التفسير الكبير - ج ٤

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٤

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٢٠

١
٢

٣

٤

سورة الرّعد

سورة الرّعد مكّيّة عند ابن عبّاس إلّا آيتين (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ) وقوله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) إلى آخرها ، وقال قتادة : (هي كلّها مدنيّة). وعدد حروفها ثلاثة آلاف وخمسمائة وستّة أحرف ، وكلماتها ثمانمائة وخمس وخمسون كلمة ، وآياتها ثلاث وأربعون آية. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ومن قرأ سورة الرّعد أعطي من الأجر عشر حسنات بوزن كلّ سحاب مضى ، وكلّ سحاب يكون إلى يوم القيامة ، وكان يوم القيامة من الموقنين بعهد الله عزوجل](١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) ؛ قال ابن عبّاس : (معنى المر : أنا الله أعلم وأرى). وقوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي هذه آيات القرآن ، وقوله تعالى : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) هو القرآن أيضا ، وقال قتادة : (المراد بقوله (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) الآيات الّتي أنزلت قبل القرآن من التّوراة والإنجيل وسائر الكتب ، والمراد ب (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ) القرآن) (٢) ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١).

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) ؛ أي هو الذي رفع السّموات ، وأقامها واقفة على غير عمد ترونها أنتم كذلك بلا عمد ، هكذا قال أكثر المفسّرين ، وعن ابن عباس في رواية (بعمد لا ترونها ، كأنّه قال : بغير عمد

__________________

(١) في تخريج الكشاف للزيلعي ؛ قال : (أخرجه الثعلبي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب ، وابن مردويه والواحدي بإسناد واه).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٥٢٤٦ و ١٥٢٤٨).

٥

مرئيّة) (١). والأول أقرب إلى الصحّة ؛ لأنه لو كان للسّماء عماد لكنّا نرى ذلك العماد ، لأن مثل السموات في ثقلها وارتفاعها وعظمها لا يقلّها عماد إلّا وقد يكون ذلك العماد جسيما عظيما. قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ؛ قد تقدّم تفسيره.

وقوله تعالى : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ؛ تقديره : الله الذي رفع السموات بغير عمد ، ثم سخّر الشمس والقمر وهو مستو على العرش ، لأنّ استيلاء الله على الأشياء قدرته عليها ، وقدرة الله لا تكون محدثة. وتسخير الشمس والقمر إجراؤهما لمنافع بني آدم ، ومعنى السّخر أن يكون الشيء مقهورا لا يملك لنفسه ما يخلّصه من القهر. قوله تعالى : (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) ؛ إلى وقت معلوم وهو وقت فناء الدّنيا ، فإذا انفنت الّدنيا كوّرت الشمس وانكدرت النجوم.

قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ) ؛ أي يقضي القضاء ، ويبعث الملائكة بالوحي ، وينزل الرزق والأقضية ، قوله تعالى : (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي يأتي بآية في إثر آية ليكون أمكن للاعتبار والفكر. وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (٢) ؛ أي لتستيقنوا بالبعث وبما وعدكم الله به من الثواب والعقاب.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ؛) بسطها طولا وعرضا ، (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ ؛) أي خلق فيها جبالا ثوابت أوتادا لها ، ولو أراد أن يمسكها من غير رواسي لفعل. قوله تعالى : (وَأَنْهاراً ؛) أي وأجرى فيها أنهارا. قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ؛) أي وخلق من جميع الثمرات من كلّ شيء لونين اثنين ، وجعل فيها الحلو والحامض ، والأسود والأبيض.

وقوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ؛) أي يأتي بالليل ليذهب بضياء النهار ، فتسكن الناس بالليل ، ويأتي بضياء النهار ليمحو ظلام الليل فتصرف الناس فيه معايشهم ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣) ؛ في صنع الله ، فيستدلّون بذلك على توحيده.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٥٢٤٩).

٦

قوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ؛) منها الجبل الصّلب ، ومنها الأرض الجرز التي لا يمكن النبات عليها إلا بالمشقّة ، ومنها الأرض النّحسة ، ومنها الأرض الطيّبة ، وهذه الأراضي في ذلك متجاورات ملتزقة ، (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ ؛) أي وبساتين من كروم ، (وَزَرْعٌ ؛) ويجوز في القراءة (وجنّات) على معنى : وجعل فيها جنات ، ومن قرأ (وَزَرْعٌ) بالضمّ فهو عطف على القطع لأن الزرع لا يكون في الجنّات ، وقرأ العامّة (وزرع ونخيل) بالكسر على المجاورة.

