التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ؛) معناه : أو لم يعلموا أنّ الله يوسع الرزق على من يشاء ويضيّق على من يشاء ، كلّ ذلك من عنده لا بحول الإنسان وقوته ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥٢) ؛ إنّ في البسط والتقتير لآيات لقوم يصدّقون أنّها من الله تعالى.

قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ؛) قال ابن عبّاس رضي الله عنه : (إنّ هذه الآية نزلت في وحشي وأصحابه الّذين قتلوا حمزة عمّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجماعة من المؤمنين ، أرسلوا إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا يطلبون التّوبة ، فأنزل هذه الآية) (١).

وعن ابن عبّاس رضي الله عنه قال : (بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام ، فأرسل إليه : يا محمّد كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أنّه من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما ، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا؟! وأنا قد فعلت ذلك كلّه ، فهل تجد لي فيه رخصة؟ فأنزل الله تعالى (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً)(٢).

فقال وحشي : هذا شرط شديد لا أقدر على هذا ، فهل غير ذلك؟ فأنزل الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)(٣) وقال وحشي : وإنّي في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا ، فهل غير ذلك؟ فأنزل الله (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) فجآء وحشي فأسلم ، فقال المسلمون : هذه له خاصّة أم للمسلمين عامة؟ فقال : [بل للمسلمين عامّة](٤).

معنى الآية : قل يا عبادي الذي جاوزوا الحدّ في المعاصي بالكفر والزّنا والقتل ونحوها : لا تيأسوا من رحمة الله ، (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ؛) أي الصغائر

__________________

(١) ذكره ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٨٤٠١). وذكره الفراء في معاني القرآن : ج ٢ ص ٤٢١.

(٢) الفرقان / ٧٠.

(٣) النساء / ٤٨.

(٤) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٣٥ ؛ قال السيوطي : (أخرجه الطبري وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان بسند لين عن ابن عباس رضي الله عنهما) وذكره.

٣٨١

والكبائر ، (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ ؛) لمن تاب وآمن ، (الرَّحِيمُ) (٥٣) ؛ بمن تاب على التوبة.

قوله تعالى : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ ؛) أي ارجعوا إلى طاعة ربكم بالتوبة ، (وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (٥٤) ، واستسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تمنعون مما يراد بكم.

قوله تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ؛) وهو القرآن ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٥٥) ؛ وقت مجيئه.

قوله تعالى : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ؛) معناه : بادر واحذر من أن تقول نفسي ، أو حذار من أن تصير إلى حالة تتحسّرون فيها على التفريط فيما ينال به ثواب الله ، قال الفرّاء : (معنى قوله (فِي جَنْبِ اللهِ) : هو القرب ؛ أي في قرب الله وجواره) (١).

والمعنى : أن تقول نفسي : يا حسرتا على ما فرّطت في طلب جوار الله وقربه وهو الجنّة ، وقال عطاء : (معناه : على ما ضيّعت من ثواب). وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (٥٦) ؛ أي وما كنت إلّا من المستهزئين بالقرآن والمؤمنين في الدّنيا وبمن دعاني إلى التوحيد.

قوله تعالى : (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٥٧) ؛ أي وخوفا أن تقول لو أنّ الله نجّاني من العذاب لكنت من جملة المتّقين الشّرك.

قوله تعالى : (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ) ، الموحدين ، (الْمُحْسِنِينَ) (٥٨) ؛ أو تقول حين ترى العذاب أو لئلّا تقول حين ترى العذاب : لو أنّ لي رجعة إلى الدّنيا فأكون من الموحّدين المحسنين.

__________________

(١) نقله عنه أيضا القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٢٧١.

٣٨٢

فيقال لهذا القائل : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي ؛) يعني القرآن ؛ (فَكَذَّبْتَ بِها ؛) أي قلت : ليست من عند الله ، (وَاسْتَكْبَرْتَ ؛) أي وتكبّرت من الإيمان بها ، وتعظّمت عن الإقرار بذلك ، (وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٥٩) ، وصرت من الجاحدين لنعم الله ، فأصابك ما أصابك بجنايتك على نفسك.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ؛) أي وترى يا محمّد يوم القيامة الذين كذبوا على الله في قولهم : عزير ابن الله ، وقولهم : المسيح ابن الله ، وقولهم : الملائكة بنات الله تعالى ، وقول عبدة الأصنام : ما نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى الله زلفى ، ترى هؤلاء تسودّ وجوههم وتزرقّ أعينهم. وقوله : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (٦٠) ؛ تحقيق وتقرير ، والمثوى : هو المنزل ، والمتكبر : هو المتعظّم عن الإيمان.

قوله تعالى : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ ؛) أي يخلّصهم من العذاب بفوزهم الذي استحقّوه بأعمالهم ، قال المبرّد : (المفازة : مفعلة من الفوز) (١) وهي السّعادة وإن جمع فحسن كقولهم السّعادة والسّعادات ، ويقرأ (بمفازاتهم). وقوله : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ ؛) أي لا يصيبهم العذاب ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦١) ؛ لأنّهم رضوا بالثواب.

وقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ؛) أي جميع ما في الدّنيا والآخرة من شيء فالله خالقه ، وهو المستحقّ للعبادة ، قوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (٦٢) ؛ أي الأشياء كلّها موكلة إليه ، فهو القائم بحفظها ، المدبر لأمورها ، الكفيل بأرزاقها.

قوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؛) أي له خزائن السّموات والأرض ، يفتح الرزق على من يشاء ويغلقه ، قال ابن عبّاس : (المقاليد المفاتيح) (٢) واحد المقاليد مقليد ، كما يقال منديل ومناديل ، وقال الضحّاك : (مقاليد السّموات

__________________

(١) ذكره عنه أيضا البغوي في معالم التنزيل : ص ٢٢٣١.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٢٧٣).

٣٨٣

والأرض خزائنها) (١). ويجوز أن تكون المقاليد جمع المقلاد ، وهو مفعال من المقلادة ؛ أي هو مالك الخلق وله طاعتهم وبيده قلوبهم.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٦٣) ؛ معناه : والذين كفروا بالقرآن هم الذين خسروا حتى صاروا في النار.

قوله تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) (٦٤) ؛ وذلك أنّ المشركين من قريش قالوا للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتؤمن ببعض آلهتنا ونؤمن بإلهك ، فأنزل الله هذه الآية (٢). والمعنى أتأمرونني أن أعبد غير الله أيّها الجاهلون بالنعمة.

قرأ نافع (تأمروني) بنون واحدة خفيفة على التخفيف ، وقرأ ابن عامر بنونين على الأصل ، وقرأ الباقون بنون واحدة مشدّدة على الإدغام.

وقوله : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦٥) ؛ أي ليحبطنّ عملك الذي عملته قبل الشّرك ، وهذا أدب من الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد لغيره ، لأنّ الله قد عصمه من الشّرك ومداهنته الكفار. قوله تعالى : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ ؛) أي وحّد ؛ لأن عبادته لا تصحّ إلّا بتوحيده ، (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٦٦) ؛ لإنعامه عليك به.

قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ؛) أي ما عرفوا الله حقّ معرفته ، ولا عظّموه حقّ تعظيمه ، إذ عبدوا الأوثان من دونه ، وأمروا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعبادة غيره. ثم أخبر عن عظمته فقال : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ؛) أي وجميع الأرض في مقدوره يوم القيامة كالذي يقبض عليه القابض في قبضته ، وهذا كما يقال : فلان في قبضة فلان ؛ أي تحت أمره وقبضته ، والقبضة في اللغة : ما قبضت عليه بجمع كفّك ، أخبر الله تعالى عن قدرته فذكر أن الأرض كلّها مع عظمتها وكثافتها في مقدوره ، كالشّيء الذي يقبض عليه القابض بكفّه.

__________________

(١) أخرجه الطبري عن ابن زيد في جامع البيان : الأثر (٢٣٢٧٦).

(٢) ذكره مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ١٣٨.

٣٨٤

قوله تعالى : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ؛) ذكر اليمين للمبالغة في الاقدار ، يعني أنّه يطويها بقدرته كما يطوي الواحد منّا الشيء المقدور له طيّه بيمينه ، قال الأخفش : (معناه مطويّات في قدرته نحو قوله أو ما ملكت أيمانكم ؛ أي ما كانت لكم عليه قدرة وليس الملك لليمين دون الشّمال) (١). وقد يذكر اليمين بمعنى القوّة كما قال الشاعر (٢) :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين

ثم نزّه نفسه عن شركهم فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٧).

قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ؛) قد ذكرنا أن النفخة نفختان في قول أكثر المفسّرين وبينهما أربعون سنة ، فالنفخة الأولى هي نفخة الصّعق.

والصعق : هو الموت بصيحة شديدة حالّة هائلة ، ومنها الصواعق وهي التي تأتي بشدّة الرّعد ، وعن عبد الله بن عمر قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصّور فقال : [قرن ينفخ فيه فيصعق من في السّموات ومن في الأرض](٣) أي يموتون من الفزع وشدّة الصوت. قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ؛) يعني الملك الذي ينفخ في الصّور ، ثم يميته الله بعد ذلك ، وقال الحسن : (يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وحملة العرش وملك الموت) (٤). وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل

__________________

(١) قاله الأخفش في معاني القرآن : ج ٢ ص ٦٧٤. تحقيق د. عبد الأمير. وج ٢ ص ٤٥٧ ، تحقيق د. فائز فارس.

(٢) قاله الحطيئة ، وقيل : الشماخ الذبياني ، (؟ ـ ٢٢ ه‍).

(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٢ ص ١٦٢ و١٩٢. وأبو داود في السنن : كتاب السنة : باب في ذكر البعث والصور : الحديث (٤٧٤٢). والترمذي في الجامع : أبواب صفة القيامة : باب ما جاء في شأن الصور : الحديث (٢٤٣٠) ، وإسناده صحيح.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٢٩٥) عن السدي.

٣٨٥

جبريل عن هذه الآية : [من الّذي شاء الله أن يصعقهم؟ قال : هم الشّهداء متقلّدون أسيافهم حول العرش](١).

عن أنس بن مالك قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم وقال لهم : [جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، فيقول الله تعالى : يا ملك الموت خذ نفس إسرافيل ، فيأخذها ؛ ثمّ يقول : خذ نفس ميكائيل ، فيأخذها ، ثمّ يقول الله تعالى : يا ملك الموت من بقي؟ فيقول : سبحانك يا رب تباركت وتعاليت بقي جبريل وملك الموت ، فيقول الله تعالى : مت يا ملك الموت ، فيموت ، ثمّ يقول الله تعالى : يا جبريل من بقي؟ فيقول : تباركت وتعاليت بقي وجهك الباقي الدّائم ، وبقي جبريل الميّت الفاني ، فيقول : يا جبريل مت ، فيبقى ساجدا يخفق بجناحيه فيموت](٢).

