التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

ثم أمر بأن يخبرهم أنّهم على الضّلال بعبادة غير الله تعالى بقوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤) ؛ وهذا على وجه الإنصاف في الحجّة لاستمالة قلوبهم ، كما يقول القائل من المسارعين : أحدنا كاذب ؛ وهو يعلم أنّه صادق وصاحبه كاذب.

والمعنى : ما نحن وأنتم إلّا على أمر واحد ؛ أحد الفريقين مهتد والآخر ضالّ ، فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن اتّبعه على الهدى ، ومن خالفه في ضلال مبين.

قوله تعالى : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٥) أي قل يا محمّد للكفّار لا تؤاخذون بجرمنا ، ولا نؤاخذ بجرمكم ، فانظروا لأنفسكم واعلموا أنّ حرصنا على إيمانكم لا ينفعكم ، وهذا على وجه التّبرّؤ منهم ومن كفرهم.

قوله تعالى : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ؛) يعني بعد البعث في الآخرة في المحشر ، (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ) ؛ أي ثم يقضي بيننا ويحكم بيننا بالعدل ، (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) (٢٦) ؛ أي وهو القاضي العليم بما يقضي.

قوله تعالى : (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلَّا ؛) أي قل لهم أروني الّذين ألحقتموهم بالله تعالى وجعلتموهم شركاء الله في العبادة ؛ هل لهم قدرة على الخلق والأمر ، وهل يرزقون ويخلقون؟ وقوله تعالى (كَلَّا) كلمة ردع وزجر ؛ أي ارتدعوا عن مقالتكم وانزجروا ؛ فإنّكم لا تقدرون أن تجعلوا لله شركاء ، (بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧) ؛ أي المنيع الغالب لكلّ شيء (١) ، الحكيم في تدبيره لخلقه ، فأنّى يكون له شريك في ملكه. وقيل : معناه : قل أروني الذين ألحقتموهم بالله في العبادة شركاء هل يرزقون ويخلقون؟ كلّا ؛ لا يرزقون ولا يخلقون ، بل الذي يخلق ويرزق هو الله العزيز في ملكه ، الحكيم في أمره.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) ؛ أي ما أرسلناك يا محمّد إلّا للناس كافّة أي كلّهم ، أحمرهم وأسودهم. وقيل : معناه : إلّا

__________________

(١) في المخطوط : (أي المنيع الغالب الذي لكل شيء) ولا يستقيم المعنى.

٢٤١

مانعا للناس من الكفر والضّلال ، والكفّ على هذا هو المنع. وأدخلت الهاء هاهنا للمبالغة كالرّواية والعلامة ، (بَشِيراً) بالخير لمن أطاع الله ، (وَنَذِيراً) أي ومخوّفا بالنار لمن كفر بالله ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢٨) ؛ يعني كفّار مكّة لا يتدبّرون القرآن ، فلو تدبّروا لعلموا.

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ؛) أي يقول الكفّار : متى هذا الوعد الذي تخوّفونا به من البعث والعذاب ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٩) ؛ في مقالتكم ، (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) (٣٠) ؛ أي قل لبعثكم وعذابكم ميقات يوم لا يؤخّر عن وقت الوعد ولا يقدّم وهو يوم القيامة.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ؛) أي قال الكفّار : لن نؤمن بصدق هذا القرآن ولا بالّذي بين يديه من أمر الآخرة ، والنشأة الثانية.

وقيل : معنى (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) يعنون التّوراة والإنجيل ، وذلك : أنّه لمّا قال مؤمنوا أهل الكتاب : إنّ صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابنا وهو نبيّ مبعوث ، كفر أهل مكّة بكتابهم.

وقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ؛) أي ولو ترى يا محمّد مشركي مكّة محبوسون في المحشر للحساب يوم القيامة ، يتجاوبون فيما بينهم يردّ بعضهم على بعض القول في الجدال ، ويحمل كلّ واحد منهم الذنب على صاحبه ، فيقول الأتباع لرؤسائهم : (لَوْ لا أَنْتُمْ ؛) ودعاؤكم إيّانا إلى الكفر ، (لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) (٣١) ؛ كغيرنا ، بل أنتم منعتمونا وصددتمونا عن الإيمان.

فأجابهم رؤساؤهم على وجه الإنكار : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) (٣٢) باختياركم الكفر على الإيمان.

٢٤٢

فقال الأتباع للرّؤساء : (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً ؛) قال الأخفش : و (اللّيل والنّهار لا يمكران بأحد ، ولكن يمكر فيهما ، وهذا كقوله (مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ)(١) وهذا من سعة العربيّة) (٢).

والمعنى : بل مكركم بنا في الليل والنهار إذ تأمروننا ، وكذلك يقال : فلان نهار صائم وليله قائم ، وقال الشّاعر : (ما ليل المطي بنائم) (٣). ومثله قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ)(٤). وقيل : مكر اللّيل والنهار بهم طول السّلامة فيهما ، كقوله (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ)(٥).

قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ؛) أي أضمروها في أنفسهم ؛ لأن موضع النّدامة القلب. وقيل : أظهروها فيما بينهم ، أقبل بعضهم يلوم بعضا ، ويعرض بعضهم بعضا الندامة ، وهذا من ألفاظ الأضداد ، يقال : أسرّ إذا كتم ، وأسرّ إذا أظهر.

وقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ؛) أي غلّت أيمانهم إلى أعناقهم ، (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٣) ؛ من الشّرك في الدّنيا.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها ؛) أي ما أرسلنا في أهل قرية من رسول إلّا قال رؤساؤها وأعيانها وأولو النّعمة فيها : (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ؛) من الإيمان والتّوحيد ، (كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا ؛) للرّسل :

__________________

(١) محمّد / ١٣.

(٢) قاله الأخفش في معاني القرآن : ج ٢ ص ٤٤٥ ، تحقيق د. فائز فارس.

(٣) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٣٠٣ ؛ نقل القرطبي قال : وأنشد جرير :

لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى

ونمت وما نوم المطى بنائم

(٤) محمّد / ٢١.

(٥) الحديد / ١٦.

٢٤٣

(نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً ؛) فكما فضّلنا عليكم في الدّنيا لن نعذب بذنوبنا في الآخرة! افتخر مشركوا مكّة على رسول الله والمؤمنين بأموالهم وأولادهم ، وظنّوا أنّ الله إنّما خوّلهم المال والولد كرامة لهم عنده ، فقالوا (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٣٥) ؛ أي إنّ الله أحسن إلينا بالمال والولد فلا يعذّبنا!

فقال الله تعالى لنبيّه عليه‌السلام : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ؛) يعني أنّ بسط الرزق وتضييقه من الله تعالى بفعله إبتلاء وامتحانا ، ولا يدلّ البسط على رضا الله تعالى ، ولا التضييق على سخطه ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٦) ؛ يعني أهل مكّة لا يعلمون حين ظنّوا أنّ أموالهم وأولادهم دليل على كرامة الله لهم.

قوله تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ ؛) أي ليست كثرة أموالكم ولا أولادكم ب الخصلة (بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى ؛) أي بالتي تقرّبكم إلى الثواب والكرامة قربة. وقيل : معناه : بالّتي تقرّبكم عندنا قربى. قال الأخفش : (زُلْفى) : اسم المصدر ؛ كأنّه أراد : بالّتي تقرّبكم عندنا تقريبا) (١). (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ؛) بصرف المال في وجوه الخير ، وبصرف الأولاد في طاعة الله تعالى. وقيل : معناه : إلّا من آمن وعمل صالحا فإنّ إيمانه وعمله يقرّبه منّي.

وقوله تعالى : (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا ؛) أي لهم الجزاء المضاعف على حسناتهم بالحسنة الواحدة عشرا ، (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ ؛) الجنّة ، (آمِنُونَ) (٣٧) ؛ من كلّ آفة ومكروه. والغرفة : هي البيوت فوق الأبنية.

قرأ حمزة (وهم في الغرفة) على الواحدة ، لقوله (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ)(٢) ، وقرأ الباقون (فِي الْغُرُفاتِ) على الجمع ، لقوله (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً)(٣) ، وقرأ

__________________

(١) قاله الأخفش في معاني القرآن : ج ٢ ص ٤٩٥ ؛ وفيه : (تقرّبكم عندنا أزلافا). وج ٢ ص ٦٦٣. تحقيق د. عبد الأمير محمد أمين الورد.

(٢) الفرقان / ٧٥.

(٣) العنكبوت / ٥٨.

٢٤٤

يعقوب (فأولئك لهم جزاء) بالنصب منوّنا (الضّعف) بالرفع تقديره : فأولئك لهم الضعف جزاء على التقدير والتأخير.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ ؛) أي يسعون في دلائل التوحيد والنبوّة معاندين ، يحسبون أنّهم يفوتوننا ويعجزوننا ، (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) (٣٨) ؛ أي محبوسون.

وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ؛) قد تقدّم تفسيره.

وقوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ؛) أي ما أنفقتم من مال في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه في الدّنيا بالعوض ، وفي الآخرة بالحسنات والدّرجات.

وقوله تعالى (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) لكم أو عليكم ، يقال : أخلف الله له وعليه ؛ إذا أبدل الله له ما ذهب عنه ، وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : [من فقه المراد فقه في معيشته](١).

وقال الكلبيّ : (معناه : وما أنفقتم في الخير والبرّ فهو يخلفه ، إمّا أن يعجّله في الدّنيا ، وإمّا أن يدّخر له في الآخرة) (٢). وعن سعيد بن بشّار قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ما من يوم يصبح العباد فيه إلّا وملكان أحدهما يقول : اللهمّ أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهمّ أعط ممسكا تلفا](٣). وقوله تعالى : (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٣٩) ؛ أي وهو خير المخلفين ، وإنّما خير الرّازقين لأنه قد يقال : رزق السّلطان الجند.

__________________

(١) عن أبي الدرداء ؛ أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٥ ص ١٩٥. وأبو نعيم في حلية الأولياء : ج ١ ص ٢١١ موقوفا. وأخرجه ابن عدي في الكامل : ج ٢ ص ٢١١ بلفظ : [من فقهك نفقتك في معيشتك]. وفي مجمع الزوائد : ج ٤ ص ٧٤ ؛ قال الهيثمي : (رواه أحمد ، وفيه أبو بكر بن أبي مريم ، وقد اختلط).

(٢) ذكره ابن عادل الحنبلي في اللباب في علوم الكتاب : ج ١٦ ص ٧٧.

