التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

قوله (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء) قال : (يقول الأب والأمّ : يا بنيّ احمل عنّي ، فيقول : حسبي ما عليّ) (١).

قوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) ؛ يقول : إنما ينتفع بإنذارك ووعظك الذين يطيعون ربّهم في السرّ ، (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) ؛ المفروضة ، ولأن من خشي الله واجتنب المعاصي في السرّ من خشية الله تعالى ، اجتنبها لا محالة في العلانية.

ويقال : إنّ الخشية في السرّ ، والإقدام على الطاعة في السرّ ، واجتناب المعصية في السرّ ، أعظم عند الله ثوابا ، كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ما تقرّب امرئ بشيء أفضل من سجود خفيّ في اللّيلة المظلمة](٢). وأما عطف الماضي في قوله تعالى (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) على المستقبل في قوله (يَخْشَوْنَ) ، ففائدة ذلك أنّ وجوب خشية الله لا تختصّ بزمان دون زمان ولا بمكان دون مكان ، ووجوب إقامة الصّلاة يختصّ ببعض الأوقات.

قوله تعالى : (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) ؛ أي ومن تطهّر من دنس الذّنوب والشّرك ليكون عند ربه زكيّا ، فإن منفعة تطهّره راجعة إلى نفسه ، (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (١٨) ؛ أي إليه يرجع الخلق كلّهم في الآخرة ، (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) (١٩) ؛ يعني المشرك والمؤمن ، (وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) (٢٠) ؛ أي ولا الشّرك ولا الضّلال كالنور والهدى والإيمان.

وقوله تعالى : (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) (٢١) ؛ ولا الجنّة ولا النار. وقال عطاء : (يعني ظلّ اللّيل وسموم النّهار) ، (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ ؛) يعني المؤمنين والكافرين ، وهذه أمثال ضربها الله تعالى ، كما لا تستوي هذه الأشياء ، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن.

__________________

(١) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٧٠.

(٢) في تخريج أحاديث الإحياء : ج ١ ص ٣٣٤ ؛ قال العراقي : (أخرجه ابن المبارك في الزهد من رواية أبي بكر بن أبي مريم عن حمزة بن حبيب مرسلا). وأخرجه ابن المبارك في الزهد : باب العمل والذكر الخفي : الحديث (١٥٤).

٢٦١

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ ؛) أي يسمع كلامه من يشاء ؛ أي يتّعظ ويهتدي ، قال عطاء : (يعني أولياءه الّذين خلقهم لجنّته). قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٢٢) ؛ أي كما لا تقدر تسمع من في القبور ، فكذلك لا تقدر أن تسمع الكفار ، شبّههم بالموتى لأنّهم لا ينتفعون كالموتى.

وقرأ أبو رزين العقيليّ (١) (ما أنت بمسمع من في القبور) بلا تنوين بالإضافة ، وقوله تعالى : (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) (٢٣) ؛ أي ما أنت إلّا رسول تنذرهم النار وتخوّفهم ، وليس عليك غير ذلك.

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٢٤) ؛ أي ما من أمّة إلّا سلف فيها نبيّ ،(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ؛) فلست بأوّل رسول كذّب ، (فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ؛) الواضحات ، (وَبِالزُّبُرِ ؛) وهي الكتب ، وقوله تعالى : (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) (٢٥) ؛ يعني التوراة. وقيل : إنّما كرّر الزبور هي الكتب أيضا لاختلاف صفات الكتاب ؛ لأن الزبور هو الكتابة الثابتة كالنّقرة في الصخرة ، ثم قال (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) الموصوف واحد والصفات مختلفة. وقوله تعالى : (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا ؛) أي أخذتهم بالعقوبة ، (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٢٦) ؛ أي إنكاري عليهم وتعذيبي لهم.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ؛) يعني المطر ، (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها ؛) وطعمها. قوله تعالى : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) (٢٧) ؛ أي وخلقنا من الجبال (جُدَدٌ بِيضٌ) أي طرق يكون في الجبال كالعروق بيض وسود وحمر ، واحدها جدّة ، قال المبرّد : (جُدَدٌ : طرق وخطوط ونحو هذا ، والجدد الجدّة ، وهي الطّريقة كالمدّة والمدد والعدّة والعدد ، وأمّا الجدد بضمّتين فهي جمع الجديد مثل سرير وسرر).

__________________

(١) ينظر : الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر : ج ٣ ص ٣٩٧ : الرقم (٢٢٦٦) : لقيط بن عامر العقيلي ، وهو وافد بني المنتفق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٦٢

وقوله تعالى (وَغَرابِيبُ سُودٌ) يجوز أن يكون الغرابيب هي الجبال السّود ، كأنّه قال : ومن الجبال غرابيب ، والغرابيب الذي لونه كلون الغراب ، ولذلك حسن أن يقال سود ، وقال الفرّاء : (هذا على التّقديم والتّأخير ، تقديره : وسود غرابيب) (١).

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ؛) كاختلاف الثّمار والجبال ، وتمّ الكلام على ، (كَذلِكَ.)

قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ؛) قال ابن عبّاس : (معناه : إنّما يخافون من خلقي من علم جبروتي وعزّتي وسلطاني) (٢) ، وقال مقاتل : (أشدّ الناس لله خشية أعلمهم به) (٣) ، وقال مسروق : (كفى بخشية الله علما ، وكفى بالاغترار بالله جهلا) (٤). قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ؛) أي عزيز قاهر وغالب في ملكه ، (غَفُورٌ) (٢٨) ؛ لذنوب المؤمنين.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ ؛) يعني القرآن في الصّلاة وغيرها ، (وَأَقامُوا الصَّلاةَ ؛) المفروضة ، (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ؛) أي وأنفقوا مما أعطيناهم من الأموال تطوّعا سرّا فيسلموا بذلك عن تهمة الرّياء ، وفريضة جهرا فيسلمون بذلك عن تهمة المنع ، ويقال : أراد بذلك النفقة في الجهاد ، (يَرْجُونَ ؛) بذلك ، (تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) (٢٩) ؛ أي لن تكسد ولا يرد عليها الفساد والبطلان.

