التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

سورة الزّمر

سورة الزّمر مكّيّة إلّا قوله (١) : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ...) الآية ، وهي أربعة آلاف وسبعمائة وثمانية أحرف ، وألف واثنان وتسعون كلمة ، وخمس وسبعون آية. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ سورة الزّمر لم يقطع الله رجاءه ، وأعطاه ثواب الخائفين](٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١) ؛ معناه : هذا تنزيل من الله العزيز بالنّقمة لمن لا يؤمن ، الحكيم في أمره وقضائه. ويجوز أن يكون (تَنْزِيلُ) مبتدأ وخبره (مِنَ اللهِ) كما يقال : نعم الدّنيا والدين من الله تعالى. قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ؛) أي أنزلنا إليك هذا القرآن بالحقّ ولم ينزله باطلا ، وقوله تعالى : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (٢) ؛ أي اعبد الله وحده لا كما يعبده عبدة الأوثان.

وقوله : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ؛) أي إنّ العبادة الخالصة لله ، وفي هذا بيان أنّ غير الخالص لا يكون لله ، والإخلاص أن يقصد العبد بنيّته وعمله خالقه لا يجعل ذلك تعرّضا للدّنيا.

__________________

(١) في المخطوط : (إلى). والصحيح كما أثبتناه. وفي معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٢٥٨ ؛ قال الزجاج : (مكية ما خلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة ، قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ...) إلى تمام ثلاث آيات). وفي الدر المنثور : ج ٧ ص ٢١٠ ؛ قال السيوطي : (وأخرج النحاس في تاريخه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (نزلت بمكة سورة الزمر سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة في وحشي قاتل حمزة (قُلْ يا عِبادِيَ ...) إلى ثلاث آيات).

(٢) ذكره البيضاوي في التفسير : ج ٢ ص ١٧٥ ، وهو من رواية الثعلبي في تفسيره ، وفيه نظر.

٣٦١

وقيل : معنى (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي إن الدين الخالص من الشّرك هو لله ، وما سواه من الأديان فليس بدين الله الذي أمره به. قال قتادة : (الدّين الخالص شهادة أن لا إله إلّا الله) (١).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ؛) يعني الذين يعبدون الأصنام والملائكة والشّمس والقمر والنجوم يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ؛) أي يقولون ما نعبدهم إلّا ليشفعوا لنا إلى الله.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ؛) أي بين أهل الأديان يوم القيامة ، (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ؛) من أمور الدين ، كلّ يقول : الحقّ ديني ، فهم مختلفون ، وحكم الله بينهم : أن يعذّب كلّا على قدر استخفافه ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) (٣) ؛ أي لا يرشد لدينه من كذب في زعمه أنّ الآلهة تشفع له الله تعالى.

قوله تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي لو أراد أن يتّخذ لنفسه ولدا كما زعم بعض الكفّار أنّ الملائكة بنات الله! لما اقتصر على الأدون من البنات دون الأعلى من الذّكران ، وهذا كقوله تعالى (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً)(٢) ، وقال تعالى (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى)(٣).

وقيل : معناه : لو أراد أن يتّخذ ولدا كما قالت النصارى في المسيح واليهود في العزير لاختار خلقا أفضل من عيسى عليه‌السلام وعزير. وقوله تعالى : (سُبْحانَهُ ؛) أي تنزيها له في كلّ صفة لا تكون من أرفع الصّفات ، وقوله : (هُوَ اللهُ الْواحِدُ ؛)

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢١٠ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة). وذكره. وأخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣١١٨).

(٢) الاسراء / ٤٠.

(٣) النجم / ٢١.

٣٦٢

لا شريك له و «ليس» (١) شيء كمثله ، (الْقَهَّارُ) (٤) ؛ الغالب على خلقه الذي لا يحتاج إلى ولد وظهير.

قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ ؛) أي خلق السّموات والأرض عبرة للخلق ، وإقامة للحقّ لا للعبث والباطل ، يدير الليل على النهار ، ويدير النهار على الليل ، وكلّ واحد على الآخر ، ويزيد من ساعات أحدهما في ساعات الآخر.

والتكوير : هو إدارة الشيء على الشيء ، ومنه كور العمامة ، وقد تسمّى الزيادة كورا ، كما قيل في الدّعاء : (اللهمّ إنّي أعوذ بك من الحور بعد الكور) (٢) أي من النّقصان بعد الزيادة. وقوله : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ؛) أي إلى الوقت الذي وقّت الله الدنيا إليه وهو انقضاؤها وفناؤها ، وقوله : (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) (٥) ؛ أي خالق هذه الأشياء هو الله الغالب على كلّ شيء ، الغفّار لأوليائه وأهل طاعته.

وقوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ؛) أي خلقكم من نفس آدم وحدها ثم خلق منها زوجها حوّاء من ضلع من أضلاعه القصيرة ، (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ؛) يعني الإنزال ههنا الإنشاء والخلق ؛ أي وخلق لكم من كلّ صنف من الإبل والبقر والضّأن والمعز زوجين ذكرا وأنثى.

