التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

الإعراب بمنزلة (ما) في قوله (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ)(١).

قوله تعالى : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ؛) وذلك أنّه إذا اشتدّ عليهم العذاب وقد صيّرهم ، تمنّوا الموت ، فنادوا مالكا خازن جهنّم : يا مالك ادع لنا ربّك يقضي علينا بالموت فنستريح من العذاب بعد أربعين سنة ، (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٧٧) ؛ مقيمون دائمون ، وعن ابن عبّاس : (أنّهم ينادون مالكا ألف سنة فيجيبهم : إنّكم ماكثون في العذاب) (٢) ، وقرأ عليّ وابن مسعود (٣) : (يا مال) بالترخيم (٤).

قوله تعالى : (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ ؛) أي لقد أرسلنا إليكم يا معشر قريش محمّدا رسولنا بالحقّ ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٧٨).

__________________

(١) آل عمران / ١٥٩. في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٣٢٠ ؛ قال الزجاج : (ويجوز : ولكن كانوا هم الظالمون ، في غير القرآن ـ أي فيما يتخاطب به الناس ـ ولكن لا نقرأ بها لأنها تخالف المصحف). والسبب في القراءة على ما نقله النحاس في إعراب القرآن : ج ٤ ص ٨٠ ؛ قال : (قال أبو جعفر : وعلى هذا يكون (ظَلَمْناهُمْ) في موضع رفع بالابتداء ، و (الظّالمون) خبر الابتداء ، وخبره خبر كان ، كما تقول : كان زيد أبوه خارج).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٩٦٨).

(٣) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب بدء الخلق : باب إذا قال أحدكم (آمين) : الحديث (٣٢٣٠) عن صفوان بن يعلى عن أبيه قال : [سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ على المنبر : (ونادوا يا مال)] قال سفيان : (من قراءة عبد الله : (ونادوا يا مال). وفي فتح الباري شرح صحيح البخاري : ج ٨ ص ٧٣٠ ؛ قال ابن حجر : (يذكر عن بعض السلف أنه لما سمعها قال : (ما أشغل أهل النار عن اسم الترخيم؟) قال ابن حجر : (وأجيب باحتمال أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وشدة ما هم فيه). وفي الجامع لأحكام القرآن : ج ١٦ ص ١١٧ ؛ قال القرطبي : (قال أبو بكر : لا يعمل على هذا الحديث لأنه مقطوع لا يقبل مثله في الرواية عن رسول الله عليه‌السلام ، وكتاب الله أحق أن يحتاط له وينفى عنه الباطل).

(٤) في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٣٢٠ ؛ قال الزجاج : (ورويت : يا مال ـ بغير الكاف ، وبكسر اللام ـ وهذا يسميه النحويون الترخيم ، وهو كثير في الشعر في مالك وعامر ، ولكني أكرههما لمخالفتهما المصحف).

٤٨١

وقوله تعالى : (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) (٧٩) ؛ أي بل احكموا عند نفوسهم أمرا في كيد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمكر به ، فإنّا محكمون أمرا في مجازاتهم شرّا بشرّ.

قوله تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (٨٠) ؛ السّرّ ما يعقده الإنسان في نفسه ويضمره بقلبه ، والنّجوى ما يحدّث به غيره في الخفية ، وقوله تعالى (بَلى) أي نسمع سرّهم ونجواهم ، ورسلنا هم الحفظة عندهم ، يكتبون عليهم ذلك.

ويقال : إنّ هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر من المشركين ، وهم صفوان بن أمية ، وربيعة بن عمرو وأخوه حبيب بن عمرو ، وكانوا يمكرون في قتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : أخبرنا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأصحابه : إنّ الله يعلم السرّ يكون بين الاثنين ، أفترونه يعلم ما نقول؟ قال ربيعة : أراه يعلم بعض ما نقول ولا يعلم بعضا ، فقال صفوان : ولا كلمة واحدة ، ولو علم بعضه لعلمه كلّه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٨١) ؛ وذلك أنّ المشركين لمّا قالوا : لله ولد! ولم يرجعوا عن مقالتهم ، أنزل الله هذه الآية ، والمعنى : قل لهم يا محمّد : (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) في زعمكم (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) من عبد الله وحده وكذبكم بما تقولون ، هكذا روي عن مجاهد (٢).

وقال قتادة والحسن : (معناه : ما كان للرّحمن ولد ، وأنا أوّل من عبد الله من أهل هذا الزّمان) (٣). وقيل : معناه : إن كان للرّحمن ولد كما تزعمون فأنا أوّل من غضب للرحمن ، فعلى هذا القول العابد من العبد بمعنى الغضب. وقال الفرّاء : (عبد

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٢٣٩٧٧) من غير ذكر الأسماء. وفي الدر المنثور : ج ٧ ص ٣٩٤ ؛ عزاه السيوطي للطبري فقط.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٩٨١). وفي الدر المنثور : ج ٧ ص ٣٩٥ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير).

(٣) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٣٩٥ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد بن حميد عن الحسن والقتادة) بلفظ : (فأنا أول من عبد الله من هذه الأمة).

٤٨٢

عليه أي غضب عليه). وقيل : معناه : فأنا أوّل الآنفين ، يقال : عبد يعبد ؛ إذا أنف وغضب.

