التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

الله تعالى يبغض ثلاثة أصوات : نهيق الحمار ، ونباح الكلب ، والدّاعية بالويل والحرب]. وقال سفيان : (صياح كلّ شيء تسبيحه الله إلّا الحمار فإنّه ينهق بلا فائدة) (١).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ؛) أي ألم تروا أنّ الله خلق وذلّل لمنافعكم ولمصالحكم ما في السّموات من الشّمس والقمر والنجوم والسّحاب والمطر ، وفي الأرض من الأشجار والأنهار والبحار والدّواب.

قوله تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً ؛) أي أتمّ عليكم ووسّع لكم نعمه (ظاهِرَةً) من الخلق الحسن وسلامة الأعضاء الظاهرة ، (وَباطِنَةً) من العقل والفهم والفطنة والمعرفة بالله.

وقيل : النعمة الظاهرة هي الإسلام ، والباطنة ما يخفى من الذّنوب ويستر من العورات (٢). وقيل : الظاهرة ما يعلم الناس من حسناتك ، والباطنة ما لا يعلمون من السّيئات.

وقال الضحّاك : (الظّاهرة : حسن الصّورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء ، والباطنة المعرفة). وقيل : الظاهرة الإسلام وما أفضل عليك من الرّزق ، والباطنة ما ستر من سوء عملك.

وقيل : الظاهرة نعم الدّنيا ، والباطنة نعم العقبى (٣). وقيل : الظاهرة تسوية الظواهر ، والباطنة تصفية السرائر. وقيل : الظاهرة الرّزق الذي يكتسب ، والباطنة الرزق من حيث لا تحتسب. وقيل : الظاهرة المدخل للغداء ، والباطنة المخرج للأذى.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٥٥٣).

(٢) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٥٢٦ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما) ، وقال : (أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق عن الضحاك رضي الله عنه).

(٣) ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز : ص ١٤٨٨ م ن قول المحاسبي.

١٤١

وقيل : الظاهرة نعمة عليك بعد ما خرجت من بطن أمّك ، والباطنة نعمة عليك وأنت في بطن أمّك. وقيل : الظاهرة ألوان العطايا ، والباطنة غفران الخطايا. وقيل : الظاهرة المال والأولاد ، والباطنة الهدى والإرشاد. وقيل : الظاهرة التوفيق للعبادات ، والباطنة الإخلاص من المراءات. وقيل : الظاهرة ما أعطى من النّعماء ، والباطنة ما زوى من أنواع البلاء. وقيل : الظاهرة إنزال القطر والأمطار ، والباطنة إحياء الأقطار والأنصار. وقيل : الظاهرة ذكر اللسان ، والباطنة ذكر الجنان. وقيل : الظاهرة ضياء النّهار ، والباطنة ظلمة الليل للسّكون والقرار.

ومن قرأ (نعمة) على التوحيد فهي واحدة تبنى على الجميع ، كما في قوله (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها)(١).

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ؛) يعني النّضر بن الحارث يخاصم في آيات الله وفي صفاته جهلا بغير علم ولا حجّة ، (وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) (٢٠) ؛ وقد تقدّم تفسيره في سورة الحجّ.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ؛) أي اعملوا بما أنزل الله ، (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ، قالوا بل نعمل بما وجدنا عليه آباءنا ، وقد تقدّم تفسير ذلك في سورة البقرة. قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٢١) ؛ فيتّبعونه.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ؛) أي من يخلص طاعته لله وهو محسن فيها فيفعلها على موجب الشّريعة فقد أخذ بالأمر الأوثق ، (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ ؛) ترجع خواتم (الْأُمُورِ) (٢٢) ؛ كلّها ، فيجزي كلّ عامل بما عمل.

قرأ السّلميّ : (ومن يسلّم) بالتّشديد. ومعنى قوله تعالى (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي اعتصم بالطّرف الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه. قال ابن عبّاس رضي الله

__________________

(١) ابراهيم / ٣٤.

١٤٢

عنهما : (هو لا إله إلّا الله) (١).

قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ؛) وذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحزنه كفرهم مخافة أن يكون ذلك لتقصير من جهته ، فأمّنه الله من ذلك. والمعنى : من كفر فلا تهتمّ لكفره ، فإنّ رجوعهم إلينا وحسابهم علينا ، وهو قوله تعالى : (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ؛) أي نخبرهم بقبائح أعمالهم في الدّنيا ، ونجزيهم عليها ، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢٣) ؛ أي عليم بما في القلوب من خير وشرّ. قوله تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ؛) أي نمهلهم في الدّنيا يسيرا ، (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) (٢٤) ؛ أي ثمّ نجلّيهم في الآخرة إلى عذاب شديد.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٦) ؛ قد تقدّم تفسيره.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ ؛) قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : (وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا قدم مكّة ، أتته أخبار اليهود فقالوا : بلغنا أنّك قلت : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) أعنيتنا أم عنيت قومك؟ فقال : [بل عنيت الجميع] فقالوا : ألم تعلم أنّ الله أنزل التّوراة على موسى وفيها أنباء كلّ شيء وقد خلّفها (٢) فينا فهي معنا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [التّوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله] فأنزل الله هذه الآية) (٣).

