التفسير الكبير - ج ٢

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٢

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٤٧٩

١
٢

٣

٤

سورة آل عمران

وهي أربعة عشر ألف حرف وخمسمائة وعشرون حرفا ، وثلاثة آلاف كلمة وأربعمائة وثمانون كلمة ، ومائتا آية.

قال : صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ سورة آل عمران يوم الجمعة صلّى الله وملائكته عليه حتّى تغيب الشّمس](١) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ آل عمران أعطي بكلّ آية منها أمانا على جسر جهنّم] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [تعلّموا البقرة وآل عمران ؛ فإنّهما الزّهراوان وإنّهما يأتيان يوم القيامة في صورة ملكين يشفعان لصاحبهما حتّى تدخلاه الجنّة] ، وفضائلها أكثر من أن تحصى.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢)) ، قال ابن عبّاس معناه : (أنا الله أعلم) ، ويقال : هو قسم أقسم الله بأنه واحد لا شريك له ولا معبود للخلق سواه ، وقد تقدّم تفسير الحروف المقطّعة في أول سورة البقرة.

قال أنس رضي الله عنه : نزلت هذه الآية في وفد نجران وكانوا ستّين راكبا قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، وفي الأربعة عشر ثلاثة يؤول أمرهم إليهم : العاقب أمير الجيش وصاحب مشورتهم الّذي لا يصدرون إلّا عن رأيه واسمه عبد المسيح ، والثّاني : اسمه الأيهم صاحب رحلهم ، وأبو حارثة بن علقمة إمامهم وصاحب مدارسهم ، وكان قد درس كتبهم حتّى حسن علمه فيهم في دينهم.

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الأوسط : ج ٧ ص ٩٢ : الحديث (٦١٥٣) ، وقال : تفرد به محمد بن ماهان. وفي الدر المنثور : مج ٢ ص ١٤٠ ؛ قال السيوطي : «أخرجه الطبراني في الوسط بسند ضعيف».

٥

فدخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجده وقت صلاة العصر وعليهم ثياب الحبرات (١) ؛ جبب وأردية ، فقاموا وأقبلوا في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوجّهوا إلى ناحية المشرق ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعاقب والأيهم : [أسلما](٢). فقالا : قد أسلمنا قبلك ، فقال : [كذبتما ، يمنعكما عن الإسلام دعواكما لله ولدا وعبادتكما الصّليب وأكلكما الخنزير] قالا : فإن لم يكن ولدا لله فمن أبوه؟ وخاصموه جميعا في عيسى عليه‌السلام ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولدا إلّا وهو يشبه أباه؟] قالوا : بلى ، قال : [ألستم تعلمون أنّ ربّنا حيّ لا يموت ، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟] قالوا : بلى ، قال : [ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كلّ شيء (٣) يحفظه ويرزقه؟] قالوا : بلى ، قال : [فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟] قالوا : لا ، قال : [ألستم تعلمون أنّ الله عزوجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السّماء؟] قالوا : بلى ، قال : [فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا غير ما علّمه الله؟] قالوا : لا ، قال : [فإنّ ربّنا صوّر عيسى في الرّحم كيف شاء ، وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ، ألستم تعلمون ذلك؟] قالوا : بلى ، قال : [ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته أمّه كما تحمل النّاس المرأة ، ثمّ وضعته كما تضع المرأة ، ثمّ غذّي كما يغذى الصّبيّ ، فكان يطعم ويشرب ويحدث؟] قالوا : بلى ، قال : [فكيف يكون هذا كما زعمتم؟] فسكتوا. فأنزل الله عزوجل فيهم أوّل سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية فيها) (٤).

فقال الله عزوجل : (الم. اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) الحيّ : هو الدائم الذي لا ندّ له ، الذي لا يموت ولا يزول ، والقيّوم : القائم على كلّ نفس بما كسبت.

__________________

(١) الحبرات ـ بكسر الحاء وفتح الباء ـ : جمع حبرة ؛ وهو ضرب موشّى من برود اليمن.

(٢) في جامع البيان : النص (٥١٣٦) ذكر الطبري : «قالا : قد أسلمنا. قال : [إنّكما لم تسلما ، فأسلما] قالا : بلى أسلمنا قبلك ...».

(٣) في جامع البيان : النص (٥١٣٧): [يكلؤه ويحفظه ويرزقه].

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٥١٣٧) عن الربيع ، وقد أدرج الطبراني الروايتين برواية واحدة.