قوله تعالى : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ ؛) ليعطيهم أجر أعمالهم كاملة ، (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ؛) فوق ما يستحقّوه ، قال ابن عبّاس : (يعني سوى

__________________

(١) قاله الفراء في معاني القرآن : ج ٢ ص ٣٦٩.

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٧٠.

(٣) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٧٦.

(٤) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٧١. وأدرج الناسخ في المتن سهوا عبارة الكشاف : «وفي الكشّاف : من قرأ (يخشى الله) بالرفع ونصب (العلماء) فمعنى يخشى الله العلماء). قاله الزمخشريّ».

٢٦٣

الثّواب) (١) ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) (٣٠) ؛ إنه غفور لذنوبهم ، شكور يعامل بالأحسن معاملة الشاكر ، قال ابن عبّاس : (غفر العظيم من ذنوبهم ، وشكر اليسير من أعمالهم) (٢).

قوله تعالى : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ؛) أي موافقا لما قبله من الكتب ، لأن كتب الله تعالى كلّها دالّة على توحيده وإن اختلفت بالشرائع ، (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٣١) ؛ أي خبير بأقوالهم وأفعالهم ونيّاتهم فيجزيهم بما يستحقّون.

قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ؛) قال مقاتل : (يعني القرآن) (٣) ، وقوله تعالى (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) يريد أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم قسّمهم ورتّبهم فقال تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ؛) وهو الذي مات على كبره ولم يتب عنها ، (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ؛) وهو الذي لم يصب كبيرة ، (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ ؛) يعني المقرّبين الذين سبقوا إلى أعمال ، وقال الحسن : (الظّالم : الّذي ترجّح سيّئاته على حسناته ، والمقتصد : الّذي استوت حسناته سيّئاته ، والسّابق : من رجحت حسناته على سيّئاته).

وعن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : [سابقنا سابق](٤) أي إلى الجنّة أو إلى رحمة الله تعالى بالخيرات ؛ أي بالأعمال الصالحة ، (بِإِذْنِ اللهِ ؛) أي بإرادة الله ، (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٢) ؛ معناه : إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير ، وسمي إعطاء الكتاب إيراثا لأنّهم أعطوه بغير مسألة ولا اكتساب.

__________________

(١) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٧١.

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٧١.

(٣) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٧٧.

(٤) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٧١. وفي الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٥ ؛ قال السيوطي : أخرجه العقيلي وابن لال وابن مردويه والبيهقي.

٢٦٤

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّهم قالوا : [السّابقون يدخلون الجنّة بغير حساب ، والمقتصدون يحاسبون حسابا يسيرا ثمّ يدخلون الجنّة ، والظّالمون يحاسبو ما شاء الله أن يحاسبوا ، ثمّ يرحمهم‌الله تعالى فيدخلهم الجنّة ، وهم الّذين يقولون : الحمد لله الّذي أذهب عنّا الحزن ...] إلى آخر الآيتين (١).

وعن الحسن أنه قال : (السّابق الّذي ترك الدّنيا ، والمقتصد الّذي أخذ الحلال ، والظّالم الّذي لا يبالي من أين أخذ). ويقال : الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد صاحب الصّغائر ، والسّابق الذي اتقى سيئاته.

فإن قيل ما الحكمة في تقديم الظالم وتأخير السابق؟ قيل : الواو لا توجب الترتيب كما قال تعالى (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)(٢). وقيل : قدّم الظالم لئلّا ييأس من رحمته ، وأخّر السابق لئلا يعجب بنفسه. وقيل : قدّم الظالم فإذا لم يكن له شيء يتّكل عليه إلّا رحمة الله تعالى ، وثنّى بالمقتصد لحسن ظنّه بربه. وقيل : لأنه بين الخوف والرّجاء ، وأخّر السابق لأنه اتّكل على حسناته. وقيل : لئلا يأمن أحد مكره ، وكلّهم في الجنّة بحرمة كلمة الإخلاص.

وعن عقبة بن صهبان قال : (سألت عائشة عن قوله : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) فقالت : يا بنيّ كلّهم في الجنّة ، وأمّا السّابق فمن مضى على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهد له النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنّة ، وأمّا المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتّى لحق به ، وأمّا الظّالم فمثلي ومثلك) (٣). وقال سهل بن عبد الله : (السّابق العالم ، والمقتصد المتعلّم ، والظّالم الجاهل) (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٢٢١٧٥). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ١٠ ص ٣١٨٢. وفي مجمع الزوائد : ج ٧ ص ٩٧ ؛ قال الهيثمي : (رواه أحمد بأسانيد رجال أحدها رجال الصحيح ... ورواه الطبراني باختصار.

(٢) التغابن / ٢.

(٣) رواه الطبراني في الأوسط : ج ٧ : الحديث (٦٠٩٠). والحاكم في المستدرك : كتاب التفسير : الحديث (٣٦٤٦).

(٤) نقله أيضا البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٧٢.