وقوله : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) ، أي خلقكم نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن تخرجوا من البطون ، (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ؛) يعني

__________________

(١) (ليس) سقطت من المخطوط ، والسياق يقتضيها.

(٢) أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب الحج : باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره : الحديث (٤٢٦ / ١٣٤٣) : عن علي الأزدي أن ابن عمر علّمهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا استوى على بعيره ... الحديث. والترمذي في الجامع الصحيح : الدعوات : باب ما يقول إذا خرج مسافرا : الحديث (٣٤٣٩) ، وقال : حديث حسن صحيح من طريق عبد الله بن سرجس.

٣٦٣

ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة (١). وقيل : ظلمة الأصلاب وظلمة الأرحام وظلمة البطون. وقوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ؛) الدائم الذي لا يزول ، ولا خالق غيره ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (٦) ؛ بعد هذا البيان والبرهان.

قوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ؛) أي إن تكفروا يا أهل مكّة بنعم الله ، فإنّ الله غنيّ عنكم ، لم يأمركم بالإيمان من حاجة له إليكم لا لجلب منفعة ولا لدفع مضرّة ، وإنما آمركم به لنفعكم ، (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ؛) أي لا يرضى لأوليائه وأهل طاعته الكفر. وقيل : معناه : ولا يرضى لعباده المخلصين الذي قال «فيهم» (٢)(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ)(٣) فألزمهم شهادة لا إله إلّا الله وحبّبها إليهم.

وقال السديّ : (ولا يرضى لعباده المؤمنين أن يكفروا) ، وهذه طريقة من قال بالتخصيص في هذه الآية ومن أجراها على العموم فمعناه : لا يرضى الكفر لأحد ، وكفر الكافر غير مرض ، وإن كان بإرادة ، فالله تعالى مقدّر الكفر غير راض به لأنه «ما» يمدحه (٤) ولا يثني عليه ، قال قتادة : (ما رضي الله لعبد ضلالة ولا أمره بها ولا دعاه إليها ، ولكن قدّره عليه) (٥).

قوله تعالى : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ؛) معناه : وإن تشكروا ما أنعم عليكم من التوحيد يرض ذلك الشكر لكم ويثيبكم عليه ، (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ؛) أي لا تؤخذ نفس وزرا بذنب أخرى ، (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ ؛)

__________________

(١) قاله الطبري في جامع البيان : مج ١٢ ج ٣ ص ٢٣٣ ، وعزاه إلى عكرمة وابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد والضحاك.

(٢) ما بين «» ليس في المخطوط.

(٣) الاسراء / ٦٥.

(٤) (ما) سقطت من المخطوط ، والسياق يقتضي ذكرها.

(٥) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢١٣ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه قال :

(والله ...) وذكره).

٣٦٤

في الآخرة ، (فَيُنَبِّئُكُمْ) ، فيجزيكم ، (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، في الدّنيا ، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٧) ، بعزائم القلوب.

قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ؛) إذا أصاب الكافر شدّة في عيشه أو بلاء في جسده دعا ربّه راجعا إليه بقلبه ، قال عطاء : (يريد عتبة بن ربيعة) (١) ، وقال مقاتل : (يعني أبا حذيفة بن المغيرة) (٢).

وقوله : (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ ؛) أي ثم إذا أعطاه نعمة منه ؛ أي أغناه وأنعم عليه بالصحّة ، (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ؛) أي نسي الضرّ الذي كان يدعو الله إلى كشفه ، (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً ؛) أي رجع إلى عبادة الأوثان ، (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ؛) أي ليزلّ عن دين الإسلام ، ويضلّ الناس ، (قُلْ ؛) يا محمّد لهذا الكافر : (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً ؛) في الدّنيا إلى أجلك ، لفظه لفظ الأمر ومعناه التهديد والوعيد ، (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) (٨) ؛ في الآخرة فما ينفع التمتّع القليل من الدنيا.

قوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ؛) معناه : هذا خير أيّها الكافر أم من هو قانت؟ وقيل : معناه : أمّن هو قانت كمن جعل لله أندادا. وقيل : معناه : أهذا الخير أم من هو قانت لله؟. والقانت : هو المواظب على طاعة الله تعالى ، القائم بما يجب عليه لأمر الله. و (آناءَ اللَّيْلِ) ساعاته.

وقوله : (ساجِداً وَقائِماً) نصب على الحال ؛ أي تارة ساجدا وتارة قائما ، يفعل ذلك حذرا من العذاب وطمعا في الثواب. وقرأ نافع وابن كثير : (أمن) بالتخفيف ؛ لأن ألف الاستفهام دخلت على (من) هو استفهام إنكار ، والمعنى : أمن هو قانت

__________________

(١) في معالم التنزيل : ص ١١٢٢ ؛ قال البغوي : (نزلت في عتبة بن ربيعة) ونقل قول مقاتل ثم قال :

(وقيل : عامّ في كل كافر).

(٢) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ١٢٨ ؛ قال : (يعني أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله المخزومي).

٣٦٥

كالأوّل. وروي أنّ قوله : (أم من هو قانت آناء اللّيل ساجدا وقائما) نزلت في عثمان ابن عفّان رضي الله عنه (١).