(٣) تقدم.

٢٤٥

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ؛) يعني المشركين ، (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (٤٠) ؛ هذا استفهام توبيخ للعابدين كقوله تعالى لعيسى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)(١). فنزّهت الملائكة ربّهم عن الشّرك و (قالُوا سُبْحانَكَ ؛) تنزيها لك مما أضافوا إليك من الشّركاء ، (أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ ؛) أي ما اتّخذناهم عابدين ، ولا تولّيناهم ولسنا نريد غيرك وليّا ، وأنت العالم بأمورنا وافترائهم علينا ، كنّا نواليك ولا نواليهم ، (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) (٤١) ، أي أطاعوا الشّياطين في عبادتهم إيّانا ؛ لأن الشياطين كانت دعوتهم إلى ذلك ، فكان أكثرهم بالشّياطين مؤمنين.

قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ؛) أي يقال لهم : اليوم لا يقدر بعضكم لبعض جرّ نفع ولا دفع ضرّ ، (وَنَقُولُ) ، خزنة النار بأمر الله ، (لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (٤٢) في الدّنيا.

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ؛) معناه : إذا يقرأ على أهل مكّة آياتنا وهي القرآن واضحات الحجج ، (قالُوا ما هذا ؛) يعنون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) ، وقالوا : ما هذا الذي أتانا به إلّا كذب مفترى؟ يعنون القرآن ، (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ؛) وهو القرآن : ما هذا القرآن؟ (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٤٣).

قوله تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) (٤٤) ؛ أي ما آتينا أهل مكّة من كتب يقرؤنها. والمعنى : من أين كذبوك ، ولم يأتهم كتاب ولا نذير بهذا الذي فعلوه ، وما أرسلنا إليهم قبلك يا محمّد من رسول.

__________________

(١) المائدة / ١١٦.

٢٤٦

ثم خوّفهم وأخبر عن عاقبة من كذب قبلهم فقال : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ؛) يعني أمم كافرة ، (وَما بَلَغُوا ؛) يعني أهل مكّة ، (مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ ؛) أي ما بلغ هؤلاء الذين أرسلت إليهم عشر ما أوتي الأمم قبلهم من القوّة والعدّة ، (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٤٥) ؛ فانظر كيف كان إنكاري عليهم وتعذيبي لهم ، أليسوا مهلكين بالعذاب إذ لم يؤمنوا به معشار. والعشر والعشير جزء من عشرة. قال ابن عبّاس : (المعنى : وما بلغ قومك معشار ما آتيناهم من القوّة وكثرة المال وطول العمر فأهلكهم الله) (١).

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ ؛) أي آمركم وأوصيكم بخصلة واحدة وهي : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ؛) أي تقوموا لله اثنين اثنين وواحدا واحدا ، (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) ، فيناظروا ويذكّروا في أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ، هل ترون في فعله وقوله ودعائه إلى توحيد الله ما يكون من كلام المجانين وأفعالهم ، وهو كلام عالم حازم؟ قال مقاتل : (والمعنى : ألا يتفكّر منكم واحد ومع صاحبه ينظروا أنّ خلق السّموات والأرض دليل على أنّ خالقها واحد لا شريك له) (٣).

قوله تعالى : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) ؛ وذلك أنّ المشركين قالوا : إنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساحر مجنون! فقال الله تعالى : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) وما صاحبكم بمجنون ، فعلى هذا المعنى يكون قوله (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) ابتداء كلام من الله تعالى ، ويجوز أن يكون المعنى : ثم تتفكّروا فتعلموا بطلان قولكم في نسبته إلى الجنون. وقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ ؛) أي ما هو إلّا رسول مخوّف ، (بَيْنَ

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٠٦٨ و٢٢٠٦٩) مختصرا.

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٣١١ ؛ قال القرطبي : (لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل ، فأوفرهم عقلا أوفرهم حظا من الله ، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة ، وإذا كانوا اثنان تقابل الذهنان فترائى من العلم لهما أضعف على الانفراد ، والله أعلم).

(٣) في تفسير مقاتل بن حيان : ج ٣ ص ٦٩ ؛ قال مقاتل : (ألا يتفكر الرجل وحده ، ومع صاحبه فيعلم ويتفكر في خلق السماوات والأرض وما بينهما أن عزوجل خلق هذه الأشياء وحده ، وأن محمدا صادق وما به من جنون).

٢٤٧

يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٤٦) ؛ أي بين يدي القيامة لكي تخلّصوا أنفسكم من عذاب الله بالتّلافي والتّوبة.

قوله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ؛) معناه : قل لهم يا محمّد : ما سألتكم على تبليغ الرّسالة أجرا فتتّهموني ، وقوله تعالى (فَهُوَ لَكُمْ) هذا الرجل يقول لغيره : ما أعطيتني فخذه ، يريد بذلك لم يعطه شيئا ، وقوله تعالى : (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ؛) أي ما ثوابي إلّا على الله ، (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ ؛) من أعمال العباد (شَهِيدٌ) (٤٧).

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٤٨) ؛ القذف : هو الرّمي بألسنتهم والحصى والكلام ، قال الكلبيّ : (فمعنى الآية : قل إنّه يأتي بالحقّ ؛ أي يتكلّم بالوحي وهو القرآن يلقيه إلى نبيّه عليه‌السلام). والمعنى : قل إنّ ربي ينزل الوحي من السّماء فيقذفه ويلقيه إلى الأنبياء عليهم‌السلام ، وقوله تعالى (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ظاهر المعنى.

