التفسير الكبير - ج ١

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ١

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٢٠

١
٢

٣

٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

استهلال

إن الحمد لله رب العالمين ، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله.

وبعد : فإنه لا يخفى أنّ علم التفسير من أجلّ العلوم وأسمى المعارف ، فهو أحد العلوم الشرعيّة الثلاثة التي أوجبها الشارع الحكيم على جماعة المسلمين ، وجعل تعلّمها من فروض الكفاية ، والسّعي لها من السّنن المندوبات حين تتوفر الأهلية في الجماعة.

ولقد قطعت الأمة الإسلامية شوطا بعيدا في إنجاز هذه المهمّات على مدار الأزمان وتغيّر الأحوال ، فوجد من العلماء الأجلّاء من قام بهذه المهمّة على امتداد العقود من القرون الماضية ، في مجال الحديث والفقه والتفسير ، فأدى المهمة ، ونفع الأمة بمعالجة مختلف الأحوال والمشكلات. ومنهم إمامنا الطبرانيّ الكبير في مجال الحديث والتفسير.

وإذ نقدم هذا التحقيق للتفسير الكبير للإمام الطبرانيّ (تفسير القرآن العظيم) فإننا نقدم مثالا لجهد عالم في حقبة من تاريخ الأمة ؛ لينتفع من علمه ، ويفاد من ممارسته ، وتنضج الخبرة في جيلنا وتزداد الهمّة من تلك الخبرة والعزيمة. فلكلّ زمان رجال يتواصلون مع من سبقهم ؛ لينضجوا خبراتهم إلى من يلحق بهم.

نسأل الله عزوجل أن ينفع بجهد عالمنا الكبير الإمام الطبرانيّ رحمه‌الله ، وأن ينفع بما قدّمناه في التحقيق والتدقيق والتعليق ، وما حاولناه بالضّبط والتنسيق ؛ لإخراج هذا الكتاب على أتمّ وجه وأبهى صورة.

٥

فقمنا بكتابة مقدّمة له (مقدّمة في علم التّفسير) أعددناها من قراءاتنا ؛ وجمعناها من جهود علمائنا ، ونسّقناها بالصّورة التي ستقرؤها أيها الفاضل طالب العلم العامل به إن شاء الله.

ثم أتبعنا ذلك بتحقيق نسبة الكتاب إلى مؤلّفه ، ومن ثمّ ترجمة موجزة للمصنف رحمه‌الله. ثم أعقبنا ذلك بإيجاز منهج عملنا في التحقيق. ثم كتبنا ترجمة للمحقّق ، ونسأل الله عزوجل الإنصاف لأهل العلم وطلبته. فما كان فيه من إصابة فهو من الله ، وما كان فيه من قصور أو تقصير ، فذاك من نفسي ، ونسألك أخي المسلم الدعاء.

وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

العبد الفقير إلى ربّه الغنيّ به :

هشام بن عبد الكريم بن صالح البدرانيّ الحسينيّ الموصليّ

١ / محرم / ١٤٢٧ من الهجرة

٣١ / كانون الثاني / ٢٠٠٦ ميلادية

٦

مقدّمة

في

علم أصول التّفسير

إعداد المحقّق

هشام البدرانيّ الموصليّ

٧
٨

مقدّمة في علم أصول التّفسير

مفهوم القرآن الكريم :

القرآن في الأصل مصدر قرأ ؛ يقرأ ؛ وقرآنا ؛ وقرأ : جمع ، وقراءة : ضمّ الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في التّرتيل ؛ وليس يقال ذلك لكلّ جمع ، فلا يقال قرأت القوم إذا جمعتهم ، ولقد خصّ القرآن بالكتاب المنزّل على سيّدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصار كالعلم بالنسبة له. قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به.

