت السّنة التي ولد فيها موسى بعث فرعون القوابل يفتّشن النساء ، وحملت أمّ موسى ولم ينتأ بطنها ، ولم يتغيّر لونها ، ولم يظهر لبنها ، وكانت القوابل لا تتعرض لها ، فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته أمّه ولا رقيب عليها ولا قابلة ، لم يطّلع عليه أحد إلّا أخته) (٢).

ثم أوحى الله إليها : أن أرضعيه ، (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ؛) قال : فكتمته ثلاثة أشهر ترضعه في حجرها لا يبكي ولا يتحرك ، فلما خافت عليه عملت له تابوتا مطبقا ومهدت له فيه ، ثم ألقته في البحر ليلا كما أمرها الله ، فلما أصبح فرعون جلس في مجلسه على شاطئ النّيل ، فبصر بالتابوت ، فقال لمن حوله : ائتوني بهذا التابوت ، فأتوا به ، فلما وضع بين يديه فتحوه ، فوجدوا فيه موسى ، فلما نظر إليه فرعون إغتاظ وقال : كيف أخطأ هذا الغلام الذبح؟!

وكان لفرعون امرأة يقال لها آسية من خيار النّساء من بنات الأنبياء ، وكانت أمّا للمسلمين ترحمهم وتتصدّق عليهم ، فقالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه : هذا الولد أكبر من ولد سنة وأنت إنّما أمرت أن تذبح الولدان بهذه السّنة ، فدعه يكون قرّة عين لي ولك ، لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتّخذه ولدا ، فقال فرعون لها : عسى أن ينفعك ، فأما أنا فلا أريد نفعه.

قال وهب : (لو قال فرعون كما قالت امرأته : عسى أن ينفعنا ؛ لنفعه الله به ، ولكنه أبى أن يقول للشّقاء الذي كتبه الله عليه ، فتركه فرعون ولم يقتله) (٣).

__________________

(١) في المخطوط : (وكلمته من) ، والصحيح كما أثبتناه ؛ لأنه تصحيف من الناسخ.

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٧٣.

(٣) نقله ابن عطية في المحرر الوجيز : ص ٩٧٤ من قول ابن عباس. ونقل الطبري هذا التفسير في جامع البيان : الحديث (٢٠٦٩٧) : عن السدي وقتادة وابن عباس ، وقال : (فقال رسول الله : [والّذي يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرّة عين كما أقرّت ، لهداه الله به كما هدى به امرأته ، ولكنّ الله حرمه ذلك]).

٥١

قوله تعالى : (أَنْ أَرْضِعِيهِ) أي أرضعيه ما لم تخافي عليه الطلب ، فإذا خفت عليه الطلب (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) أي في البحر ، فقالت : يا رب ؛ إنّي أخاف عليه حيتان البحر ، فأمرت أن تجعله في تابوت مقيّر ، فذهبت إلى النّجّار ، فأمرته أن يصنع لها تابوتا على قدره ، فعرف ذلك فذهب إلى الموكّلين بذبح بني إسرائيل ليخبرهم بذلك ، فلما انتهى إليهم أعقل لسانه فلم يطق الكلام ، فجعل يشير بيده فلم يفهموا ، فقال كبيرهم : اضربوه ؛ فضربوه وأخرجوه ، فلما انتهى النجّار إلى موضعه ردّ الله عليه لسانه ، فرجع إليهم ليخبرهم فاعتقل لسانه ، فجعل يشير إليهم بيده ، فلم يفهموه فضربوه ، ففعل ذلك ثلاث مرّات ، فعرف أنه من عند الله تعالى ، فخرّ لله ساجدا وأسلم ، ثم صنع التابوت وسلّمه إلى أمّ موسى فوضعته فيه وألقته في النّيل.

قوله تعالى : (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي ؛) أي لا تخافي من الغرق والهلاك ، ولا تحزني لفراقه ، (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٧) ؛ إلى فرعون وقومه.

قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ؛) قال ابن عبّاس : (لمّا ألقته أمّه في البحر أقبل تهوي به الأمواج حتّى اختار منزل فرعون ، فخرجت جواري فرعون تسقين الماء ، فأبصرت التّابوت بين الشّجر والماء فأخرجته وذهبت به إلى امرأة فرعون ، فذلك قوله تعالى (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ).

وقوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ؛) هذه (لام) العاقبة لأنّ أحدا لا يلتقط الولد ليكون له عدوّا ، ونظير هذا قولهم : لدّوا للموت وابنوا للخراب. وقوله تعالى (وَحَزَناً) قرأ أهل الكوفة إلّا عاصما بضمّ الحاء وجزم الزّاي وهما لغتان ، مثل السّقم والسّقم.

قوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) (٨) ؛ أي متعمّدين في الإقامة على الكفر والمعصية ، يقال : خطأ فلان يخطئ خطأ إذا تعمّد الذنب وأخطأ إذا وقع منه على غير الصّواب ، وقيل : معناه : إنّ فرعون وهامان وجنودهما كانوا آثمين عاصين.

٥٢

قوله تعالى : (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ؛) وذلك أنّ فرعون همّ بقتله ، فقالت له امرأته : ليس من أولاد بني إسرائيل ، وقد أتانا الله به من أرض أخرى ، (لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) ، فلا تقتله أيّها الملك ، فهو قرّة عين لي ولك ، وعسى أن ينفعنا في أمورنا ، (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٩) ؛ أنّ هلاكهم على يديه ، وقيل : وهم لا يشعرون أنّي أفعل ما أريد ولا أفعل ما يهوون.

قوله تعالى : (قُرَّتُ عَيْنٍ) مشتقّ من القرور ؛ وهو الماء البارد ، ومعنى قولهم : أقرّ الله عينك ؛ أي أبرده معك ؛ لأن دمعة السّرور باردة ، ودمعة الحزن حارّة.

قوله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً ؛) أي أصبح قلب أمّ موسى وهي نوخابد بنت لاوي بن يعقوب فارغا من كلّ شيء إلّا عن همّ موسى وذكره. قوله تعالى : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها ؛) أي لو لا أن شددنا على قلبها بالصبر عن إظهار ذلك ، (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠) ؛ أي من المصدّقين بما سبق من الوعد ، وهو قوله تعالى : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) ولو أظهرت لكان ذلك سببا لقتله.

والرّبط على القلب : هو إلهام الصّبر وتقويته. وقيل : معناه : وأصبح فؤاد أمّ موسى فارغا من الصّبر على فراق موسى لو لا أن ربطنا على قلبها لأبدت به. وقيل : فارغا من الحزن لعلمها بأنه لم يعرفه. قرأ فضالة بن عبيد (١) (وأصبح فؤاد أمّ موسى فزعا) بالزّاي والعين من غير ألف من الفزع (٢).

قوله تعالى : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ؛) أي قالت أمّ موسى لأخته ـ واسمها مريم ـ : ابتغي أثره وانظري أين وقع ؛ لتعلمي خبره وإلى من صار ، فذهبت في إثر التّابوت ، (فَبَصُرَتْ بِهِ ؛) بموسى ، (عَنْ جُنُبٍ ؛) أي عن بعد قد

__________________

(١) فضالة بن عبيد بن ناقد ، أبو محمد الأنصاري ، شهد أحدا وما بعدها رضى الله عنه ، روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن عمر ، وأبي الدرداء وجماعة من الصحابة. مات سنة ثلاث وخمسين من الهجرة ، وقيل ، سنة سبع وستين ، والأول أصح. ترجم له ابن حجر في التهذيب : الرقم (٥٥٨٣).

(٢) ذكره الطبري في جامع البيان : مج ١١ ج ٢٥ ص ٤٦ ؛ قال : (وقد ذكر ...) وذكره بلفظ (فازعا). وينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٢٥٥.

٥٣

أخذوه ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١١) ؛ أنّها قد جاءت لتعرف عن خبره.