٢٦٥

وقيل : السابق الذي اشتغل بمعاده ، والمقتصد بمعاده ومعاشه ، والظالم الذي اشتغل بمعاشه عن معاده. وقيل : الظالم طالب الدّنيا ، والمقتصد طالب العقبى ، والسابق طالب المولى. وقيل : الظالم المرائي في جميع أفعاله ، والمقتصد المرائي في بعض أفعاله دون بعض ، والسابق المخلص في أفعاله كلّها. وقيل : الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه ، والمقتصد من استوى ظاهره وباطنه ، والسابق الذي باطنه خير من ظاهره. وقيل : الظالم الذي يجزع عند البلاء ، والمقتصد الذي يصبر عند البلاء ، والسابق الذي يتلذذ بالبلاء!

وقيل : الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار ، والمقتصد الذي يعبده طمعا في الجنّة ، والسابق الذي يعبده لا لسبب من الأسباب إلّا لرحمته الكريم! وقيل : الظالم الذي يعبد الله على الغفلة ، والمقتصد الذي يعبده على الرّغبة ، والسابق الذي يعبده على الهيبة. وقيل : الظالم الذي أعطي فمنع ، والمقتصد الذي أعطي فبذل ، والسابق الذي أعطي فشكر.

وقيل : الظالم غافل ، والمقتصد طالب ، والسابق واصل. وقيل : الظالم من استغنى بماله ، والمقتصد من استغنى بدينه ، والسابق من استغنى بربه. وقيل : السابق الذي يدخل المسجد قبل الأذان ، والمقتصد الذي يدخل وقت الأذان ، والظالم الذي يدخل وقت أقيمت الصلاة! وقيل : الظالم الذي يحبّ نفسه ، والمقتصد الذي يحب دينه ، والسابق الذي يحبّ ربّه. وقيل : الظالم مدعوّ ، والمقتصد مأذون له ، والسابق مقرّب.

قوله تعالى : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) ؛ يعني الأصناف الثلاثة : الظالم ؛ والمقتصد ؛ والسابق. ومعنى الآية : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي بساتين إقامة لا تزول ، (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) ؛ أي يلبسون أقلبة من ذهب وسوار القلب (١). وقوله تعالى : (وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) (٣٣) ؛ من قرأ بالكسر فالمعنى من ذهب ومن لؤلؤ ، ومن قرأ بالنصب فمعناه : ويحلّون لؤلؤا.

__________________

(١) القلب من السّوار : ما كان قلبا واحد ؛ ما كان قلدا واحدا ، أي ما كان مفتولا من طاق واحد لا من طاقين. مختار الصحاح : ص ٥٤٧.

٢٦٦

قوله تعالى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ؛) أي يقولون بعد دخولهم الجنّة : (الحمد لله الّذي أذهب عنّا الحزن) أي حزن الموت وأهوال يوم القيامة ، وقيل : حزن المعاش وهموم الدّنيا ، فإنّ الدنيا سجن المؤمن. وقال عكرمة : (حزن الذّنوب والسّيّئات) ،

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : [ليس على أهل لا إله إلّا الله وحشة في قبورهم ، ولا في محشرهم ، كأنّي بأهل لا إله إلّا الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التّراب عن رؤوسهم وهم يقولون : الحمد لله الّذي أذهب عنّا الحزن](١).

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (٣٤) ؛ أي متجاوز عن الذنوب ، يقبل اليسير من العمل ، ويعطي الجزيل من الثواب. قوله تعالى : (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ ؛) أي دار المقام وهي الجنة ، (مِنْ فَضْلِهِ) ، بتفضّله لا بالأعمال. وسمي دار المقامة لأن من دخلها يخلد لا يموت ، ويقيم فيها لا يحوّل. قوله تعالى : (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ ؛) أي لا يمسّنا فيها تعب ؛ (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) (٣٥) ؛ أي مشقّة وتعب وإعياء وقبور.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ ؛) أي الذين كفروا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن لهم في الآخرة نار جهنم ، (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ؛) فلا يقضى عليهم بموت فيستريحون من العذاب ، (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها ؛) من عذاب النار طرفة عين. قرأ الحسن : (فيموتون) بالنّون ولا يكون حينئذ جوابا للنفي ، والمعنى : لا يقضى عليهم ولا يموتون كقوله (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)(٢).

قوله تعالى : (كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) (٣٦) ؛ أي هكذا يجزى في الآخرة كلّ كفور بنعم الله تعالى. قرأ العامّة (نَجْزِي) بالنون ونصب اللام ، وقرأ أبو

__________________

(١) رواه الطبراني في الأوسط : ج ١٠ : الحديث (٩٤٧٤). وفي مجمع الزوائد : ج ١٠ ص ٣٣٣ ؛ قال الهيثمي : (رواه الطبراني وفيه جماعة لم أعرفهم.

(٢) المرسلات / ٣٦.

٢٦٧

عمرو وحده بضم الياء وفتح الزاي على ما لم يسمّ فاعله ورفع اللام (١).

قوله تعالى : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها ؛) أي يستغيثون في النار وهو افتعال من الصّراخ يقولون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا ؛) من النار ، (نَعْمَلْ صالِحاً ؛) أي بقول لا إله إلّا الله ، وقوله تعالى : (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ؛) أي غير الشّرك. فوبّخهم الله تعالى فقال : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) ، معناه : أو لم نعمّركم مقدار ما يتّعظ فيه من كان يريد أن يتّعظ ويؤمن. قال عطاء : (يريد ثمانية عشر سنة) ، وقال الحسن : (أربعين سنة) ، وقال ابن عبّاس : (ستّين سنة) (٢).

قال : (هو العمر الّذي أعذر الله إلى ابن آدم ، قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من عمّره الله تعالى ستّين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر]) (٣). وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أعمار أمّتي ما بين السّتّين إلى السّبعين ، وأقلّهم من يجوز ذلك](٤). قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [منزل منايا أمّتي ما بين السّتّين إلى السّبعين](٥).