قوله تعالى : (وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ ؛) أي مجتمع أصولها في أصل واحد ، ونخيل متفرّق أصولها ، والصّنوان جمع الصّنو ، ويعني الصّنوان أن يكون أصل واحد تخرج منه النّخلتان والثلاث والأربع كما ورد في الحديث : [عمّ الرّجل صنو أبيه](١).

قوله تعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ؛) إما المطر وإما النهر ، (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ،) بعض أكلها أفضل من بعض في الطّعم حتى يكون بعضها حلوا ، وبعضها حامضا ، وبعضها مرّا ، والتراب واحد ، وألوان الثمر وطعمها مختلفة ، وذلك من الدليل على وحدانيّة الله عزوجل ؛ لأنه المحدث لها ، والله تعالى قدير حكيم قد أحدثها على علم منه بها ،

وقال مجاهد : (هذا مثل بني آدم ، أصلهم تراب واحد ، ثمّ منهم صالح وخبيث ، وكامل الخلقة وناقص الخلقة ، وسيّء الخلق) ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ ؛) أي لعلامات دالّات على وحدانيّة الله ، (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤ ؛) إنّ في ذلك من الله.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ؛) معناه وإن تعجب يا محمّد من تكذيب أهل مكة وإشراكهم بالله مع ما

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ١٠ ص ٧٢ : الحديث (٩٩٨٥) عن ابن عباس ، وج ١٠ ص ٢٩١ : الحديث (١٠٦٩٨) عنه. وفي مجمع الوزائد : ج ٣ ص ٧٩ : باب تعجيل الزكاة ؛ قال الهيثمي : (رواه الطبراني في الأوسط وفيه إسماعيل المكي وفيه كلام كثير وقد وثق). وأخرجه الطبراني في الأوسط : الحديث (٧٨٥٨). وابن حبان في صحيحه : كتاب الزكاة : الحديث (٣٢٧٣) عن العباس ، وإسناده صحيح ، قاله الشيخ شعيب حفظه الله.

٧

تقدّم من الدلائل على توحيد الله قولهم عجب عند العقلاء العارفين حيث قالوا : إذا كنّا ترابا أنبعث وتردّ فينا الروح بعد الموت والبلاء؟! وإنما سمي قولهم (إِذا كُنَّا تُراباً) أعجب ؛ لأن البعث أسهل في القدرة مما بيّن الله لهم ؛ إذ البعث إعادة إلى ما كان ، والإعادة أسهل في طباع الآدميّين من الإنشاء.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) أي تغلّ أيمانهم إلى أعناقهم السلاسل في النار ، ويكون يسارهم وراء ظهورهم وهم مصفدون من قرونهم الى أقدامهم. قوله تعالى : (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٥).

قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ؛) أي يستعجلونك بالعذاب الذي توعدهم به على وجه التكذيب والاستهزاء قبل الثواب الذي تعدهم على الإيمان ، يعني مشركي مكّة سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم العذاب استهزاء منهم بذلك ، فقالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ)(١).

قوله تعالى : (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ؛) العقوبات من الله في الأمم الماضية ، والمثلة العقوبة في اللغة. قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ ؛) أي لذو تجاوز على الناس على ظلمهم لأنفسهم ، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) (٦) ؛ لمن استحقّه.

قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ؛) أي ويقول الذين كفروا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن : هلّا نزّل عليه آية من ربه لنبوّته ، يعنون الآيات التي كانوا يقترحونها عليه نحو ما ذكر الله تعالى من قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً)(٢) الى آخر الآيات.

يقول الله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ؛) أي أنت يا محمّد معلّم بموضع المخافة ، وليس إنزال الآيات إليك ، وإنما هو إلى الله. قوله تعالى : (وَلِكُلِ

__________________

(١) الأنفال / ٣٢.

(٢) الإسراء / ٩٠.

٨

قَوْمٍ هادٍ) (٧) ؛ من جعل هذه الواو للجمع فوصلها بما قبلها كان تقدير الكلام : إنما أنت منذر وهاد لكلّ قوم. ومن قطع هذه الواو كان المعنى : لكلّ قوم هاد ؛ أي نبيّ مثلك يهديهم. وقال سعيد بن جبير والضحّاك : (الهادي هو الله) ، والمعنى : أنت منذر تنذر ، والله هادي كلّ قوم ، يهدي من يشاء.