وقوله تعالى : و (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ؛) أي لا يستوي العالم والجاهل ، فكذلك لا يستوي المطيع والعاصي ، (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٩) ؛ أي يتّعظ بمواعظ الله ذوو العقول من الناس.

وقال مقاتل : (نزلت هذه الآية في عمّار بن ياسر وأبي حذيفة بن المغيرة المخزوميّ. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) يعني عمّار (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) يعني أبا حذيفة).

وعن ابن عبّاس ؛ أنّه قال : (من أحبّ أن يهوّن عليه الموقف يوم القيامة ، فليره الله ساجدا في سواد اللّيل (٢) ساجدا أو قائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) (٣).

قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ؛) أي أطيعوه واجتنبوا معاصيه ، وتمّ الكلام ثم قال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا ؛) أي وحّدوا الله وأحسنوا العمل ، (حَسَنَةٌ ؛) يعني الجنّة.

قوله تعالى : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ ؛) أي ارحلوا من مكّة ، وهذا حثّ لهم على الهجرة من مكّة إلى حيث يأمنون ، فيه بيان أنه لا عذر لأحد في ترك طاعة الله تعالى لكونه بأرض لا يتمكّن فيها من ذلك.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الحديث (١٨٣٧٨) عن يحيى البكاء أنه سمع ابن عمر قرأ الآية ، ثم قال : (ذلك عثمان بن عفّان رضي الله عنه) وفسّر ابن أبي حاتم قوله : (وإنّما قال ابن عمر ذلك ؛ لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان باللّيل وقراءته).

(٢) كرر الناسخ (ساجِداً) والسياق لا يقتضيها.

(٣) بمعناه ذكره الطبري تفسيرا في جامع البيان : مج ١٢ ج ٢٣ ص ٢٤٠ ، ونقله مختصرا بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في الأثر (٢٣١٦٣). وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير مختصرا : الأثر (١٨٣٧٩).

٣٦٦

وقوله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١٠) ؛ معناه : إنما يوفّى الصّابرون على دينهم فلا يتركونه بمشقّة تلحقهم. وهذه الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين لم يتركوا دينهم ، ولمّا اشتدّ عليهم الأمر صبروا وهاجروا (١) ، والمعنى : يعطون أجرهم كاملا على صبرهم على البلاء ، وهجران أهلهم وأوطانهم بغير وزن ولا مقدار ، بل يعطون نعيما وثوابا لا يهتدي إليه عقل ولا وصف.

قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (١١) ؛ أي قل يا محمّد لكفّار مكّة : إنّي أمرت أن أعبد الله ، (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (١٢) ، وأمرت أن أعبده على التوحيد والإخلاص ، لا يشوب عبادته شرك.

قال مقاتل : (وذلك أنّ كفّار قريش قالوا له : يا محمّد ما يحملك على ما أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملّة أبيك وجدّك وسادة قومك يعبدون اللّات والعزّى فتأخذ بها؟ فأنزل الله هذه الآية) (٢). أي قل لهم إنّي أمرت بالقرآن بتوحيد الله تعالى ، وأن آمر الخلق كلهم بذلك ، وأمرت أن أكون أوّل من أسلم من أهل هذا الزّمان.

وقوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٣) ؛ بالرّجوع إلى دين آبائي ، (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) (١٤) ؛ بالتوحيد لا أشرك به شيئا ، (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ؛) هذا أمر تهديد ، (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ؛) بأن صاروا إلى النار ، (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (١٥) ، يعني الكفار هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم من الأزواج والخدم بالتخلية في النار. ويقال : خسران الأهل أن يخسروا أهلهم من الحور العين التي أعدّت لهم في الجنّة لو أسلموا.

__________________

(١) أيضا ذكره البغوي وبعبارة المصنف في معالم التنزيل : ص ١١٢٢.

(٢) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ١٢٩ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

٣٦٧

وقوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ ؛) أي أطباق من النار تلهب عليهم ، (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ؛) أي مهاد من النار. يريد بذلك أنّهم جعلوا بين أطباق جهنّم ، فأحاطت بهم النار من كلّ جانب.

وإنما سمي الذي من تحتهم ظلا لأنه ظلل لا يكون أسفل منهم. وقوله تعالى : (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ ؛) أي ذلك الذي ذكر من عذاب الكفّار تخويف للمؤمنين ليخافوه فيتّقونه بالطاعة والتوحيد. ثم أمرهم بذلك فقال : (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) (١٦) ؛ أي اتّقوا عذابي بامتثال أوامري.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها ؛) يعني اجتنبوا كلّ ما يعبد من دون الله ، (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ ؛) أي ورجعوا إلى طاعة الله بعزائمهم وأقوالهم وأفعالهم ، (لَهُمُ الْبُشْرى) ، بالجنّة ، (فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ؛) وذلك لأنّ القرآن يشتمل على ذكر المباحات والطّاعات ، والمباحات حسنة ، والطاعات أحسن ، واستحقاق الثواب يتعلّق بفعل الأحسن.