قوله تعالى : (قُلْ جاءَ الْحَقُّ ؛) يعني الإيمان والقرآن ؛ أي ظهر الإسلام والقرآن ، (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) (٤٩) ؛ معناه : ذهب الباطل وزهق ، فلم يبق له بقيّة يبدئ بها ولا يعيد. قال الحسن : ((الْباطِلُ) : كلّ معبود سوى الله ، فإنّ كلّ معبود سوى الله لا يبدئ لأهله خيرا في الدّنيا ، ولا يعيد بخيره في الآخرة). فقال قتادة : (الباطل إبليس ؛ أي ما يخلق إبليس أحدا ولا يبعثه) (١).

ويجوز أن يكون هذا استفهاما ، كأنّه قال : وأيّ شيء يبدئ الباطل؟ وأيّ شيء يعيده؟ وعن ابن مسعود قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكّة وحول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنما ، فجعل يطعنها بعود معه ويقول : [جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا ، جاء الحقّ وما يبدئ الباطل وما يعيد](٢) أي ذهب الباطل بحيث لا يبقى

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٠٧٦).

(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ١٠ ص ١٩١ : الحديث (١٠٤٢٧) ، وص ٢٠٠ : الحديث (١٠٥٣٥) من طريق أخرى. والإمام أحمد في المسند : ج ١ ص ٣٧٧. والبخاري في الصحيح :

٢٤٨

له بقيّة ، لا إقبال ولا إدبار ولا إبداء ولا إعادة كما قال تعالى (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ)(١). ويقال : فلان ظهرت عليه الحجّة ، فما يبدئ وما يعيد ، وما يحل وما يمرّ.

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي ؛) وذلك أنّ كفار مكّة قالوا للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد ضللت حين تركت دين آبائك! فقال الله تعالى (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) أي ضرر ذلك راجع إلى نفسي ، (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ ؛) إلى الحقّ ، (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ؛) من القرآن والبيان ، (إِنَّهُ سَمِيعٌ ؛) لكلّ ما يقوله الخلق من حقّ وباطل ، (قَرِيبٌ) (٥٠) ؛ منّي ، لا تخفى عليه خافية.

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ؛) ولو ترى يا محمّد الكفّار ، يعني عند البعث ، فلا يمكنهم الغوث ولا الهرب من ما هو نازل بهم ، لرأيت ما يعتبر به غاية الاعتبار. ومعنى الآية : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) عند البعث فلا يفوتونني ؛ أي لا يفوتني أحد ولا ينجوا منّي ظالم.

وقوله تعالى : (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٥١) ؛ يعني من القبور حيث كانوا ، فهم من الله قريب لا يبعدون عنه ولا يفوتونه. تعني هذه الآية ؛ قال بعضهم : أراد بقوله (إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) مما أصابهم يوم بدر عند القتال. وقال بعضهم : أراد به يوم القيامة إذ فزعوا من مشاهدة عذاب جهنّم ، وعلموا أنّهم لا يفوتون لله ، وأخذوا بالعذاب من مكان قريب إلى جهنّم فقذفوا فيها.

(وَقالُوا) ، عند رؤية العذاب : (آمَنَّا بِهِ) ، أي آمنّا بالله تعالى وبرسوله ، يقول الله تعالى : (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٥٢) ؛ أي أين لهم تناول ما أرادوا بلوغه من مكان بعيد ، يعني من الآخرة وقد تركوه في الدّنيا؟ يعني أنّهم قد تعذر عليهم تناول الإيمان كما يتعذر على الإنسان تناول النّجوم.

__________________

ـ كتاب المظالم : باب هل تكسر الدنان التي فيها خمر : الحديث (٢٤٧٨) ، وفي كتاب التفسير : الحديث (٤٧٢٠).

(١) الأنبياء / ١٨.

٢٤٩

والتّناوش هو التّناول ، نشته أنوشه نوشا ، إذا تناوله ، كأنّه قال : وأنّى لهم التوبة. وقيل : ما يتمنّون. قال ابن عبّاس : (يتمنّون الرّدّ حين لا ردّ) (١).

قرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائيّ وخلف : (التّناؤش) بالمدّ والهمزة ، وهو الإبطاء والبعد ؛ أي من أين لهم أن يتحرّكوا فيما لا حيلة لهم فيه. يقال : أنشت الشّيء ؛ إذا أخذته من بعيد ، والنّيش : الشيء البطيء. وقرأ الباقون بغير همزة من التّناول ، يقال : نشته إذا تناولته ، وتناوش القوم في الحرب إذا تدانوا وتناول بعضهم بعضا.

واختار أبو عبيد ترك الهمز ؛ لأنه قال : (معناه من التّناول ، فإذا همز كان معناه البعد فكيف يقول : (أَنَّى لَهُمُ) البعد من مكان بعيد) (٢). قوله تعالى : (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يعني أنّهم يريدون أن يتناولوا التوبة ، وقد صاروا في الآخرة ، وإنّما تقبل التوبة «في الدنيا» (٣) وقد ذهبت الدّنيا فصارت بعيدا من الآخرة.