٦

وأكثر القرّاء على فتح الميم من (الم) وللفتح وجهان ؛ أحدهما : أنه لمّا كانت الميم بعد ياء ساكنة استثقلوا فيها السكون فحرّكوها إلى الفتح ؛ لأنّ ذلك أخفّ نحو : أين وكيف. والثاني : أنه ألقي عليها فتحة الهمزة من ألف (الله) وهذا جائز في الهجاء وإن كان لا يجوز مثله في الكلام الموصول من حيث إنّ حروف الهجاء مبنية على الوقف ، ومن قرأ بتسكين الميم فعلى أصل حروف الهجاء أنّها مبنية على الوقوف والسكون.

قوله عزوجل : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) ، قرأ ابراهيم بن أبي عبلة : (نزل عليك الكتاب) بتخفيف الزاي ، وقرأ الباقون بالتشديد ، ونصب الياء لأنّ القرآن كان ينزل منجّما شيئا بعد شيء ، والتنزيل مرّة بعد مرّة. قال الله تعالى : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣)) ؛ لأنّهما نزلتا دفعة واحدة. ومعنى الآية : نزّل عليك يا محمّد القرآن بالصدق لإقامة أمر الحقّ.

قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ)) ؛ أي موافقا لما تقدّمه من التوراة والانجيل وسائر كتب الله تعالى في الدّعاء إلى توحيد الله ، وبيان أقاصيص الأنبياء والأمر بالعدل والإحسان وسائر ما لا يجري فيه النّسخ وبعض الشرائع. وانتصب (مُصَدِّقاً) على الحال من الكتاب.

قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي أنزل التوراة جملة على موسى ، والإنجيل جملة على عيسى (مِنْ قَبْلُ) القرآن ، (هُدىً لِلنَّاسِ) ؛ أي بيانا ونورا وضياء لمن تبعه. وموضع (هُدىً) نصب على الحال.

قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) ؛ يعني القرآن ، وأمّا ذكره لبيان أنه يفرّق بين الحقّ والباطل ، ومتى اختلف فوائد الصفات على موصوف واحد لم يكن ذكر الصفة الثانية تكرارا ، بل تكون الثانية في حكم المبتدلات لكلّ صفة فائدة ليست للأخرى ، والصفة الأولى تفيد أنّ من شأنه أن يكتب ، والصفة الثانية تفيد أنّ من شأنه أن يفرّق بين الحق والباطل. وقيل : إنّ كلّ كتاب لله فهو فرقان.

٧

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)) ، معناه : إنّ في كتب الله ما يدلّ على صدق قولك ؛ فمن جحد بآيات الله وهي العلامات الهادية إليه الدّالّة على توحيده فأولئك لهم عذاب شديد ، (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) أي ذو نقمة ينتقم ممن عصاه.

ثم حذرهم عن التلبّس والاستتار عن المعصية ، فقال : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥)) ، أي لا يخفى عليه قول الكفّار وعملهم ، يحصي كلّ ما يعملونه فيجازيهم عليه في الآخرة.

وفائدة تخصيص الأرض والسماء وإن كان الله لا يخفى عليه شيء بوجه من الوجوه : أنّ ذكر الأرض والسماء أكبر في النفس وأهول في الصدر ، فذكره على وجه الأهوال ، إذ كان الغرض به التحذير.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) ؛ أي خلقكم في أرحام الأمّهات كيف يشاء من لون وطول وقصر وعظم وصغر وذكورة وأنوثة وحسن وقبح وسعيد أو شقيّ.

قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)) ؛ أي لا مصوّر ولا خالق إلّا هو. ومعنى العزيز : المنيع في سلطانه ، لا يغالب ولا يمانع ، ومعنى الحكيم : المحكم في تدبيره وقضائه في عباده ، وأفعال الله كلّها شاهدة بأنه الواحد القديم العالم القادر.

قوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) ، قال ابن عبّاس : (معناه : هو الّذي أنزل عليك القرآن منه آيات واضحات مبيّنات للحلال والحرام هنّ أصل الكتاب الّذي أنزل عليك يعمل عليه في الأحكام ، وهنّ أمّ في التّوراة والإنجيل والزّبور وكلّ كتاب) نحو قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)(١).

__________________

(١) الانعام / ١٥١.

٨

وقوله تعالى : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) أي ومنه آيات أخر اشتبهت على اليهود مثل (الم) و (المص). وقيل : يشبه بعضها بعضا.

واختلفوا في المحكم والمتشابه ، فقال قتادة والربيع والضحّاك والسديّ : (المحكم هو النّاسخ الّذي يعمل به ، والمتشابه هو المنسوخ الّذي يؤمن به ولا يعمل به) (١). وعن ابن عباس قال : (محكمات القرآن : ناسخه ، وحلاله ؛ وحرامه ، وحدوده ؛ وفرائضه ؛ وأوامره (٢) ، والمتشابهات : منسوخه ، ومقدّمه ومؤخّره ، وأمثاله وأقسامه) (٣). وقال مجاهد وعكرمة : (المحكم : ما فيه الحلال والحرام ، وما سوى ذلك متشابه) (٤) ، وقال بعضهم : المحكم هو الذي لا يحتمل من التأويل إلّا وجها واحدا ، والمتشابه ما احتمل وجوها.