ويجوز أن يكون معنى الآية : أن العفو عن القصاص أحسن من استيفاء القصاص ، والصبر أحسن من الانتصار ، كما قال الله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(١) ، وقال الله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(٢) ، وقال الله تعالى : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ)(٣) فجعل الأخذ بأحسن الطّريقين أعظم للصواب.

وقيل : معنى (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي أحسنه وكلّه حسن ، قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ ؛) أي الذين وصفناهم ، (وَأُولئِكَ) ، هم الذين وفّقهم الله للصواب ، (هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١٨) ؛ أي ذوو العقول.

__________________

(١) البقرة / ٢٣٧.

(٢) الشورى / ٤٣.

(٣) البقرة / ١٨٤.

٣٦٨

وقال عطاء عن ابن عبّاس : (أنّ أبا بكر رضي الله عنه آمن بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصدّقه ، فجاء عثمان رضي الله عنه وعبد الرّحمن بن عوف وطلحة والزّبير وسعد وسعيد ، فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا ، فنزل فيهم (فَبَشِّرْ عِبادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) أي يستمعونه من أبي بكر (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي حسنه ، وكلّه حسن ، أولئك الّذين هداهم الله وأولئك هم ذوو العقول) (١).

وقوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ؛) معناه : أفمن وجبت عليه كلمة العذاب بكفره كمن ليس كذلك ، (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (١٩) ؛ أي سبق في علم الله أنه من أهل النار ، أفأنت تنقذه فتجعله مؤمنا ، يعني لا تقدر على ذلك.

قال عطاء : (يريد أبا لهب وأولاده ومن تخلّف من عشيرة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان به) (٢). قوله تعالى : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ ؛) بالإيمان والطاعة ، (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ ؛) أي لهم منازل في الجنّة رفيعة وفوقها منازل أرفع منها ، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) (٢٠) ، وعدهم الله تلك الغرف والمنازل وعدا لا يخلفه.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ؛) يعني المطر ، (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ؛) أي فأجراه في الأرض ينابيع وهو جمع ينبوع ، والينبوع : المكان الذي ينبع منه الماء. قال مقاتل : معناه (فجعله عيونا وركايا (٣) في الأرض) (٤) وذلك أنّ أصل المياه الّتي في الأرض من السّماء.

__________________

(١) أيضا ذكره البغوي مختصرا في معالم التنزيل : ص ١١٢٣.

(٢) ذكره البغوي مختصرا في معالم التنزيل : ص ١١٢٣. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٢٤٤.

(٣) الرّكايا : أصلها (الرّكوة) وهي شبه تور من أدم ، وفي الصحاح : الرّكوة التي للماء وجمعها (ركاء) و (ركوات) بفتح الكاف. وهي إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء. وركا الأرض ركوا : حفرها. وركا ركوا : حفر حوضا مستطيلا. والرّكية : البئر تحفر ، والجمع ركيّ وركايا. ينظر : مادة (ركا) في لسان العرب.

(٤) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ١٣٠.

٣٦٩

وقوله : (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ؛) أي ثم يخرج بالمطر زرعا من بين أحمر وأصفر وأبيض وأخضر ، (ثُمَّ يَهِيجُ ؛) أي ييبس ، (فَتَراهُ ؛) بعد الخضرة ، (مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ ؛) الله ، (حُطاماً ؛) أي متكسّرا متفتّتا دقاقا ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٢١) ؛ أي الذي ذكر من صنع الله وقدرته لدلالة ذوي العقول على سرعة زوال الدّنيا ، وعلى قدرة الله على البعث بعد الموت.

قوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ؛) معناه : أفمن وسّع الله صدره لقبول الإسلام ، فهو على بيان وحجّة من رّبه يبصر به الحقّ من الباطل ، كمن طبع الله على قلبه فلم يهتد للحقّ لقسوته ، قال قتادة : (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) : النّور هو كتاب الله تعالى ، فيه يأخذ وبه ينهى) (١).

وتقدير الآية : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ، كمن قسي قلبه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : (تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية ، قالوا : يا رسول الله وما هذا الانشراح؟ قال : [إذا دخل نور القلب انشرح وانفسح] قلنا يا رسول الله ؛ وما علامة ذلك؟ قال : [الإنابة إلى دار الخلود ، والتّجافي عن دار الغرور ، والتّأهّب للموت قبل لقاء الموت](٢). قيل : إنّ هذه الآية نزلت في عمّار بن ياسر (٣) ، وقال مقاتل : (أفمن شرح الله صدره للإسلام يعني النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ ؛) هم أبو جهل وأصحابه من الكفّار ، (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٢). وقيل : إنّ قوله (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) يعني عليّا وحمزة ، وقوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) هو أبو لهب وأولاده (٤). وقوله (مِنْ ذِكْرِ اللهِ) أي عن ذكر الله.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣١٨٣).

(٢) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢١٩ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود) وذكره.

(٣) نقله القرطبي في مقاتل ، كما في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٢٤٧.

(٤) ذكره أيضا القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٢٤٨.

٣٧٠

قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ؛) يعني القرآن ، سمي حديثا لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحدّث به قومه. وقوله : (كِتاباً ؛) منصوب على البدل من أحسن الحديث. قوله : (مُتَشابِهاً ؛) أي يشبه بعضه بعضا في كونه حكمة ومصلحة ، وفي أنه حقّ لا تناقض فيه.