قوله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؛) نزّه الله تعالى نفسه مما يقول المشركون ؛ أي تنزيها لخالق السّموات والأرض ، (رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٨٢) ؛ يضيفون إليه من الولد.

وقوله تعالى : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٨٣) ؛ أمر بتركهم على وجه التوبيخ ؛ أي اترك يا محمّد كفار مكّة يخوضوا في أباطيلهم ، ويلعبوا في دنياهم بمقالتهم حتى يعاينوا يوم القيامة.

وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ؛) أي هو معبود من في السّموات ومن في الأرض ، لا معبود غيره ولا إله إلّا هو ، (وَهُوَ الْحَكِيمُ ؛) في أمره وقضائه ، (الْعَلِيمُ) (٨٤) ؛ بخلقه وتدبيرهم.

وقوله تعالى : (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ؛) أي تعالى ودام الذي بيده خزائن السموات والأرض وما بينهما ، (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ؛) أي علم قيام الساعة ، لا يعلم وقتها أحد غيره ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٥) ؛ في الآخرة.

قوله تعالى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ ؛) أي لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة ، ثم استثنى عيسى والعزير والملائكة فقال : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ ؛) أي من شهد أنّه لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٨٦) ؛ بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم. والمعنى : إلّا من شهد بكلمة التوحيد ، وعلم بقلبه أنّها حقّ.

وقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٨٧) ؛ أي ولئن سألت هؤلاء الذين عبدوا غير الله : من خلقهم وخلق معبودهم؟ ليقولنّ : الله خلقهم ، فمن أين يصرفون عن عبادة الله مع معرفتهم بأنه الخالق ، والخالق أولى بالعبادة من المخلوق؟

٤٨٣

قوله تعالى : (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) (٨٨) ؛ من قرأ بنصب اللام ؛ فمعناه : يعلم قيام الساعة ، ويعلم (قيله) محمد يا ربّ ؛ لأن معنى (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) ويعلم قيام الساعة. وقيل : انتصب عطفا على قوله (سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) كأنه قال : أم يحسبون أنا لا نسمع سرّهم ونجواهم ، (وَقِيلِهِ) يا ربّ في شكوى منهم إلى ربه. قال المبرّد : (العطف على المنصوب حسن وإن تباعد المعطوف على المعطوف عليه).

ومن قرأ (وَقِيلِهِ) بكسر اللام فهو على معنى : وعنده علم الساعة وعلم قيله. والقيل مصدر كالقول ، يقال : قلت قولا وقيلا وقالا. ولو قرئ (وقيله) بالرفع على معنى : وقيل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هذا كان جائزا في الكلام (١).

قوله تعالى : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ ؛) أي أعرض عنهم إلى أن تؤمر فيهم بشيء ، (وَقُلْ سَلامٌ) ، قال عطاء : (يريد مداراة حتّى ينزل حكمي) ، ومعناه : المتاركة ؛ أي سلام هجران وترك لا سلام تحيّة ، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٨٩) ؛ عاقبة كفرهم ، وماذا ينزل بهم فيندمون حين لا ينفعهم الندم.

ومن قرأ (تعلمون) فعلى الأمر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يخاطبهم بهذا ، قال مقاتل : (نسخ السّيف الإعراض والسّلام) (٢).

آخر تفسير سورة (الزخرف) والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء : ج ٣ ص ٣٨. ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج : ج ٤ ص ٣٢١. وإعراب القرآن للنحاس : ج ٤ ص ٨١ ـ ٨٢.

(٢) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٢٠٠ : (فنسخ السيف الإعراض والسّلام).

٤٨٤

سورة الدّخّان

سورة الدّخّان مكّيّة كلّها ، وهي ألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفا ، وثلاثمائة وستّ وأربعون كلمة ، وتسع وخمسون آية. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأها في ليلة الجمعة غفر له](١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢) ؛ أوّل السورة قسم ، وجوابه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ ؛) وقيل : جوابه : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) لأنه ليس من عادة العرب أن يقسموا بنفس الشيء الذي يخبرون عنه ، فعلى هذا يكون قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) معترضا بين القسم والجواب ، (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (٣) ، والليلة المباركة : هي ليلة القدر ، (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٤) ، أنزل الله فيها القرآن إلى السّفرة في السّماء الدّنيا ، فوضعوه في بيت العزّة ، ثم كان جبريل ينزل به على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا بعد شيء على مقدار الحاجة ، هكذا روي عن ابن عبّاس ، وقد قدمنا ذلك في قوله تعالى (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)(٢).

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٣٩٨ ؛ قال السيوطي : (وأخرج الترمذي ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال ...) وذكره. وأخرجه الترمذي في الجامع : أبواب فضائل القرآن : الحديث (٢٨٨٩) عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال : (هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وهشام أبو المقدام يضعّف ، ولم يسمع من الحسن من أبي هريرة). فالحديث إسناده ضعيف. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان : الحديث (٢٤٧٦) وإسناده ضعيف لما تقدم.

(٢) البقرة / ١٨٥.

٤٨٥

وسمّيت هذه الليلة مباركة لأنّ فيها الرحمة ومغفرة الذنوب ، وفيها يقدّر الله الأشياء من أرزاق العباد وآجالهم وغير ذلك من الأمور. ويقال : إنما سمّيت مباركة لأنه لا يقدّر فيها شيئا من المكاره ، كما قال تعالى : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(١).