والقرآن الكريم : هو الكتاب المنزّل على سيّدنا محمّد النبيّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحيا من الله عزوجل ، بلسان عربيّ مبين ، والّذي نقله إلينا بين دفّتي المصحف خلف عن سلف عدول ثقات يمنع جمعهم وكثرتهم وحالهم تواطأهم على كذب أو اختلاف ، فقد نقل نقلا متواترا بالتلاوة والكتابة ، بالشّفاه والأقلام ، محفوظا بالسّطور والصّدور ، بالسّماع والرّسم المخطوط الموقوف ؛ فأخذته الآذان سماعا ورواية ، وتلقّته الأذهان وعيا وحفظا ونطقت به الألسن تلاوة وإسماعا.

نزل القرآن على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفرّقا في مدة ثلاث وعشرين سنة. وكان نزوله على أنحاء شتّى ، تارة بتتابع ، وتارة بتراخي. وإنما نزل منجّما ولم ينزل دفعة واحدة لحكمة ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ)(١) أي كذلك انزل مفرّقا لنقوّي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه. وقال تعالى (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً)(٢) أي قرآنا جعلنا نزوله مفرّقا منجّما على مكث ، أي على مهل

__________________

(١) الفرقان / ٣٢.

(٢) الإسراء / ١٠٦.

٩

وتؤدّة وتثبّت ، نزلناه تنزيلا حسب الحوادث. فمن أجل تثبيت فؤاد الرسول ، ومن أجل قراءته على الناس على مكث وتؤدّة ، ومن أجل أن ينزل حسب الحوادث وجوابات السائلين نزل منجّما مفرّقا في ثلاث وعشرين سنة.

وكان القرآن ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيأمر بحفظه في الصّدور ، وكتابته في الرّقاع ، من جلد أو ورق أو كاغد ، وفي الأكتاف والعسب واللّخاف ، أي على العظم العريض وعسب النّخل والحجارة الرقيقة ، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ؛ لمّا أمّره أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جمع المصحف ، قال زيد بن ثابت رضي الله عنه : فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال (١).

وكان إذا نزلت الآيات أمر بوضعها موضعها من السّورة فيقول ألحقوا هذه الآية في سورة كذا بعد آية كذا ، فيضعونها موضعها من السورة. قال ابن حجر العسقلاني : وأوضح من ذلك ما أخرجه أصحاب السنن الثلاثة وصححه الحاكم وغيره حديث ابن عباس عن عثمان رضي الله عنهم جميعا قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينزل عليه الآيات فيقول : [ضعوها في السّورة الّتي يذكر فيها كذا](٢) وهكذا حتى نزل القرآن كله والتحق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرفيق الأعلى بعد أن كمل نزول القرآن. ولذلك كان ترتيب آيات كلّ سورة على ما هي عليه الآن في المصحف توقيفا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جبريل عليه‌السلام عن الله تعالى فهو ترتيب توقيفي من الله تعالى.

وعلى ذلك وكما قرأ بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نقلته الأمة ولا خلاف في ذلك مطلقا. وهذا الترتيب للآيات في سورها على الشكل الذي نراه الآن ، هو نفسه الذي أمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو نفسه الذي كان مكتوبا بالرّقاع والأكتاف والعسب واللّخاف ومحفوظا في الصّدور. وعليه فإن ترتيب الآيات في سورها قطعيّ أنه توقيفي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن جبريل عليه‌السلام ، عن الله سبحانه تعالى.

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح : كتاب فضائل القرآن : باب جمع القرآن : الحديث (٤٩٨٦) وكتاب التفسير : باب لقد جاءكم رسول : الحديث (٤٦٧٩). والترمذي في الجامع الصحيح : أبواب تفسير القرآن : الحديث (٣١٠٣). والامام أحمد في المسند : ج ١ ص ١٠ وج ٥ ص ١٨٨.

(٢) فتح الباري شرح صحيح البخاري : ج ٩ ص ١٠ : شرح الحديث (٤٩٨٣).