والمعنى : لو جعل ما في الدّنيا من الأشجار أقلاما يكتب بها ، وصارت الجنّ والإنس كتّابا ، والبحار مدادا يمدّها من بعدها سبعة أبحر ؛ أي سبعة أمثال بحر الدّنيا ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٤٣٨).

(٢) في المخطوط : (خلقها فيها) وهو غير مناسب.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٤٤٢). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٥٥٩) مختصرا.

١٤٣

وكتب بها كلمات الله وحكمه ، لانكسرت الأقلام ، وأعيت الإنس والجنّ ، وفنيت البحار قبل أن ينقطع كلام الله وحكمه ، (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٧) ؛ أي عزيز في سلطانه ذو حكمة في قوله وأفعاله.

وذهب بعضهم إلى أنّ معنى (كَلِماتُ اللهِ) تعالى في هذه الآية : معاني القرآن وفوائده ، وقال بعضهم : وهي نعم الله في الدّنيا والآخرة ، وإن نعمه في الآخرة غير متناهية.

قوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ؛) قال مقاتل : (قالت كفّار قريش : إنّ الله خلقنا أطوارا نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ لحما ، فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة؟ فأنزل الله تعالى (ما خَلْقُكُمْ) «أيها الناس على الله سبحانه» (١) في القدرة إلّا كخلق نفس واحدة ، وبعث نفس واحدة ، (وَلا بَعْثُكُمْ) في قدرة الله على بعث الخلق كلّهم (إِلَّا) كقدرته على بعث نفس واحدة ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ ؛) لما قالوا من أمر الخلق والبعث ، (بَصِيرٌ) (٢٨) ؛ به (٢).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ؛) أي ألم تعلم أنّ الله يزيد من ساعات اللّيل في ساعات النهار صيفا ، ويزيد في ساعات النّهار في ساعات الليل شتاء ، (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ؛) أي ذلّلهما لمنافع بني آدم يجريان إلى يوم القيامة ، ثم يسقطان ، وينقطع جريهما ، (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٩) ؛ أي خبير بأعمالكم في الدّنيا ويجازيكم عليها.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ؛) أو لتعلموا أنّ عبادة الله حقّ ، (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ؛) من عباده ، (الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ ؛) بصفاته ، (الْكَبِيرُ) (٣٠) ؛ الذي لا شيء مثله في كبريائه وعظمته.

__________________

(١) ما بين «» سقط من المخطوط.

(٢) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٢٣.

١٤٤

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ ؛) أي ألم تعلم أنّ السّفن تجري في البحر بإنعام الله تعالى ، لو لم يخلق الرّياح والماء على الهيئة التي خلقها الله عليها لما جرت السّفن على ظهر الماء ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ ؛) أي لدلالات على توحيد الله ، (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٣١) ؛ أي كثير الصّبر على الطاعات والمحن ، شكورا أي كثير الشّكر على نعم الله تعالى ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنّ أحبّ العباد إلى الله من إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر](١).

قوله تعالى : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ؛) أي إذا أصابهم في البحر موج كالجبال في الارتفاع دعوا الله مخلصين له الدّعاء ، (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ ؛) من البحر وأهواله ، (إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ؛) أي منهم من يثبت على ذلك ، ومنهم من يجحد. ثم قال : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا ؛) أي لا ينكر دلائل توحيدنا ، (إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ ؛) أي غدّار ، (كَفُورٍ) (٣٢) ؛ أي أكثر الكفر بآيات الله ونعمه. والختر في اللّغة : أقبح الغدر. والظّلل : جمع ظلّة وهي السّحابة التي ترتفع فتغطّي ما تحتها.

وإنّ هذه الآية كانت سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل ، وذلك أنّه لمّا كان يوم فتح مكّة ، أمّن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم النّاس إلّا أربعة نفر ، فإنّه قال : [اقتلوهم ، ولو وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة : عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن الأخطل ، ومقيس بن صبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح](٢).

فأمّا عكرمة فركب في البحر ، فأصابهم ريح عاصف ، فقال أهل السّفينة : أخلصوا فإنّ آلهتكم لم تغن عنكم شيئا هاهنا ، فقال عكرمة : (لئن لم ينجّني في البحر إلّا الإخلاص ما ينجيني في البرّ غيره) ثمّ قال : (اللهمّ إنّ لك عهدا إن أنت عافيتني ممّا أنا فيه أن آتي محمّدا حتّى أضع يدي في يده) فجاء فأسلم (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري عن قتادة قال : (كان مطرف يقول ...) ، ينظر الأثر (٢١٤٤٩). وأبو نعيم في حلية الأولياء : ج ٢ ص ٢٠٠ من قول مطرف بن عبد الله أيضا.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام : ج ٤ ص ٥١ ـ ٥٣.

(٣) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠١٥.

١٤٥

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ؛) أي اتّقوا مخافة ربكم ، واخشوا عذاب يوم لا يغني والد عن ولده ، (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ؛) لاشتغال كلّ منهم لنفسه.