وعن عكرمة أنه كان يقول : (اللّيلة المباركة هي ليلة النّصف من شعبان ، فيها يقضى كلّ أمر فيه حكمة ، وفيها ينسخ لجبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت جميع ما هم موكّلون به من سنة إلى سنة) (٢). وكان ابن عبّاس يقول : (إنّك لتلقى الرّجل في السّوق قد كتب اسمه في الموتى) (٣). والصحيح : أنّ الليلة المباركة هي ليلة القدر ، وعليه أكثر المفسّرين.

قوله تعالى : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا ؛) انتصب ب (يُفْرَقُ) بمنزلة (يُفْرَقُ) لأن (أَمْراً) بمعنى فرقا ، وفيه بيان أنّ الذي يفرق في هذه الليلة لا يكون إلّا من عند الله تعالى وتدبيره ، كأنّه قال : بأمر من عندنا. قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٥) ؛ أي مرسلين محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن قبله من الأنبياء ، (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ؛) أي رأفة منّي بخلقي ونعمة عليهم. وانتصب على أنه مفعول له على تقدير الرّحمة ، وقال الزجّاج : (تقديره : إنّا أنزلناه في ليلة مباركة للرّحمة) (٤). (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ؛) لما يقوله المحقّ والمبطل ، (الْعَلِيمُ) (٦) ، بأفعال العباد.

قوله تعالى : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ؛) بالخفض على البدل من قوله (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ). وقوله تعالى (وَما بَيْنَهُما) يعني من الهواء والخلق. وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُ

__________________

(١) القدر / ٥.

(٢) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٤٠١ ؛ قال السيوطي : (وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق محمد بن سوقة عن عكرمة) وذكره. وأخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٤٠٠٨) وذكره بمعناه.

(٣) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٤٠٠ ؛ قال السيوطي : (وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس ...) وذكره.

(٤) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٣٢٢.

٤٨٦

آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٨) ؛ معناه : أنّ الذي دبّر السموات والأرض هو الذي دبّر بإرسال الرّسل رحمة منه ، فإن كنتم موقنين بتدبيره في السّموات والأرض ، فأيقنوا إنّما هو مثله. واليقين : ثلج الصّدر بالعلم ، ولذلك يقال : وجد برد اليقين ، ولا يجوز في صفات الله تعالى : موقن ، ويجوز : عليم وعالم.

وقوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ ؛) يعني الكفار من هذا القرآن ، (يَلْعَبُونَ) (٩) ؛ أي يهزأون به لاهين عنه.

وقوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) (١٥) ؛ وذلك أنّ المشركين بالغوا في إيذاء النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويئس من إيمانهم به ودعا عليهم فقال : [اللهمّ اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف](١).

فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، فأخذتهم السّنة حتّى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحرّقة من الجوع ، وارتفع القطر وأجدبت الأرض ، وكانوا إذا نظروا إلى السّماء رأوا دخّانا بين السّماء والأرض للظّلمة الّتي غشيت أعينهم وأبصارهم من شدّة الجوع. ويقال : يبست الأرض وانقطع الغيث.

والمعنى : فانتظر يا محمّد يوم تأتي السّماء بدخان مبين ، فجاء أبو سفيان فقال : يا محمّد جئت تأمرنا بصلة الرّحم وإنّ قومك قد هلكوا ، فادع الله لهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [اللهمّ دعوتك فأجبتني ، وسألتك فأعطيتني ، اللهمّ اسقنا غيثا مغيثا مريّا مريعا طبقا عاجلا غير آجل نافعا غير ضارّ] ، فما برح النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى أنزل الله المطر.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الاستسقاء : باب دعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحديث (١٠٠٦). ومسلم في الصحيح : كتاب المساجد ومواضع الصلاة : باب استحباب القنوت في جميع الصلوات : الحديث (٢٩٤ / ٦٧٥) وللفظ له.

٤٨٧

وجاء النّاس يشتدّون وقالوا : الغرق الغرق ، فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) فكشف الله عنهم الشّدّة ، ثمّ عادوا إلى الكفر (١). فذلك قوله تعالى : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى ؛) وذلك يوم بدر ، (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (١٦).

وهذا التأويل إنما يستقيم على قول ابن مسعود فإنه كان يقول : (خمس قد مضين : الدّخّان والرّوم والبطشة واللّزام وانشقاق القمر) (٢) وكان يذهب إلى أنّ البطشة الكبرى هي التي أصابتهم يوم بدر ، وذلك أعظم من الجوع الذي أصابهم بمكّة.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المراد بالدّخان في هذه الآيات : الدخّان الذي ينزله الله تعالى عند قيام الساعة ، ثم يغشاهم عذاب أليم بعد ذلك ، كما روي عن مسروق أنه قال : (إذا كان يوم القيامة نزل دخّان من السّماء ، فأخذ بأسماع الكفّار والمنافقين وأبصارهم حتّى تصير رؤوسهم كالرّأس الحنيذ ، ويأخذ المؤمنين بمنزلة الزّكام) (٣).