١٠

وأما ترتيب السّور بالنسبة لبعضها فإنه كان باجتهاد من الصحابة رضوان الله عليهم ، فقد جاء من حديث ابن عبّاس قالوا [قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرّحمن الرّحيم ووضعتموها في السّبع الطّوال؟ فقال عثمان رضي الله عنه كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما تنزل عليه السّورة ذات العدد ، فإذا نزل عليه شيء ـ يعني منها ـ دعا بعض من كان يكتب فيقول [ضعوا هؤلاء الآيات في السّورة الّتي يذكر فيها كذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وبراءة من آخر القرآن وكانت قصّتها شبيهة بها فظننت أنّها منها. فقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبيّن لنا أنّها منها](١). وعن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال [كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعرف فصل السّورة حتّى ينزل عليه بسم الله الرّحمن الرّحيم](٢) وعن ابن عباس قال : [كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السّورة حتّى تنزل بسم الله الرّحمن الرّحيم ، فإذا نزلت بسم الله الرّحمن الرّحيم ، علموا أنّ السّورة قد انقضت](٣).

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ١ ص ٥٧ و ٦٩ ؛ عن يزيد الفارسي عن ابن عباس قال : قلت لعثمان ... الحديث. وأبو داود في السنن : كتاب الصلاة : باب من جهر بها : الحديث (٧٨٦). والترمذي في الجامع الصحيح : كتاب تفسير القرآن : باب ومن سورة التوبة : الحديث (٣٠٨٦) ؛ وقال : هذا حديث حسن صحيح ؛ لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس ؛ ويزيد الفارسي قد روى عن ابن عباس غير حديث ، ويقال هو يزيد بن هرمز ؛ ويزيد الرّقاشي هو يزيد بن أبان الرّقاشيّ ولم يدرك ابن عباس ، وإنما روى عن أنس بن مالك ، وكلاهما من أهل البصرة ، ويزيد الفارسي أقدم من يزيد الرّقاشيّ. إنتهى. والنسائي في السنن الكبرى : كتاب فضائل القرآن : باب [السورة التي يذكر فيها كذا وكذا] : الحديث (٨٠٠٧ / ١). والحاكم في المستدرك على الصحيحين : كتاب التفسير : ج ٢ ص ٢٢١ وتفسير سورة التوبة : ج ٢ ص ٣٣٠ ؛ وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ؛ وعقب الذهبي وقال : إنه صحيح. وابن حبان في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان : كتاب الوحي : باب ذكر ما كان يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتبة القرآن : الحديث (٤٣) : ج ١ ص ١٢٥.

(٢) رواه أبو داود في السنن : كتاب الصلاة : باب من جهر بها : الحديث (٧٨٨). والطبراني في المعجم الكبير : الحديث (١٢٥٤٤ و ١٢٥٤٥ و ١٢٥٤٦) بألفاظ ؛ قال : [ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرف خاتمة السّورة حتّى تنزل عليه بسم الله الرّحمن الرّحيم]. وفي مجمع الزوائد ومنبع الفوائد : ج ٢ ص ١٠٩ وج ٦ ص ٣١٠ ؛ قال الهيثمي : رواه البزار بإسناد رجال أحدهما رجال الصحيح.

(٣) ينظر : المستدرك على الصحيحين للحاكم : ج ١ ص ٢٣٢ ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

١١

(فهذا يدلّ على أن ترتيب الآيات في كلّ سورة كان توقيفيا. ولمّا لم يفصح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر براءة أضافها عثمان إلى الأنفال اجتهادا منه رضي الله عنه. ونقل صاحب الإقناع أن البسملة لبراءة ثابتة في مصحف ابن مسعود) (١) ، وروى أن الصحابة كانوا يحتفظون بمصاحف على ترتيب في السور مختلف مع عدم الاختلاف في ترتيب الآيات ، فمصحف ابن مسعود على غير تأليف العثماني من حيث ترتيب السور ، وكان أوّله الفاتحة ثم البقرة ، ثم النساء ثم آل عمران ، بعكس العثماني فترتيبه الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران ثم النساء. ولم يكن أيّ منهما على ترتيب النّزول. ويقال إنّ مصحف عليّ كان على ترتيب النّزول أوله (إقرأ) ثم (المدثر) ثم (ن والقلم) ثم (المزمل) ثم (تبت) ثم (التكوير) ثم (سبح ،) وهكذا إلى آخر المكّي ثم المدنيّ.