وقال الضحّاك : (معنى قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) هم رضوان والحور ومالك والزّبانية) ، وقال قتادة : (الله أعلم بثنياه). وقيل : هم عقارب النار وحيّاتها (٣).

قوله تعالى : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ؛) يعني نفخة البعث ، (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٦٨) ؛ ماذا يقال لهم.

قوله تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها ؛) وأضاءت الأرض يومئذ بعدل ربها ، فسمّي العدل نورا كما سمّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نورا وسمّي القرآن نورا. ويقال : إن نور الأرض العدل ، كما أنّ نور الدين العلم ، وقال بعضهم : يخلق الله تعالى يومئذ نورا يضيء لأهل القيامة غير الشمس والقمر.

قوله تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتابُ ؛) يعني صحائف الأعمال ، (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ ؛) قال ابن عبّاس رضي الله عنه : (المراد بقوله (وَالشُّهَداءِ) هم الّذين

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٤٩ ؛ قال السيوطي : (أخرجه أبو يعلى والدارقطني في الافراد وابن المنذر والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي في البعث) وذكره.

(٢) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٥٠ ؛ قال السيوطي : (أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وأبو نصر السجزي في الإبانة وابن مردويه) وذكره.

(٣) ذكره أيضا القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٢٨٠.

٣٨٦

يشهدون للرّسل بتبليغ الرّسالة) (١) وهم أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال عطاء : (يعني الحفظة) (٢) وقال السديّ : (يعني الّذين استشهدوا في طاعة الله) (٣).

وقوله تعالى : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ؛) أي قضي بين الرّسل والأمم بالعدل ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٦٩) ؛ أي لا ينقص من حسنات أحد ولا يزاد في سيّئات أحد. قوله : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ ؛) أي أعطيت كلّ نفس برّة أو فاجرة جزاء ما عملت من خير أو شرّ ، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) (٧٠) ؛ وهو أعلم بفعلهم ، لا يحتاج إلى كاتب ولا شاهد.

قوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً ؛) وذلك أنّهم يساقون إلى جهنّم فوجا فوجا ، الأوّل فالأول ، يساق كفار كلّ أمة على حدة ، والزّمر : جماعات في تفرقة بعضها على إثر بعض ، يساقون سوقا عنيفا ، يسحبون على وجوههم إلى جهنّم ، (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها ؛) عند مجيئهم ، (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها ؛) وهم الزّبانية : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ) ، ويخوفونكم ، (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) ، اليوم ، (قالُوا بَلى) ، أتونا بالرسالة ، (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٧١) ؛ ولكن وجبت كلمة العذاب على الكافرين ، فيقول لهم الزبانية : (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٧٢) ؛ ادخلوا أبواب جهنّم السبعة خالدين فيها.

ومعنى قوله (ولكن حقّت كلمة العذاب على الكافرين) هو قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(٤). واختلف القراء في قوله (فتحت) فخفّفها الكوفيّون ، وشدّدها الباقون على التكثير.

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٦٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن جرير وابن مردويه) وذكره. وأخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٣١١). وذكره البغوي أيضا في معالم التنزيل : ص ١١٣٣.

(٢) ذكره أيضا البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٣٣.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٣١).

(٤) هود / ١١٩.

٣٨٧

قوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ؛) وذلك أنّ المؤمنين ينطلق بهم إلى الجنّة فوجا فوجا بالتلطّف والإكرام ، (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها ؛) قال الأخفش : (هذه الواو زائدة) (١) والمعنى : فتحت أبوابها حتّى تكون جوابا لقوله (حَتَّى إِذا جاؤُها). وقال الزجّاج : (القول عندي أنّ الجواب محذوف ، تقديره : حتّى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وسلّم عليهم خزنتها ساروا إلى السّعادة ووصلوا إلى مقصودهم) (٢).

وقيل : هذه الواو واو الحال تقديره : حتى إذا جاؤها وقد فتحت أبوابها ، وأدخل الواو ههنا لبيان أنّها قد كانت مفتّحة قبل مجيئهم ، وحذفها من الآية الأولى لبيان أنّها قد كانت مغلقة قبل مجيئهم.

ويقال : زيدت الواو ههنا لأن أبواب الجنّة ثمانية وأبواب جهنّم سبعة فزيدت الواو فرقا بينهما. وحكي عن أبي بكر بن عيّاش (٣) : (أنّها تسمّى واو الثّمانية) (٤) وذلك أنّ من عادة قريش أنّهم يعدّون العدد من الواحد إلى الثّمانية ، فإذا بلغوا الثّمانية زادوا فيها الواو ، فيقولون : خمسة ستّة سبعة وثمانية ، يدلّ عليه قوله تعالى (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ)(٥) ، وقال الله (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ)(٦) فلمّا بلغ الثامن (٧)(وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ، وقال تعالى (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)(٨) ، وقال تعالى

__________________

(١) قاله الأخفش في معاني القرآن : ج ٢ ص ٦٧٣ ، تحقيق د. عبد الأمير. وج ٢ ص ٤٥٨ ، تحقيق د. فائز.

(٢) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٢٧٤ مع بعض التصرف في العبارة. ونقله كما عند المصنف البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٣٣

(٣) في المخطوط : (عن أبي بكر بن عبد أوس) والصحيح : (عن أبي بكر بن عياش) وهو الكوفي الخياط المقرئ ترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب : الرقم (٨٢٦٥). وذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٢٨٥.