وقال ابن عبّاس : (الجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى الشّيء البعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به) (١) وكانت مجانبة لتحديق النّظر إليه كيلا يعلم بما قصدت به. وقال قتادة : (كانت تنظر إليه كأنّها لا تريده) (٢) ، وكان يقرأ (عن جنب) بفتح الجيم وسكون النّون. وقرأ النّعمان بن سالم (٣) : (عن جانب) أي عن ناحية (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنّها أخته.

قوله تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ ؛) المراضع جمع مرضعة ، وقوله تعالى : (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل مجيء أمّه ، ومعنى : (حرّمنا عليه) أي منعناه ، وقد يذكر التحريم بمعنى المنع. قال الشاعر :

جاءت لسرعتي فقلت لها اصبري

إنّي امرؤ صرعي عليك حرام (٤)

أي ممتنع.

وذلك أنّ الله تعالى أراد أن يردّه إلى أمّه ، فمنعه من قبول ثدي المراضع ، فلما تعذر عليهم رضاعه ؛ (فَقالَتْ) أخته : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ ؛) أي يضمنون لكم القيام به ورضاعه ، (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) (١٢) ؛ أي يشفقون عليه وينصحونه ، قالوا لها : من؟ قالت : أمّي ، قالوا : ولأمّك لبن؟ قالت : نعم ؛ لبن أخي هارون ، وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها صبيّ ، فقالوا : صدقت. فدلّتهم على أمّ موسى ، فدفع إليها لتربيه لهم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٧٢٦).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٧٢٨). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٦٧٢٦).

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٢٥٧.

(٤) نقله القرطبي بلفظ :

جالت لتصرعني فقلت اقصري

إنّي امرؤ صرعي عليك حرام

يصف حال ناقته ، وجالت : اضطربت وقلقت ، فهو يقول : ذهبت الناقة بقلقها ونشاطها لتصرعني فلم تقدر على ذلك لحذقي بالركوب ومعرفتي به.

٥٤

فلما وجد الصبيّ ريح أمّه قبل ثدييها وأتمّها الله ما وعدها وهو قوله تعالى : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ ؛) على فراقه ، (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ ؛) بردّ ولدها إليها ، (حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣) أنّ الله وعدها بردّ ولدها إليها.

قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى ؛) قال مجاهد : ((بَلَغَ أَشُدَّهُ) ؛ أي ثلاثا وثلاثين سنة) ، (وَاسْتَوى) أي بلغ أربعين سنة (١) ، وهو قول ابن عبّاس وقتادة (٢).

قوله تعالى : (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) يعني الفقه والعقل والعلم في دينه ودين آبائه ، قد تعلّم موسى وحكم قبل أن يبعث نبيّا. وقال ابن عبّاس : (لمّا بلغ موسى أربعين سنة آتاه الله النّبوّة). وقيل : الأشدّ : منتهى الشّباب والقوّة ، والاستواء : إتمام الخلق واعتدال الجسم في الطّول والعظم ، وإنّما يبلغ المرء هذا الحدّ في اثنين وعشرين سنة إلى أربعين سنة.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١٤) ؛ فيه بيان أنّ إنشاء العلم والحكمة يجوز أن يكون على الإحسان ؛ لأنّهما يؤدّيان إلى الجنّة التي هي جزاء المحسنين.

قوله تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ ؛) أي دخل موسى مدينة فرعون وهي مدينة يقال لها منف ، وكانت من مصر على فرسخين (٣). وقوله تعالى : (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) ، قال ابن عبّاس : (في وقت الظّهيرة عند المقيل وقد خلت الطّرق) (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٧٤٠). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ٩ ص ٢٩٥١ : الأثر (١٦٧٤٣ ـ ١٦٧٤٤).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٧٤٠). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ٩ ص ٢٩٥١. الأثر (١٦٧٤٣ و١٦٧٤٤).

(٣) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٢٥٩ ، نقله القرطبي عن مقاتل.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٧٤٩).