قوله تعالى : (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ؛) أي كانوا كافرين بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن في الدّنيا قبل ما عاينوا من العذاب وأهوال (٤) القيامة. قوله تعالى : (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٥٣) ؛ أي ينسبون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السّحر والجنون والكهانة رجما منهم بالغيب والقذف. والرّجم بالغيب : أن يلفظ الإنسان شيئا لا يتحقّق ، ومنه سمّي الرمي بالفاحشة قذفا.

ومعنى قوله تعالى (بِالْغَيْبِ) أن يقذفون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالظّنّ لا باليقين ، والغيب على هذا الظّنّ ، وهو ما غاب علمه عنهم (٥). وقوله تعالى (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يعني

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٠٩٢).

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٣١٦ ؛ قال القرطبي : (وأبو عبيد يستبعد هذه القراءة ؛ لأن (التّناؤش) بالهمز البعد ، فكيف يكون البعد ، وأنى لهم البعد من مكان بعيد) نقله عن النحاس ، وهو في إعراب القرآن : ج ٣ ص ٢٤٢.

(٣) ما بين «» سقط من المخطوط.

(٤) في المخطوط تحريف العبارة ، رسم الناسخ : (قبل ما عاينوا من أهل ال اليوم القيامة).

(٥) في المخطوط تحريف العبارة ، رسم الناسخ : (ما غاب عليه عنهم).

٢٥٠

بعدهم عن الحقّ. وقال قتادة : (معنى (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) يقولون : لا بعث ولا جنّة ولا نار) (١).

قوله تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ :) أي حيل بين هؤلاء الكفّار وبين الرّجعة إلى الدّنيا ، وقال الحسن : (معناه : حيل بينهم وبين الإيمان والتّوبة) (٢) ، (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ ؛) أي كما فعل بنظرائهم أو أشياعهم ، ومن كان على مثل حالهم من الكفّار ، (مِنْ قَبْلُ) ، أي قبل هؤلاء ، (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ ؛) من البعث ونزول العذاب بهم ، (مُرِيبٍ) (٥٤) ، أي ظاهر الشّكّ.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [من قرأ سورة سبأ لم يبق رسول ولا نبيّ إلّا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا](٣).

آخر تفسير سورة (سبا) والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢١٠٠) وأوله : (أي يرجمون بالظن ...).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢١٠٢) بأسانيد ، وفيه : (حيل بينهم وبين الإيمان بالله).

(٣) تقدم أول السورة.

٢٥١

سورة الملائكة (فاطر)

سورة الملائكة مكّيّة كلّها ، وهي ألف ومائة وثلاثون حرفا ، وسبعمائة وسبعون كلمة ، وخمس وأربعون آية. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأها دعته يوم القيامة ثمانية أبواب الجنّة يدخل من أيّ الأبواب شئت](١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ أي خالقهما ، مبتدئا من غير مثال سبق ، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : (ما كنت أعرف ما معنى فاطر حتّى اختصم إليّ أعرابيّان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ؛ أي بدأتها) (٢).

قوله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) ؛ قال بعضهم : أراد به الملائكة كلّهم ، فإنّهم كلّهم رسل الله بعضهم إلى بعض وبعضهم إلى الإنس ، وقال بعضهم : أراد بذلك جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت والحفظة ، يرسلهم إلى النبيّين وإلى ما شاء من الأمور.

قوله تعالى : (أُولِي أَجْنِحَةٍ) ؛ صفة الملائكة أي ذوي أجنحة ، (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ، منهم من له جناحان ، ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، اختارهم الله تعالى لرسالته من حيث علم أنّهم لا يبدّلون.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف : ج ٣ ص ٦٠١.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ١٠ ص ٣١٧٠ : الرقم (١٧٩١٥). وذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٣١٩. وفي الدر المنثور : ج ٧ ص ٣ ؛ قال السيوطي : (أخرجه أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الإيمان) وذكره. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان : باب في طلب العلم : الحديث (١٦٨٢).

٢٥٢

وقوله تعالى : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ ؛) أي يزيد في أجنحة الملائكة ما يشاء ، فمنهم من له مائة ألف جناح ، ومنهم من له أكثر ، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما ؛ قال : [رأى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل ليلة المعراج وله ستّمائة جناح](١).

وعن ابن شهاب قال : (سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتراءى له في صورته ، فقال له جبريل : إنّك لن تطيق ذلك يا رسول الله ، قال : [إنّي أحبّ أن تفعل] فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المصلّى في ليلة مقمرة ، فأتاه جبريل في صورته ، فغشي على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رآه ، ثمّ أفاق وجبريل مسنده (٢) إليه واضع إحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه. فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [سبحان الله ما كنت أرى شيئا من الخلق هكذا] فقال جبريل عليه‌السلام : كيف لو رأيت إسرافيل يا رسول الله؟! له اثنا عشر جناحا ، جناح بالمشرق وجناح بالمغرب والعرش على كاهله) (٣).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : (إنّ لله تعالى ملكا يسع البحار كلّها في نقرة إبهامه) (٤). وقيل : معنى قوله (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) يعني حسن الصّوت ، كذلك قال الزهريّ (٥) ، وقال قتادة : (هي الملاحة في العينين والشّعر الحسن والوجه الحسن والخطّ الحسن) (٦).