فعلى هذا القول يكون معنى قوله تعالى : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي من أين لهم الذّكرى ، أي من أين ينفعهم إيمانهم (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) في الوقت الذي كانوا مكلّفين فيه ثمّ أعرضوا عن الإيمان به (وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) أي هو معلّم يعلّمه الجنّ ، ويعترضون له. وقيل : معناه : يعلّمه بشر مجنون بادّعائه النبوّة. ويكون معنى

__________________

(١) الحديث بألفاظ عديدة ، إلى سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والبخاري وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن مسروق ، كما في الدار المنثور : ج ٧ ص ٤٠٦. وذكر مجيء أبي سفيان أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب صفات المنافقين : باب الدخان : الحديث (٣٩ و٤٠ / ٢٧٩٨).

(٢) في المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج : ج ١٧ ـ ١٨ ص ١٤٨ ـ ١٤٩ ؛ قال الإمام النووي :

(وفسرها كلها في الكتاب إلا اللزام ، والمراد به قوله سبحانه وتعالى : (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي يكون عذابهم لزاما ، قالوا : وهو ما جرى عليهم يوم بدر من الأسر والقتل ، وهي البطشة الكبرى).

(٣) بهذا اللفظ لم أقف عليه ، ولعله أدرج أحاديث ابن عمر والحسن وحذيفة في حديث ابن مسعود.

٤٨٨

قوله : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) أي عذاب الدّنيا بعد مجيء الرسول إلى وقت الدّخان ، فمهّلهم لكي يتوبوا ، ولن يتوبوا.

والمراد بالبطشة الكبرى على هذا القول يوم القيامة ، وأما على القول الأوّل فقوله : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي التذكّر والاتّعاظ ، يقول : كيف يتذكّرون ويتّعظون ، وحالهم أنه قد جاءهم رسول مبين ظاهر الصّدق والدلالة ، (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي أعرضوا ولم يقبلوا قوله.

وقوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) يعني عذاب الجوع (قَلِيلاً) أي زمانا يسيرا ، قال مقاتل : (يعني يوم بدر إنّكم عائدون في كفركم وتكذيبكم) وفيه إعلام أنّهم لا يتّعظون ، وإنه إذا رفع عنهم العذاب عادوا إلى طغيانهم. قوله تعالى : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) أي واذكر لهم ذلك اليوم ، يعني يوم بدر.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ؛) أي كلّفنا قبل أهل مكّة قوم فرعون من الطاعة ما اشتدّ عليهم ، (وَجاءَهُمْ ؛) موسى ، (رَسُولٌ كَرِيمٌ) (١٧) ، لا خلاف على الله تعالى.

وقوله تعالى : (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ ؛) أي بأن أدّوا إليّ بني إسرائيل ، وهذا قول موسى ، يقول : أطلقوا بني إسرائيل من العذاب والتسخير ، فإنّهم أحرار ، (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ ؛) من الله ، (أَمِينٌ) (١٨) ؛ على الرسالة ، لست بخائن ولا كذاب ولا كاتم مما أوحي إليّ ، (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ ؛) أي لا تتجبّروا عليه بترك طاعته ، (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (١٩) ؛ بحجّة بيّنة ظاهرة تدلّ على صدقي.

فلمّا قال موسى هذه المقالة توعّدوه بالقتل بالحجارة ، فقال : (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) (٢٠) ، أي اعتصمت بخالقي وخالقكم من أن تقتلوني بالحجارة ، (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) (٢١) ؛ أي وإن لم تصدّقون فاتركوني لا معي ولا عليّ ، فلا أقلّ من أن تكفّوا شرّكم عنّي.

فأبوا أن يقبلوا منه ، ولم يؤمنوا به ، (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) (٢٢) ؛ أي مشركون ، ولم يدع إلّا بعد أن أذن له في الدّعاء عليهم ، فدعا عليهم.

٤٨٩

قال الله تعالى له : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً ؛) حتى تقطع بهم البحر ، (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٢٣) ؛ يتبعكم فرعون وقومه فيكون ذلك سببا لغرقهم ، فسار موسى بمن معه من بني إسرائيل حتى أتى بهم البحر ، فضربه بعصاه بأمر الله تعالى فانفلق ودخله أصحابه.

ثم عطف موسى ليضرب البحر بعصاه ليلتئم ويخلط الطريق التي جعلها الله لبني إسرائيل حتى لا يعبر فيها فرعون وقومه ، فقيل له : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ؛) أي ساكنا منفتحا على ما هو عليه حتى يدخله فرعون وجنوده ، (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) (٢٤) ؛ في حكم الله تعالى.

قال ابن عبّاس : (معنى قوله اتركه رهوا ؛ أي اتركه طريقا) (١). والرّهو : يكون بمعنى الفرجة بين الشّيئين ، ونظر أعرابيّ إلى فالج ؛ فقال : سبحان الله! رهو بين سنامين ، فيكون المعنى على هذا : واترك البحر ذا رهو ؛ أي ذا فرجة ، وهي الطريق التي أظهرها الله تعالى في الماء.

قوله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) (٢٦) أي كم ترك فرعون وقومه بعد الغرق من بساتين عامرة بليغة الأشجار ، وعيون ظاهرة عذبة فيها زرع ومساكن شريفة حسنة ، (وَنَعْمَةٍ ؛) أي وعيش ليّن ، (كانُوا فِيها فاكِهِينَ) (٢٧) ؛ أي ناعمين متعجّبين ، (كَذلِكَ ؛) كانت حالهم. وقيل : كذلك أفعل بمن عصاني ، (وَأَوْرَثْناها ؛) وأورثنا ما تركوه ، (قَوْماً آخَرِينَ) (٢٨) ؛ وهم بنو إسرائيل ، رجعوا بعد هلاك فرعون إلى مصر فصارت أموال قوم فرعون ونعيمهم لهم من غير كلفة ولا مشقّة ، كالميراث الذي ينقل من المورث إلى الوارث من غير مشقّة تلحق الوارث ، وهذا من غاية إنعام الله على بني إسرائيل.