قوله تعالى : (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ ؛) قال جمهور المفسّرين : يريد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروي عن عكرمة وسفيان بن عيينة : (المراد من النّذير الشّيب) ومعناه : أولم نعمّركم حتى شبتم؟. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [من أناف سنّه على أربعين سنة ولم تغلب حسناته على سيّئاته فليتجهّز إلى النّار](٦).

__________________

(١) ينظر : الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ٣٠٠ ـ ٣٠١.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٢٠١).

(٣) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الرقائق : الحديث (٦٤١٩).

(٤) رواه الترمذي في السنن : كتاب الدعوات : الحديث (٣٥٥٠). وابن ماجة في السنن : كتاب الزهد : الحديث (٤٢٣٦). والحاكم في المستدرك : كتاب التفسير : الحديث (٣٦٥١).

(٥) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال : الحديث (٤٢٦٩٦).

(٦) في جامع البيان : مج ١٢ ج ٢٢ ص ١٧١ ؛ قال الطبري : (وأشبه الأقوال بتأويل الآية ، إذا كان الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبرا في إسناده بعض من يجب التثبت في نقله ، قول قال ذلك ، أربعون سنة ؛ لأن في الأربعين يتناهى عقل الانسان وفهمه ، وما قبل ذلك وبعده منتقص عن كماله في حال الأربعين.

٢٦٨

قوله تعالى : (فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٧) ؛ أي فذوقوا العذاب فما للمشركين من مانع يمنعهم من العذاب.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٣٨) ؛ أي عالم سرّ أهل السموات والأرض ، إنه عليم بما في القلوب من الخير والشرّ.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ؛) أي جعلكم خلفاء عن من كان قبلكم أمّة بعد أمة ، وقرنا بعد قرن ، (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) (٣٩) ؛ أي إلّا نقصا ، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ ؛) أي خبروني عن شركائكم الذين أشركتموهم مع الله في العبادة ؛ بأيّ شيء أوجبتهم لهم شركاء مع الله تعالى؟ بخلق خلقوه من الأرض ؛ أم لهم نصيب في خلق السّموات ؛ أم أعطيناهم كتابا فيه ما يدّعونه فهم على بيّنة منه. قوله تعالى : (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) (٤٠) (١) ؛ ولكن ما يعد الظالمون بعضهم بعضا إلّا خداعا وأباطيل.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ؛) أي منعهما من الزّوال والذهاب ، (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ؛) أي ولو زالتا عن أماكنها لم يمسكهما أحد غير الله. قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤١) ؛ أي حليما عن مقالة الكفّار ، غفورا لمن تاب منهم ، والحكيم هو القادر الذي لا يعجّل بالعقوبة ، والغفور كثير الغفران.

قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ؛) أي حلف كفار مكّة بالله غاية أيمانهم قبل أن يأتيهم محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ ؛) أي رسول ، (لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ؛) أي ليكوننّ أسرع إجابة وأصوب دينا من

__________________

(١) في المخطوط كلمة غير مفهومة : (أي الآولاذاك).

٢٦٩

إحدى الأمم ، اليهود والنصارى والصّابئين وغيرهم ، (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ؛) يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) (٤٢) ؛ عن الحقّ وتباعدا عن الهدى ، وقوله تعالى : (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ ؛) منصوب على أنه مفعول له (أي (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً). الاستكبار في الأرض عتوّا على الله وتكبّرا عن الإيمان ، وقيل : على البدل من قوله (نُفُوراً). وقيل : على المصدر.

وقوله تعالى : (وَمَكْرَ السَّيِّئِ ؛) أي القصد أي الإضرار بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من حيث لا يشعرون. قوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ؛) أي لا يحيق ضرر المكر السيّء إلّا بفاعله ، فقتلوا يوم بدر ، والمكر السيّء هو العمل القبيح ، وقوله تعالى (وَلا يَحِيقُ) أي ولا يحلّ ولا ينزل إلّا بأهله.

قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ؛) أي ما ينظر أهل مكّة إلّا أن ينزل بهم العذاب مثل ما نزل بمن قبلهم من الأمم السّالفة المكذّبة. قوله تعالى : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (٤٣) ؛ أي لا يقدر أحد أن يحوّل العذاب عنهم إلى غيرهم.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) معناه : أو لم يسافروا في الأرض فينظروا كيف صار آخر أمر الّذين من قبلهم عند تكذيبهم الرسل كيف فعل الله بهم؟ (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ ؛) من أهل مكّة ، (قُوَّةً ؛) ومكّن لهم ما لم يمكّن لهؤلاء. قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ؛) أي لن يعجزه أحد من الخلق في السّموات ولا في الأرض ، (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) (٤٤) ؛ أي عليما بخلقه ، قادرا عليهم.

قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ؛) أي لو يؤاخذهم بما كسبوا من المعاصي ما ترك على ظهر الأرض من دابّة ، (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ ؛) بفضله ، (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ؛) إلى وقت معلوم ، (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ ؛) فإذا جاء ذلك الوقت ، (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) (٤٥) ؛ يفعل به ما يستحقّونه من ثواب وعقاب.

آخر تفسير سورة (فاطر) والحمد لله رب العالمين.