وهذا كله يدلّ على أن ترتيب السّور بالنسبة لبعضها كان باجتهاد من الصحابة (٢). ولذلك كان ترتيب السّور في القراءة ليس بواجب في التلاوة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التعليم ، بدليل أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ في صلاته في الليل بسورة النساء قبل آل عمران ، عن صلة بن زفر عن حذيفة رضي الله عنه قال : صلّيت مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة ، فافتتح البقرة ؛ فقلت يركع عند المائة ، ثمّ مضى ؛ فقلت : يصلّي بها في ركعة ؛ فمضى. فقلت : يركع بها ؛ ثمّ افتتح النّساء ، فقرأ ثمّ افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا ، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح ، وإذا مرّ بسؤال سأل ، وإذا مرّ بتعوّذ تعوّذ ، ثمّ ركع فجعل يقول : [سبحان ربي العظيم] فكان ركوعه نحوا من قيامه ، ثمّ قال :

__________________

(١) ينظر : فتح الباري شرح صحيح البخاري : ج ٩ ص ٥١ ؛ شرح الحديث (٤٩٩٤) من كتاب فضائل القرآن ، وفيه : (قال : ولا يؤخذ بها).

(٢) ينظر : فتح الباري شرح صحيح البخاري : ج ٩ ص ٥٠. قال الزركشي في البرهان في علوم القرآن : ج ٢ ص ٢٦٢ : وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة من أحسن الترتيب ؛ وهو ترتيب المصحف العثماني ، وإن كان مصحف عبد الله بن مسعود قدّمت فيه سورة النساء على آل عمران ؛ وترتيب بعضها بعد بعض ليس هو أمرا أوجبه الله ، بل أمر راجع إلى اجتهادهم واختيارهم ؛ ولهذا كان لكل مصحف ترتيب ، ولكن ترتيب المصحف العثماني أكمل.

١٢

[سمع الله لمن حمده]. ثمّ قام طويلا قريبا ممّا ركع ، ثمّ سجد ؛ فقال : [سبحان ربي الأعلى] فكان سجوده قريبا من قيامه (١).

وأما ما ورد من النهي عن قراءة القرآن منكوسا فإن المراد قراءة الآيات في السورة الواحدة منكوسة لا قراءة السّور منكوسة. قال موفق الدين بن قدامة : وقد روي عن ابن مسعود أنه سئل عمّن يقرأ القرآن منكوسا قال : ذلك منكوس القلب. وفسّره أبو عبيدة : بأن يقرأ سورة ثم يقرأ بعدها أخرى هي قبلها في النّظم (٢). وقال النوويّ في شرح الحديث السابق لحذيفة رضي الله عنه من صحيح مسلم : قال أبو بكر الباقلاني ... : ولا خلاف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الأولى ، وإنما يكره ذلك في ركعة ولمن يتلو في غير صلاة ، قال : وقد أباحه بعضهم وتأوّل نهي السلف عن قراءة القرآن منكوسا على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها (٣).

ومتأوّل قول السلف على ما يبدو هو ابن بطّال ، قال ابن حجر : قال ابن بطال : لا نعلم أحدا قال بوجوب ترتيب السّور في القراءة لا داخل الصلاة ولا خارجها ، بل يجوز يقرأ الكهف قبل البقرة والحجّ قبل الكهف مثلا ، وأما ما جاء عن السّلف من النهي عن قراءة القرآن منكوسا ، فالمراد به أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها ، وكان جماعة يصنعون ذلك في القصيدة من الشعر مبالغة في حفظها وتذليلا للسانه في سردها ، فمنع السلف ذلك في القرآن فهو حرام فيه (٤).

وهذا الرأي نقله ابن كثير في فضائل القرآن : بتصرّف ؛ قال أي ابن بطّال : وأما ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنّهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسا ، وقالا : إنما

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح : كتاب صلاة المسافرين : باب استحباب تطويل القراءة : الحديث (٢٠٣ / ٧٧٢).