قوله : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ؛) أي ما بكت على فرعون وقومه ؛ أي كانوا أهون من أن يبكي عليهم أحد من أهل السّماء والأرض ، إنّهم كانوا في مقام الجدي.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٤٠٥٩).

٤٩٠

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ما من مؤمن إلّا وله في السّماء بابان : باب يصعد فيه عمله ، وباب ينزل فيه رزقه ، فإذا مات بكيا عليه ، وكذلك مصلّاه الّذي كان يصلّي فيه من الأرض] فذلك قوله تعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ)(١). وعن مجاهد أنه قال : (إذا مات المؤمن بكت عليه الأرض أربعين يوما صباحا) (٢). وعن السديّ قال : (لمّا قتل الحسين رضي الله عنه بكت السّماء عليه ، وبكاؤها حمرة أطرافها) (٣).

والمعنى على هذا : لم يكن لفرعون وقومه موضع طاعة في الأرض ولا مصاعد طاعات في السّماء فتفقدهم وتبكي عليهم ، بخلاف المؤمنين. وقوله تعالى : (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) (٢٩) ؛ أي لم ينظروا ولم يمهلوا حين أخذهم العذاب لتوبة ولا لغيرها.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) (٣٠) ؛ أي خلّصناهم مما كان فرعون يفعل بهم من ذبح الأبناء واستحياء النّساء واستعمالهم في الأمور الشاقّة. وقوله تعالى : (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً ؛) أي متكبرا ؛ (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٣١) ، من المتجاوزين عن الحدّ حتى ادّعى الإلهيّة.

قوله تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣٢) ؛ أي اخترنا بني إسرائيل بكثرة الأنبياء صلوات الله عليهم فيهم على عالمي زمانهم ، (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ؛) من فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسّلوى وغير ذلك ، (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) (٣٣) ؛ أي نعمة ظاهرة.

قوله تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى ؛) راجع إلى ذكر كفّار مكّة يقولون : ما الموتة نموتها في الأولى ثم لا نبعث بعدها ، ومعنى قوله : (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) (٣٥) ؛ أي بمبعوثين ، وهذا ذمّ لهم على الجهل.

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٤١١ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس) وذكره. وأخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٤٠٧٤).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٤٠٧٥).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٤٠٧٢).

٤٩١

وقوله تعالى : (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٦) ؛ أي قالوا فأحيي يا محمد آباءنا الذين ماتوا حتى نسألهم : أحقّ ما تقول أم باطل؟ وروي أنّهم كانوا يقولون : إن كان ما تقوله فأت بقصيّ بن كلاب ليخبرنا عنك ، فإنه كان صدوقا فيما بيننا.

قوله تعالى : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (٣٧) ؛ خوّفهم الله تعالى مثل عذاب الأمم الخالية ، فقال : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) أي ليسوا خيرا منهم ، يعني أقوى وأشدّ وأكثر ، والمعنى أهم خير في القدرة والقوّة والمال ، أم قوم ملك اليمن (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

وخصّ ملك اليمن بالذّكر لأنه كان أقرب إلى زمانهم. وتبّع اسم لكلّ من كان من ملوك اليمن ، كما أنّ فرعون اسم ملك مصر ، وقيصر اسم ملك الروم ، وكسرى اسم ملك العجم. وإنما سمّي ملك اليمن بهذا الاسم لكثرة تبعه.

وجاء في التفسير : أنّ ملك اليمن الذي كان أقرب إلى زمانهم كان مؤمنا ، وكان اسمه أسعد بن ملكي كرب ، وكان قومه كفّارا. وروي عن عائشة أنّها قالت : (كان تبّع رجلا صالحا ، ألا ترى أنّ الله تعالى ذمّ قومه ولم يذمّه) (١). وروي : (أنّه وجد مكتوبا على قبرين بناحية حمير : هذان قبرا رضوى وحصيا ابني تبّع ماتا لا يشركان بالله شيئا) (٢).

قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (٣٨) ؛ أي لم نخلقهما عابثين ، (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ؛) أي للحقّ ؛ أي للثواب على

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٤١٥ ؛ عزاه للحاكم وقال : وصححه. وأخرجه الحاكم في المستدرك : كتاب التفسير : الحديث (٣٧٣٣) ، وقال : (هذا حديث على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه).

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٦ ص ١٤٥ ؛ قال القرطبي : (وذكر الزجاج وابن أبي الدنيا والزمخشري وغيرهم : أنه حفر قبر له بصنعاء ـ ويقال : بناحية حمير ـ في الاسلام ، فوجد فيهما امرأتان صحيحتان ، وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب : (هذا قبر حبّى ولميس) ويروى أيضا : (حبّى وتماضر) ويروى أيضا : (هذا قبر رضوى وقبر حبّى ابنتا تبّع) ...). وذكره الزجاج في معاني القرآن : ج ٤ ص ٣٢٥. والزمخشري في الكشاف : ج ٤ ص ٢٧٢.