٥٥

وقيل : دخلها بين المغرب والعشاء ، وقيل : دخلها يوم عيدهم وكانوا مشغولين عن موضع مدينتهم باللهو واللّعب ، (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ ؛) أي من بني إسرائيل ، (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ؛) أي من القبط ، وكان القبطيّ يسخّر الإسرائيليّ ليحمل له حطبا إلى مطبخ فرعون ، والإسرائيليّ يأبى ذلك ، (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ ؛) أي استنصره الإسرائيليّ ، (عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) ، على القبطيّ ، (فَوَكَزَهُ مُوسى ؛) أي ضربه بجمع كفّه في صدره ، (فَقَضى عَلَيْهِ ؛) أي قتله فوقع القبطيّ ميّتا. وكلّ شيء فرغت منه وأتممته فقد قضيت عليه وقضيته ، والوكز : الضّرب بجمع الكفّ.

وكان موسى عليه‌السلام قد أوتي بسطة في الخلق وشدّة القوة والبطش ، وكان من نيّة موسى أنه لا يريد قتله ولم يتعمّد هلاكه ، بل قال له أوّلا : خلّ سبيله ، فقال : إنّما أريده ليحمل الحطب إلى مطبخ فرعون ، (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) أي قتله وفرغ من أمره ، والوكز واللّكز والهز بمعنى واحد وهو الدّفع ، ويقال : وكزه بعصاه.

فلمّا قتله موسى عليه‌السلام ندم على قتله وقال : لم أدر بهذا ، ثم دفعه في الرّمل ، (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ؛) لأنّي كنت لا أريد قتله ، ولكن هيّج الشيطان حربي حتى ضربته. قوله تعالى : (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (١٥) ؛ أي عدوّ لبني آدم مضلّ له مبين عداوته لهم.

ثم استغفر موسى ربّه ف (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ؛) بقتل القبطي قبل ورود الأمر والإذن لي فيه ، (فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١٦) قوله تعالى : (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (١٧) ؛ أي بما أنعمت عليّ بالمغفرة والحلم والعلم فلن أكون عونا للكافرين ، وهذا يدلّ على أنّ الإسرائيليّ الذي أعانه موسى كان كافرا.

قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ ؛) أي أصبح من عند ذلك اليوم في تلك المدينة التي فعل فيها ما فعل خائفا على نفسه من فرعون وقومه (يَتَرَقَّبُ) أي ينظر عاقبة أمره ، والتّرقّب : انتظار المكروه ؛ أي ينتظر سوءا يناله منهم ، (فَإِذَا ؛) ذلك الإسرائيليّ ، (الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ؛) أي يستغيثه

٥٦

على رجل آخر من القبط ، (قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) (١٨) ؛ أي ضالّ عن طريق الحقّ بيّن الجدال ، يقاتل من يقاومه ، وقد قتلت أمس في سببك رجلا ، وتدعوني اليوم إلى آخر.

ثم أقبل موسى وهمّ أن يبطش الثانية بالقبطيّ ، ظنّ الإسرائيليّ أنه يريد أن يبطش به لقوله (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) فقال الإسرائيليّ : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ ولم يكن أحد من قوم فرعون علم أنّ موسى هو الذي قتل القبطيّ حتى أفشى عليه هذا الإسرائيليّ ، وسمع القبطيّ ذلك فأتى فرعون فأخبره ، وذلك معنى قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ؛) وكان أيضا هذا القبطيّ الثاني سخّر الإسرائيليّ يحمل عليه حطبا.

قوله تعالى : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ ؛) أي ما تريد إلّا أن تكون قتّالا في أرض مصر بالظّلم. قال الزجّاج : (الجبّار في اللّغة : الّذي لا يتواضع لأمر الله ، والقاتل بغير حقّ جبّارا) (١).

وقوله تعالى : (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (١٩) ؛ أي من الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. فلمّا سمع القبطيّ مقالة الإسرائيليّ علم أنّ موسى هو الذي قتل القبطيّ بالأمس ، ولم يكن أحد علم ذلك قبل هذا فانطلق القبطيّ فأخبر فرعون ، فأرسل فرعون إلى أولياء المقتول أن اقتلوا موسى.

قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ ؛) من شيعة موسى ، (مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ ؛) أي من آخرها إلى موسى فأخبره بذلك ، وقوله تعالى : (يَسْعى ؛) أي يمشي على رجليه مسرعا وهو حزقيل بن صوريا مؤمن من آل فرعون ، (قالَ ؛) له : (يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ؛) أي أنّ الخواصّ من قوم فرعون يتشاورون في قتلك ، (فَاخْرُجْ ؛) من المدينة ، (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (٢٠) ؛

__________________

(١) في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ١٠٣ ـ ١٠٤ ؛ قال الزجاج : (الجبّار في اللغة : المتعظّم الذي لا يتواضع لأمر الله ، فالقاتل مؤمنا جبّار ، وكلّ قاتل فهو جبّار ، قتل واحدا وجماعة ظلما).

٥٧

وقال الزجّاج : ((يَأْتَمِرُونَ) أي يأمر بعضهم بعضا بقتلك) (١). فاخرج إنّي لك من النّاصحين في أمري لك بالخروج ، (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً ؛) أي خرج موسى من المدينة ، (يَتَرَقَّبُ ؛) أي ينظر متى يلحق فيؤخذ ، (قالَ ؛) عند ذلك : (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢١) ؛ أي من فرعون وقومه أين يذهب.

قوله تعالى : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ ؛) أي لمّا سار نحو مدين ، وكان قد خرج بغير زاد ولا حذاء ولا ركوبة ، بل خرج هائما على وجهه هاربا من فرعون وقومه لا يدري أين يذهب ، فخاف أن يخطئ الطريق. ومدين اسم ماء لقوم شعيب ، وبينه وبين مصر ثمانية أيّام ، سمي ذلك الماء باسم مدين بن إبراهيم عليه‌السلام.

فلمّا لم يكن لموسى علم بالطريق خشي أن يذهب يمينا وشمالا ف (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) (٢٢) ؛ أي يرشدني قصد الطريق إلى مدين ، فلمّا دعا موسى بهذا جاءه ملك على فرس فانطلق به إلى مدين. قال المفسّرون : خرج موسى من مصر بلا زاد ولا درهم ولا ركوبة إلى مدين ، وبينهما مسيرة ثمان ليال ، ولم يكن له طعام إلّا ورق الشّجر.

قوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ؛) أي بلغ بئرهم التي كانوا يسقون منها ، قال ابن عبّاس : (ورد ماءهم وأنّه ليرى خضرة الشّجرة في بطنه من الهزال) (٢). وقوله : (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ؛) أي وجد على ذلك الماء جماعة من الناس يسقون أغنامهم مواشيهم ، (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ ؛) أي تحبسان غنمهما عن الماء حتى تفرغ الناس ويخلو لهما الماء ، وهما بنتا شعيب.

والذود في اللغة : الطّرد والدفع والكفّ ، ومعنى (تَذُودانِ) تدفعان وتكفّان الغنم من أن يخلط بأغنام الناس ، وحتى يقرب الماء إلى أن يفرغ القوم.

__________________

(١) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ١٠٤.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٧٢٨). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٦٨٠٩).

٥٨

قوله تعالى : (قالَ ما خَطْبُكُما ؛) أي قال موسى لابنتي شعيب : (ما خَطْبُكُما) أي ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس؟ (قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ ؛) قرأ الحسن وابن عامر وأبو عمرو بفتح الياء وضمّ الدال ، جعلوا الفعل للرّعاء ؛ أي حتى يرجع الرّعاء عن الماء ، وقرأ الباقون (يصدر) بضمّ الياء وضمّ الدال ؛ أي حتى يصدروا مواشيهم من وردهم ، فيخلوا لنا الموضع فنسقي أغنامنا فضل ما في الحوض. والرّعاء جمع راع (١).

قال ابن اسحق : (قالتا : نحن امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرّجال (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (٢٢) ؛ لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر والضّعف ، وليس له أحد غيرنا ، فلذلك احتجنا ونحن نساء أن نسقي الغنم.