(٤) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٠ ص ٣٨٢ ـ ٣٨٣ ؛ قال القرطبي : (وحكى القرطبي عن أبي بكر ابن عياش أن قريشا ...) وذكره. وينظر : ج ١٥ ص ٢٨٥.

(٥) الحاقة / ٧.

(٦) التوبة / ١١٢.

(٧) في المخطوط (الثا) ولم يتمها الناسخ.

(٨) الكهف / ٢٢.

٣٨٨

(ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً)(١)). وقيل : زيادة الواو في صفة الجنّة علامة لزيادة رحمة الله تعالى.

قوله تعالى : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٧٣) ؛ قال ابن عبّاس : (معنى قوله (طِبْتُمْ) أي طاب لكم المقام) (٢) ، وقيل : معناه ظفرتم بصالح أعمالكم وكنتم طيّبين في الدنيا. وقيل : طابت لكم الجنّة فادخلوها خالدين. فلما دخلوها (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) ، أي أنجزنا وعده ، (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) ، وأنزلنا أرض الجنّة ، (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ؛) أي نتّخذ فيها من المنازل ما نشاء ، لقول الله تعالى (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (٧٤) ؛ أي نعم ثواب العاملين لله في الدّنيا الجنّة.

قوله تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ؛) أي محدّقين حول العرش محيطين به ، (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ؛) إجلالا لعظمته ، (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ؛) الخلائق ، (بِالْحَقِّ ؛) أي بالعدل وانتصف بعضهم من بعض ، (وَقِيلَ) ، ويقال لهم بعد الفراغ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٧٥) ؛ وذلك أنّ الله تعالى ابتدأ خلق الأشياء بالحمد فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)(٣) فلمّا بعث الخلق واستقرّ أهل الجنّة في الجنة ، وأهل النار في النار ، ختمه بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

آخر تفسير سورة (الزمر) والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) التحريم / ٥.

(٢) ذكره عنه أيضا ابن عادل الحنبلي في اللباب في علوم الكتاب : ج ١٦ ص ٥٥٥.

(٣) الأنعام / ١.

٣٨٩

سورة المؤمن (غافر)

سورة المؤمن مكّيّة (١) ، وهي أربعة آلاف وسبعمائة وستّون حرفا (٢) ، وتسع وتسعون كلمة ، وخمس وثمانون آية.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ حم المؤمن ، لم يبق روح نبيّ ولا صدّيق إلّا صلّوا عليه واستغفروا له](٣). قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة ، فليقرأ الحواميم في صلاة اللّيل](٤) ، وقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الحواميم أدباج القرآن](٥). قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الحواميم سبع ، وأبواب جهنّم سبع ، فيجيء كلّ حم منهنّ يوم القيامة على باب من هذه الأبواب تقول : لا يدخل النّار من كان يقرؤني](٦).

وقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لكلّ شيء ثمرة ، وثمرة القرآن الحواميم ، هنّ روضات حسنات مخصبات ، فمن أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليقرإ الحواميم](٧). وقال ابن مسعود : (إذا وقعت في الحواميم وقعت في روضات أتأنّق فيهنّ) (٨).

__________________

(١) في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٢٧٦ ؛ قال الزجاج : (الحواميم كلها مكية). وتسمى سورة غافر ، وسورة الطّول ، وهي سورة المؤمن. قاله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٢٨٨.

(٢) في اللباب في علوم الكتاب : ج ١٨ ص ٣ ؛ قال ابن عادل : (أربعة آلاف وتسعمائة وستون حرفا).

(٣) لم أقف عليه بهذا اللفظ.

(٤) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٦٩ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن الضريس عن إسحق بن عبد الله).

(٥) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٦٩ ؛ قال السيوطي : (أخرجه أبو الشيخ ، وأبو نعيم والديلمي عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...) وذكره.

(٦) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان : باب في تعظيم القرآن : الحديث (٢٤٧٩) ، وقال : (هكذا بلغنا بهذا الإسناد المنقطع).

(٧) تقدم.

(٨) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٣٤. وفي الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٦٨ ؛ قال السيوطي : (أخرجه أبو عبيد ومحمد بن نصر وابن المنذر عن ابن مسعود). وذكره.

٣٩٠

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم) (١) ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [حم ، اسم من أسماء الله تعالى ، وهي مفتاح خزائن ربك](١) ، وقال ابن عباس : [هو اسم الله الأعظم](٢). وعن عكرمة قال : (ألر وحم ون حروف الرّحمن مقطّعة) (٣) ، وقيل : (أقسم الله بحملة «عرشه» وملائكته لا يعذّب أحدا عاد إليه يقول : لا إله إلّا الله مخلصا من قلبه) (٤) ، وقال عطاء الخراسانيّ : (الحاء : افتتاح أسماء الله : حليم وحميد وحيّ وحكيم ، والميم : افتتاح أسمائه : ملك ومجيد ومنّان) (٥) ، وقال الضحّاك : (حم قضى ما هو كائن) (٦).

قوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٢) ؛ أي هذه تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم بخلقه ، وقرأ حم بفتح الميم ؛ أي أتل حميم. قوله تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ؛) أي غافر الذنب لمن قال لا إله إلّا الله ، وهم أولياؤه وأهل طاعته ، وقابل التّوب من الشّرك ، شديد العقاب لمن مات على الشّرك.