وقوله تعالى : (مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ؛) أي مكرّر الأنباء والقصص للإبلاغ والتأكيد ، وتثنى تلاوته في الصّلاة وفي غيرها فلا يمل من سماعه.

وقوله : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) خوفا مما في القرآن من الوعيد ، ومعنى تقشعرّ : تأخذهم قشعريرة وهي تغيّر يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله ، تحاتّت عنه ذنوبه كما يتحاتّ عن الشّجرة ورقها](١). وقال الزجّاج : (إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرّت جلود الخائفين) (٢) ، وقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إذا اقشعرّ جلد الإنسان من خشية الله حرّمه الله على النّار](٣).

وعن عبد الله بن عروة قال : قلت لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه : كيف كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت : (كانوا كما نعتهم الله تعالى ، تدمع عيونهم وتقشعرّ منه جلودهم) فقلت لها : إنّ ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خرّوا مغشيّا عليهم؟ قالت : (أعوذ بالله من الشّيطان) (٤).

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٢٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه) وذكره. وفي مجمع الزوائد : ج ١٠ ص ٣١٠ ؛ قال الهيثمي : (رواه البزار ، وفيه أم كلثوم بنت العباس ، ولم أعرفها ، وبقية رجالها ثقات). وأخرجه البغوي بإسناده في معالم التنزيل : ص ١١٢٤.

(٢) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٢٤٦.

(٣) ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٢٥٠ ، بلفظ : [ما اقشعرّ جلد عبد ...]. وأخرجه البغوي بإسناده في معالم التنزيل : ص ١١٢٥.

(٤) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٢٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن

٣٧١

وروي : أنّ ابن عمر رضي الله عنه مرّ برجل من أهل العراق ساقط فقال : (ما بال هذا؟) فقالوا : إنّه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط ، فقال ابن عمر رضي الله عنه : (إنّا لنخشى الله ولا نسقط) وقال ابن عمر : (إنّ الشّيطان ليدخل في جوف أحدهم! ما كان هذا صنع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (١).

قوله تعالى : (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ؛) أي تسكن رعدة أعضائهم إذا سمعوا آيات الرّحمة ، وقيل : تلين جلودهم وقلوبهم ؛ أي تطمئنّ وتسكن إلى ذكر الله للجنّة والثواب.

قال قتادة : (هذا نعت أولياء الله ، وصفهم الله بأن تقشعرّ جلودهم وتطمئنّ قلوبهم إلى ذكر الله ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم ، إنّما ذلك في أهل البدع وهو من الشّيطان) (٢).

وقوله تعالى : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ ؛) يعني أحسن الحديث وهو القرآن ، هدى الله يهديه ، (مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٢٣).

قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ؛) قال ابن عبّاس : (وذلك أنّ الكافر يلقى في النّار مغلول اليد إلى العنق ، لا يتهيّأ له أن يتّقي النّار إلّا بوجهه) (٣) ، فكان معنى الآية : أفمن يتّقي بوجهه شدّة العذاب يوم القيامة كمن يدخل الجنة ويتلذذ بنعيمها.

__________________

ـ مردويه وابن أبي حاتم وابن عساكر ع عروة بن الزبير ...) وذكره. وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٨٣٨٣).

(١) أخرجه البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٢٥.

(٢) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٢١ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة ...) وذكره.

(٣) في جامع البيان : مج ١٢ ج ٢٣ ص ٢٥١ : تفسير الآية ؛ قال الطبري : (وقال آخرون : هو أن ينطلق به إلى النّار مكتوفا ، ثم يرمى به فيها ، فأوّل ما تمسّ النار وجهه ، وهذا قول يذكر عن ابن عباس من وجه كرهت أن أذكره لضعف إسناده).

٣٧٢

قيل : إنّ هذه الآية نزلت في أبي جهل ، قال الكلبيّ : (ينطلق به إلى النّار مغلولا ، فإذا دفعته الخزنة فيها تتلقّفه النّار بأوّل وجهه) ، وقوله : (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٢٤) ؛ أي يقول الخزنة للكفار : ذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون في الدّنيا من الكفر والمعاصي.

قوله تعالى : (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ؛) أي كذب الذين من قبل كفّار مكّة رسلهم ، (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) (٢٥) ؛ يعني وهم آمنون في أنفسهم غافلون عن العذاب. وفي هذه الآية تحذير لأهل مكّة لئلّا يسلكوا طريقة من قبلهم فينزل بهم من العذاب ما نزل بمن قبلهم.

وقوله تعالى : (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ؛) أي الهوان والعذاب في الحياة الدنيا ، (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ؛) مما أصابهم في الدّنيا ، (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٢٦) ؛ ولكنّهم لم يعلموا ذلك.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ؛) أي ولقد ضربنا لأهل مكّة في هذا القرآن من كلّ مثل لهم فيه من كلّ وجه ما يحتاجون إليه ، (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٧) ؛ فيؤمنوا.

وقوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٢٨) ؛ قرآنا نصبه على الحال كما يقال : جاءني زيد رجلا صالحا ، وقوله تعالى (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أي مستقيم وليس مختلف ، وعن ابن عبّاس : (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) ؛ أي غير مخلوق) (١) ، وقيل : غير تضادد واختلاف ، لا يخالف الكتب المنزّلة قبله.

قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ؛) أي وصف الله مثل آلهتهم التي يعبدونها من دون الله ، يقول الله : الذي يعبد آلهة شين في أخلاقهم وشراسة ، والذي يعبد ربّا واحدا خالصا في عبادته إياه ، والمعنى فيه شركاء متشاحّون ، ورجلا سلما لرجل سلم له من غير منازع ، وقيل : معناه : أنّ أربابا كثيرة فيه

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٢٣ ؛ قال السيوطي : (أخرجه الآجري في الشريعة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات).

٣٧٣

شركاء متشاحّون سيّئة أخلاقهم ، وكلّ واحد منهم يستخدمه بقدر نصيبه ، يقال : رجل شكس وشرس ، وضرس وضبس ، إذا كان سيّء الخلق ومخالفا للناس.

قوله تعالى : (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ ؛) (ورجلا سالما) هذه قراءة ابن كثير وأبي عمرو ومجاهد والحسن ويعقوب ، واختيار أبي عبيد ؛ لأن السالم «الخالص» (١) ضدّ المشترك ، وقرأ الباقون (سَلَماً) من غير ألف بفتح اللام وهو ضدّ المحارب ، ولا موضع للحرب ههنا ، والمعنى ورجلا ذا سلم لرجل ، من قولهم : هو لك سلم ؛ أي مسلم لا منازع لك فيه.

وقوله : (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً ؛) أي هل يستوي عندك شرك فيه مختلفون يملكونه جميعا ورجل خالص لرجل لا شركة فيه لأحد. والمعنى هل يستوي من يعبد آلهة شتّى مختلفة ، يعني الكافر ، والذي يعبد ربّا واحدا ، يعني المؤمن ، وهذا استفهام معناه الإنكار ؛ أي لا يستويان.

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ ؛) أي الشكر لله دون غيره من المعبودين ، وقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢٩) ؛ ما يصيرون إليه من العقاب ، والمراد بالأكثر الكلّ.

قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٣٠) ؛ إنك يا محمّد ميّت عن قليل وإنّهم ميّتون ، وقيل : معناه : إنك ستموت وإنّهم سيموتون ، (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (٣١) ؛ يعني المحقّ والمبطل ، والظالم والمظلوم. قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) ، بأن جعل له ولدا وشريكا ، (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ ؛) وكذب بالصدق بالتوحيد والقرآن إذ جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله تعالى : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) (٣٢) ؛ لفظة استفهام وهو تقدير وتحقيق ؛ أي مثواهم جهنّم.

قوله : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ؛) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَصَدَّقَ بِهِ ؛) أبو بكر رضي الله عنه كان يصدّقه في كلّ ما أخبر به ، فلذلك سمي صدّيقا ، وقوله تعالى :

__________________

(١) في المخطوط : (هو) وضبطت كما في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٢٥٣.

٣٧٤

(أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٣٣) ؛ يعني أبا بكر وأصحابه المؤمنين ، وقوله تعالى : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ؛) يعني لهم ما يشاؤون من الكرامة في الجنّة و (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) (٣٤) ؛ في أقوالهم وأعمالهم. وقوله تعالى : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا ؛) أي ليكفّر الله عنهم أقبح أعمالهم التي عملوها في الدّنيا بحسناتهم ، (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٥) ، قال مقاتل : (بالمحاسن من أعمالهم ، ولا يجزيهم بالمساوئ) (١).

قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ؛) وذلك «أن» (٢) المشركين من أهل مكّة قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّك لا تزال تشتم آلهتنا وتعيبها فاتّقها أن لا تصيبك بشيء فتخبلك! فأنزل الله هذه الآية. وقيل : معناه : أليس الله بكاف عبده محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكفيه عداوة من يعاديه.

ومن قرأ (عباده) فالمراد بالعباد الأنبياء ، وذلك أنّ الأمم قصدتهم بالسّوء ، وهو قوله تعالى : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ)(٣) فكفاهم الله شرّ من عاداهم ، يعني إنه كافيك كما كفى هؤلاء الرسل قبلك.

وقوله تعالى : (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ، أي بالذين يعبدون من دونه هم الأصنام. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) (٣٧).

قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ ؛) وذلك أنّهم «مع» (٤) عبادتهم غير الله يقرّون أن الله خالق هذه الأشياء ، فجعل الله إقرارهم بذلك حجّة عليهم.

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ١٣٣.

(٢) (أن) سقطت من المخطوط.

(٣) غافر / ٥.

(٤) «مع» سقطت من المخطوط.

٣٧٥

وبيّن أنه تعالى إذا أراد بعبده ضرّا لم تقدر الأصنام على دفعه عنه ، وإذا أراد بعبد رحمة لم تقدر الأصنام على حبسها عنه ، فكيف يعبدونها ويتركون عبادة الله الذي له هذه الصفات.