٤٩٢

الطاعة والعقاب على المعصية ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ ؛) أكثر المشركين ، (لا يَعْلَمُونَ) (٣٩).

وقوله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤٠) ؛ معناه : إنّ يوم الفصل بين الخلائق ميعادهم أجمعين ، يوافي يوم القيامة الأوّلون والآخرون.

ثم نعت ذلك اليوم فقال تعالى : (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً ؛) أي يوم لا ينفع فيه صديق صديقا ولا قريب قريبا ، (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤١) ؛ أي ولا يمنعون من عذاب الله ، (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ ؛) وهم المؤمنون ، فإنه يشفع بعضهم لبعض ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [وإنّ الرّجل من أمّتي ليشفع لأكثر من ربيعة ومضر](١). (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ ؛) في انتقامه من أعدائه ، (الرَّحِيمُ) (٤٢) ؛ بالمؤمنين.

قوله تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ) (٤٤) ؛ قد تقدّم تفسير شجرة الزقّوم ، والأثيم ذو الإثم وهو أبو جهل ، قال أهل اللغة : الأثيم كثير الإثم ، وعن ابن مسعود : (أنّه كان يلقّن رجلا : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) فكان الرّجل يقول : طعام اليتيم! فقال له : قل : طعام الفاجر) (٢). (كَالْمُهْلِ ؛) درديّ الزيت (٣) وعكر القطران ، وهو أسود غليظ. وقيل : المهل كلّ ما يمهل في النار من نحاس أو فضّة أو غير ذلك حتى يذوب وينماع يشتدّ حرّه.

وقوله تعالى : (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) (٤٥) ؛ أي في بطون الكفّار ، وقرئ (يَغْلِي) بالياء يعني الطعام ، واختاره أبو عبيد (٤) ؛ لأن المهل مذكّر ، وقرئ بالتاء يعني

__________________

(١) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى : ج ٧ ص ٦٧ : ترجمة الحارث بن أقيش. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير : الحديث (٣٣٦١). والحاكم في المستدرك : كتاب الإيمان : الحديث (٢٤٧) ، وقال : (الحارث بن أقيش مخرج حديثه في مسانيد الأئمة).

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٦ ص ١٤٩ ؛ قال القرطبي : (قال أبو بكر الأنباري : وذكر إسناده عن ابن مسعود).

(٣) ال (درديّ) الزيت وغيره : ما يبقى في أسفله. ينظر : مختار الصحاح : (درد) : ص ٢٠٢.

(٤) ذكره النحاس في إعراب القرآن : ج ٤ ص ٨٩.

٤٩٣

الشّجرة ، قال أبو علي الفارسي : (لا يجوز أن يحمل الغلي على المهل ؛ لأنّ المهل إنّما ذكر للتّشبيه به في الذوب ، ألا ترى أنّ المهل لا يغلي في البطون إنّما يغلي ما شبه به) (١).

قوله تعالى : (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) (٤٦) ؛ يعني الماء الحارّ إذا اشتدّ غليانه. وقوله تعالى : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) (٤٧) ؛ يقال للزّبانية : (خُذُوهُ) يعني الآثم (فَاعْتِلُوهُ) أي قودوه بالعنق دفعا وسحبا إلى وسط الجحيم ، يقال : عتله يعتله ، ويعتله إذا جرّه وذهب به إلى مكروه ، وقال مجاهد : (فادفعوه على وجهه إلى وسط الجحيم) (٢). وقيل للوسط : سواء لاستواء المسافة بينهما وبين أطرافه المحيطة به.

قوله تعالى : (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) (٤٨) ؛ قال مقاتل (٣) : (إنّ خازن النّار يضربه على رأسه «بمقمعة من حديد» فينقب رأسه عن دماغه ، ثمّ يصبّ فيه ماء حميما قد انتهى حرّه ، ويقول له) : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٤٩).

وذلك أنّ أبا جهل قال للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بأيّ شيء تهدّدني! فو الله ما تستطيع أنت ولا ربّك «أن» تفعلا (٤) بي شيئا ، وإنّي لمن أعزّ أهل هذا الوادي وأكرمهم! فيقول له الملك : ذق العذاب أيّها المتعزّز المتكرّم في زعمك كما كنت تقوله (٥). وقرأ الكسائيّ (أنّك) بالفتح على تقدير : ذق بأنّك أو لأنّك أنت العزيز الكريم ، أو بهذا القول الذي قلته في الدّنيا) (٦).

__________________

(١) ذكره بمعناه أبو علي الفارسي في الحجة للقراء السبعة : ج ٤ ص ٣٨٧.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٤١٠٤) عن مجاهد ، والأثر (٢٤١٠٥) عن قتادة ، وجمع بين اللفظين الإمام الطبراني في نص واحد.

(٣) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٢٠٨.

(٤) (أن) سقطت من المخطوط.

(٥) ذكره الفراء في معاني القرآن : ج ٣ ص ٤٣ ـ ٤٤.

(٦) ذكره الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٣٢٦ ؛ وقال : (الناس كلهم على كسر (إِنَّكَ) إلا الكسائي وحده ، فإنه قرأ : ذق أنك أنت)

٤٩٤

قوله تعالى : (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) (٥٠) ؛ أي يقول لهم الخازن : إنّ هذا العذاب الذي كنتم به تشكّون في الدّنيا أو تكذبون به.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٥٢) الأمين هو المقام الذي أمنوا فيه الغير من الموت والحوادث ، والمقام هو المجلس ، وقرئ (مقام) بضمّ الميم ، يريد موضع الإقامة ، ومعنى القراءتين واحد.