__________________

(١) في جامع البيان : الأثر (٢٣٣٢٨) عن ابن مسعود موقوفا. وفي الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٧٠ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن مردويه عن أبي أمامة رضي الله عنه) موقوفا. وفي الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٢٨٩ ، وذكره القرطبي كما عند المصنف رحمه‌الله ، وأشار إلى إسناده عن عكرمة ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فهو مرسل ولم أقف على إسناده.

(٢) ذكره القرطبي أيضا في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٢٨٩.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٣٢٧) عن عكرمة عن ابن عباس.

(٤) ذكره الثعلبي عن محمد بن كعب القرظي ، كما في الكشف والبيان : ج ٨ ص ٢٦٣. وفي المخطوط : (بحمله) ولعله يريد (بحلمه) وترجح عندي كما أثبتناه.

(٥) عطاء بن أبي مسلم الخراساني ، روى عن الصحابة مرسلا ، ولد سنة (٥٠) ومات سنة (١٣٥) من الهجرة. ترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب : الرقم (٣٧٣٧). ونقل قال : (وقال الطبراني : لم يسمع من أحد من الصحابة إلا من أنس).

(٦) ذكره القرطبي عن الضحاك والكسائي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٢٨٩.

٣٩١

والتّوب : جمع التّوبة ، ويجوز أن يكون مصدرا من تاب يتوب توبا ، قوله تعالى : (ذِي الطَّوْلِ ؛) أي ذي الغنى عمّن لا يوحّده ولا يقول : لا إله إلّا الله. وقال الكلبيّ : (ذو الفضل على عباده والمانّ عليهم) ، وقال مجاهد : (ذو السّعة والغنى).

قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ؛) أي لا معبود للخلق سواه ، (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٢) ؛ أي مصير من آمن ، ومصير من لم يؤمن ، وعن الحسن رضي الله عنه : (أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه سأل عن بعض إخوانه الّذين كانوا بالشّام ، فقال : ما فعل أخي فلان؟ وقالوا : ذاك أخو الشّيطان يخالط أهل الأشرفيّة وخالف أصحابه. فقال : إذا خرجتم إلى الشّام فآذنوني. فلمّا أرادوا الخروج أعلموه ، فكتب :

من عبد الله عمر بن الخطّاب أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان. بسم الله الرّحمن الرّحيم. سلام عليك ؛ فإنّي أحمد إليك الله الّذي لا إله إلّا هو.

أمّا بعد : فإنّ الله تعالى قال : (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ...) إلى قوله (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ). والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته.

فلمّا جاءه الكتاب قالوا له : اقرأ كتابك أيّها الرّجل ، فلمّا قرأ (الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) قال : عليم بما أصنع ، (غافِرِ الذَّنْبِ) إن استغفرت غفر لي ، و (قابِلِ التَّوْبِ) إن أنا تبت ليقبل توبتي ، (شَدِيدِ الْعِقابِ) إن لم أفعل عاقبني (ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ). ثمّ قال : صدق الله ونصح عمر رضي الله عنه ، فأقبل بطريقة حسنة إلى أن مات.

فلمّا بلغ عمر أمره ، قال : هكذا فاصنعوا ؛ إذا رأيتم أخاكم نزل فشدّدوه ووفّقوه ، وادعوا الله له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشّيطان عليه) (١).

قوله تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ؛) أي ما يخاصم في آيات الله لتكذيبها والطّعن فيها والمراء عليها إلّا الذين كفروا ، (فَلا يَغْرُرْكَ

__________________

(١) أخرج القصة من وجه آخر ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٨٤١٦ و١٨٤١٧). وأورد القصة بألفاظ قريبة القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٢٩١.

٣٩٢

تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) (٤) ؛ بالتّجارات وسلامتهم في تصرّفاتهم بعد كفرهم ، فإنّ عاقبة أمرهم العذاب كعاقبة من قبلهم من الكفّار. وقيل : معناه : فلا يغررك ذهابهم ومجيئهم في الأسفار بالتّجارات ، فإنّهم ليسوا على شيء.

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ؛) أي قبل قومك ، (قَوْمُ نُوحٍ ؛) وقوله تعالى : (وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ؛) وهم الذين تحزّبوا على أنبيائهم بالتكذيب نحو عاد وثمود ؛ أي كذبوا رسلهم كما كذبك قومك ، (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ؛) فيقتلوه ، (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ؛) أي وخاصموا الرّسل بالباطل ليبطلوا به الحقّ الذي جاءت به الرسل ، (فَأَخَذْتُهُمْ) ، بعاقبة الاستئصال ، (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٥) ؛ لهم.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ؛) أي مثل ما حقّ على الأمم المكذّبة حقّت كلمة ربك بالعذاب على الذين كفروا من قومك ، (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٦) ، في الآخرة.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ؛) يعني حملة العرش والطائفين به ، وهم الكرّوبيّون وهم سادة الملائكة ، (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ؛) بأنه واحد لا شريك له ، (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، ويقولون : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ؛) أي وسعت رحمتك كلّ شيء ، (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا ؛) عن الشّرك والمعصية ، (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ؛) الطريق الذي دعوتهم إليه ، (وَقِهِمْ) ، وادفع عنهم ، (عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ؛) أي ربّنا وأدخلهم بساتين إقامة ، (الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ؛) في الكتب على ألسنة الرّسل ، وأدخل معهم ، (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ؛) ونسائهم وأولادهم ، (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ ؛) في ملكك وسلطانك ، (الْحَكِيمُ) (٨) ؛ في أمرك وقضائك ، (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ ؛) وادفع عنهم عقوبة السّيئات ، (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ) ومن يدفع عنه عقوبة السيئات ، (فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩) ؛ أي النجاة الوافرة.