(٢) ينظر : المغني : مسألة : قال : ثم يقرأ في سورة في ابتدائها بسم الله الرحمن الرحيم : الفصل الأخير منها : ج ١ ص ٥٣٧.

(٣) المنهاج : شرح صحيح مسلم بن الحجاج : ج ٥ ـ ٦ ص ٣٠٨.

(٤) ينظر : فتح الباري شرح صحيح البخاري : ج ٩ ص ٤٨.

١٣

ذلك منكوس القلب ؛ فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة فيبتدئ بآخرها إلى أولها ، فإن ذلك حرام محظور (١).

وقد كان جبريل يقرأ جميع ما نزل من القرآن على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّة في كلّ سنة. وفي السّنة التي توفّي فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ جبريل القرآن كله على الرسول مرّتين. عن عائشة رضي الله عنها عن فاطمة عليهاالسّلام [أسرّ إليّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ جبريل يعارضني بالقرآن كلّ سنة وأنّه عارضني العام مرّتين ولا أراه حضر إلّا أجلي](٢) وعن أبي هريرة قال : [كان يعرض على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن كلّ عام مرّة فعرض عليه مرّتين في العام الّذي قبض](٣).

فعرض جبريل القرآن على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّ عام مرّة معناه عرض ترتيب آياته بالنسبة لبعضها ، وترتيب آياته في سورها ، لأن عرض الكتاب معناه عرض جمله وكلماته وترتيبه ، وعرضه مرّتين في العام الذي توفّي فيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، معناه كذلك عرض ترتيب آياته بالنسبة لبعضها. وترتيب آياته في سورها ويمكن أن يفهم كذلك من الحديث عرض ترتيب سوره بالنسبة لبعضها.

__________________

(١) فضائل القرآن : ص ٤٢ / دار الأندلس / الطبعة الرابعة.

(٢) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، قالت : أقبلت فاطمة تمشي كأنّ مشيتها مشي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [مرحبا يا ابنتي] ثم أجلسها عن يمينه ثمّ أسرّ إليها حديثا ، فبكت! فقلت لها : لم تبكين؟ ثمّ أسرّ إليها حديثا فضحكت ، فقلت : ما رأيت اليوم فرحا أقرب من حزن ، فسألتها عمّا قال. فقالت : [ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم] ، حتّى قبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألتها. فقالت : [أسرّ إليّ أنّ جبريل كان يعارضني القرآن كلّ سنة مرّة ، وإنّه عارضني العام مرّتين ، ولا أراه إلّا حضر أجلي ، وإنّك أوّل أهل بيتي لحاقا بي] فبكيت. فقال : [أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة! أو نساء المؤمنين!] فضحكت لذلك. رواه البخاري في الصحيح : كتاب المناقب : الحديث (٣٦٢٣ و ٣٦٢٤). وفي الحديث (٦٢٨٥ و ٦٢٨٦) فيه تفصيل.

(٣) عن أبي حصين عن ذكوان عن أبي هريرة قال : كان يعرض على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن كلّ عام مرّة ، فعرض عليه مرّتين في العام الّذي قبض فيه ، وكان يعتكف في كلّ عام عشرا ، فاعتكف عشرين في العام الّذي قبض فيه. رواه البخاري في الصحيح : كتاب فضائل القرآن : باب كان جبريل يعرض القرآن : الحديث (٤٩٩٨).

١٤

إلا أنه وردت أحاديث صحيحة أخرى صريحة في ترتيب الآيات ، فإنّها تنصّ على ترتيب الآيات بالنسبة لبعضها وترتيب الآيات في سورها [ضعوا هذه الآيات في سورة كذا بعد آية كذا] [وضعوا هؤلاء الآيات في السّور الّتي ذكر فيها كذا]. وكانت السورة تختم ويبدأ بسورة غيرها بتوقيف من الله بواسطة جبريل. عن ابن عبّاس قال : [كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعلم ختم السّورة حتّى ينزل بسم الله الرّحمن الرّحيم] وفي رواية [فإذا أنزلت بسم الله الرّحمن الرّحيم علموا أنّ السّورة قد انقضت].