٢٧٠

سورة يس

سورة يس مكيّة ، وهي ثلاثة آلاف حرف ، وسبعمائة وتسعة وعشرون كلمة ، وثلاثة وثمانون آية. قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لكلّ شيء قلب ، وقلب القرآن يس ، فمن قرأها كان كمن قرأ القرآن عشر مرّات](١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [وهي تشفع لقارئها وتستغفر لمستمعها ، يس تدعى المعمّة] قيل : يا رسول الله وما المعمّة؟ قال : [تعمّ صاحبها بخير الدّنيا والآخرة ، وتدعى الدّافعة والقاضية ، تدفع من كلّ سوء ، وتقضي له كلّ حاجة ، ومن قرأها عدلت له عشرين حجّة ، ومن قرأها كان كمن له ألف مثقال ينفقها في سبيل الله ، ومن كتبها وشربها دخل جوفه ألف دواء وألف يقين وألف زلفة وألف رحمة! ونزع من كلّ داء وغلّ](٢).

وقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ يس يريد بها وجه الله ، غفر الله له وأعطي من الآخرة كأنّما قرأ القرآن اثنى عشرة مرّة. وأيّما مريض قرئ عنده سورة يس نزل عليه بعدد كلّ حرف عشر أملاك يقومون بين يديه صفوفا ، فيصلّون عليه ويستغفرون له ،

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الجامع : أبواب فضائل القرآن : الحديث (٢٨٨٧) ، وقال : (هذا حديث غريب وفي إسناده هرون أبو محمد ، شيخ جهول ، وفي الباب عن أبي بكر ولا يصح من قبل إسناده ، وإسناده ضعيف.

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٣ ؛ قال القرطبي : (ذكره الثعلبي من حديث عائشة ، الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مسندا). وفي الدر المنثور : ج ٧ ص ٣٣ ؛ قال السيوطي : (وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن حسان بن عطية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ...) وذكره. وقال البيهقي : (تفرّد به محمد بن عبد الرحمن عن سليمان بن رفاع الجندي ، وهو منكر). وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان : باب في تعظيم القرآن : الحديث (٢٤٦٥).

٢٧١

ويشهدون قبضه وغسله ، ويشيّعون جنازته ويصلّون عليه ويشهدوا دفنه ، وأيّما مريض قرأ سورة يس وهو في سكرات الموت أو قريب عنده ، لم تقبض روحه حتّى يجيئه رضوان خازن الجنان بشربة من الجنّة ، فيشربها فيموت وهو على فراشه وهو ريّان ، ويبعث وهو ريّان ، ويحاسب وهو ريّان ، ويدخل الجنّة وهو ريّان ، ويرد (١) إلى حوض من حياض الأنبياء عليهم‌السلام].

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يس ؛) (١) قال ابن عبّاس : (يريد : يا إنسان) (٢) ، يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال أبو العالية : (يا رجل) ، وقال سعيد بن جبير : (يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (٣) ، قرأ أبو عمرو وحمزة وعاصم بإظهار النّون (٤) ، وقرأ عيس بن عمر (يس) بالنصب تشبيها بأين وكيف ، وقرأ ابن أبي إسحق (يس) بكسر النّون تشبيها بأمس وحذام وقطام ، وقرأ هارون الأعور بضمّ النون تشبيها بمنذ وحيث وقطّ ، وقرأ الآخرون بإخفاء النّون (٥).

قوله تعالى : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) (٢) ؛ أي المحكم من الباطل ، وقيل : أحكم بالحلال والحرام والأمر والنهي. قوله تعالى : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٣) ؛ وذلك أنّ كفار مكّة قالوا لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لست مرسلا ، فأقسم الله تعالى بالقرآن الحكيم إنّك مرسل. قوله تعالى : (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤) ؛ يعني دين الإسلام وطريق الأنبياء عليهم‌السلام الذين مضوا قبلك.

__________________

(١) في المخطوط كلمة : (ويرد) غير واضحة.

(٢) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٤١ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق) وذكره. وأخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٢٢١ و٢٢٢٢٢). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٨٠٢٤).

(٣) ذكره أيضا البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٧٥.

(٤) إظهار النون : (يسن)

(٥) ذكر القرطبي أيضا هذه القراءات مختصرة في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٣.

٢٧٢

وقوله تعالى : (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (٥) ؛ أي هو تنزيل العزيز في ملكه ، الرحيم بخلقه ، قال مقاتل : (معناه : هذا القرآن الحكيم تنزيل العزيز الرّحيم) (١). وقول ابن عامر وأهل الكوفة (تَنْزِيلَ) بالنصب على المصدر ، كأنّه قال : ونزّل تنزيلا.

وقوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ ؛) متّصل بقوله (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ ؛ أي لتنذر قوما لم يأتهم نذير قبلك (٢) ؛ لأنّهم كانوا في الفترة وهو معنى قوله : (فَهُمْ غافِلُونَ) (٦) ؛ أي عن حجج التّوحيد وأدلّة البعث ، وقيل : (فَهُمْ غافِلُونَ) عن أمر الآخرة.

قوله تعالى : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٧) ؛ أي لقد حقّت كلمة العذاب على أهل مكّة لكثرة كفرهم (٣) فهم لا يصدّقون ، وهذا إخبار عن علم الله فيهم أنّهم لا يؤمنون ، فقتلوا يوم بدر على الكفر.

وقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً ؛) أي في أعناقهم وأيمانهم أغلالا ، ولم يذكر الأيمان في الآية لأنّ الكلام دليل عليه ؛ لأن الغلّة لا يكون في العنق دون اليد ، ولا في اليد دون العنق ، وإنما تغلّ الأيدي إلى الأعناق. وقوله تعالى : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ ؛) كناية عن الأيدي دون الأغلال ، وقوله تعالى : (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) (٨) ؛ أي رافعوا رؤوسهم ، والمقمح : الرافع رأسه الغاضّ بصره.

واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية ، فروي عن ابن عبّاس : (أنّ الآية نزلت في قوم من الكفّار فيهم أبو جهل ، تواطؤا على أن يقتلوا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأوه يصلّي ، وحلف أبو جهل أنّه إذا رآه يصلّي ليدمغنّه بالحجر ، فأتوه يوما وهو يصلّي ، فجاءه أبو جهل ومعه الحجر ، فرفع الحجر ليدمغنّ به النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيبست يده إلى عنقه

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٨١.

(٢) في إعراب القرآن : ج ٣ ص ٢٥٩ ؛ قال النحاس : ((قَوْماً) لا موضع لها من الإعراب عند أكثر أهل التفسير ؛ لأنها نافية) ورجح هذا الوجه الزجاج كما في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٢١٠.

(٣) في المخطوط : (لكثرة بكفرهم).

٢٧٣

والتزق الحجر إلى يده ، فلمّا رجع إلى أصحابه خلّصوا الحجر ، فأخبرهم بأمر الحجر ، فقال رجل من بني مغيرة : أنا أقتله! وأخذ الحجر ودنا من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فطمس الله على بصره فلم ير النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يسمع قراءته).

فذلك قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٩) ؛ أي جعلنا من بين أيديهم غطاء وسدّا ومن خلفهم كذلك فأغشينا أبصارهم حتى لم يروا.

قال الفرّاء : (معنى أغشينا : ألبسنا أبصارهم غشوة أي عمى) (١) ، وعن ابن خثيم قال : (سمعت عكرمة يقرأ (فأعشيناهم) بالعين المهملة) (٢) ، وروي ذلك عن ابن عبّاس أيضا (٣) ، وقال الحسن : (هذا على طريق المثل) وذلك أنّ الله تعالى لمّا حال بينهم وبين من أرادوا من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا كمن غلّت يده إلى عنقه لا يمكنه أن يبسطها إلى شيء وهو طافح رأسه لا يبصر موضع قدمه ، قد سدّ عليه طريقه في الذهاب والرّجوع.

قوله تعالى : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠) ؛ أي من أضلّه الله هذا الضلال لم ينفعه الإنذار ، (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ؛) معناه : إنما ينفع الإنذار من اتّبع القرآن ، (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ ؛) أي وخاف من الله بحيث لا يراه ، (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ ؛) لذنوبه ، (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (١١) ؛ وثواب حسن في الجنّة.

__________________

(١) قاله الفراء في معاني القرآن : ج ٣ ص ٣٧٣.

(٢) ذكره الثعلبي عن عكرمة بإسناد آخر ، كما في الكشف والبيان : ج ٨ ص ١٢٢. وفي المخطوط : خضيمة) والصحيح هو ابن خثيم ، عبد الله بن خثيم القارئ المكي. ينظر : لسان الميزان : ج ٧ ص ٤٩٣ : الرقم (٥٧٤٧). وتهذيب التهذيب : ج ٤ ص ٣٩٣ : الرقم (٣٥٥٦).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان معلقا ، وفي الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ١٠ ؛ قال القرطبي : وقرأ ابن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر (فأعشيناهم) بالعين غير المعجمة من العشاء ، وهو ضعف بصرها حتى لا تبصر بالليل.

٢٧٤

قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا ؛) أي ما أسلفوا من الخير والشرّ ، وقوله تعالى : (وَآثارَهُمْ ؛) أي خطاهم ، فإنّ كلّ خطوة في الطاعة طاعة ، وكلّ خطوة في المعصية معصية. وقيل : معنى (وَآثارَهُمْ) أي ما استنّ به من بعدهم ، قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة](١).

قوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (١٢) ؛ أي وكلّ شيء من الأعمال أثبتناه في اللوح المحفوظ. وقيل : أراد بالإمام المبين : الصحائف التي يكتبها الملائكة ، وسمي الإمام مبينا لأنه لا يندرس أثر مكتوبه.

قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً ؛) أي مثل لأهل مكّة مثل ، (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ؛) يعني إنطاكيّة ؛ (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) (١٣) ، رسل الله تعالى ، (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) (١٤).

وذلك أنّ عيسى عليه‌السلام أرسل إلى أهل إنطاكيّة رسولين من الحواريّين ليدعوهم إلى عبادة الله تعالى. وإنّما أضيف الإرسال في الآية إلى الله تعالى لأنّ إرساله كان بأمر الله تعالى.

قوله تعالى : (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (١٩)

والقصّة : أنّ عيسى عليه‌السلام لمّا بعث الرسولين إلى أنطاكيّة وقربا من المدينة ، وجدا شيخا كبيرا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجّار فسلّما عليه ، فقال لهما : من

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ٢ ص ٣٣٠ : الحديث (٢٣٧٢ ـ ٢٣٧٥). والإمام أحمد في المسند : ج ٤ ص ٣٥٧ و٣٥٨ و٣٥٩. ومسلم في الصحيح : كتاب الزكاة : باب الحث على الصدقة : الحديث (٦٩ / ١٠١٧.

٢٧٥

أنتما؟ قالا : رسولا عيسى عليه‌السلام ندعوكم إلى عبادة الله تعالى ، قال : هل معكما آية؟ قالا : نعم ؛ نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى. فقال الشيخ : إنّ لي إبنا مريضا صاحب فراش منذ سنين ، قالا : فانطلق بنا إليه.

فانطلق بهما إليه ، فمسحا ابنه فقام من ساعته صحيحا بإذن الله تعالى. ففشا الخبر في المدينة ، وشفى الله على أيديهما كثيرا من المرضى ، وآمن حبيب النجّار ، وجعل يعبد الله تعالى في غار جبل في أبعد أطراف المدينة.