٣٩٣

وانتصب قوله (رحمة وعلما) على التمييز ، قال ابن عبّاس : (حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدمه مسيرة خمسمائة عام ، ومستقرّ أرجلهم في الأرض السّابعة السّفلى ، ورؤوسهم تحت العرش ، وهم خشوع لا يرفعون أبصارهم ، وهم أشدّ خوفا من أهل السّموات السّبع) (١).

وعن الضحّاك قال : (لمّا خلق الله حملة العرش قال لهم : احملوا عرشي ، ولم يطيقوا! فخلق مع كلّ ملك من الأعوان مثل جنود سبع سموات من الملائكة ، وقال لهم : احملوا عرشي ، فلم يطيقوا! فخلق مع كلّ واحد من الأعوان مثل جنود سبع سموات وأرضين من الملائكة ، ومثل من في الأرضين من الخلق ، وقال لهم : احملوا عرشي ، فلم يطيقوا! فخلق مع كلّ واحد منهم مثل جنود سبع سموات وجنود سبع أرضين وعدد ما في الرّمل من الحصى والثّرى (٢) وقال : احملوا عرشي ، فلم يطيقوا! فقال : قولوا : لا حول ولا قوّة إلّا بالله ، فلمّا قالوها حملوا العرش) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أذن لي أن أتحدّث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمتي أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام](٣).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) (١٠) ؛ وذلك أن الكفار لمّا دخلوا النار مقتوا أنفسهم ، ومقت بعضهم بعضا لاشتغالهم في الدّنيا بما قادهم إلى النار ، فيناديهم مناد : (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ) أي مقت الله إيّاكم في الدّنيا (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم.

__________________

(١) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٣٥.

(٢) الثّرى : التّراب النّدي.

(٣) أخرجه أبو داود في السنن : كتاب السنة : باب في الجهمية : الحديث (٤٧٢٧) عن جابر بن عبد الله. والطبراني في الأوسط : ج ٢ ص ٤٢٥ : الحديث (١٧٣٠) بلفظ : [مسيرة سبعين عاما]. وفي مجمع الزوائد : ج ١ ص ٨٠ ؛ قال الهيثمي : (رواه أبو داود ، ورواه الطبراني في الأوسط ، ورجاله رجال الصحيح).

٣٩٤

قوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ؛) قال بعضهم : معناه : كنّا نطفا في أصلاب آبائنا أمواتا فخلقت فينا الحياة ، ثم أمتّنا بعد ذلك عند انتهاء آجالنا ثم أحييتنا للبعث ، وهذا كقوله تعالى (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)(١). قالوا هكذا لأنّهم كانوا في الدّنيا فكذبوا في البعث ، فاعترفوا في النار بما كذبوا به ، وهو قوله تعالى : (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا ؛) أي بالتّكذيب.

وقال بعضهم : أراد بالموت الأولى التي تكون عند قبض الأرواح ، وبالموت الثانية التي تكون بعد الإحياء في القبر للسّؤال ؛ لأنّهم أميتوا في الدّنيا ثم أحيوا في قبورهم فسئلوا ، ثم أميتوا في قبورهم ، ثم أحيوا في الآخرة للبعث ، فيكون المراد بالإحياء الأول الإحياء في القبر ، وبالإحياء الثاني الإحياء للبعث. قوله تعالى : (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) أي بإنعامك علينا ونفوذ قضائك فينا وتكذيبنا في الدّنيا ، (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ ؛) النار ، من ، (سَبِيلٍ) (١١) ، طريق فنؤمن بك ونرجع إلى طاعتك؟

فيجابون : ليس إلى خروج من سبيل ، يقال لهم : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ؛) أي ذلك العذاب في النار والمقت بأنّكم إذا قيل لكم في الدّنيا : لا إله إلّا الله ، أنكرتم وكفرتم وقلتم أجعل الآلهة إلها واحدا ، (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ ؛) بالله ، (تُؤْمِنُوا) ، صدّقتم ، (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ ؛) في سلطانه ، (الْكَبِيرِ) (١٢) ؛ في عظمته لا يردّ حكمه.

وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ؛) أي دلائل توحيده ومصنوعاته التي تدلّ على قدرته من السّماء والأرض ، والشمس والقمر ، والنجوم والسّحاب وغير ذلك ، (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً ؛) يعني المطر الذي يسبب الأرزاق ، (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (١٣) ؛ أي ما يتّعظ بهذه المصنوعات. وقيل : معناه : وما يتّعظ بالقرآن إلّا من يرجع إلى دلائل الله فيتدبّرها.

__________________

(١) البقرة / ٢٨.

٣٩٥

ثم أمر المؤمنين بتوحيده فقال : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ؛) أي مخلصين له الطاعة موحّدين ، (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (١٤) ؛ منكم ذلك.