وقال ابن زيد : (المحكم ما ذكره الله من قصص الأنبياء مثل نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى عليهم‌السلام ، والمتشابه هو ما اختلف فيه الألفاظ من قصصهم عند التّكرار كما في موضع من قصّة نوح (قُلْنَا احْمِلْ)(٥) وفي موضع آخر (فَاسْلُكْ)(٦) ، وقال تعالى في العصا : (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى)(٧) ، وفي موضع آخر (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ)(٨) ، وقوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٩) ونحو (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(١٠) ونحو ذلك) (١١).

__________________

(١) اللفظ للربيع ؛ أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٥١٦٩) والنصوص (٥١٧١) ، وعن قتادة في النص (٥١٦٧) ، وعن الضحاك في النصوص (٥١٧٠ و٥١٧١).

(٢) في جامع البيان : نقله الطبري بدل (وأوامره) بلفظ (وما يؤمن به ، ويعمل به) وأضاف إلى المتشابهة : (وما يؤمن به ، ولا يعمل به).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٥١٦٤).

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٥١٧٢).

(٥) هود / ٤٠.

(٦) المؤمنون / ٢٧.

(٧) طه / ٢٠.

(٨) الاعراف / ١٠٧.

(٩) الرحمن / ١٣.

(١٠) المرسلات / ١٥.

(١١) أخرجه الطبري بلفظ قريب في جامع البيان : النص (٥١٧٤).

٩

وقال بعضهم : المحكم ما عرف العلماء تأويله وفهموا معانيه ، والمتشابه ما ليس لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه ، نحو : خروج الدجّال ؛ ونزول عيسى ؛ وطلوع الشمس من مغربها ؛ وقيام الساعة ؛ وفناء الدنيا ونحوها (١).

وقال ابن كيسان : (المحكمات حججها واضحة ؛ ودلائلها واضحة ؛ لا حاجة لمن سمعها إلى طلب معناها ، والمتشابه هو الّذي يدرك علمه بالنّظر ، ولا تعرف العوامّ تفصيل الحقّ فيه من الباطل).

وقال بعضهم : المحكم ما اجتمع على تأويله ، والمتشابه ما ليس فيه بيان قاطع.

وقال محمد بن الفضل : (هو سورة الإخلاص لأنّه ليس فيها إلّا التّوحيد فقط ، والمتشابه نحو قوله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(٢) ونحو قوله (خَلَقْتُ بِيَدَيَ)(٣) ، ونحو ذلك ممّا يحتاج إلى تأويلها في الإبانة عنها).

ويقال : المحكم : نحو قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)(٤) والمتشابه : نحو قوله : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ)(٥) ثمّ قال (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ)(٦) ثم قال : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ)(٧) فظنّ من لا معرفة له أن العدد ثمانية أيام ولم يعلم أنّ اليومين الأوّلين داخلان في الأربعة التي ذكرها الله من بعد.

وقال الزجّاج : (المحكم ما اعترف به أهل الشّرك ممّا أخبر الله به من إنشاء الخلق ؛ وجعله من الماء كلّ شيء حيّ ؛ وما خلق الله من الثّمار وسخّر لهم من الفلك والرّياح. والمتشابه : ما تشابه عليهم من أمر البعث). وقد سمى الله جملة القرآن محكما ؛ فقال : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ)(٨) فوصفه بالإحكام ، وسماه كله

__________________

(١) نقله الطبري في جامع البيان : بعد النص (٥١٧٣) : مج ٣ ج ٣ ص ٢٣٧.

(٢) طه / ٥.

(٣) ص / ٧٥.

(٤) ق / ٣٨.

(٥) فصلت / ٩.

(٦) فصلت / ١٠.

(٧) فصلت / ١٢.

(٨) هود / ١.

١٠

متشابها في آية أخرى ، فقال : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً)(١) أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والتصديق.

قوله عزوجل : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) ؛ معناه : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ) ميل عن الحقّ والهدى وهم اليهود فيتّبعون ما اشتبه عليهم من أمر الحروف المقطّعة ، يحسبون ذلك بحساب الجمل (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) ؛ أي طلب الكفر والشّرك ، (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) في طلب تفسير منتهى ما كتب الله لأمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدّة ليرجع الملك إلى اليهود ، (وَما يَعْلَمُ) تفسير ما كتب الله لهذه الأمّة (إِلَّا اللهُ).