وقيل : معنى (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) أي لا يحمل شيئا من سيّئاته ولا يعطيه شيئا من طاعته ، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ؛) في البعث والجزاء أي صدق كائن ، (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ؛) فلا تغترّوا بالحياة الدّنيا وما فيها من زينتها وزهرتها ، (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٣٣) ؛ الشّيطان ، فإنه هو الغرور ، وهو الذي من يشاء أن يغرّ ، وغرور الشّيطان تمنيته العبد : فإنّ الله تعالى غفور ، فهوّن عليه ركوب المعاصي وما يهواه.

ومن قرأ (الغرور) بضمّ الغين فهي مصدر ، ومعناه : الأباطيل. وعن سعيد بن جبير : (إنّ الغرور تمنّي المغفرة مع الإصرار على المعصية) (١).

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ؛) نزلت هذه الآية في البراء بن مالك ، أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّ أرضنا أجدبت ، فمتى الغيث؟ وقد تركت امرأتي حبلى ، فماذا تلد؟ وقد علمت بأيّ أرض ولدت ـ أي علمت أين ولدت ـ فبأيّ أرض أموت ، وقد علمت ما عملت اليوم ، فما أعمل غدا؟ ومتى السّاعة؟ فأنزل الله هذه الآية.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمهنّ إلّا الله ، لا يعلم متى تقوم السّاعة إلّا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلّا الله ، ولا يعلم ما كسبه في غد إلّا الله ، ولا تعلم نفس بأيّ أرض تموت إلّا الله ، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلّا الله](٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٤٦٤).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٤٦٥) عن مجاهد مرسلا بلفظ قريب من هذا. والبخاري في الصحيح : في كتاب التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما. والإمام الطبراني في المعجم الأوسط : ج ٢ ص ٥٤٦ : الحديث (١٩٣٨) عن ابن عمر بلفظ قريب منه. ـ

١٤٦

يقال : إنّ هذه الخمسة الأشياء التي ذكرها الله في هذه الآية هي مفاتيح الغيب لا يعلمها إلّا الله ، استأثر الله بهنّ ، فلم يطلع عليهنّ ملكا مقرّبا ولا نبيّا مرسلا.

ومعنى الآية : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ) قيام (السَّاعَةِ) ، فلا يدري أحد سواه متى تقوم ، في أيّ سنة أو في أيّ شهر ، ليلا أو نهارا. وقوله (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) معناه : هو المختصّ بإنزال الغيث ، وهو العالم بوقت إنزاله ، (ويعلم ما في الأرض) أي لا يعلم أحد ما في الأرحام أذكر أم أنثى ، أحمر أم أسود ، وإنّما يعلمه الله عزوجل نطفة وعلقة ومضغة ، وذكرا أم أنثى ، وشقيّا وسعيدا ، ومتى ينفصل عن أمّه.

وقوله تعالى (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) يعني : ماذا تكسب من الخير والشرّ ، أي ما تدري نفس ماذا تكسب غدا خيرا أو شرّا ، (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي في برّ أو بحر أو سهل أو جبل. قال ابن عبّاس : (هذه الخمسة لا يعلمها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل مصطفى ، فمن ادّعى أنّه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن لأنّه خالفه) (١).

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤) ؛ أي عليم بخلقه ، خبير بأعمالهم وبما يصيبهم في مستقبل عمرهم.

وروي أن يهوديا كان في المدينة يحسب حساب النجوم ، فقال اليهوديّ لابن عباس : إن شئت أنبأتك عن ولدك وعن نفسك ، إنك ترجع الى منزلك فتلقى إبنا لك محموما ، ولا يمكث عشرة أيام حتى يموت الولد ، وأنت لا تخرج من الدنيا حتى تعمى ، فقال ابن عباس : وأنت يا يهودي ، قال : لا يحول عليّ الحول حتى أموت؟ قال : فأين

__________________

ـ ولم أقف على رواية المصنف رحمه‌الله كما ذكرها هنا. وذكر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٨٣ : (الرجل اسمه : الوارث بن عمرو بن حارثة بن محارب) ، قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٢٥.

ولعل في المخطوط تصحيف من الناسخ ، ولكن لا أستطيع الجزم ؛ لأن الخط واضح برسم اسم البراء بن مالك. لأن البراء رضي الله عنه ليس من البادية ، فهو البراء بن مالك بن النضر الأنصاري ، أخو أنس بن مالك لأبيه وأمه. مما يرجح أن هناك وهم أو تصحيف. والله أعلم.

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٥٦٦) عن قتادة رضي الله عنه.

١٤٧

موتك يا يهودي؟ قال ما أدري ، قال ابن عباس : صدق الله (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) قال فرجع ابن عباس فلقي إبنا له محموما ، فلما بلغ عشرا مات الصبي ، ويقال عن اليهودي «أنه مات قبل الحول» (١) ، وما خرج ابن عباس من الدنيا حتى كفّ بصره (٢).

آخر تفسير سورة (لقمان) والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) تصحيف في أصل المخطوط : (قبل فقالوا مات) ، وضبطت كما في تفسير الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٨٣.

(٢) ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٨٣. ثم قال : (قال الحسين بن علي راوي هذا الحديث : هذا أعجب الأحاديث).