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب بدء الخلق : باب (٧) : الحديث (٣٢٣٢) ، وفي كتاب التفسير : الحديث (٤٨٥٦ و٤٨٥٧). ومسلم في الصحيح : كتاب الإيمان : باب في ذكر سدرة المنتهى : الحديث (٢٨٠ / ١٧٤).

(٢) في المخطوط : (مستنده).

(٣) أخرجه ابن المبارك في الزهد : باب تعظيم ذكر الله : ص ٧٤ : الحديث (٢٢١). وذكره القرطبي مختصرا في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٣٣٠.

(٤) لم أقف عليه.

(٥) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ١٠ ص ٣١٧٠. وفي الدر المنثور : ج ٧ ص ٤ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن الزهري) وذكره. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان : باب في الإيمان بالله : الأثر (١١٥).

(٦) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٦٧. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٣٢٠. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان : ج ١ ص ١٣٥ : الأثر (١١٦) مختصرا.

٢٥٣

وقوله تعالى (وَثُلاثَ وَرُباعَ) في موضع خفض ؛ لأنه لا يتصرّف. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) ؛ أي قادر على ما يزيد على الزيادة والنّقصان.

قوله تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ؛) أي ما يرسل الله إلى الناس من رسول فلا مانع له ، وذلك لأن إرسال الرسول من الله تعالى رحمة لعباده كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(١).

وقيل : أراد بالرحمة هاهنا المطر والرزق والعافية وجميع النّعم ، ما يفتح الله من ذلك فلا مانع له ، ولا يستطيع أحد من الخلق حبسه ولا إمساكه ، وقوله تعالى : (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ؛) أي وما يمسك الله من ذلك فلا يقدر أحد على إرساله ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢) ؛ أي العزيز فيما أمسك ، الحكيم فيما أرسل.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ ؛) يعني أهل مكّة اذكروا نعمة الله عليكم إذ أسكنكم الحرم ومنعكم من الغارات ، (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ ؛) هذا استفهام ، ومعناه التوبيخ ؛ أي لا خالق سواه. وقوله تعالى : (يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ؛) أي من السّماء بإنزال المطر ومن الأرض بإخراج النبات ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٣) ؛ أي فأنّى تصرفون عن الإله الذي هذه صفته إلى معبود لا يقدر على شيء.

قوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) ؛ في هذه الآية تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئلّا يجزع على تكذيب قومه ، ويصبر كما صبر على تكذيب الأمم الرسل ، (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ ؛) عواقب (الْأُمُورُ) (٤) ؛ في مجازاة المكذّبين ونصرة المسلمين.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) ؛ معناه إن الذي وعده الله المجازاة والبعث بعد الموت حقّ كائن ، (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) ؛ بزينتها

__________________

(١) الأنبياء / ١٧٠.

٢٥٤

وزهرتها حتى تشتغلوا بها عن أمر دينكم ، (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٥) ؛ أي ولا يستزلّكم عن طاعة الله الشيطان الذي من عادته الغرور. وقرأ ابن سماك العدويّ : (الغرور) بضمّ الغين ، وهو أباطيل الدنيا ، وأما (الْغَرُورُ) بفتح الغين فيه ، الشّيطان.

قوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ؛) أي احترزوا (١) من كيده ، ولا تقبلوا منه وتطيعوه ، (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ ؛) أي أهل طاعته ليكون معه ، (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٦) ؛ أي ليسوقهم إلى النار ، (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (٧).

قوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ؛) نزلن في أبي جهل ومشركي مكّة. وقيل : نزلت في أصحاب الأهواء والملل التي خالفت الهدى ، والمعنى : أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا كمن هداه الله ، ويدلّ على هذا المحذوف قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ.)

قوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ؛) أي لا تغتمّ ، ولا تهلك نفسك عليهم حسرات على تركهم الإسلام ، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٨) ؛ في كفرهم فيجازيهم بما هو أولى بهم ، قرأ أبو جعفر (فلا تذهب) بضم التاء وكسر الهاء ، نصب السّين.

قوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً ؛) معناه : الله الذي أرسل الرياح لإثارة السّحاب ، (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) ، فأجريناه الى بلد ميت ليس فيه نبات ولا شجر ، (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ، فأحيا «الله» (٢) بالمطر الأرض بإخراج الزّرع والأشجار منها بعد يبسها وذهاب النبات منها ، (كَذلِكَ النُّشُورُ) (٩) ؛ كذلك البعث في القيامة.

__________________

(١) في المخطوط : (احترز).

(٢) ما بين «» ليس في المخطوط.

٢٥٥

وهذا احتجاج على منكري البعث ، فإن موتهم كموت الأرض ، وذهاب أثرهم كذهاب أثر الأشجار والزّروع ، والقادر على إخراج الأشجار والزّروع من الأرض قادر على إخراج الموتى من الأرض.

ومعنى الآية : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) أي تزعجه من حيث هو (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) أي مكان ليس فيه نبات (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي أنبتنا فيها الزرع والكلأ بعد أن لم يكن ، (كَذلِكَ النُّشُورُ) أي الإحياء والبعث.

وعن أبي رزين العقيليّ قال : (قلت : يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ [أو ما مررت بوادي قومك ممحّلا ثمّ مررت به خضرا؟] قلت : بلى ، قال : [فكذلك يحيي الله الموتى] وقال : [كذلك النّشور]) (١).