وقال الربيع : (إنّ هذه الآية نزلت في وفد نصارى نجران لمّا حاجّوا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسيح ؛ فقالوا : أليس هو كلمة الله وروح منه؟ قال : [بلى] قالوا : حسنا ، فأنزل الله هذه الآية) (٢).

وقال ابن جريج : ((الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) ؛ أي شكّ وهم المنافقون) (٣). وقال الحسن : (هم الخوارج) ، وقال بعضهم : جميع المبتدعة ، أعاذنا الله من البدعة.

ومعنى الآية : أن النصارى صرفوا كلمة الله إلى ما يقولون من قدم عيسى مع الله عزوجل ، وصرفوا قوله (وَرُوحٌ مِنْهُ)(٤) إلى أنه جزء منه كروح الإنسان ، وإنّما أراد الله تعالى بقوله (وَكَلِمَتُهُ)(٥) أنّ الله تعالى إنّما صيّره بكلمة منه وهي قوله (كُنْ)(٦) فكان ، وسماه روحه لأنه خلقه من غير أب ، بل أمر جبريل فنفخ في جيب مريم عليها‌السلام ؛ فهو روح من الله أضافه إلى نفسه تشريفا له ، كبيت الله وأرض الله.

__________________

(١) الزمر / ٢٣.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٥١٨٧).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٥١٨٢).

(٤) النساء / ١٧١.

(٥) البقرة / ١١٧.

(٦) الشورى / ٥٢.

١١

وقيل : سمّاه روحا ؛ لأنه كان يحيي الموتى ، كما سمّى القرآن روحا من حيث إن فيه حياة الناس في أمر دينهم ، قال الله تعالى (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا)(١) فصرف أهل الزيغ قوله تعالى (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) إلى مذاهبهم الفاسدة طلب الكفر والضّلال ، ولم يردّوا هذا اللفظ الذي اشتبه عليهم وشبّهوه على أنفسهم إلى الآية المحكمة ؛ وهو قوله عزوجل : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ)(٢) فعلى هذا يكون : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) أي ما يعلم تأويل جميع المتشابه حتى يستوعب علم المتشابهات إلّا الله.

واختلف أهل العلم في معنى هذه الآية ، فقال قوم (الواو) في قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، واو العطف ، يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم ، وهم مع علمهم : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٧) ؛ والمعنى والثابتون في العلم يعلمون تأويل ما نصب الله لهم الدلالة عليه إلى المتشابه وبعلمهم يقولون : ربّنا آمنّا به (٣) ، فروي عن أبن عبّاس : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) يعلمونه قائلين : آمنّا به). ومنهم من جعل تمام الكلام عند قوله (إِلَّا اللهُ). وفي قراءة ابن مسعود آمنّا (يقول الرّاسخون في العلم آمنّا به) وهو مرويّ أيضا عن ابن عبّاس.

ولا يبعد أن يكون للقرآن تأويل ليستأثر الله بعلمه دون خلقه ؛ لأنّا لا نعلم مراد الله وحكمته في جميع أوامره ونواهيه ؛ غير أنه ألزمنا العمل بما أنزله ولم يطالبنا بما لا سبيل لنا إلى معرفته ، ولم يخف عنّا علم ما غاب عنّا ، مثل قيام الساعة وغير ذلك إلّا لما فيه من المصلحة لنا وما هو خير لنا في ديننا ودنيانا ، وما علّمناه فلم يعلّمناه إلّا لمصلحتنا ونفعنا فنعرف بصحّة جميع ما أنزل الله ؛ والتصديق بذلك كله ما علمنا منه وما لم نعلم.

__________________

(١) آل عمران / ٥٩.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٥٢٠٣ و٥٢٠٩) عن مجاهد.

١٢

وكان ابن عباس يقول : (أنا من الرّاسخين في العلم) (١). وقرأ مجاهد هذه الآية ؛ فقال : (أنا ممّن يعلم تأويله). وروى عكرمة عن ابن عبّاس ؛ قال : (كلّ القرآن أعلم تأويله إلّا أربعا (غسلين) و (حنانا) و (الأوّاه) و (الرّقيم).). وهذا إنّما قاله ابن عباس في وقت ثم علمها بعد ذلك وفسّرها.

وممن اختار تمام الكلام عند قوله (إلّا الله) واستئناف الكلام بقوله (وَالرَّاسِخُونَ) : عائشة وعروة بن الزبير ورواية طاووس عن ابن عباس كذلك أيضا ؛ واختاره الكسائيّ والفرّاء ومحمد بن جرير ؛ وقالوا : (إنّ الرّاسخين لا يعلمون تأويله ، ولكنّهم يؤمنون به) (٢). والآية راجعة على هذا التأويل إلى العلم بمدّة أجل هذه الأمة ؛ ووقت قيام السّاعة وفناء الدّنيا ؛ ووقت طلوع الشمس من مغربها ؛ ونزول عيسى ؛ وخروج الدجّال ويأجوج ومأجوج ؛ وعلم الرّوح ونحوها مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه.