١٤٨

سورة الجرز

سورة الجرز ؛ يعني السّجدة ؛ مكّيّة ، وهي ألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا ، وثلاثمائة وثمانون كلمة ، وثلاثون آية.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأها أعطي من الأجر كأنّما أحيا ليلة القدر](١). وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينام حتّى يقرأها وسورة تبارك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) ؛ أي الم هو تنزيل الكتاب ، لا شكّ فيه أنه تنزّل من رب العالمين ، (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ؛) معناه : يقول أهل مكّة : اختلقه محمّد من تلقاء نفسه ، وليس كما يقولون ، (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ؛) أي لتخوّف بالقرآن قوما ؛ (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ؛) لم يشاهدوا قبلك في زمانهم الذي هم فيه رسولا مخوّفا ؛ (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٣) ؛ أي لكي يهتدوا إلى الإيمان.

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ؛) أي في مقدار ستّة أيام من أيام الدنيا ، أوّلها يوم الأحد ، (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ؛) أي استولى عليه ، وقد تقدّم في ذلك في سورة الأعراف. قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ؛) أي قريب ينفعكم ، (وَلا شَفِيعٍ ؛) يشفع لكم ، (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (٤) ؛ أي أفلا تعتبرون.

قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ؛) أي يدبر الله أمر الدنيا مدّة أيامها ، فينزل القضاء والقدر من السّماء إلى الأرض. قوله تعالى : (ثُمَ

__________________

(١) أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان : ج ٧ ص ٣٢٥. ذكره الزمخشري في الكشاف : ج ٣ ص ٥٠٢.

١٤٩

يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٥) ؛ قال ابن عباس : معناه : يعود إليه الأمر والتّدبير حين ينقطع أمر الأمراء وأحكام الحكّام ، وينفرد الله تعالى بالأمر في يوم كان مقداره ألف سنة) يعني أنّ يوما من أيّام الآخرة مثل ألف سنة ممّا تعدّون من أيّام الدّنيا ، وأراد بهذا اليوم يوم القيامة.

وقيل : معناه : يقطع الملك من المسافة نازلا وصاعدا في يوم واحد وهو مسيرة ألف عام مما يعدّه أهل الدنيا بمسيرهم ، وذلك أنّ بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام لبني آدم ، وصعوده من الأرض إلى السماء كذلك ؛ والملك يقطعه في يوم واحد. ولو أراد الله من الملك الصعود والنّزول بدون مقداره (اليوم) لفعله الملك.

وأما قوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)(١) فإن كان أراد مدّة المسافة من الأرض إلى سدرة (٢) المنتهى التي فيها مقام جبريل ، فالمعنى يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا ، فيكون معنى قوله تعالى : (إِلَيْهِ) على هذا التأويل ؛ أي إلى مكان الملك الذي أمره الله أن يعرج إليه ، كقول إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي)(٣) أي حيث أمرني ربي بالذهاب إليه ، وهو الشّام. وكذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ)(٤) أي إلى المدينة. ولم يكن الله عزوجل بالمدينة ولا بالشام.

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أتاني ملك لم ينزل إلى الأرض قبلها قط برسالة من الله عزوجل ، ثمّ رفع رجله فوضعها فوق السّماء والأخرى في الأرض لم يرفعها](٥).

__________________

(١) المعارج / ٤.

(٢) في أصل المخطوط : (مدة) والصحيح : سدرة.

(٣) الصافات / ٩٩.

(٤) النساء / ١٠٠.

(٥) أخرجه الطبراني في الأوسط : ج ٧ ص ٣٥٥ : الحديث (٦٦٨٥). وفي مجمع الزوائد : ج ١ ص ٨٠ ؛ قال الهيثمي : (رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه صدقة بن عبد الله التنيسي ، والأكثر

١٥٠

قوله تعالى : (ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ؛) أي ذلك الذي صنع ما ذكرناه من خلق السموات والأرض ، هو عالم ما غاب عن الخلق وعالم ما خفي ، لا يقدر عليه سواه كما لا يعلم الغيب غيره. وقوله تعالى : (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٦) ؛ أي القادر الذي لا يقاوم ، المنيع في ملكه ، المنعم على عباده.

وقوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ؛) قرأ نافع وأهل الكوفة :(خلقه) بفتح اللام على الفعل ؛ أي أحكم كلّ شيء مما خلقه. وقرأ الباقون : (خلقه) بسكون اللام ؛ أي أحسن خلق كلّ شيء ، فيكون نصب قوله : (خلقه) على البدل. وقال مقاتل : «معناه : الّذي علم كيف يخلق الأشياء من غير أن يعلّمه أحد» (١). وقال السديّ : «أحسنه : لم يعلّمه من أحد».

قيل : إنّ الله عزوجل لمّا طوّل رجل البهيمة والطير ، طوّل عنقه لئلا يتعذر عليه تناول قوته من الأرض ، ولو لم يطوّل عنقه لما نال معيشته.