قوله تعالى : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ؛) يعني من علقة أو مضغة أو ذكر أو أنثى أو كامل الخلق أو ناقص الخلق أو واحد أو اثنين أو أكثر. قوله تعالى : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ ؛) أي وما تنقص من الأشهر التسعة في الحمل وما تزداد عليهما ، فإن الولد قد يولد في ستّة أشهر فيعيش ، ويولد لسنتين فيعيش ، وقال الحسن : (وما تنقص بالسّقط ، وما تزداد بالتّمام) (١). والغيض هو النّقصان.

قوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (٨) ؛ أي بحدّ لا يجاوزه ولا ينقص منه ، ويدخل الولد فيه لأنه قد قدّر أجل حياته وموته ، وصحّته ومرضه ، ونقصان عقله وكماله ، وقدّر له ما جرى من رزق وما سيكون منه من طاعة ومعصية وولد وغير ذلك.

قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) (٩) ؛ أي عالم ما غاب عن العباد ، وما علمه العباد. وقيل : الغيب ما يكون ، والشّهادة ما كان. الكبير : السيد الكامل المالك المقتدر على كلّ شيء ، المتعال عمّا يقول المشركون.

قوله تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ؛) أي سواء من أخفى القول وكتمه ، ومن جهر به وأظهره ، فالسّرّ والجهر عند الله سواء. قوله تعالى : (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) (١٠) ؛ أي ومن هو مستتر متوار بالليل ، (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) أي ظاهر في الطّرقات ، علم الله فيهم سواء.

قال الزجاج : (معنى الآية : الجاهر بنطقه ، والمضمر في نفسه ، والظّاهر في الطّرقات والمستخفي في الظّلمات ، علم الله فيهم جميعا سواء). ومعنى السّارب :

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الآثار (١٥٣٣١) بألفاظ عديدة.

٩

الظاهر بالنهار في سربه ؛ أي في طريقه وتصرّفه في حوائجه ، وعن قطرب في : (مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) : أي ظاهر ، وسارب بالنّهار : أي مستتر) يقال : سرب الوحش إذا دخل في كناسه ، والأول أبين وأبلغ في وصف عالم الغيب.

قوله تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ؛) أي للإنسان مساويات ، والكناية في قوله تعالى (لَهُ) ردّ على من أسرّ القول ومن جهر به وهم الآدميّون. وقال بعضهم : (لَهُ مُعَقِّباتٌ) أي لله تعالى ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار ، فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النّهار ، وإذا صعدت ملائكة النهار أعقبتها ملائكة الليل.

وقوله تعالى : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) يعني من قدّام هذا المستخفي بالليل والسّارب بالنهار ، ومن خلفه ؛ أي وراء ظهره ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء القدر خلّوا عنه.

واختلفوا في المعقّبات ، قال بعضهم : الكرام الكاتبون ؛ وهم أربعة : ملكان بالليل وملكان بالنّهار.

قوله تعالى : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ؛) أي بأمر الله حتى ينهوا به إلى المقادير ، فيخلّوا بينه وبين المقادير ، قال كعب الأحبار : (لو لا أنّ الله وكّل بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لخطفتكم الجنّ) (١).

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ؛) أي لا يسلب قوما نعمة حتى يعملوا المعاصي ، يعني بهذا أهل مكّة ، بعث فيهم رسولا منهم ، وأطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، فلم يعرفوا هذه النعمة وغيّروها وجعلوها لأهل المدينة (٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٥٣٧٠). وفي الدر المنثور : ج ٤ ص ٦١٤ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن جرير عن كعب الأحبار رضي الله عنه).

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ٩ ص ٢٩٤ ؛ قال القرطبي : (أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير ، إما منهم أو من الناظر لهم ، أو ممن هو منهم بسبب ؛ كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة لأنفسهم ، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة ؛ فليس ـ معنى ـ ـ الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدّم منه ذنب ، بل قد تنزل المصائب بذنوب

١٠

قوله تعالى : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ؛) أي إذا أراد الله إنزال عذاب على قوم فلا دافع له ، (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) (١١) ؛ يتولّاهم وينصرهم ، ويقال : من ملجأ يلجؤون إليه ، والموئل هو الملجأ.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ؛) أي خوفا للمسافر أن يؤذيه ويبلّ ثيابه وطريقه فلا يمكنه السير ، وطمعا للمقيم أن يسقي حرثه. قوله تعالى : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) (١٢) ؛ أي يخلق السحاب الثّقال بالمطر فيجريه في الجوّ.