قوله تعالى : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) أخر جمع أخرى ، ولم ينصرف لأنّه معدول عن أخر مثل عمر وزفر ، وقوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) قال بعضهم : هم علماء أهل الكتاب الذين آمنوا منهم ؛ مثل عبد الله بن سلام وأصحابه ، ودليله قوله تعالى (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ)(٣) يعني الدّارسين علم التوراة. وعن أبي أمامة قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرّاسخون في العلم؟ فقال : [من برّ في يمينه ؛ وصدق لسانه ؛ واستقام قلبه ؛ وعفّ بطنه وفرجه ؛ فذلك الرّاسخ في العلم](٤).

وسئل أنس بن مالك عن تفسير الراسخين في العلم من هم؟ فقال : (الرّاسخ : هو العالم العامل بما علم المتّبع).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٥٢٠٨).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٥٢٠٢) بمعناه عن عائشة رضي الله عنها.

(٣) النساء / ١٦٢.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٥٢١٢) عن أنس بن مالك وأبي أمامة وأبي الدرداء. وفي مجمع الزوائد : ج ٦ ص ٣٢٤ نسبه الهيثمي للطبراني ، وقال : «فيه عبد الله بن يزيد ، ضعيف». ومن طريق أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٥٢١٣).

١٣

وقيل الراسخون في العلم : المتواضعون لله ، المتذلّلون في طلب مرضاته ، لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحتقرون من دونهم.

وقال بعضهم : الراسخ في العلم من وجد في عمله أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدّنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه.

قوله عزوجل : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) ؛ أي ويقول الراسخون في العلم ربنا لا تمل قلوبنا عن الحقّ والهدى كما أزغت قلوب اليهود والنصارى ، (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) أي لا تزع قلوبنا بعد إذ أرشدتنا ونصرتنا ووفّقتنا لدينك الحقّ ، وقوله : (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) ؛ أي أعطنا من عندك نعمة ، وقيل : لطفا يثبت قلوبنا على الهدى. واسم الرحمة يقع على كلّ خير ونعمة ، وقيل معناه : وهب لنا من لدنك توفيقا وتثبيتا على الإيمان والهدى. وقال الضحّاك : (معناه : وهب لنا تجاوزا ومغفرة). وقيل : هب لنا لزوم خدمتك على شرط السّنة.

وقوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(٨)) ؛ أي أنت المعطي والوهّاب الذي من عادته الإعطاء والهبة ، وإنّما سمي القلب قلبا لتقلّبه ، وإنّما مثل القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض ، وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [إنّ قلب ابن آدم مثل العصفور يتقلّب في اليوم سبع مرّات](١).

قوله عزوجل : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) ؛ أي يقولون ربّنا إنك محيي الناس بأجمعهم بعد الموت جزاء ؛ (ل) جزاء (يوم لا ريب فيه) أي لا شكّ فيه يعني يوم القيامة.

قوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)) ؛ أي لا يخلف الله ما وعد من البعث والحساب والميزان والجنّة والنار.

__________________

(١) في الدر المنثور : مج ٢ ص ١٥٥ ؛ قال السيوطي : «أخرجه ابن أبي الدنيا في الإخلاص والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي عبيدة بن الجراح». أخرجه الحاكم في المستدرك : كتاب الرقاق : الحديث (٨٠٠٥) وقال : «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» وسكت عنه الذهبي في هذا الموضع ، وأخرجه الحاكم في الرقم (٧٩٢٠) ، وقال الذهبي : فيه انقطاع.

١٤

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) ؛ أراد بالذين كفروا اليهود الذين تقدّم ذكرهم. وقيل : أراد بهم نصارى نجران ، ويقال : عامّة الكفار ، ومعنى : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لا يدفع عنهم كثرة أموالهم وأولادهم شيئا من عذاب الله في الدّنيا والآخرة ؛ لأنه لا يقبل منهم فداء ولا شفاعة. ويسمّى المال غنى لأنه يدفع عن مالكه الفقر والنوائب ، فأخبر الله أن أموال هؤلاء الكفار وأولادهم لا تقيهم من العذاب.

قرأ السلمي : (لن يغني عنهم) بالياء لتقدّم الفعل ودخول الحائل بين الاسم والفعل ، وقرأ الحسن (لن تغني) بالتّاء وسكون الياء.

قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠)) ؛ أي حطب النار ، والوقود بنصب الواو ما يوقد به النار ، وفي هذا بيان أنّ أهل النار يحترقون في النار احتراق الحطب لا كما يحترق الإنسان بنار الدّنيا ، فإنّ نار الدنيا تسيل الصّديد من الإنسان ولا تأخذه كما تأخذ الحطب ، ومن قرأ (وقود) بضمّ الواو فهو مصدر وقدت النّار وقودا ، كما يقال ورد ورودا ؛ فيكون المعنى : أولئك هم وقود النار.

قوله عزوجل : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) ؛ الآية ؛ المعنى أنّ الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون وكفّار الأمم الخالية أخذناهم وعاقبناهم فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم. وقيل : معناه عادة هؤلاء الكفّار في الكفر والتكذيب بالحقّ كعادة آل فرعون وعادة الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ؛ (كَذَّبُوا) بكتبنا ورسلنا فعاقبهم الله بكفرهم وشركهم ، (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)) إذا عاقب ، فعقابه شديد على الدّوام ، والتأبيد لا كعقوبة أهل الدّنيا.

والدّأب في اللغة : العادة ، كذا قال النّضر بن شميل والمبرّد ، فيكون معناه : كعادة آل فرعون. وقال الزجّاج : (الدّأب : الاجتهاد ؛ أي كاجتهاد آل فرعون في كفرهم وتطايرهم على الباطل ، يقال : دأب في كذا يدأب دأبا إذا أدام العمل فيه ، ثمّ نقل معناه إلى الشّأن والحال والعادة).

١٥

وقال ابن عبّاس وعكرمة ومجاهد والضحّاك والسديّ : (معناه : كفعل آل فرعون وصنعهم في الكفر والتّكذيب) (١) يقول : كفرت اليهود بمحمّد ككفر آل فرعون والّذين من قبلهم. وقال الربيع والكسائيّ : (معناه : كشبه آل فرعون). وقال سيبويه : (الكاف في (كدأب) في موضع رفع ، فخبر المبتدأ تقديره : دأبهم كدأب آل فرعون).

قوله عزوجل : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١١)) ، أي قل يا محمّد للذين كفروا ستهزمون وتقتلون وتحشرون بعد الموت إلى جهنّم وبئس الفراش. قرأ يحيى بن وثّاب وحمزة والكسائيّ وخلف بالياء فيهما ، والباقون بالتّاء ، فمن قرأهما بالياء فعلى الإخبار عنهم أنّهم يغلبون ويحشرون ، ومن قرأها بالتّاء فعلى الخطاب ؛ أي قل لهم إنّكم ستغلبون وتحشرون.

واختلف المفسّرون في هؤلاء الكفّار ؛ فقال مقاتل : (هم كفّار مكّة ، ومعناه : قل لكفّار مكّة ستغلبون يوم بدر وتحشرون إلى جهنّم في الآخرة ، فلمّا نزلت هذه «الآية» قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للكفّار يوم بدر [إنّ الله غالبكم وحاشركم إلى جهنّم]).

وقال الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس : (إنّ المراد بهم يهود المدينة ، وذلك أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا هزم الكفّار يوم بدر ، قالت اليهود : هذا والله النّبيّ الأمّيّ الّذي بشّرنا به موسى ونجده في التّوراة بنعته وصفته ، وإنّه لا تردّ له راية ، وأرادوا تصديقه واتّباعه ؛ فقال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتّى تنظروا إلى وقعة له أخرى ، فلمّا كان يوم أحد وغلب أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : والله ما هو به ، فغلب عليهم الشّقاء فلم يسلموا ، وكان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إلى مدّة فنقضوا ذلك العهد قبل أجله ، وانطلق كعب بن الأشرف في ستّين راكبا إلى أبي سفيان بمكّة ووافقوهم على أن تكون كلمتهم واحدة ، ثمّ رجعوا إلى المدينة ، فأنزل الله هذه الآية) (٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النصوص (٥٢٣٤ ـ ٥٢٣٩).

(٢) أسباب النزول للواحدي النيسابوري : ص ٦٢.

١٦

وعن ابن عباس وقتادة أنّهما قالا : (لمّا أهلك الله قريشا يوم بدر ، جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهود بسوق بني قينقاع ، فدعاهم إلى الإسلام وحذرهم مثلما نزل بقريش من الانتقام ، فأبوا وقالوا : لسنا كقريش الأغمار الّذين لم يعرفوا القتال ولم يمارسوه ، لئن حاربتنا لنقتلنّ رجالا ، وتعرف البأس والشّدّة ، فأنزل الله هذه الآية) (١). قوله تعالى : (إِلى جَهَنَّمَ) اشتقاق جهنّم من الجهنام وهي البئر البعيدة القعر.