قوله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٧) ؛ يعني آدم عليه‌السلام كان أول طينا ،(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ؛) أي ذرّيته ، (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٨) ؛ أي من قليل من الماء ينسلّ من صلب الرجل وترائب المرأة ، وهي النطفة ، ووصفها بال (مَهِينٍ) لأنه لا خطر له عند الناس. وسميت سلالة لأنّها تنسلّ من الإنسان ؛ أي تخرج. والهيّن هو الضعيف.

قوله تعالى : (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ؛) رجع إلى ذكر آدم ، يعني سوّى خلقه ونفخ فيه من روحه ؛ ثم عاد إلى ذريّته فقال : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ؛) بعد أن كنتم نطفا. والأفئدة هي القلوب ، (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٩) ؛ هذه النّعم فتوحّدونه. والمعنى : خلق لكم السمع فاستمعوا إلى الحقّ ، والأبصار فأبصروا الحقّ ، والأفئدة ؛ أي القلوب ؛ فاعقلوا الحقّ.

__________________

ـ على تضعيفه ، وقد وثقه يحيى بن معين ووحيم). ويوجد اضطراب في ترتيب ألفاظ الحديث في أصل المخطوط. وضبط النص على أصله في المعجم.

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٢٧.

١٥١

وقيل : معنى (ثُمَّ سَوَّاهُ) يعني الماء المهين جمعه وخلقه وصوّره ونفخ فيه من روحه ؛ أي نفخ فيه الروح الذي يحيا به الناس. أضاف الله ذلك إلى نفسه لأنه هو الخالق.

قوله تعالى : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ؛) أي قال الكفار : إئذا هلكنا وانقطعت أوصالنا وذهبت آثارنا وصرنا ترابا ، فلم يتبيّن شيء من خلقنا ، أنبعث بعد ذلك؟! هذا لا يكون أبدا. ومعنى الضّلالة في اللغة : الغيبوبة ، يقال : ضلّ متاع فلان وضاع ، بمعنى واحد.

وقوله تعالى : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) (١٠) ؛ أي ليس كما يقولون أنّهم لا يبعثون ، بل هم بلقاء ربهم كافرون.

قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ؛) أي يقبض أرواحكم أجمعين ملك الموت ، (الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ؛) قال مجاهد : «حويت له الأرض فجعلت له مثل طست ، يتناول منها حيث يشاء» (١). وقال الكلبيّ : «اسم ملك الموت عزرائيل ، وله أربعة أجنحة : جناح منها بالمشرق ، وجناح بالمغرب ، والخلق بين رجليه ورأسه وجسده ، وجعلت له الدّنيا مثل راحة اليد لصاحبها ، يأخذ منها ما أمر بقبضه من غير مشقّة ولا عناء ، وله أعوان من ملائكة الرّحمة ومن ملائكة العذاب» (٢).

وعن أنس بن مالك قال : [لقي جبريل ملك الموت بنهر فارس ، فقال : يا ملك الموت كيف تستطيع قبض الأنفس ، هاهنا عشرة آلاف ، وها هنا كذا وكذا؟ قال عزرائيل (٣) : تزوى لي الأرض حتّى كأنّها بين فخذيّ فألتقطهم بيديّ].

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إذا حان أجل الرّجل ، أتاه ملك فقال : أيّها العبد كم خبر بعد خبر ، وكم رسول بعد رسول؟ أنا الخبير ليس بعدي خبير ، وأنا الرّسول ليس بعدي

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٥٠٠).

(٢) ذكر مقاتل بعضه في التفسير : ج ٣ ص ٢٨.

(٣) في المخطوط : (جبرائيل) وهو تصحيف.

١٥٢

رسول ، أجب ربّك طائعا أو مكروها. فإذا قبضت روحه وتصارخوا عليه ، قال : على من تصرخون وعلى من تبكون؟ والله ما ظلمت لكم أجلا ولا أكلت لكم رزقا ، بل دعاه ربّه ، فليبك الباكي على نفسه ، فإنّ لي فيكم عودات وعودات حتّى لا أبقي منكم أحدا](١).

وقوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١١) ؛ أي تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم.

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ؛) يعني كفار مكّة ناكسوا رؤوسهم حياء وندما ، والمعنى : ولو ترى يا محمّد إذ المجرمون مطرقوا رؤوسهم من الخزي وشدة الندم في يوم القيامة عند علمهم بأن الحجّة قد قامت عليهم من كلّ جهة ، وأنّهم لا مهرب لهم من العذاب ، وذلك هو الغاية في الوجل والخجل ، يقولون : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا ؛) أي لك الحجّة علينا لأنا أبصرنا رسلك وسمعنا كلامهم ، (فَارْجِعْنا ؛) أي ولكن نسألك أن ترجعنا إلى الدّنيا حتى ، (نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) (١٢) ؛ بك وبكتابك وبرسلك. وهذه الآية محذوفة الجواب ؛ أي لو رأيت يا محمّد ، لرأيت غاية ما تعتبر به.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٨٣٢) عن أبي جعفر محمّد بن علي رضي الله عنهما. وفي مجمع الزوائد : ج ٢ ص ٣٢٦ ؛ قال الهيثمي : (رواه الطبراني في الكبير ، وفيه عمر ابن شمر الجعفي والحارث بن خزرج ولم أجد من ترجمهما ، وبقية رجاله رجال الصحيح) وأوله : [ونظر إلى ملك الموت]. عن الحارث بن خزرج قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... وذكره.