قوله تعالى : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ؛) روي أن الرّعد اسم ملك يزجر السحاب يؤلف بعضه إلى بعض ، وتسبيحه زجره للسحاب ، قال عكرمة : (هو كالحادي للإبل).

وعن ابن عبّاس قال : (أقبلت اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا أبا القاسم نسألك عن أشياء ، فإن أصبت فيها اتّبعناك وآمنّا بك ، قال : [اسألوا] قالوا : أخبرنا عن الرّعد ، قال : [ملك من الملائكة موكّل بالسّحاب ، معه مخاريق يسوق بها السّحاب حيث يشاء الله] قالوا : صدقت ، فما الّذي يسمع؟ قال : [زجر السّحاب إذا زجره الملك] قالوا : صدقت) (١).

وقال عطيّة : (الرّعد ملك وهذا تسبيحه ، والبرق سوطه الّذي يزجر به السّحاب ، يقال لذلك الملك : رعد ، ولصوته : رعد). وقال أبو هريرة : (كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سمع الرّعد قال : [سبحان من يسبح الرّعد بحمده](٢) ، وكان ابن عبّاس إذا سمع الرعد قال : (سبحان الّذي سبّحت له).

__________________

الآثار ـ الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدّم منه ذنب ، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير ؛ كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سئل : أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال : [نعم ، إذا كثر الخبث]).

(١) في الدر المنثور : ج ٤ ص ٦٢٠ ؛ قال السيوطي : (أخرجه أحمد والترمذي وصححه ، والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل ...) وذكره شطر حديث طويل.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٥٣٧٩).

١١

قال ابن عبّاس : (من سمع صوت الرّعد فقال : سبحان الّذي يسبح الرّعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كلّ شيء قدير. فإن أصابته صاعقة فعليّ ديته) (١). وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه كان إذا سمع الرّعد والصّواعق قال : [اللهمّ لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك](٢).

قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ؛) يعني ويسبح الملائكة من خيفة الله وخشيته. قوله تعالى : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ؛) أي يرسل النّيران التي تسقط من الغيوم فيحرق ما تقع عليه نيران البرق ، فيهلك بها من يشاء من خلقه. قوله تعالى : (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ ؛) أي الكفار يخاصمون في الله وفي إثبات شريك معه ، (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) (١٣) ؛ أي شديد القوّة والعقوبة.

قوله تعالى : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ؛) أي له كلمة الإخلاص ، شهادة أن لا إله إلّا الله. قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي آلهتهم ، (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) ما يستجيب (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ) يدعوه لعطشه مشيرا مريدا بإشارته أن ، (لِيَبْلُغَ) الماء ، (فاهُ وَما هُوَ) أي وليس الماء ، (بِبالِغِهِ) ومن المحال أن يجيبه بإشارته ، وإن كان الماء في بئر ، أو ماء على بعد نهر أبعد في الإحالة ، وكما لا يبلغ الماء فم هذا الرجل ولا يجيبه وإن مات من العطش ، كذلك لا ينفع الصّنم لمن عبده بوجه من الوجوه ، قال عطاء : (معناه كالرّجل العطشان الجالس على شفير البئر ، يمدّ يده في البئر فلا يبلغ الماء ولا الماء يرتفع إلى يده) (٣) ، (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (١٤) ؛ عن الصواب وذهاب عن الحقّ ؛ لأن الأصنام لا تسمع ولا تقدر على الإجابة.

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٤ ص ٦٢٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه أبو سعيد بن منصور وابن المنذر).

(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ١٢ ص ٢٤٢ : الحديث (١٣٢٣٠). والترمذي في الجامع : أبواب الدعوات : الحديث (٣٤٥٠) ب (الحجاج بن أرطأة) مدلس ، وشيخه (أبو مطر) مجهول. والحاكم في المستدرك : كتاب الأدب : الحديث (٧٨٤٢) وقال : هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٥٤٠٢) عن علي رضي الله عنه.