فهذا كله يدلّ قطعا على أنّ ترتيب الآيات في سورها وشكل السّور بعدد آياتها ووضعها ، كل ذلك توقيفي من الله تعالى. وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيّها صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثبت ذلك تواترا.

أما ترتيب السّور بالنسبة لبعضها فإنه وإن كان يمكن أن يفهم من أحاديث عرض القرآن ، ولكن يمكن أن يفهم غيره من حديث آخر. عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها إذ جاءها عراقيّ فقال : أيّ الكفن خير؟ قالت : ويحك وما يضرّك؟ قال : يا أمّ المؤمنين أريني مصحفك. قالت : لم؟ قال : لعلّي أؤلّف القرآن عليه ، فإنّه يقرأ غير مؤلّف.

قالت : وما يضرّك أيّه قرأت قبل ، إنّما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصّل فيها ذكر الجنّة والنّار حتى إذا أثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا ، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزّنا أبدا ، لقد نزل بمكّة على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنّي لجارية العب (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ)(١). وما نزلت سورة البقرة والنّساء إلّا وأنا عنده. قال فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السّور](٢).

__________________

(١) القمر / ٤٦.

(٢) رواه البخاري في الصحيح : كتاب فضائل القرآن : باب تأليف القرآن : الحديث (٤٩٩٣).

١٥

فهذا الحديث يدل على أن القرآن لم يكن مجموعا فإذا أضيف إلى ذلك اختلاف ترتيب مصاحف الصحابة ، دلّ على أن ترتيب السّور بالنسبة لبعضها كان باتفاق من الصحابة.

جمع القرآن :

لقد ثبت بالدليل اليقينيّ الجازم أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين التحق بالرفيق الأعلى كان القرآن كله مكتوبا في الرّقاع والأكتاف والعسب واللّخاف ، وكان كله محفوظا في صدور الصحابة رضوان الله عليهم. فقد كانت تنزل الآية أو الآيات فيأمر حالا بكتابتها بين يديه ، وكان لا يمنع المسلمين من كتابة القرآن غير ما كان يمليه على كتّاب الوحي.

عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [لا تكتبوا عنّي ، من كتب عنّي غير القرآن فليمحه ، وحدّثوا عنّي ولا حرج ، ومن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار](١).

وكان ما يكتبه كتّاب الوحي مجموعا في صحف قال تعالى : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً)(٢) أي يقرأ قراطيس مطهّرة من الباطل فيها مكتوبات مستقيمة قاطعة بالحقّ والعدل ، وقال الله تعالى : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ)(٣) أي إنّ هذه التذكرة مثبتة في صحف مكرّمة عند الله مرفوعة المقدار منزّهة عن أيدي الشياطين ، قد كتبت بأيدي كتبة أتقياء.

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح : كتاب الزهد : باب التثبت في الحديث وحكم كتاب العلم : الحديث (٧٢ / ٣٠٠٤). والإمام أحمد في المسند : ج ٣ ص ٥٦ وبلفظ [سوى القرآن] : ج ٣ ص ٢١ و ٣٩. والدارمي في السنن : باب من لم ير كتابة الحديث من المقدمة : الحديث (٤٥٠) بلفظ [إلّا القرآن].

(٢) البيّنة / ٢.

(٣) عبس / ١١ ـ ١٥.

١٦

وقد ترك صلى‌الله‌عليه‌وسلم جميع ما بين دفّتي المصحف مكتوبا قد كتب بين يديه ، عن عبد العزيز بن رفيع قال : دخلت أنا وشدّاد بن معقل على ابن عبّاس رضي الله عنهما فقال له شدّاد بن معقل : أترك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شيء؟ قال : ما ترك إلا ما بين الدفّتين. قال : ودخلت على محمّد بن الحنفية فسألناه فقال : [ما ترك إلّا ما بين الدفّتين](١) فالإجماع منعقد على أن جميع آيات القرآن في سورها قد كتبت بين يدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين كان ينزل بها الوحي مباشرة ، وأنّها كتبت في صحف. وتوفّي الرسول الأعظم وهو قرير العين على القرآن معجزته الكبرى التي قامت حجّة على العرب وعلى العالم. ولم يكن يخشى على آيات القرآن الضياع لأن الله حفظ القرآن بنصّ صريح (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٢) ولأنه كان قد ثبّت هذه الآيات كتابة بين يديه وحفظا في صدور الصحابة وأذن للمسلمين أن يكتبوا القرآن.