قوله عزوجل : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) ؛ أي قد كان لكم أيها اليهود عبرة ، ويقال : أيّها الكفار على صدق ما أقول لكم في فرقتين التقتا يوم بدر ؛ فرقة تقاتل في سبيل الله ؛ أي في طاعة الله وهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ، ومائتان وستّة وثلاثون من الأنصار ، وكان صاحب راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرين عليّ رضي الله عنه ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكان جملة الإبل التي في جيش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ سبعين بعيرا ، والخيل فرسين ؛ فرس المقداد وفرس مرثد بن أبي مرثد ، وقيل : فرس عليّ ، وكان معهم من السّلاح ستة أدرع وثمانية سيوف ، وجميع من استشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا ، ستّة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار.

قوله تعالى : (وَأُخْرى كافِرَةٌ) أي فرقة أخرى كافرة ؛ وهم كفار مكة سبعمائة وخمسون رجلا مقاتلين ، ورئيسهم يومئذ عتبة بن ربيعة ، وكانت خيلهم مائة فرس ، وكانت حرب بدر أوّل مشهد شهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) من قرأ بالياء ؛ فالمعنى ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثليهم ظاهر العين ؛ أي ظنّ المسلمون أن المشركين ستمائة ونيّف ، وإنّهم يغلبوا المشركين كما وعدهم الله بقوله : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)(٢) قلّل الله المسلمين في أعين المشركين ، والمشركين في أعين المسلمين حتى اقتتل الفريقان كما قال الله تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٥٢٤١).

(٢) الأنفال / ٦٦.

١٧

وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) ثم قذف الله الرّعب في قلوب الكفرة حتى انهزموا بكفّ من تراب أخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرماه في وجوههم وقال : [شاهت الوجوه](١).

ومن قرأ (ترونهم) بالتاء فهو خطاب لليهود ، يعني يرون كفار مكة قريشا والمؤمنين رأي العين ، فإن قيل لم قال (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) ولم يقل قد كانت والآية مؤنّثة؟ قيل : لأنّه ردّها إلى البيان ؛ أي قد كان بيان ، فذهب إلى المعنى وترك اللّفظ.

قوله تعالى : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) قرأ أبو رجاء والحسن وشيبة ونافع ويعقوب بالتّاء ، وقرأ الباقون بالياء.

وقوله تعالى : (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) ؛ أي يقوّي ويشدد بقوّته من يشاء. وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (١٣) ؛ أي في غلبة المؤمنين للمشركين مع قلّة المؤمنين وشوكة المشركين ، (لعبرة) لذوي الأبصار في الدين ؛ أي لذوي بصارة القلوب ، ويجوز أن يكون معناه : لعبرة لمن أبصر الجيش الجمعين بعينه يومئذ ، وفي قوله تعالى : (فِئَةٌ) قراءتان ، من قرأها بالرفع فعلى معنى : إحداهما فئة تقاتل ، ومن قرأها بالخفض فعلى البدل من فئتين ، كما قال الشّاعر (٢) :

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة

ورجل رماها الدّهر بالحدثان

قوله عزوجل : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) ؛ بيّن الله بهذه الآية إنّ ما بسط للمشركين من زهرة الدّنيا وزينتها هو الذي يمنعهم من تصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يدعوهم إليه.

__________________

(١) رواه الطبراني في الكبير : ج ٣ ص ٢٠٣ : الحديث (٣١٢٨). وفي مجمع الزوائد ومنبع الفوائد : ج ٦ ص ٨٤ ؛ قال الهيثمي : «رواه الطبراني وإسناده حسن».

(٢) من شواهد الشعر قول كثير عزة (ت ١٠٥ ه‍(كما في كتاب سيبويه : ج ١ ص ٤٣٢ ـ ٤٣٣ :

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة

ورجل رمى فيها الزّمان فشلّت

ومن الشواهد أيضا قول يزيد بن مفرغ الحميري (ت ٦٩ ه‍):

وكنتم كذي رجلين رجل صحيحة

ورجل بها ريب من الحدثان

١٨

والمعنى : حسّن للناس حبّ اللّذات والشهوات والمشتهيات من النساء والبنين ، بدأ بالنساء لأنّهن حبائل الشيطان وأقرب إلى الإفتتان ويحملن الرجال على قطع الأرحام والآباء والأمّهات وجمع المال من الحلال والحرام. وقوله تعالى : (وَالْبَنِينَ) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [هم ثمرة القلوب وقرّة الأعين ؛ وإنّهم مع ذلك لمجبنة مبخلة](١).