١٢

قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (١٥) ؛ أي ولله يسجد ويصلّي ويعبد من في السّموات والأرض والملائكة ، ومن دخل الإسلام طوعا يسجد له طائعا ، والمكره هو الذي قوتل وسبي وأجبر على الإسلام ، ويقال : أراد بقوله (طَوْعاً) أهل الإخلاص ، و (كَرْهاً) أهل النفاق ، قوله (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ) يعني إذا سجد الإنسان سجد معه ظلّه ، قال الحسن : (أمّا ظلّ الكافر فيسجد لله ، وأمّا هو فلا يسجد ، فبئس والله ما يصنع) (١).

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ ؛) أي قل يا محمّد لأهل مكّة : من ربّ السموات والأرض؟ فإن أجابوك وقالوا : هو الله ، وإلّا فقل : الله ربّهما ، و (قُلْ ؛) لهم : (أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ؛) أي أربابا ، (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ؛) فكيف يملكون لكم النفع والضر.

قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ؛) أي قل لهم : هل يستوي أعمى القلب الذي يعدل عن عبادة الخالق؟ هل يستوي مع البصير بقلبه ، العالم بأنه تعالى إلهه ووليّه والقادر على نفعه ودفع الضّرّ عنه ، (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ ؛) فيه تشبيه الكفر بالظّلمات ، وتشبيه الإيمان بالنّور.

قوله تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ ؛) معناه : أجعل الكفار لله شركاء ، خلقت شركاؤهم شيئا كما خلق الله ، (فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ؛) فلم يعرفوا خلق الشركاء من خلق الله فأشركوها معه في العبادة ، (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ؛) بلا شريك ، فإذا لم يكن الخلق إلا من واحد لم يكن الخالق إلا واحدا ، فهو الذي يستحقّ العبادة بلا شريك ، (وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١٦) ؛ الغالب لكلّ شيء ، لا يقهره أحد.

ثم ضرب الله مثلا للحق والباطل ، وقال تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ؛) أنزل مطرا فسالت أودية من ذلك المطر بقدر الأودية ، فما كان منها كبيرا سال بقدره ، وما كان صغيرا سال بقدره. قوله تعالى : (فَاحْتَمَلَ

__________________

(١) أخرجه الطبري بمعناه في جامع البيان : الأثر (١٥٤١٣) عن مجاهد.

١٣

السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) أي عاليا مرتفعا على الماء ، والسّيل ما يسيل من الموضع المرتفع.

قوله تعالى : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ ؛) أي ومما تطرحون في النار من الذهب والفضّة لطلب حلية تلبسونها زبد ؛ أي خبث مثل زبد الماء. قوله تعالى : (أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ؛) أراد به الحديد والرصاص وما يشاكله مما يوقد عليه في النار ؛ لاتّخاذ المتاع له زبد ؛ أي خبث مثل ذلك الماء.

قوله تعالى : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ ؛) أي هكذا يضرب الله مثل الحقّ والباطل ، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ؛) أما زبد هذه الأشياء ، فيذهب ناحية لا ينتفع به ، فإن زبد الماء يتعلّق بأصول الأشجار وجنبات الوادي. والجفاء : ما رمى به الوادي ، وجفاه في جنباته ، يقال : أجفأت القدر زبدها إذا قذفت به ، وكما أنّ زبد الماء يذهب بحيث لا ينتفع به ، كذلك خبث الذهب والفضة والحديد ، (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.)

قوله تعالى : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (١٧) ؛ للناس في أمر دينهم ، كما ضرب لكم المثل ، قال قتادة : (هنّ ثلاثة أمثال ضربها الله في مثل واحد ، يقول : كما أنزل الله من السّماء ماء ، فسالت أودية بقدرها ، الصّغير على الصّغير على مقداره ، والكبير على مقداره ، كذلك أنزل الله القرآن ، فاحتمل القلوب على قدرها ، ذا اليقين على قدر يقينه ، وذا الشّكّ على قدر شكّه).

قال : (ثمّ شبّه خطرات ووساوس الشّيطان بالزّبد يعلو على الماء ، وذلك من خبث البرّيّة لا عين الماء ، كذلك ما يقع في النّفس من وهم وشكّ فهو ذات النّفس لا من الحقّ).