قوله تعالى : (فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ؛) فلما سمع موسى قولهما رحمهما ، فقام ليسقي لهما غنمهما ، فوجد بقربهما بئرا أخرى على رأسها صخرة عظيمة لا يطيق رفعها إلّا جماعة من الناس ، فاقتلعها وحده ثم أخذ الدّلو من القوم ، فأدلاها في البئر ، ونزعها وأفرغها في الحوض ، ثم دعا بالبركة فشرب الغنم حتى روي.

وقيل : إنه زاحم القوم على بئرهم وسقى لهما غنمهما ، فذلك قوله تعالى : (فَسَقى لَهُما) أي سقى لهما أغنامهما قبل الوقت الذي كانا يسقيان فيه ، ثم رجع من الشّمس إلى ظلّ شجرة فجلس تحتها من شدّة الحرّ ، وهو جائع ، (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (٢٤) ؛ أي إنّي لمحتاج فقير إلى ما قدّرت لي من الطعام ، وكان خرج من مصر بغير زاد وكان لا يأكل في الأيام الثمانية إلّا الحشيش والشّجر إلى أن بلغ ماء مدين ، فلما أدركه الجوع الشديد ؛ وكان لا يقدر على شيء ؛ سأل الله أكله من الطعام.

__________________

(١) ينظر : الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ٢٤٩ ـ ٢٥٠. ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج : ج ٤ ص ١٠٥.

٥٩

قال ابن عبّاس : (سأل الله فلق خبز أن يقيم به صلبه) (١) ، قال سعيد بن جبير : (لقد قال موسى : إنّي لما أنزلت إليّ من خبز فقير ، وهو أكرم خلقه عليه ، ولقد افتقر إلى شقّ تمرة) (٢) ، وقال محمّد : (ما سأل الله إلّا الخبز). واللام في قوله تعالى (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ) بمعنى : إليّ ، يقال : فقراء وفقير إليه.

قوله تعالى : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ ؛) وذلك أنّ موسى عليه‌السلام لمّا سقى لهما ، رجعا إلى أبيهما سريعا ، فقال لهما أبوهما : ما أعجلكما؟ قالتا : وجدنا رجلا صالحا رحمنا ، فسقى لنا أغنامنا ، فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي ، فجاءته تمشي مستحية مشي من لا يعتاد الدّخول والخروج ، واضعة كفّها على وجهها ، معرضة من الحياء ، وكانت التي أرسلها أبوها إلى موسى هي الصّغرى منهما ، واسمها صورا ، قال عمر بن الخطّاب في قوله تعالى : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) : (واضعة ثوبها على وجهها ؛ أي مستترة بكمّ ذراعها) (٣). قال أهل اللّغة : السّلفع : الجريئة التي هي غير مستحية (٤).

وقوله تعالى : (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) أي ليعطيك ذلك ، فلما قالت ذلك لموسى شقّ عليه قولها ، وهمّ أن لا يتبعها وكان بينه وبين أبيها مقدار ثلاثة أميال ، ثم إنه لم يجد بدّا من اتّباعها ؛ لأجل الجهد والجوع الذي حلّ به ولأجل الخوف الذي خرج لأجله ، فانطلق معها ، وكانت الريح تضرب ثوبها فنكّرته (٥) بردفها فتصف له عجيزتها ، وكانت ذات عجز ، فجعل موسى يغضّ

__________________

(١) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٧٨.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٨٣٤).

(٣) كأنه يوجد سقط من المخطوط ، حيث ضرورة سياق كلام المصنف رحمه‌الله تقتضي ذكر أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : (لم تكن سلفعا من النّساء خرّاجة ولّاجة ، قائلة بيدها على وجهها : (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا)). أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٠٨٣٧). من رواية عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والسّلفع من النساء : الجريئة. والصّخّابة ، البذيئة ، الفاحشة القليلة الحياء. والخرّاجة والولّاجة : الكثيرة الظرف والاحتيال.

(٤) نكّره فتنكّر : أي غيّره فتغيّر إلى مجهول ، وهنا غيّرت الريح صفة ثوبها إلى صفة ردفها مما يظهر شكل ما تحته.

٦٠