قوله تعالى : (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) من القناطير ، جمع قنطار ، واختلفوا فيه ، فقال الربيع : (القنطار هو المال الكثير بعضه على بعض). وقال ابن كيسان : (هو المال العظيم). وعن أبي هريرة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [القنطار اثنا عشر ألف أوقيّة](٢) ، وعن أنس : (أنّ القنطار ألف مثقال). وعن معاذ : (ألف ومائتا أوقيّة) (٣). وعن أنس أيضا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ألفا مثقال]. وعن عكرمة : (مائة ألف ومائة منّ ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم). وقيل القنطار : ما بين السماء والأرض من المال ، وقيل : ملء مسك ثور ذهبا وفضّة ، وقال ابن المسيّب وقتادة : (ثمانون ألفا). وعن مجاهد : (سبعون ألفا). وعن الحسن أنه قال : (القنطار مثل دية أحدكم). وحاصله أن القنطار : هو المال الكثير.

وقوله تعالى : (الْمُقَنْطَرَةِ)) ؛ قال قتادة : (أي المنضّدة بعضها على بعض). وقال بعضهم : المقنطرة : المدفونة. وقال السديّ : (المضروبة المنقوشة). قوله تعالى : (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) سمي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى ، والفضة لأنّها تنفضّ أي تتفرّق.

قوله تعالى : (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) الخيل جمع لا واحد له من لفظه ، واحده فرس ، والمسوّمة هي الرواتع من السّوم وهو الرعي ، قال الله : (شَجَرٌ فِيهِ

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٥ ص ٢١١ عن الأشعث بن قيس ؛ وفيه قصة. وفي جامع المسانيد : ج ١ ص ٣٥٧ : الحديث (٣٦٨) قال ابن كثير : «رواه الطبراني من طريق ابن لهيعة عن الحارث بن زيد عن علي بن رباح عن الأشعث مرفوعا».

(٢) أخرجه ابن ماجة في السنن : كتاب الأدب : باب بر الوالدين : الحديث (٣٦٦٠) ، وإسناده صحيح.

(٣) أخرجه الطبراني في جامع البيان : النص (٥٢٦٧).

١٩

تُسِيمُونَ)(١) أو تكون من السّيما ؛ وهي العلامة من الأوضاح والغرّة التي تكون في الخيل (٢). وقال السديّ : (المسوّمة : هي الواقفة). وقال مجاهد : (الحسان) وقال الأخفش : (هي المعلّمة). وقال ابن كيسان : (البلق).

روي عن عليّ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لمّا أراد الله أن يخلق الخيل قال للرّيح الجنوب : إنّي خالق منك خلقا فأجعله عزّا لأوليائي ؛ ومذلّة لأعدائي ؛ وجمالا لأهل طاعتي ، ثمّ خلق منها فرسا وقال له : خلقتك وجعلت الخير معقودا بناصيتك ؛ والغنائم مجموعة على ظهرك ؛ وعطّفت عليك صاحبك ؛ وجعلتك تطير بلا جناح ؛ وأنت للطّلب وأنت للهرب ، وسأجعل على ظهرك رجالا يسبحونني ويحمدونني ويهلّلونني ويكبرونني](٣).

وقيل : خلق الله خيلا تلقى أعناقها كأعناق البخت ، فلما أرسلها إلى الأرض واستوت أقدامها صهل فرس منها فقيل له : بوركت من دابّة ، أذلّ بصهيلك المشركين ، أذلّ به أعناقهم واملأ به آذانهم ، وأرعب به قلوبهم ، فاختار الفرس ، فقيل له : اخترت عزّك وعزّ ولدك ، ما خلقت خلقا أعزّ إليّ منك ومنه.

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة](٤) ، وعن أنس قال : (لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد النّساء من الخيل). وعن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ما من فرس عربيّ إلّا يؤذن له عند كلّ فجر بدعوة فيقول : اللهمّ من خوّلتني من بني آدم وجعلتني له ،

__________________

(١) النحل / ١٠.

(٢) الأوضاح : الحليّ من الدراهم الصحاح ، وبفتحتين (وضح) : الضوء والبياض ، وقد يكنى به عن البرص. أراد المحجّلة في أرجلها بالبياض. والغرّة : بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم ، وهو معروف.

(٣) أدرج الناسخ عبارة : (كذا في تفسير الثعلبي) في المتن كعادته ، وعلى ما يبدو أن الثعلبي نقل من هنا ، أو أخذ عنه.

(٤) أخرجه الطبراني في الأوسط : الحديث (٢٠٩٠). والإمام مالك في الموطأ : الحديث (٩٠١). والإمام أحمد في المسند : ج ٢ ص ١٠١ و٢٦٢ ، وإسناده صحيح.

٢٠