قال : (ثمّ بيّن أنّ الزّبد يذهب جفاء ؛ أي هباء باطلا ويبقى صفو الماء ، كذلك يبطل الشّكّ وسوء الخطرات ويبقى الجوف كما هو ، وكذلك ما يوقد عليه في النّار لمنافع النّاس يبطل زبده وخبثه ويبقى خالصه وصفوه ، كذلك الباطل يذهب ويبقى الحقّ) (١).

__________________

(١) ينظر : جامع البيان : الأثر (١٥٤٢١).

١٤

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى ؛) فيه بيان الذي يبقى مما تقدّم ذكره فهو مثل لمن يستجيب لربه ، والذي يذهب جفاء هو مثل لمن لا يستجيب. والمراد ب (الحسنى) في الآية الجنّة ونعيمها.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ ؛) أي الذين لم يستجيبوا لربهم إلى الإيمان ، (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ؛) من الذهب وسائر الأموال ، (وَمِثْلَهُ مَعَهُ ؛) وضعفه معه ، (لَافْتَدَوْا بِهِ ؛) لفادوا به أنفسهم من عذاب الله يوم القيامة لو قبل منهم ذلك ولكن لا يقبل.

قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ ؛) أي شدّته ، والمناقشة فيه ، قال إبراهيم النخعي : (هو أن يؤاخذوا بذنوبهم كلّها من دون أن يغفر لهم شيء منها) (١). قوله تعالى : (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ؛) أي مصيرهم في الآخرة جهنّم ، (وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٨) ؛ أي المأوى ، يتقلّبون في النار ويقعدون ويضطجعون عليها.

قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) معناه : أفمن يعلم إنما أنزل إليك من القرآن أنه الحقّ فآمن به ، كمن هو كافر يعلم قوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١٩) ؛ أي ذوو العقول.

ثم وصفهم فقال : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) (٢٠) يريد بالعهد الذين عاهدتم عليه في صلب آدم. قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ؛) قيل : المراد به مواصلة المؤمنين فيما بينهم بالموالاة وصلة الرّحم بالبرّ والشّفقة ، وقيل : أراد بذلك الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجميع الرسل ، (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ؛) أي عقاب ربهم ، (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) (٢١) ؛ أي يخافون أن يؤاخذوا بالعقاب.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ؛) معطوف على قوله (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) ومعناه : الذين صبروا على أداء الفرائض واجتناب المحارم

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٥٤٢٨).

١٥

ومقاساة شدائد الدّنيا لطلب ثواب الله ورضاه ، (وَأَقامُوا الصَّلاةَ ؛) المفروضة ، (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ؛) أي أخرجوا من أموالهم جميعا الصّدقات المفروضات خفية وجهرا.

قوله تعالى : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ،) وإنما يكون درؤهم بالحسنة السيئة على وجهين ، أحدهما : العلم والوعظ بالكلام الحسن ، والثاني : أن يقاتلوهم ويقبضوا على أيديهم.

قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٢) ؛ أي أهل هذه الصّفة لهم الدار التي أعقبتها لهم أعمالهم وهي الجنّة. ثم بيّن الله صفة الجنة فقال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ؛) قال ابن عبّاس : (وهي وسط الجنّة ، وهي معدن الأنبياء والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين).

قوله تعالى : (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ؛) أي ويدخلها من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّياتهم ، (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) (٢٣) يعني من أبواب البساتين يقولون لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) على شدائد الدّنيا ، وعلى المشقّة في طاعة الله ، فنعم الدار التي أعقبتها لهم أعمالهم ، قال ابن عبّاس : (لكلّ واحد من أهل جنّات عدن جنّة من درّة مجوّفة لها ألف باب مصراعه من الذهب ، يدخل عليه من كلّ باب ملك يقولون : سلام عليكم بما صبرتم ، (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٤).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ؛) أي الذين يتركون فرائض الله من بعد تأكيد العهد عليهم ، (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ؛) بالظّلم والدعاء إلى غير عبادة الله ، (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ؛) أي ما يبعدهم من رحمة الله ، (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٢٥) ؛ وهو النار في الآخرة ، وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [أعجل الخير ثوابا صلة الرّحم ، وأعجل الشّرّ عقابا البغي واليمين الغموس تدع الدّيار بلاقع](١).

__________________

(١) ذكره أهل اللغة في غريب الحديث ، ينظر : كتاب الغريبين للهروي : (بلقع).