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ؛) أي من كان يطلب العزّة بعبادة الأصنام فليطلبها بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، العزيز من أعزّه الله. وذلك أنّ الكفار كانوا يعبدون الأصنام طمعا في العزّة كما قال الله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)(٢). أو قيل : معناه : من كان يريد أن يعلم العزّة لمن هي فليعلم أنّها لله تعالى.

قوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) ؛ إلى الله تصعد كلمة التوحيد وهو قوله لا إله إلّا الله ، ومعنى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ) أي يعلم ذلك كما يقال : ارتفع الأمر إلى القاضي والسّلطان أي علمه. وقيل : صعود الكلم الطيّب أن يرفع ذلك مكتوبا أو مقبولا إلى حيث لا مالك إلّا الله ؛ أي إلى سمائه يصعد الكلم الطيّب.

قوله تعالى : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ؛ قال الحسن : (معناه : ذو العمل الصّالح يرفع الكلم الطّيّب إلى الله تعالى بعرض القول على الفعل ، فإن وافق القول الفعل قبل ، وإن خالف ردّ ، لأنّ العبد إذا وحّد الله وأخلص في عمله ارتفع العمل

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ١ ص ١١ و١٢. وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الحديث (١٧٩٣٦). والطبراني في الكبير : باب ٢ : الحديث (٢٨١) ورجاله موثقون.

(٢) مريم / ٨١.

٢٥٦

إلى الله تعالى) (١). قال : (ليس الإيمان بالتّحلّي ولا بالتّمنّي ، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل ، من قال حسنا وعمل غير صالح ردّه الله تعالى ، ومن عمل صالحا رفعه العمل) (٢).

وقرأ أبو عبد الرحمن (الكلام الطّيب) (٣). وعن أبي هريرة عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ) : [هو قول الرّجل : سبحان الله ؛ والحمد لله ؛ ولا إله إلّا الله ؛ والله أكبر ، إذا قالها العبد عرج بها ملكّ إلى السّماء](٤).

وقيل : الكلام الطيب : لا إله إلّا الله ، والعمل الصالح : أداء فرائضه ، ومن لا يؤدّي فرضه ردّ كلامه. وجاء في الخبر : [طلب الجنّة بلا عمل ذنب من الذّنوب](٥) ، وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا يقبل الله قولا بلا عمل](٦) ، وعلى هذا المعنى قول الشاعر :

لا ترض من رجل حلاوة قوله

حتّى يصدّق (٧) ما يقول فعال

فإذا وزنت فعاله بمقاله

فتوازنا فإخاء ذاك جمال

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٩ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن المبارك وعبد بن حميد وابن المنذر) وذكره. وأخرجه ابن المبارك في الزهد : باب ما جاء في تخويف عواقب الذنوب : الأثر (٩١) : ص ٣٠.

(٢) في الدر المنثور : ج ٧ ص ١٠ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد بن حميد والبيهقي عن الحسن) وذكره.

(٣) ينظر : معاني القرآن للفراء : ج ٢ ص ٣٦٧. وإعراب القرآن للنحاس : ج ٣ ص ٢٤٧.

(٤) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ٩ : الحديث (٩١٤٤) عن ابن مسعود. والحاكم في المستدرك : كتاب التفسير : الحديث (٣٦٤٢).

(٥) في موسوعة الأطراف : ج ٥ ص ٤٠٨ ؛ قال البسيوني : (ذكره ابن عراف في تنزيه الشريعة).

(٦) أخرجه أبو نعيم في الحلية : ج ٢ ص ٣٣٥ من قول قتادة والحسن بلفظ : (لا يقبل قول بلا عمل ، فمن أحسن العمل قبل الله قوله). وفي ج ٧ ص ٣٢ أخرجه عن سفيان يقول : (لا يستقيم قول إلّا بعمل ، ولا يستقيم قول وعمل إلّا بنيّة ، ولا يستقيم قول وعمل ونيّة إلّا بموافقة السّنّة). وذكره القرطبي على أنه حديث في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٣٣٠.

(٧) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٣٢٩ ؛ قال القرطبي : (حتّى يزيّن).

٢٥٧

وقال ابن المقفّع : (قول بلا عمل كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر) (١). وقيل : معناه : والعمل الصالح يرفعه الله ؛ أي يقبله.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ؛) أي يفعلونها على وجه المخادعة كما كان الكفار يمكرون بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار النّدوة. وقيل : معناه : الذين يشركون بالله وبعمل السّيّئات لهم عذاب شديد في الآخرة. وقيل : أراد بقوله (يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) يعملون عملا على وجه الرّياء.

كما روي أنّ رجلا قال : يا رسول الله ؛ فيم النّجاة غدا؟ فقال : [لا تخادع الله ، فإنّه من يخادع الله يخدعه ويخلعه من الإيمان]. فقال رجل : يا رسول الله فكيف يخادع الله؟ فقال : [أن تعمل بما أمرك الله ، لا يقبل مع الرّياء عمل ، فإنّ المرائي ينادى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد بأربعة أسماء : يا كافر ؛ يا فاجر ؛ يا غادر ؛ يا خاسر ؛ ضلّ عملك](٢). قوله تعالى : (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) (١٠) ؛ أي يفسد ويهلك ويكسر ولا يكون شيئا.

قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ؛) أي خلق أصلكم وأباكم آدم من تراب ، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ؛) أي ثم خلق نسل آدم من نطفة ، (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً ؛) يعني ذكرانا وإناثا ، (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى ؛) أو تلد لتمام وغير تمام ، (وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ ؛) أي ما يطول عمر أحد ، ولا ينقص من عمر أحد إلّا وهو مثبت في اللوح المحفوظ ، وقوله : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١١) ؛ أي كتابة الآجال والأعمال وحفظها من غير كتابة على الله هيّن.

قوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) ؛ قيل : هذه مثل ضربه الله ، يقول : كما لا يستوي البحران أحدهما عذب في غاية العذوبة هنيء شرابه مريء ، والآخر مرّ زعاف لا يستطاع شرابه ، فكذلك لا

__________________

(١) ذكره عنه أيضا القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٣٢٩.

(٢) ذكره ابن حجر في المطالب العالية : ج ٣ ص ١٨٤ : الحديث (٣٢٠٢) وسكت عنه البوصيري.

٢٥٨

يستوي المؤمن والكافر ، والتقيّ والفاسق. والسائغ : هو السالك في الحلق. والأجاج : شديد الملوحة. وقرأ عيسى (سيّغ شرابه) مثل ميّت وسيّد.

قوله تعالى : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا ؛) أي ومن كلّ البحرين تأكلون السمك لا يختلف طعم السّمك لاختلاف ماء البحرين ، فكذلك قد يولد للكافر ولد مسلم مثل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما.

وقوله تعالى : (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ؛) قيل : أراد به إخراج اللّؤلؤ والمرجان من أحدهما خاصّة وهو الملح. والمعنى : تستخرجون من الملح دون العذب. قيل : إن اللؤلؤ قطر المطر يقع في جوف الصّدف فيكون منه اللؤلؤ.

قوله تعالى : (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ ؛) أي ترى السفن جواري في البحر ، قال مقاتل : (هو أن ترى سفينتين ، أحدهما مقبلة والأخرى مدبرة ، وهذه تستقبل تلك ، وتلك تستدبر هذه ، تجريان بريح واحدة) (١).

قوله تعالى : (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ؛) لتطلبوا من رزقه التجارة ، فتحمل النّعم فيها من بلد إلى بلد ، قوله تعالى : (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢) ؛ أي فعل ذلك لتعلموا أنّ هذه النعم من الله ، ولكي تشكرونه عليها.

قوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ؛) قد تقدّم تفسيره.

وقوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) ؛ أي الذي يفعل هذه الأشياء هو الله ربّكم ، و؛ (لَهُ الْمُلْكُ) ؛ الدائم الذي لا يزول ، (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) ؛ من الأصنام ، (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) (١٣) ؛ لا يقدرون على أن ينفعوكم بقدر قطمير ، وهو القشرة الدّقيقة الملتزقة بنواة الثّمرة كاللفّافة عليها.

قوله تعالى : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) ؛ ولو كانوا سامعين ما أجابوكم بإغاثة ولا نصرة ، والمعنى : إن تدعوهم لكشف ضرّ لا يسمعوا دعاءكم لأنّها

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٧٤.

٢٥٩

جماد لا تنفع ولا تضرّ ، (وَلَوْ سَمِعُوا) ؛ بأنّ الله خلق فيهم السمع ، (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) ؛ أي يتبرّؤن منكم ومن عبادتكم كما قال الله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا)(١) والمعنى بقوله : (يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) اي يتبرّؤن من عبادتكم ، يقولون : ما كنتم إيّانا تعبدون.

قوله تعالى : (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (١٤) ؛ معناه : لا يخبرك بحقائق الأمور وعواقبها إلّا الله ؛ لأنه عالم بكلّ الأشياء ، لا يخفى عليه منها شيء ، ولا تلحقه المضارّ والمنافع.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) ؛ أي المحتاجون إليه وإلى نعمه ومغفرته حالا بعد حال ، (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ ؛) عن إيمانكم وطاعتكم ، (الْحَمِيدُ) (١٥) ؛ أي المحمود في أفعاله عند خلقه. وإنّما أمركم بطاعته لتنتفعوا بها لا حاجة به إليها ، (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ؛) أي إن يشأ يهلككم ، (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٦) ، ويأت بخلق أطوع منكم ، (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (١٧) ؛ أي ليس إهلاككم وإتيانه بمثلكم على الله ممتنع.

قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ؛ أي لا تحمل يوم القيامة حمل حاملة أخرى ؛ أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها ، (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) ؛ بالذّنوب ، (إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) ، إلى أن يحمل عنها شيء من ذنوبها لا تحمل من ذنوبها شيء ، (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) ، ولو كانت المدعوّة ذات قرابة من الداعية لما في ذلك من غلط حمل الآثام ، ولو تحمّلته لا يقبل حملها ؛ لأن كلّ نفس بما كسبت رهينة ، فلا يؤخذ أحد بذنب غيره.

وسئل الحسن بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وبين قوله (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) فقال (قوله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) يعني طوعا ، وقوله (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ)(٢) يعني كرها). قال ابن عبّاس : في

__________________

(١) البقرة / ١٦٦.

(٢) العنكبوت / ١٣.

٢٦٠