وأما الحارث بن خزرج ، فهو الحارث بن خزمة بن عدي بن أبي بن غنم بن سالم بن عوف ابن خزرج الأنصاري. من الصحابة المقلّ ين ، قال القرطبي : كان من القواقلة. ترجم سيرته ابن عبد البر في الاستيعاب : ج ١ ص ٣٥٢ : الرقم (٤١٢). وابن حجر في الإصابة : الرقم (١٤٠١).

وأما عمر بن شمر الجعفي ، فهو عمرو بن شمر الجعفي ، ترجم سيرته ابن عدي في الكامل : ج ٦ ص ٢٢٦ : الرقم (٣٢٥ / ١٢٩٢) ، وذكر عن حسين الجعفي قال : (أؤذن وكان عمرو بن شمر يؤمّهم ، فمكثت ثلاثين سنة أجتهد أن أسبقه إلى المسجد أو أخرج بعده فلم أقدر) وقال : سمعت ابن حماد يقول : قال السعدي : عمرو بن شمر زائغ كذاب. ونقل عن النسائي قال : عمرو بن شمر كوفي متروك الحديث.

١٥٣

قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ؛) قال الحسن : «أراد به مشيئة القدر من الله تعالى ؛ لأنّه لم يعجز عن شيء ، ولكنّه لا يجبر العباد على ذلك لكي لا يبطل الثّواب والعقاب». والمعنى : ولو شئنا لآتينا كلّ نفس رشدها وثباتها ، ومثل ذلك (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً)(١)(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى)(٢).

وقوله تعالى : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي ؛) معناه : ولكن وجب قولي عليهم بالعذاب ، (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١٣) ؛ بكفرهم وذنوبهم.

وقوله تعالى : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ؛) معناه : يقال لأهل النار إذا دخلوها : ذوقوا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم هذا ؛ أي بما تركتم الإيمان بيومكم هذا. وقوله تعالى : (إِنَّا نَسِيناكُمْ ؛) أي تركناكم في العذاب وأحللناكم محلّ المنسيّ ، (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ ؛) أي الذي لا ينقطع ، (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٤) ؛ من الكفر والتكذيب.

قوله تعالى : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا ؛) معناه : إنما يقرّ ويصدّق بدلائلنا ، (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها ؛) أي وعظوا بها ، (خَرُّوا سُجَّداً ؛) لله مصلّين مع الإمام ، (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ؛) أي عظّموا الله ونزّهوه في صلاتهم حامدين لربهم ، (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (١٥) ؛ أي يعفّروا وجوههم صاغرين.

قوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ؛) أي ترفع لأجل الصلاة ، قال مجاهد : «هم الّذين لا ينامون حتّى يصلّوا العشاء الآخرة». والمضاجع : هي الفرش التي يضطجعون عليها للنوم ، واحدها مضجع.

وعن أنس رضي الله عنه قال : «نزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار ، حتّى كنّا نصلّي المغرب فلا نرجع حتّى نصلّي العشاء مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٣). وروي : أنّ امرأة

__________________

(١) يونس / ٩٩.

(٢) الأنعام / ٣٥.

(٣) ذكره الواحدي في أسباب النزول : ص ٢٣٥. وأخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث ـ

١٥٤

جاءت إلى أنس بن مالك فقالت : إنّي أنام قبل العشاء ، فقال : «لا تنامي ؛ فإنّ هذه الآية نزلت في الّذين لا ينامون قبل العشاء ، تتجافى جنوبهم عن المضاجع» (١).

وقال الحسن : «المراد بالآية قيام اللّيل والتّهجّد» (٢) ، وكان يقول : «هم قوم أخفوا لله تعالى عملا ، وأخفى لهم ثوابا» (٣).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [عليكم بقيام اللّيل ، فإنّه دأب الصّالحين قبلكم ، وإنّ قيام اللّيل قربة إلى الله تعالى ، ومنهاة عن الإثم ، وتكفير للسّيّئات ، ومطردة للدّاء عن الجسد](٤). وقال الضحّاك : «هو أن يصلّي الرّجل العشاء والفجر في جماعة» (٥).

قوله تعالى : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ؛) أي خوفا من عذاب الله وطمعا في رحمة الله. وانتصب (خَوْفاً) و (طَمَعاً) لأنه مفعول له. وقوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (١٦) ؛ أي ومما أعطيناهم من المال يتصدّقون واجبا وتطوّعا.

وقوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ؛) أي لا يعلم أحد ما أخفى الله لهم مما تقرّ به أعينهم وتطيب به أنفسهم ، (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧) ؛ في الدّنيا من الأعمال الصّالحة.

__________________

ـ (٢١٥٠٥) بأسانيد عديدة. وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الحديث (١٧٨٣٦ ـ ١٧٨٣٩).