١٦

قوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ؛) أي يوسّع الرزق في الدّنيا على من يشاء ، ويضيّق على من يشاء ، (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) يعني مشركي مكّة أشروا وبطروا ، (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي ؛) جنب نعيم ، (الْآخِرَةِ إِلَّا ؛) شيء قليل ، (مَتاعٌ) (٢٦) ؛ كمتاع يتمتّع به ثم يفنى ويذهب ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [وما الدّنيا في الآخرة إلّا كمثل ما جعل أحدكم إصبعه في اليمّ ، فلينظر بم يرجع].

قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ؛) أي يقولون على جهة التّعنّت : (لَوْ لا ؛) هلّا ، (أُنْزِلَ عَلَيْهِ ؛) على محمّد ، (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ؛) يعني الآيات التي يقترحونها عليه ، (قُلْ) يا محمّد : (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) عن ثوابه وكرامته ، (وَيَهْدِي ،) لدينه من أقبل ، (إِلَيْهِ ؛) إلى الله و ، (مَنْ أَنابَ) (٢٧) ؛ رجع عن الكفر.

قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ؛) معناه : الذين آمنوا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، تسكن قلوبهم إلى ما وعدهم الله به من ثواب ، (أَلا بِذِكْرِ ؛) بوعد الله ، (اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢٨).

قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ ،) أي لهم العيش الطيّب والكرامة والغبطة ، (وَحُسْنُ مَآبٍ) (٢٩) ؛ حسن المرجع ، وقال مجاهد : (طوبى اسم الجنّة بلغة الحبشة) ، وعن أبي هريرة : (اسم شجرة في الجنّة ساقها من ذهب ، وورقها الحلل ، وثمرها من كلّ لون وأغصانها متدلّية في الجنّة ، ليس منزل إلّا وفيه غصن من أغصانها ، وتحته كثبان المسك والعنبر والزّعفران ، لو ركب رجل قلوصا ، ثمّ دار بالشّجرة لم يبلغ المكان الّذي ارتحل منه حتّى يموت القلوص هرما).

قوله تعالى : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ ؛) أي هكذا أرسلناك إلى أمّة قد مضت من قبلها أمم أرسلنا فيهم الرّسل ، (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ؛) يعني القرآن ، (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ ؛) يعني أهل مكّة فإنّهم كانوا يقولون ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة ، وكانوا يسمّونه رحمان اليمامة.

١٧

قوله تعالى : (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ؛) قل لهم : الرّحمن ربي لا إله إلا هو ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) (٢٠) ؛ أي وإليه أتوب من ذنوبي.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ؛) وذلك أنّ عبد الله بن أمية المخزومي ، وجماعة من كفّار مكة قالوا : يا محمّد سيّر لنا جبال مكّة ، فأذهبها حتى تنفسح فيها فإن أرضنا ضيّقة ، ثم اجعل لنا فيها عيونا وأنهارا ، وقرّب أسفارنا فيما بيننا وبين الشّام فإن السفر بعيد ، وافعل كما فعل سليمان بالرياح بزعمك ، فأنزل الله هذه الآية.

ومعناها : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ) اذهبت به الجبال عن وجه الأرض قطّعت به الأرض مسيرة شهر في يوم أو أحيي به الموتى فتكلّموا ، لكان هذا القرآن لما فيه من الدّلالات الكثيرة على صحّة هذا الدّين ، ولو أمكن أن نجعل هذه الأمور لشيء من كتب الله لأمكن بهذا القرآن.

وأما حذف جواب (لَوْ) في هذه الآية فهي على وجه الاختصار ؛ لأنّ في الكلام دليلا عليه. قوله تعالى : (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً ؛) أي بل الله هو المالك لهذه الأشياء ، القادر عليها ، ولكن لا يختار إلا ما فيه مصلحة العباد.

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا ؛) معناه : أفلم يعلم الذين آمنوا ، (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ؛) إلى الإيمان بالإلجاء إليه أن الله تعالى قادر على ذلك ، ولكن لو فعل لبطل الامتحان والتكليف ، والإياس بمعنى العلم في لغة النخع (١).

قوله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ ؛) أي ولا يزال الذين كفروا في عقوبات من قبل الله يزجرهم عن الكفر ، ويحثّهم على التمسّك بدين الله ، كما نزل بقريش من القحط ، وبقوم فرعون من الشدائد.