ولذلك لم يشعر الصحابة بعد وفاة الرسول أنّهم في حاجة لجمع القرآن في كتاب واحد أو في حاجة إلى كتابته ، حتى كثر القتل في الحفّاظ في حروب الرّدّة ، فخشي عمر من ذلك على ضياع بعض الصّحف وموت القرّاء ، فتضيع بعض الآيات ، ففكّر في جمع الصّحف المكتوبة ، وعرض الفكرة على أبي بكر وحصل جمع القرآن. عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : [أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطّاب عنده. قال أبو بكر رضي الله عنه إنّ عمر أتاني فقال : إنّ القتل قد استحر يوم اليمامة بقرّاء القرآن وإنّي أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر : كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال عمر : هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتّى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد : قال أبو بكر : إنّك رجل شاب عاقل لا نتّهمك ، وكنت تكتب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتتبّع القرآن

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح : كتاب فضائل القرآن : باب من قال : لم يترك النبي إلا ما بين الدفتين : الحديث (٥٠١٩). والإمام أحمد في المسند : ج ١ ص ٢٢٠ بلفظ : [إلّا ما بين هذين اللّوحين] وإسناده صحيح.

(٢) الحجر / ٩.

١٧

فاجمعه. فو الله لو كانوا كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ ممّا أمرني به من جمع القرآن. قلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال أبو بكر : هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتّى شرح الله صدري للّذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرّجال حتّى وجدتّ آخر سورة التّوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ولم أجدها مع أحد غيره. (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) حتى خاتمة براءة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتّى توفّاه الله ثمّ عند عمر حياته ثمّ عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما](١).

ولم يكن جمع زيد للقرآن كتابة له من الحفّاظ ، وإنما كان جمعه له جمعا لما كتب بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان لا يضع صحيفة مع صحيفة أخرى ليجمعها إلا بعد أن يشهد لهذه الصحيفة التي تعرض عليه شاهدان يشهدان أن هذه الصحيفة كتبت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكان فوق ذلك لا يأخذ الصحيفة إلّا إذا توفّر فيها أمران :

أحدهما : أن توجد مكتوبة مع أحد من الصحابة.

والثّاني : أن تكون محفوظة من قبل أحد الصحابة ، فإذا طابق المكتوب والمحفوظ للصحيفة التي يراد جمعها أخذها وإلّا فلا. ولذلك توقّف عن أخذ آخر سورة براءة حتى وجدها مكتوبة عند أبي خزيمة فأخذها ؛ لأن شهادة ابن خزيمة بشهادة رجلين ، مع أن زيدا كان يستحضرها هو ومن ذكر معه.

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح : كتاب تفسير القرآن : سورة (٩) التوبة : باب (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) : الحديث (٤٦٧٩). وكتاب فضائل القرآن : باب جمع القرآن : الحديث (٤٩٨٦). وباب كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحديث (٤٩٨٩) وكتاب الأحكام : باب يستحب للكاتب أن يكون أمينا عاقلا : الحديث (٧١٩١). والترمذي في الجامع : كتاب تفسير القرآن : باب تفسير سورة التوبة : الحديث (٣١٠٢). والنسائي في السنن الكبرى : كتاب التفسير : الحديث (٧٩٩٥) والإمام أحمد في المسند : ج ١ ص ١٠.

١٨

روي من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال : قام عمر فقال : من كان تلقّى من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من القرآن فليأت به ، وكانوا يكتبون ذلك في الصّحف والألواح والعسب ، قال : وكان لا يقبل من أحد شيئا حتّى يشهد شاهدان (١).