فسمع الملك بخبر هذين الرّسولين ، وكان يعبد الأصنام ، فدعا لهما فأتياه ، فقال لهما : من أنتما؟ قالا : رسولا عيسى عليه‌السلام ندعوك إلى عبادة الله تعالى ، قال : وما آيتكما؟ فقالا : نبرئ الأكمه والأبرص ، فغضب الملك وأمر بهما فحبسا ، وجلد كلّ واحد منهما مائة جلدة.

فلمّا كذّب الرسولان ، بعث عيسى رسولا ثالثا يقال له : شمعون المصفّي على إثرهما لينصرهما ، فدخل شمعون البلد متنكّرا ، وجعل يعاشر حاشيته حتى أفشوا به ، فرفع خبره الى الملك فدعاه فأكرمه وأنس به. فقال له ذات يوم : أيّها الملك ؛ بلغني أنّك حبست رجلين في السّجن وضربتهما حين دعياك الى دين غير دينك ، فهل كلّمتهما وسمعت قولهما؟ قال : لا ، قال : فإن رأى الملك أن يدعوهما ويسمع قولهما حتى يطّلع على ما عندهما.

فدعاهما الملك ، فقال لهما شمعون : من أرسلكما؟ قالا : الله الذي خلق كلّ شيء وليس له شريك. فقال لهما شمعون : صفاه وأوجزا ، فقالا : إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، قال شمعون : وما آيتكما؟ قالا : ما تتمنّاه.

فأمر الملك حتى جاؤا بغلام مطموس العينين ، موضع العينين كلّ لجهة ، فما زالا يدعوان الله حتى انشقّ موضع البصر ، ثم أخذا بندوقتين فوضعتا في الحدقتين ، فصارتا مقلتين يبصر بهما ، فعجب الملك من ذلك.

فقال شمعون للملك : إن سألت إلهك أن يصنع مثل هذا ، فصنعه كان لك ولآلهتك الشرف. فقال الملك : ليس لي عنك سرّ أسرّه إليك : إنّ إلهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع.

٢٧٦

ثم قال للمرسولين : إنّ هنا ميّتا مات منذ سبعة أيّام ، فلم أدفنه وأخّرته حتى يرجع أبوه ، وكان أبوه غائبا ، فإن قدر إلهكما على إحيائه آمنت به. قالا : إنّ إلهنا قادر على كلّ شيء ، ثم جعلا يدعوان الله علانية ، وجعل شمعون يدعو ربّه سرّا ، فقام الميّت حيّا بإذن الله تعالى ، وقد تغيّر وانتنّ وهو يقول : أيّها الملك إنّي متّ منذ سبعة أيّام ، ووجدت مشركا فأدخلت في سبعة أودية من النار ، فأنا أحذّركم ما أنتم عليه ، فآمنوا بالله واتّبعوا هؤلاء الثلاثة.

فقال الملك : ومن الثلاثة؟ قال : شمعون وهذان ، وأشار الى الرّسولين. فتعجّب الملك من ذلك ، وأجمع هو وقومه على قتل الرّسل. فبلغ ذلك حبيبا النجّار وهو على باب المدينة الأقصى (١).

وقيل : إنّ الملك قال لهم : إنّكم توافقتم على هذا الكلام ، ثم أمر بهم فأخذوا ونتفت حواجبهم وشعور أعينهم ، وطيف بهم ، فلمّا سمع حبيب النجّار ذلك أقبل من أبعد أطراف المدينة يسعى ؛ أي يعدو لينصر الرسل ويذكرهم ويدعو إلى طاعة المرسلين ، وذلك :

قوله تعالى : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (٢٠) ؛ وقال حبيب للرّسل : أتريدون أجرا على ما جئتم به؟ قالوا : لا ، فقال لقومه : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٢١) ؛ أي مصيبون في مقالتهم ، فقالوا له : صبوت إليهم يا حبيب ودخلت في دينهم؟ فقال : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ؛) أي أيّ شيء لي إذا لم أعبد خالقي ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٢) ، أي إليه ترجعون عند البعث فيجزيكم بكفركم.

ثم إنّ أهل المدينة قالوا : ليس الرّسل بأولى بالنبوّة منا فيما تقولون ، قالوا : ربّنا يعلم إنّا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين ، أي ليس علينا إلّا التبليغ البيّن.

__________________

(١) القصة أخرجها البغوي أيضا كاملة في تفسيره : ص ١٠٧٦ ـ ١٠٧٧.

٢٧٧

فقال القوم للرسل : إنا تطيّرنا بكم ، أي تشاءمنا منكم ، وقد كان حبس عنهم المطر ، فقالوا ما أصابنا هذا الشر إلّا من قبلكم (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) أي لئن لم تنتهوا من مقالتكم هذه لنقتلنّكم رجما وليمسّنكم منا عذاب ، يعنون القتل والضرب.

فقالت لهم الرسل : (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي شؤمكم معكم وهو كفركم بالله تعالى. قوله تعالى : (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) معناه لئن وعظتم بمواعظ الله تشاءمتم بنا بما لا يوجب التشاؤم ولكن أنتم قوم مسرفون ، متجاوزون عن الحدّ في الذنب والمعصية.

قوله تعالى : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) يعني حبيبا النجّار (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي من لا يسألكم أموالكم على ما جاءكم به من الهدى ، فقالوا له : أتّبعتهم أنت يا حبيب؟ قال : نعم (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في الآخرة.