وقوله : (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ؛) السّندس ما لطف من الدّيباج ، والاستبرق ما غلظ منه مع دقّة السّلك ، وهما نوعان من الحرير. وقوله تعالى : (مُتَقابِلِينَ) (٥٣) ؛ أي يقابل بعضهم بعضا في المجالس بالتحيّة والمحبّة.

قوله تعالى : (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٥٤) ؛ أي كذلك حالهم في الجنّة ، وقرنّاهم بحور عين ، والحور : الشّديدة بياض العين ، الشديدة سوادها ، البيضاء البشرة والعين ، جمع العيناء ، واسعة العين الحسنة ، قال مجاهد : (الحور : هنّ اللّواتي يحار الطّرف فيهنّ ، يرى مخّ سوقهنّ من وراء ثيابهنّ ، يرى النّاظر وجهه في صدر إحداهنّ كالمرآة من رقّة الجلد وصفاء اللّون) (١).

قوله تعالى : (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) (٥٥) ؛ فيه بيان أنّ بساتين الجنّة تشتمل على كلّ الفواكه في كلّ وقت من الأوقات بخلاف بساتين الدّنيا ، وقوله تعالى : (آمِنِينَ) من الانقطاع والنّقصان ، وآمنين مما يخاف من الفواكه من التّخم والأمراض والأسقام.

قوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى ؛) أي لا يموتون سوى الموتة التي ذاقوها في الدّنيا ، (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٥٦) ؛ أي ودفع عنهم ربّهم عذاب النار مع ما أعطاهم من النعيم المقيم. وقوله تعالى : (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٥٧) ؛ أي فعل الله ذلك بالمتّقين تفضّلا منه عليهم. وسمي الثواب (فَضْلاً) لأنّ الله تعالى لم يكلّفهم لحاجته ، ولكن ليصلوا إلى ذلك الثواب.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٤١١١).

٤٩٥

قوله تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ ؛) أي أنزلنا القرآن بلغتك ولغة قومك ليسهل عليهم ، و (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٥٨) ؛ يتّعظون فيؤمنوا به ، ولو لا تيسير الله حفظهما ما قدر أحد على حفظه لعظم أمره وجلال قدره.

قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) (٥٩) ؛ أي انتظر بالكفّار ما وعدناهم من العذاب إنّهم منتظرون هلاكك.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ سورة الدّخّان في ليلة الجمعة إيمانا واحتسابا وتصديقا بها ، أصبح مغفورا له ، وإن قرأها في سائر اللّيالي كانت له نورا يوم القيامة](١).

آخر تفسير سورة (الدخان) والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٣٩٨ ؛ قال السيوطي : (أخرجه الدارمي عن عبد الله بن عيسى :

(أخبرت أنه من قرأ ...) وذكره.

٤٩٦

سورة الجاثية

سورة الجاثية مكّيّة ، وهي ألفان ومائة وواحد وسبعون حرفا ، وأربعمائة وثمان وثمانون كلمة ، وسبع وثلاثون آية (١). قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأها ستر الله عورته ، وسكّن روعته عند الحساب](٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (٢) ؛ (حم) مبتدأ وخبره (تَنْزِيلُ) ، وقوله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) أي لدلالات على الحقّ تدلّ بخلقها على أنّ لها خالقا قديما لا أوّل له ، ويدلّ تعظيمها وبقاؤها من غير علاقة فوقها ولا عماد تحتها على قادر لا يعجزه شيء. وقوله تعالى (لَآياتٍ) في موضع نصب ؛ لأنه اسم (إِنَّ) ، كما يقال : إنّ في الدار لزيدا.

قوله تعالى : (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ ؛) أي وفي خلقكم حالا بعد حال من نطفة إلى أن يصير إنسانا ثم يصير فيه العقل ثم الحواسّ ، وما يبثّ من دابّة على وجه الأرض على اختلاف أجناس الدواب ومنافعها وصورها ، وما يقصر من منافعها في ذلك دلالات واضحة على وحدانيّة الله تعالى ، (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤) ؛ يطلبون علم اليقين ، ويوقنون أنّه لا إله غيره.

وقرأ حمزة (آيات) (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) بالكسر على أنّهما منصوبان نسقا على قوله تعالى (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) على معنى وإنّ في خلقكم آيات ، ومن رفع

__________________

(١) في المخطوط : (تسع وتسعون آية).

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف : ج ٤ ص ٢٨٦. وأخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبي بن كعب.

٤٩٧

فعلى الاستئناف بعد أن ، تقول العرب : إنّ لي عليكم مالا وعلى أخيك مال ، ينصبون الثاني ويرفعونه (١).

قوله تعالى : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ؛) أي وفي ذهابهما ومجيئهما ، وما يحدث في كلّ واحد منهما من الزيادة والنّقصان من غير أن يكونا جميعا أزيد من أربع وعشرين ساعة ، (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) ، وفيما أنزل الله من السّماء من المطر فأحيا به الأرض بعد يبسها ، وفي تقلّب الرياح شمالا وجنوبا وقبولا ودبورا وعذابا ورحمة ، (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٥) ؛ الدلالة ويتدبّرونها.

قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ؛) أي تلك التي سبق ذكرها دلائل الله لعباده يتلوها عليك جبريل بأمرنا بقصصنا عليك بالحقّ ، (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ) ، كتاب ، (اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) (٦) ؛ إن لم يؤمنوا بهذا القرآن. ومن قرأ بالتاء فعلى تأويل : قل لهم يا محمّد : فبأيّ حديث تؤمنون.

قوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٨) ؛ يعني النضر بن الحارث ، كان يروي من أحاديث العجم للمشركين فيستملحون حديثه ، وكان إذا سمع آيات القرآن استهزأ بها ، فجعل الله له العذاب مرّتين ، مرّة أليما ومرّة مهينا ، وقد ذكرنا تفسير الآية في سورة لقمان.

ومعنى الآية : ويل لكلّ كذاب فاجر كثير الإثم ، يسمع القرآن يقرأ عليه ولا يتدبّره ، ولا يخشع لاستماعه ، بل يقيم على كفره متعظّما عن الإيمان بالله ، كأن لم يسمع آيات الله ، فخوّفه يا محمّد بعذاب وجيع يخلص وجعه إليه.

قوله تعالى : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً ؛) أي إذا سمع من آيات القرآن شيئا اتّخذها هزوا ، (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٩).

__________________

(١) ينظر : الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ٣٩٠.

٤٩٨

قوله تعالى : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ ؛) أي لهم من بعد موتهم جهنّم ، (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً ؛) ولا ينفعهم ما كسبوا من الأموال والأولاد شيئا ، (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ ؛) أربابا في دفع شيء من عذاب الله ، (وَلَهُمْ ؛) في الآخرة ؛ (عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠) ؛ كلّ ذلك للنّضر بن الحارث وأمثاله.

وقوله : (هذا هُدىً ؛) أي هذا القرآن بيان للحقّ من الباطل في كلّ ما يحتاج إليه من أمر الدّين والدّنيا ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ؛) الله أي جحدوا دلائل الله ، (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) (١١) ؛ أي عذاب من عذاب وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم ، وقرئ (أَلِيمٌ) بالرفع على نعت العذاب ، وبالكسر على نعت الرّجز.

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ؛) أي هو الّذي ذلّل لكم البحر بتسهيل السبيل إلى سلوكها باتّخاذ السّفن وإصلاحها ، (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢) ، وباقي الآية قد تقدّم تفسيرها.

قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) ؛ من شمس وقمر ونجوم ومطر وثلج وبرد ، (وَما فِي الْأَرْضِ) ؛ من دابّة وشجر ونبات وثمار وأنهار ، ومعنى سخّره لنا : هو أنّه خلقها لانتفاعنا بها على الوجه الذي يريده. قوله تعالى : (جَمِيعاً مِنْهُ) ؛ أي الكلّ رحمة منه وبفضله ومنّه ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣) ؛ في صنع الله وإحسانه ، فيوحّدونه.

قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ ؛) نزلت في عمر رضي الله عنه : شتمه رجل من بني غفار بمكّة ، فهمّ أن يبطش به ، فأمره الله بالعفو والتّجاوز (١). والمعنى : قل للّذين آمنوا اغفروا ، ولكنه شبّهه بالشرط والجزاء كقوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ)(٢).

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٢١٢.

(٢) إبراهيم / ٣١.

٤٩٩

وقوله : (لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أي لا يخافون عذاب الله من إيذائكم ، فتجاوزوا عنهم ليوفّيهم الله عقاب سيّئاتهم بما عملوا. ويجوز أن يكون المعنى : تجاوزوا عن الذين لا يرجون ثواب الله للمؤمنين ، (لِيَجْزِيَ) ؛ الله ، (قَوْماً) ، المؤمنين يوم الجزاء ، (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) ؛ بما كانوا يعملون من الخيرات.

وقيل : إن الآية نزلت في أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كانوا في أذى شديد من أهل مكّة قبل أن يؤمروا بقتالهم ، فأمر الله المؤمنين بترك مكافأتهم ، ثم نسخت بقوله تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)(١).

وقال الحسن : (لم تنسخ هذه الآية ، وهي على الاستحباب في العفو ما لم يؤدّوا إلى الإخلال بحقّ الله أو إلى إذلال الدّين). (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١٥).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ ؛) يعني التوراة والإنجيل ، (وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ؛) أي الفهم في الكتاب وفصل الأمر ، وجعلنا فيهم الأنبياء والرّسل ، (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ؛) أي من الحلال ومن لذيذ الأطعمة كالمنّ والسّلوى وغيرهما ، (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (١٦) ؛ أي على عالمي زمانهم بكثرة النبيّين فيهم ، وفضّل الله أمّة نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكثرة العلماء فيهم ، والقائمين بالحقّ منهم كما قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(٢).

قوله تعالى : (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) ؛ يعني العلم بمبعث النّبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما بيّن لهم من الأمر ، (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٧) ؛ الآية قد تقدّم تفسيرها.

قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها) ؛ أي ثم أكرمناك يا محمّد بعد اختلافهم فجعلناك على طريقة مستقرّة من الدّين ، فاستقم

__________________

(١) الحج / ٣٩. أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٤١٢٠) عن مجاهد ، و (٢٤١٢١) عن قتادة.

(٢) آل عمران / ١١٠.

٥٠٠