قال ابن حجر : (هذا يدل على أن زيدا كان لا يكتفي بمجرّد وجدانه مكتوبا حتى يشهد من تلقّاه سماعا مع كون زيد كان يحفظه وكان يفعل ذلك مبالغة بالأحتياط) (٢).

فالجمع لم يكن إلّا جمع الصّحف التي كتبت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتاب واحد بين دفّتين ، فقد كان القرآن مكتوبا في الصّحف ، لكن كانت مفرّقة فجمعها أبو بكر في مكان واحد. وعلى ذلك لم يكن أمر أبي بكر في جمع القرآن أمرا بكتابته في مصحف واحد بل أمرا بجمع الصّحف التي كتبت بين يدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع بعضها في مكان واحد والتأكّد من أنّها هي بذاتها بتأييدها بشهادة شاهدين على أنّها كتبت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن تكون مكتوبة مع الصحابة ومحفوظة من قبلهم. وظلّت هذه الصّحف محفوظة عند أبي بكر حياته ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر أمّ المؤمنين حسب وصيّة عمر.

ومن هذا يتبين أن جمع أبي بكر للقرآن إنما كان جمعا للصّحف التي كتبت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس جمعا للقرآن وإنّ الحفظ إنّما كان لهذه الصّحف أي للرّقاع التي كتبت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس حفظا للقرآن. ولم يكن جمع الرّقاع والمحافظة عليها إلّا من قبيل الاحتياط والمبالغة في تحرّي الحفظ لعين ما نقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أما القرآن نفسه فإنه كان محفوظا في صدور الصحابة ومجموعا في حفظهم ، والاعتماد في الحفظ كان على جمهرتهم لأن الذين كانوا يحفظونه كليّا وجزئيا كثيرون.

هذا بالنسبة لجمع أبي بكر ، أما بالنسبة لجمع عثمان فإنه في السّنة الثالثة أو الثانية من خلافة عثمان ، أي في سنة خمس وعشرين للهجرة قدم حذيفة ابن اليمان

__________________

(١) أخرجه ابن أبي داود السجستاني في كتاب المصاحف : ص ١٧.

(٢) قاله ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري : ج ٩ ص ١٧.

١٩

على عثمان في المدينة وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينيّة وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في قراءة القرآن.

فإنه رأى أهل الشام يقرأون بقراءة أبيّ بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق ، ورأى أهل العراق يقرأون بقراءة عبد الله بن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام ، فيكفّر بعضهم بعضا. وأن اثنين اختلفا في آية من سورة البقرة ، قرأ هذا : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ،) وقرأ هذا : وأتمّوا الحجّ والعمرة للبيت فغضب حذيفة واحمرّت عيناه ، وروي عن حذيفة قال : يقول أهل الكوفة قراءة ابن مسعود ويقول أهل البصرة قراءة أبي موسى ، والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لآمرنّه أن يجعلها قراءة واحدة ، فركب إلى عثمان (١).

وقد حدّث ابن شهاب أن أنس بن مالك حدّثه [أنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشّام في فتح ارمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنّصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصّحف ننسخها في المصاحف ثمّ نردّها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزّبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث ابن هشام فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرّهط القرشيّين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء ما من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنّما نزل بلسانهم ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يحرق](٢) وقد كان عدد النّسخ التي نسخت سبع نسخ ، فقد

__________________

(١) أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف : اتفاق الناس مع عثمان على جمع المصاحف : ص ١٨ ونقله ابن حجر العسقلاني في الفتح عن ابن أبي داود من كتاب (المصاحف). ينظر : فتح الباري : ج ٩ ص ٢١ ـ ٢٢ / الطبعة الأولى لدار الكتب العلمية.

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب فضائل القرآن : باب جمع القرآن : الحديث (٤٩٨٧) والسنن الكبرى للنسائي : كتاب فضائل القرآن : الحديث (٧٩٨٨).

٢٠