ثم أنكر عليهم اتخاذ الأصنام وعبادتها ، فقال : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) ، كما اتّخذتم ، (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ) ، في جسدي أو في معيشتي ، (لا تُغْنِ عَنِّي) ، لا تنفع عنّي ، (شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) ، يعني لا شفاعة لها ، (وَلا يُنْقِذُونِ) (٢٣) ؛ أي ولا يخلّصون من ذلك المكروه ولا من عذاب الله ، قوله تعالى : (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤) ، إن عبدت غير الله كنت إذا في الخاطئين ، (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) (٢٥) ؛ مقالتي.

وقيل : إنّ قوله (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) خطاب المرسل ، قال لهم اسمعوا كلامي لتشهدوا لي به في الآخرة ، فلمّا قال هذا وثب عليه قومه وثبة رجل واحد فقتلوه ، قال ابن مسعود : (ووطؤه بأرجلهم حتّى خرجت أمعاؤه من دبره ، فأدخله الله الجنّة فهو حيّ فيها يرزق) (١) ، وذلك قوله تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ؛) فلما دخلها ، (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٢٧) ؛

__________________

(١) ذكره الثعلبي أيضا في الكشف والبيان : ج ٨ ص ١٢٦ بلفظ : (حتى خرج قصبه ـ أي أمعاؤه ـ من دبره). والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ١٩.

٢٧٨

تمنّى أن يعلموا أنّ الله غفر له ليرغبوا في دين الرّسل ، والمعنى : يا ليت قومي يعلمون بغفران ربي لي وإكرامه إيّاي بإدخاله لي الجنّة.

قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) (٢٨) ؛ وذلك أنّهم لمّا قتلوه وغضب الله عليهم وعجّل لهم العذاب ، ومعنى الآية : وما أنزلنا على قوم حبيب بإهلاكهم من جند من السّماء يعني الملائكة ؛ أي لم تنتصر منهم بجند من السّماء ، (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) ولا كنّا ننزّل ذلك بمن قبلهم من الأمم إذا أهلكناهم.

ثم بيّن الله تعالى كيف كانت عقوبتهم وعذابهم فقال تعالى : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) (٢٩) ؛ أي ميّتون لا يتحرّك منهم أحد. قال المفسّرون : أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة وصاح بهم صيحة واحدة ، فتطايرت قلوبهم فإذا هم ميّتون ، ولم يسمع لهم حسّ ، كالنار إذا طفئت.

قوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٠) ؛ قال مقاتل : (يا ندامة عليهم في الآخرة باستهزائهم بالرّسل في الدّنيا) (١). والحسرة : أن يركب الإنسان من شدّة اللّوم ما لا نهاية بعده حتى يبقى قلبه حسيرا ، والعرب إذا دعت نكرة موصولة بشيء آثرت النصب ، تقول : يا رجلا كريما أقبل (٢). ثم بيّن الله تعالى سبب الحسرة فقال : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) (٣١) ؛ معناه : ألم ير أهل مكّة كم أهلكنا قبلهم من الأمم الماضية فخافوا أن يعجّل لهم في الدّنيا مثل ما عجّل لغيرهم وهم يعلمون أنّهم لا يعادون إلى الدّنيا أبدا.

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٨٥.

(٢) ينظر : معاني القرآن للفراء : ج ٢ ص ٣٧٥.

٢٧٩

قوله تعالى : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) (٣٢) ؛ أي وما كلّ منهم إلّا لدينا محضرون في أرض المحشر للحساب والجزاء ، هذا على قراءة من قرأ (لمّا جميعا) بالتشديد ، وهي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة ، وأما على قراءة من قرأ بالتخفيف فإن (ما) صلة مؤكّدة ، فإن (إِنْ) للإثبات كأنه قال : وإن كلّ لجميع لدينا محضرون (١).

ثم وعظ الله كفار مكّة ليعتبروا فقال تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها ؛) أي وعلامة لهم تدلّهم على التوحيد والبعث ، الأرض الميتة اليابسة التي لا نبات فيها ولا شجر (أَحْيَيْناها) بإخراج الأشجار والزّروع ، (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) (٣٣) ، ما يقتات من الحبوب جمع الحب ، (وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ ؛) أي في الأرض بساتين ، (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) (٣٤) ؛ أي من عيون الماء.

وقوله تعالى : (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ؛) أي من ثمر النخيل والأعناب على اختلاف طعومها وألوانها ، فيستدلّوا بذلك على قدرة الله تعالى. قرأ الأعمش (ثمره) بضمّ الثاء وسكون الميم ، وقرأ طلحة ويحيى وحمزة والكسائي وخلف (ثمره) بضمّ الثاء والميم ، وقرأ الباقون بفتحهما (٢).

قوله تعالى : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ؛) أي وما عملت أيديهم شيئا مما ذكرناه ، وإنما هو من فعلنا ، (أَفَلا يَشْكُرُونَ) (٣٥) ؛ نعم الله ، ويجوز أن يكون معناه : ليأكلوا من ثمره ومن ثمر ما عملت أيديهم ، يعني الغروس والحرث.

قرأ أهل الكوفة (وما عملت) بغير هاء ، ويجوز في (ما) ثلاثة أوجه : النفي بمعنى ولم تعمل أيديهم ؛ أي وجدوها معمولة فلا صنع لهم فيها ، وهذا قول الضّحاك ومقاتل (٣). والثاني : أن يكون بمعنى المصدر ؛ أي ومن عمل أيديهم. والثالث : بمعنى

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء : ج ٢ ص ٣٧٥. وإعراب القرآن للنحاس : ج ٣ ص ٢٦٥.

(٢) ينظر : إعراب القرآن للنحاس : ج ٣ ص ٢٦٦.

(٣) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٨٦.

٢٨٠