ثم عظّم تعالى نفسه فقال : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ؛) أي رافع درجاتكم ، والرفيع بمعنى الرافع ، والمعنى : أنه يرفع درجات الأنبياء والأولياء في الجنّة. قوله تعالى : (ذُو الْعَرْشِ) أي خالقه ومالكه ، (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) ، أي ينزل الوحي ، (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ؛) أي على من يختصّ بالنبوّة والرسالة ، (لِيُنْذِرَ ؛) ذلك النبيّ الموحى إليه ، (يَوْمَ التَّلاقِ) (١٥) ؛ أي يوم القيامة ، وسمي يوم التّلاق ؛ لأنه يلتقي فيه أهل السموات والأرض ، والمؤمنون والكافرون والظالمون والمظلومون ، ويلتقي المرء فيه بعمله ، وقرأ الحسن : (لتنذر بالتاء (يا محمد يوم التلاق) أي لتخوّف فيه) (١) ، وقرأ العامة بالياء ؛ أي لينذر الله.

قوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ ؛) أي يوم هم خارجون من مواضعهم من الأرض والبحار وحواصل الطّير وبطون السّباع ، (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ ؛) ولا من أعمالهم ، (شَيْءٌ ؛) ومحلّه رفع بالابتداء ، و (بارِزُونَ) خبره.

ويقول الله في ذلك اليوم : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ؛) فيقول الخلق كلّهم : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١٦) ؛ وقال الحسن : (هو السّائل والمجيب ؛ لأنّه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه ، فيجيب نفسه) (٢).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [الحمد لله الّذي تصرّف بالقدرة وقهر العباد بالموت ، نظر الله إليه ، ومن ينظر إليه لم يعذّبه ، واستغفر له كلّ ملك في السّماء ، وكلّ ملك في الأرض](٣).

__________________

(١) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٣٠٠ ؛ قال القرطبي : (وقرأ ابن عباس والحسن وابن السميقع : (لتنذر) بالتاء خطابا للنبي عليه‌السلام). وينظر : إعراب القرآن للنحاس : ج ٤ ص ٢١.

(٢) ذكره أيضا القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٣٠٠.

(٣) هكذا ورد النص في المخطوط ، وفيه اضطراب من حيث بناء الجملة.

٣٩٦

قوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ؛) أي تجزى كلّ نفس بعملها ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ؛) من أحد إلى أحد ، (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٧) ؛ يحاسبهم جميعا في ساعة واحدة ، يظنّ كلّ واحد أنه المجاب دون غيره.

قوله تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ ؛) أي حذّرهم يوم القيامة ؛ والمعنى : يا محمّد أنذر أهل مكّة يوم الآزفة ، يعني القيامة ، سميت القيامة آزفة من الأزف : وهو الأمر إذا قرب ، والقيامة آزفة لسرعة مجيئها. قال الزجّاج : (قيل لها : آزفة لأنّها قريبة وإن استبعدها النّاس ، وكلّ آت فهو قريب) (١) ، (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ؛) أي تزول القلوب من مواضعها من الخوف ، فتشخص صدورهم حتى يبلغ حاجزهم في الحلوق ، فلا هي تعود إلى أماكنها ولا هي تخرج من أفواههم فيموتوا فيستريحوا.

وذلك أنّ القلب بين فلقتي الرّئة ، فإذا انتفخت الرّئة عند الفزع رفعت القلب حتى يبلغ الحنجرة ، فيلصق بالحنجرة فلا يقدر صاحبه على أن يردّه إلى مكانه ، ولا على أن يلفظ به فيستريح. ونظيره قوله تعالى : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ)(٢) ، وقوله تعالى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ)(٣) وقوله تعالى (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ)(٤) وقوله تعالى : (إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ)(٥).

وقوله تعالى : (كاظِمِينَ) أي مغمومين مكروبين ممتلئين غمّا وخوفا وحزنا ، يعني أصحاب القلوب يتردّد حزنهم وحسراتهم في أجوافهم ، والكاظم : هو الممتليء أسفا وغيظا ، والكظم تردّد الغيظ والحزن والخوف في القلب حتى يضيق به ، نصب (كاظِمِينَ) على الحال ، قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (١٨) ؛ أي ما لهم من قريب ينفعهم ولا شفيع يطاع الشفيع فيهم فتقبل شفاعته.

__________________

(١) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٢٧٩.

(٢) الاحزاب / ١٠.

(٣) الواقعة / ٨٣.

(٤) ابراهيم / ٤٣.

(٥) القيامة / ٢٦.

٣٩٧

وقوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ ؛) أي خيانتها وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحلّ ، قال ابن عبّاس : ((خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) : هو الرّجل يكون جالسا مع القوم ، فتمرّ المرأة فيسارقهم النّظر إليها) (١). وقال قتادة : (هي همزه بعينه وإغماضه فيما لا يحبّ الله) (٢). ويجوز أن يكون المراد به : يعلم العين الخائنة ؛ أي يجازي بخائنة الأعين ، فكيف بما فوقها ، كما قال في آية أخرى (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(٣).

وفي الحديث : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعليّ رضي الله عنه : [لا تتبع النّظرة ، فإنّ لك الأولى وعليك الثّانية](٤) ، يعني بأنّ الأولى إذا وقع نظر إلى موضع لا يجوز له النظر إليه لا عن تعمّد منه ، فإنه لا يكون إثما في ذلك ، وإنما يأثم إذا عاد بالنظر ثانية. وقوله تعالى : (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (١٩) ؛ أي ويعلم ما تضمر الصدور عند خائنة الأعين ، ويعلم ما تسرّ القلوب من المعصية.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ؛) أي يحكم بالقسط والعدل ، لا يمنع أحدا من ثواب عمله ، ولا يعاقبه على ذنب لا يكتسبه ، بل يجزي بالحسنة والسيئة ، قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ؛) معناه : والذين تدعون من دون الله من الأصنام لا ينفعون من أطاعهم ، ولا يضرّون من عصاهم ولا يجازون أحدا ؛ لأنّهم لا يعلمون ولا يقدرون.