قوله تعالى : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ) أي أمر الله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحتجّ عليهم بأن جميع ما تعبدون من دون الله لا يملكون كشف ضرّ ، قال ابن عبّاس رضي الله عنه : (والمعنى : أرادني الله بفقر أو مرض أو بلاء أو شدّة ، هل هنّ كاشفات ضرّه ، أو أرادني برحمة أي بخير وصحّة ، هل هنّ حابسات تلك الرّحمة عنّي).

قرأ أبو عمرو ويعقوب (كاشفات) و (ممسكات) بالتنوين ؛ لأنّ اسم الفاعل غير واقع ، وما لم يقع منه فوجهها التنوين ، وقرأ الباقون بغير تنوين استخفافا ، وكلا الوجهين حسن.

وقوله تعالى : (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ ؛) أي يكفيني الله تعالى الذي بيده الضرّ والرحمة ، (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٣٨) ؛ أي به يثق الواثقون لا بغيره.

قوله تعالى : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ ؛) أي على ناحيتكم التي اخترتموها ، (إِنِّي عامِلٌ ؛) على ناحيتي وجهتي ، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ؛) أي يفضحه ويهلكه في الدّنيا ، (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٤٠) ؛ وينزل عليه عذاب دائم في الآخرة. ويجوز أن يكون قوله (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) ابتداء كلام من الله تعالى ، وخبره (يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ).

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ؛) يعني القرآن لتعلموا ما فيه وتعملوا به ، (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ ؛) أي فمنفعة اهتدائه راجعة إلى نفسه ، (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) ، ومن ضلّ فضلاله راجع إليه ، (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (٤١) ؛ أي بحفيظ ؛ أي تجبرهم بالإيمان ، وهذا كان قبل أن يؤمر بقتالهم.

٣٧٦

قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) معناه : الله يقبض الأرواح عند انقضاء آجالها ، ويقبض الأرواح التي لم تمت في منامها ، (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى ؛) فيحبس الأرواح التي قضى عليها الموت ولا يردّها إلى الأجساد ، ويردّ أرواح النائمين إليهم عند الاستيقاظ ، (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ؛) أي إلى الأجل الذي قدّر الله لهم وهو انقضاء الأجل ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ ؛) إن في ردّ الأرواح بعد القبض لعلامات ، (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٢) ؛ في قدرة الله تعالى ، فيستدلّون بذلك على قدرته على البعث.

قال الزجّاج : (لكلّ إنسان نفسان ؛ أحدهما : نفس التّمييز ؛ وهي الّتي تفارقه إذا نام فلا يعقل. والأخرى : نفس الحياة ؛ إذا زالت زال معها النّفس ، والنّائم يتنفّس) (١). وعن ابن جريج عن ابن عبّاس أنه قال : (إنّ النّفس الّتي هي العقل والتّمييز ، والرّوح هو الشّعاع الّذي به يتحرّك الإنسان ، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه ، وإذا مات قبض نفسه وروحه) (٢).

ويقال : إن الأشباح له نفس وروح وحياة ، والبهائم لها أرواح ، والنبات له حياة ، فنما النبات بحياته ، وتحرّك البهائم بأرواحها ، وتمييز الإنسان بنفسه ، فإذا نام غرب عنه عقله وفهمه وتمييزه ، فإذا انتبه عاد كما كان ، وكذلك الميّت إذا بعث عاد يبعث كما كان.

__________________

(١) بمعناه في معاني القرآن وإعرابه للزجاج : ج ٤ ص ٢٦٨ ، وعلى ما يبدو أن المصنف ساقه بالمعنى ، ونقل البغوي معناه في معالم التنزيل : ص ١١٢٧ ـ ١١٢٨.

(٢) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٣٠ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس). وذكره بلفظ قريب. وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٣٨٩٧). وبمعناه أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط : ج ١ ص ١١٦ : الحديث (١٢٢). وفي مجمع الزوائد : ج ٧ ص ١٠٠ ؛ قال الهيثمي : (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح).

٣٧٧

وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أينام أهل الجنّة؟ فقال : [النّوم أخو الموت ، وأهل الجنّة لا ينامون ولا يموتون](١). وروي أن في التوراة مكتوب : يابن آدم كما تنام تموت ، وكما تستيقظ تبعث.

وقوله (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) أي يمسكها عن جسد ، يعني الروح التي توفّاها فلا تعود إلى الجسد ، وقوله (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) يعني النّفس إلى الجسد (إلى أجل مسمّى) أي إلى انقضاء الأجل.

قرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف : (قضي عليها) بضمّ القاف وكسر الضاد وفتح الياء ، ورفع (الموت) على ما لم يسمّ فاعله. وقرأ الباقون : (قَضى) على الفعل الماضي ، ونصب (الموت عليها) (٢).

قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) قال المفسّرون : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتعارفوا ما شاء الله ، ثم يمسك الله أرواح الأموات فلا يردّها ، وأرسل أرواح الأحياء إلى الأجساد إلى وقت انقضاء مدّة حياتها. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليضطجع على جنبه الأيمن ، وليقل : باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه ، إن أمسكت نفسي فارحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصّالحين](٣).

قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) ؛ نزلت في أهل مكّة ، زعموا أن الأصنام شفعاؤهم عند الله ، فقال تعالى منكرا عليهم (أم اتخذوا من دون الله آلهة) أي بل اتّخذوا من دون الله آلهة يعبدونها طمعا في شفاعتها ، (قُلْ) ،

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط : الحديث (٩٢٤) عن جابر بن عبد الله ، والحديث (٨٨١١) مختصرا. وفي مجمع الزوائد : ج ١٠ ص ٤١٥ ؛ قال الهيثمي : (رواه الطبراني في الأوسط والبزار ، ورجال البزار رجال الصحيح).

(٢) ينظر : الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ٣٤٢.

(٣) أخرجه الطبراني في الدعاء : الحديث (٣٥٤ ـ ٣٥٦). ومسلم في الصحيح : كتاب الذكر والدعاء : الحديث (٦٤ / ٢٧١٤). والترمذي في الجامع : أبواب الدعوات : الحديث (٣٤٠١) ، وقال : حسن.

٣٧٨

لهم يا محمّد : (أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) (٤٣) ، أتعبدونهم وإن كانوا لا يقدرون على شيء من الشفاعة ولا يعقلون الشفاعة ، فكيف يشفعون؟ وقيل : ولا يعقلون أنّكم تعبدونهم.

ثم أخبر أنه لا شفاعة إلّا بإذنه ، فقال : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٤٤) ؛ أي لا يشفع أحد إلّا بإذنه ، والمعنى لا يملك (١) أحد الشفاعة إلّا بتمليكه ، وهو إبطال لشفاعة الأصنام.

قوله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ؛) وذلك أنّ المشركين إذا قيل لهم لا إله إلّا الله وحده نفروا من ذلك واستكبروا.

والاشمئزاز في اللّغة : النّفور والاستكبار. قال ابن عبّاس رضي الله عنه : (اشمأزّت انقبضت عن التّوحيد) وقال قتادة : (استكبرت) (٢) ، وقال أبو عبيدة : (نفرت).

قوله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ؛) يعني الأصنام التي يعبدونها من دون الله ، (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٤٥) ؛ والمعنى إذا قيل لهم : لا إله إلّا الله ، نفروا من ذلك ، وإذا ذكرت أصنامهم فرحوا بذكرها. فقيل له : (قُلِ ؛) لهم يا محمّد : (اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؛) أي خالقهما ، (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ؛) أي عالم ما غاب عن العباد ، وما علمه العباد ، (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ) ، أي تقضي بين عبادك ، (فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٤٦) ؛ من الدّين.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ؛) أي لو كان للّذين ظلموا أنفسهم بالشّرك ما في الأرض جميعا من المال ومثله معه لفدوا به أنفسهم لشدّة ما ينزل بهم من العذاب ، ثم لا يقبل منهم ذلك الفداء ، وظهر لهم من عقاب الله ما لم يكونوا يتوقّعون في الدّنيا أنه ينزل بهم في الآخرة.

__________________

(١) في المخطوط : (يَمْلِكُونَ).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٢٣٥).

٣٧٩

وذلك أنّهم لمّا كانوا لا يقرّون بالبعث والنّشور كانوا لا يتوقّعون أهوال يوم القيامة ، بل كانوا ينتظرون ثواب الله أن لو قامت القيامة كما أخبر الله عنهم بقوله (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى)(١) فإذا رأوا العذاب فقد ، (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ؛) وظهر لهم عقوبات ما كسبوا من المعاصي ، (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٤٨) ، وحلّ بهم جزاء استهزائهم بالكتاب والرسول.

قوله تعالى : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ؛) أي إذا أصابه مكروه دعانا لنكشف عنه ، (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) ، ثم أعطيناه نعمة منّا من صحّة وعافية ، ويسر بعد شدّة ، (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ ؛) الله أنّني أهل لذلك ، وقال : على علم منّي فيه بوجوه مكاسبة.

وقوله : (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ؛) أي بل النعمة والشدّة بليّة وامتحان من الله للغنيّ والفقير ، للغنيّ بالشّكر وللفقير بالصبر ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٤٩) ؛ أنّها من الله.

قوله تعالى : (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ؛) أي قد قال تلك الكلمة قارون حين قال (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي)(٢). والمعنى قد قالها الذين من قبل هؤلاء الكفّار ، (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٥٠) ؛ أي ما أغنى عنهم الكفر من العذاب شيئا ، والمعنى أنّهم ظنّوا إنما آتيناهم لكرامتهم علينا ، ولم يكن كذلك ؛ لأنّهم وقعوا في العذاب ، ولم يغن عنهم ما كسبوا شيئا ، وقوله تعالى : (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ؛) أي جزاؤها.

ثم أوعد كفار مكّة فقال : (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ؛) أي جزاء ما قالوا وعملوا ، (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) (٥١) ؛ لأن مرجعهم الله ، فهم لا يعجزونه ولا يفوتونه فيجازيهم بأعمالهم.

__________________

(١) فصلت / ٥٠.

(٢) القصص / ٧٨.

٣٨٠