(١) أخرجه عن أنس كثيرون ، في الدر المنثور : ج ٦ ص ٥٤٥ ـ ٥٤٦ عزاه السيوطي إلى الفريابي وابن أبي حاتم وابن مردويه ومحمد بن نصر وعبد الرزاق في المصنف وابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد بن حنبل في وزائد الزهد وابن عدي والبزار والبيهقي.

(٢) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٥٤٨ ؛ قال السيوطي : (وأخرجه ابن نصر وابن جرير عن الحسن) وذكره. وأخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٥١٠).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : الأثر (١٧٨٤٢).

(٤) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : الحديث (٦١٥٤) من طريق سلمان الفارسي. وفي مجمع الزوائد : ج ٢ ص ٥١ ؛ قال الهيثمي : (وفيه عبد الرحمن بن سليمان ، وثقه وحيم وابن حبان وابن عدي ، وضعفه أبو داود وأبو حاتم). وأخرجه الطبراني في المعجم الأوسط : ج ٤ ص ١٥٩ : الحديث (٣٢٧٧) من طريق أبي أمامة الباهلي وإسناده حسن.

(٥) أصل هذا الفهم حديث عثمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة ، ومن صلّى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة]. أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ١ ص ٥٨ و٦٨. وأبو داود في السنن : الحديث (٥٥٥). والترمذي في الجامع : الحديث (٢٢١).

١٥٥

قال ابن مسعود : «إنّ في التّوراة مكتوب : لقد أعدّ الله للّذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولا خطر على قلب بشر ، وما لم يحمله ملك مقرّب ، وإنّه في القرآن : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١).

قرأ حمزة (ما أخفي لهم) بإسكان الياء ؛ أي ما أخفي لهم أنا ، وحجّته (قُرَّةِ). وقرأ عبد الله : (نخفي لهم) بالنون. وقرأ محمّد بن كعب : (ما أخفى لهم) بفتح الألف والفاء ، يعني أخفى الله لهم.

قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (١٨) ؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما : «نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، جرى بينهما تنازع وتسابّ ، فقال له الوليد : اسكت فإنّك صبيّ وأنا والله أحدّ منك لسانا وأبسط منك في القول ، وأملأ منك في الكتيبة. فقال له عليّ رضي الله عنه : أسكت فإنّك فاسق تقول الكذب. فأنزل الله هذه الآية» (٢). والمراد بالمؤمن : عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، وبالفاسق : الوليد بن عقبة.

وقال الزجاج : «إنّه لم يرد بالمؤمن مؤمنا ، ولذلك قال : (لا يَسْتَوُونَ) ولم يقل : لا يستويان». وقال قتادة في معنى الآية : «والله ما استووا لا في الدّنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة» (٣).

قوله تعالى : (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى ؛) التي يأوي إليها المؤمنون ، وقوله : (نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٩) ؛ أي معدّة لهم بأعمالهم.

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ٩ ص ٢١٣ : الحديث (٩٠٣٩) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وفي مجمع الزوائد : ج ٧ ص ٩٠ ؛ قال الهيثمي : (رواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن محمّد ابن سعيد وهو ضعيف). وأخرجه الحاكم في المستدرك : كتاب التفسير : الحديث (٣٦٠٣) ، وقال : (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٢١٥٣٢) عن عطاء مرسلا. والواحدي في أسباب النزول : ص ٢٣٥ ـ ٢٣٦. وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الحديث (١٧٨٥٠).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٨٥٢).

١٥٦

وقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ ؛) أي وأما الذين خرجوا من طاعة الله بكفرهم ، فمأواهم النار ، (كُلَّما ؛) رفعهم لهب النار إلى أعلاها ، فظنّوا أنّهم يخرجون منها ف ، (أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) ، ردّتهم ملائكة العذاب إلى أسفلها بمقامع من حديد ، (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٢٠) ؛ في الدّنيا.

وقوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى ؛) قيل : إن المراد بالعذاب الأدنى هو القحط والجوع الذي أصاب أهل مكّة سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والكلاب. وقيل : هو القتل يوم بدر. وقيل : العذاب الأدنى هو مصائب الدنيا وأسقامها وبلاؤها. وقيل : العذاب الأدنى هو عذاب القبر ، والعذاب الأكبر هو عذاب يوم القيامة. وقوله تعالى : (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ ؛) يعني بالعذاب الأكبر عذاب الآخرة ، وقوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢١) ؛ أي أخبرناهم ليرجعوا عن الكفر.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها ؛) ظاهر المعنى. قوله : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) (٢٢) ؛ يعني الذين قتلوا ببدر ، وعجّلنا أرواحهم إلى النار. وأراد بالمجرمين المشركين. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [ثلاث من فعلهنّ فقد أجرم : من عقد لواء في غير حقّ ، أو عقّ والديه ، أو مشى مع ظالم لينصره ، قال الله تعالى : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)](١).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ؛) أعطيناه التوراة جملة واحدة ، (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ ؛) وعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن سيلقى موسى قبل أن يموت ، ثم لقيه في السّماء ليلة المعراج أو في بيت المقدس حين أسري به ، والمعنى : فلا تكن في شكّ من لقاء موسى. قال ابن عباس : «يعني ليلة الإسراء» (٢). ويقال : أراد

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير : الحديث (١٧٨٥٧) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ... وذكره. والطبري في جامع البيان : الحديث (٢١٥٥٨) واللفظ لابن أبي حاتم كما في التفسير.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٢١٥٥٩) مطولا.