__________________

(١) في معاني القرآن : ج ٢ ص ٦٤ ؛ قال الفراء : (وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ؛ قال : ييأس في معنى يعلم ، لغة للنخع). وأخرجه الطبري من وجه في جامع البيان : الأثر (١٥٤٩٠) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

١٨

قوله تعالى : (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ ؛) راجع إلى القارعة ، والقارعة : هي النّازلة والشدائد التي تنزل بأمر عظيم ، ويقال : أراد بالقارعة سرايا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبقوله (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً) معناه : أو تنزل أنت يا محمّد مع أصحابك قريبا من مكّة تقاتلهم على الدّين ، (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ ؛) أي وقت إهلاك الكفّار ، وقيل : فتح مكّة ، وقيل : ما وعد الله من عذابهم في الآخرة ، (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٢١) ؛ ما وعد من عقاب الكفار.

قوله تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ؛) أي ولقد استهزئ بالأنبياء من قبلك كما استهزأ بك قومك ، (فَأَمْلَيْتُ) فأمهلت ، (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بعد استهزائهم بالرّسل ، (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بذنوبهم ، (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٣٢) فانظر كيف كان عاقبة ما حلّ من عقاب الله بهم ، فلا يكن في صدرك حرج من استهزائهم.

قوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ؛) بالتدبير ويعلم ما كسبت ويجازيها عليه ، كمن لا يعلم ذلك ولا يقدر على المجازاة.

قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ ؛) في العبادة بين الأصنام ، (قُلْ سَمُّوهُمْ ؛) هؤلاء الشّركاء بأسمائهم التي تستحقّها ، وسمّوا منفعتها وتدبيرها ؛ لأن لها شركة مع الله ، كما يوصف الله بالخالق والرازق والمحيي والمميت.

قوله تعالى : (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ ؛) أي أتخبرون الله بما لا يصحّ أن يكون معلوما وهو كون الأصنام مستحقّة للعبادة ، وهذا على وجه الإنكار ، وقوله تعالى : (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ ؛) إنكار أيضا معناه : أسمّيتم الأصنام آلهة بظاهر كتاب من كتب الله ، وقيل : أسمّيتموهم آلهة بحجّة ظاهرة ، بل سمّيتموهم بقول باطل ليس لكم دليل عليه.

قوله تعالى : (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ ؛) أي زيّن لهم قولهم وفعلهم في عبادة غير الله ، وتكذيب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن. قوله تعالى : (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ؛) من قرأ بفتح الصّاد فالمعنى صرفوا الناس عن دين الله ، ومن قرأ

١٩

برفعها فالمعنى صدّهم رؤساؤهم عن دين الله. قوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣٣) ؛ ظاهر المعنى.

قوله تعالى : (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ؛) الأسقام والقتل والأسر ، (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ؛) أي أغلظ من عذاب الدّنيا ، (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) (٣٤) ؛ يقيهم من عذاب الله.

قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها ؛) أي صفة الجنة التي وعد المتّقون الكفر والمعاصي : أنّها تجري من تحتها الأنهار ، ثمرها دائم ، لا كجنان الدّنيا تظهر بظهور ورقها في حال دون حال ، وظلّها أيضا دائم ليس فيه شمس ولا أذى.

قوله تعالى : (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا ؛) أي دار المتّقين الجنة في العاقبة ، (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) (٣٥) ، ودار الكافرين في العاقبة النار ، وفي الحديث : [أنّ الرّجل من أهل الجنّة تقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدّنيا ، فإذا أكل سقي شرابا طهورا ، فتصير رشحا تخرج من جسده أطيب من ريح المسك ، ثمّ تعود شهوته إلى ما كانت](١).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ؛) وذلك أن عبد الله بن سلام ، ومن أسلم معه من أهل الكتاب ، قالوا : يا رسول الله ؛ ما شأن ذكر الرّحمن في القرآن قليل وهو في التّوراة كثير؟ فنزل (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ)(٢) ونزل (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من ذكر الرّحمن وغير ذلك.

قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ؛) أي ومن اليهود والنصارى من ينكر بعض «ما في» القرآن ، وإنّهم كانوا يقرّون بصحّة «قصة» يوسف

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٤ ص ٣٧١ عن زيد بن أرقم رضي الله عنه يقول : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... وذكره.

(٢) الاسراء / ١١٠.

٢٠