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٨٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم). وذكره القرطبي بلفظه في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٣٠٢.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٣٧٧).

(٣) الاسراء / ٣٦.

(٤) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط : ج ١ ص ٣٨٨ : الحديث (٦٧٨) عن علي رضي الله عنه ، وأوله : [يا عليّ ، إنّ لك في الجنّة كنزا ... وليست لك الآخرة]. وقال الطبراني : (لا يروى هذا الحديث إلا بهذا الإسناد وتفرد به عن حماد). وأخرجه أبو داود في السنن : كتاب النكاح : باب ما يؤمر به من غض البصر : الحديث (٢١٤٩) من حديث ابن بريدة عن أبيه. والترمذي في الجامع : أبواب الأدب : باب ما جاء في نظر الفجاءة : الحديث (٢٧٧٧) ، وقال : هذا حديث حسن غريب. والحاكم في المستدرك : كتاب النكاح : باب إذا تزوج العبد : الحديث (٢٨٤٢) ، وقال : حديث صحيح على شرط مسلم.

٣٩٨

قرأ نافع (والّذين تدعون) بالتاء ، وقرأ الباقون بالياء (١) ، (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ ؛) لمقالتهم ، (الْبَصِيرُ) (٢٠) ؛ بهم وأعمالهم.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢٢) ؛ الآية ظاهرة المعنى. وقوله تعالى : (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي ما كان لهم من عذاب الله من واق يقي العذاب عنهم.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ؛) يعني الآيات التسع ، (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٢٣) ؛ أي حجّة ظاهرة ، (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) (٢٤) ؛ أي كثير الكذب ، وخصّ فرعون وهامان وقارون بالكذب ؛ لأنّهم كانوا هم المتبوعين ، وفي ذكر المتبوعين ذكر التابعين.

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ ؛) أي استبقوا النساء للخدمة ، وذلك أنّ فرعون كان قد أخبر أنه يولد من بني إسرائيل مولود يذهب ملكه على يديه ، فأمر بقتل أبنائهم واستبقاء نسائهم ، فلمّا جاءهم موسى عليه‌السلام بالحقّ ، أمر بإعادة ذلك القتل عليهم كيلا يبلغ الأبناء فيعينوه عليهم. قوله تعالى : (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (٢٥) ؛ أي يذهب كيدهم باطلا ، ويحيق بهم ما كانوا يكيدون.

قوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ؛) وذلك أنّ قوم فرعون قالوا له : أرجئه وأخاه ولا تقتلهما ، فإنّك إن قتلتهما قبل ظهور حجّتنا عليهما وقعت للناس الشّبهة في أنّهما كانا على الحقّ ، فقال فرعون : دعوني أقتل موسى ، (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ؛) حتى يدفع ذلك القتل عنه.

__________________

(١) في الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ٣٤٦ ؛ قال أبو علي الفارسي : (اختلفوا في الياء والتاء من قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) فقرأ نافع وابن عامر : (والذين تدعون) بالتاء ، والقراء الباقون (يَدْعُونَ) بالياء ، وكلهم فتح الياء).

٣٩٩

ثم بيّن لأيّ معنى يقتله فقال : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ؛) يعني يبدّل عبادتكم إيّاي ، (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) (٢٦) ؛ وأراد ظهور الهدى وتغيّر أحكام فرعون فجعل ذلك فسادا.

قرأ الكوفيّون ويعقوب : (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ) بالألف ، وقرأ نافع وأبو عمرو : (ويظهر) بضمّ الياء وكسر الهاء ، ونصب (الْفَسادَ) ، وقرأ الباقون بفتح الياء والهاء ورفع (الفساد) ، واختار أبو عبيد قراءة نافع وأبو عمرو ، ولأنّها أشبه بما قبلها لإسناد الفعل إلى موسى وعطفه على بدله (١).

قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ ؛) أي لمّا توعّد موسى بالقتل ، قال موسى : إنّي عذت بربي وربكم ، (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) (٢٧) ، متعظّم عن الإيمان (٢) وعن قبول الحقّ لا يصدّق بيوم القيامة ، استعاذ موسى بالله ممّن أراد به سوء.

قوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ ؛) اختلفوا في هذا المؤمن ، فقال بعضهم : كان قبطيّا من آل فرعون ، غير إنه كان آمن بموسى وكان يكتم إيمانه من فرعون وقومه خوفا على نفسه.

وقال مقاتل والسديّ : (كان ابن عمّ فرعون) (٣) ، وهو الّذي حكى الله عنه (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى)(٤) ، وهذا هو الأشير وكان اسمه حزقيل ، وقيل : حزبيل (٥). وقال بعضهم كان إسرائيليّا ، وتقدير الآية : وقال رجل مؤمن يكتم

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء : ج ٣ ص ٧. وإعراب القرآن لابن النحاس : ج ٤ ص ٢٣. والحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ٣٤٩. والجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٣٠٥.

(٢) في المخطوط : (من الايمان).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٣٨٣) ، وقاله مقاتل أيضا في التفسير : ج ٣ ص ١٤٧.

(٤) القصص / ٢٠.

(٥) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٨٤ ؛ قال السيوطي : (أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : (لم يكن في آل فرعون مؤمن غيره ، وغير امرأة فرعون ، وغير المؤمن

٤٠٠