١٥٧

به لقاؤهما في الجنّة. ويقال : أراد به لقاء الله. ويقال : أراد به أن يلقى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قومه الأذى مثل ما لقي موسى من قومه.

قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٣) ؛ أي جعلنا التوراة هدى لبني إسرائيل من الضّلالة ، (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً ؛) أي جعلنا من بني إسرائيل أئمّة ، (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ؛) يدلّون الناس على ديننا فيقتدى بهم ، فهم أنبياؤهم ومن استقام منهم على الدّين. وقوله تعالى : (لَمَّا صَبَرُوا ؛) أي لما صبروا جعلناهم أئمّة ، كأنه قال : إن صبرتم على طاعتنا وصبرتم على معصيتنا جعلناكم أئمّة.

قرأ حمزة والكسائي : (لما صبروا) بكسر اللام وتخفيف الميم ؛ أي لصبرهم. ومعنى القراءة الأولى : حين صبروا. والمعنى : لمّا صبروا على دينهم وعلى البلاء من عدوّهم بمصر ، (وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (٢٤) ؛ أي ولكونهم موقنين بآياتنا. قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ؛) أي هو الذي يقضي بين المؤمنين والكفار يوم القيامة ، (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٢٥) ؛ من الدّين.

ثم خوّف كفار مكة فقال : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ ؛) أي أو لم يتبيّن لهم آثار عذاب الاستئصال فيمن أهلك قبلهم من الأمم الماضية المكذّبة ما يكون عبرة لهم ، يمشون في مساكن المهلكين على منازلهم وقراهم ، مثل آثار عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ، (إِنَّ فِي ذلِكَ ؛) أي إنّ في إهلاكنا إياهم بالتكذيب ، (لَآياتٍ ؛) لدلالات واضحة لمن بعدهم ، (أَفَلا يَسْمَعُونَ) (٢٦) ؛ سماع القبول والطاعة. ومن قرأ (أو لم نهد) بالنون ، فالمعنى بإضافة الفعل إلى الله عزوجل.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ ؛) معناه : أولم يعلموا أنا نسوق المطر بالسّحاب والرياح إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها ولا شجر ، (فَنُخْرِجُ بِهِ ؛) بذلك المطر ، (زَرْعاً ؛) رزقا ، (تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ ؛) أي تأكل أنعامهم من ساقها ، (وَأَنْفُسُهُمْ ؛) وهم يأكلون من حبها ، (أَفَلا يُبْصِرُونَ) (٢٧) ؛ أفلا يعقلون.

١٥٨

والأرض الجرز : هي التي تأكل نباتها ، يقال : ناقة جروز إذا كانت أكولا ، وسيف جراز إذا كان مستأصلا ، ورجل جرز إذا كان أكولا. قال ابن عباس رضي الله عنهما : «هي أرض باليمن» (١). وقال مجاهد : «هي أبين» (٢).

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ ؛) وذلك أن كفار مكة كانوا يؤذون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : يوشك أن يكون لنا يوم نستريح فيه من شركهم ، فكان الكفار يهزءون بهم ويقولون : متى هذا الفتح ؛ أي الحكم الذي بيننا وبينكم ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٨) ؛ فيما تقولون (٣).

والمعنى : أنّ كفار مكة يقولون : متى هذا الفتح ؛ أي القضاء وهو يوم البعث ، يقضي فيه الله بين المؤمنين والكافرين.

فقال الله تعالى : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ ؛) يعني يوم القيامة ويوم القضاء والفصل ، (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ ؛) لو آمنوا يومئذ ، (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (٢٩) ؛ أي ولا هم يمهلون ، ولا يؤخّرون لمعذرة أو توبة ، ولا تؤخّر عنهم عقوبتهم.

وعن ابن عبّاس في هذه الآية : «المراد بالفتح فتح مكّة ، وأنّ الآية نزلت في بني خزيمة ، كانوا هم الّذين يستهزئون بأصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين كان أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتذاكرون وهم بمكّة فتح مكة لهم. فلمّا كان يوم الفتح تكلّمت بنو خزيمة بكلمة الإسلام ، فقتلهم خالد بن الوليد ولم يقبل منهم إسلامهم» وكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : [اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد](٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٥٦٥).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٥٦٦).

(٣) نقله ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٨٦٦) عن قتادة. والطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٥٧١).

(٤) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٢ ص ١٥٠ ـ ١٥١. والبخاري في الصحيح : كتاب المغازي : باب بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد : الحديث (٤٣٣٩).

١٥٩

قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ؛) أي عن جوابهم ، (وَانْتَظِرْ) ، الفريضة فيهم ، (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٠) ؛ الفرصة فيك. قال ابن عبّاس : «قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) نسخته آية السّيف» (١). وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي منتظرون لك حوادث الأزمان من موت أو قتل فيستريحون منك.

آخر تفسير سورة (السجدة) والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز : ص ١٤٩٨.

١٦٠