التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

إيمانه من آل فرعون.

وقوله تعالى : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) أي لأن يقول ربي الله ، وقد جاءكم بالبيّنات من ربكم بما يدلّ على صدقه من المعجزات ، (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ؛) لا يضرّكم ذلك ، (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ؛) أي يصبكم كلّ الذي يعدكم من العذاب إن قتلتموه وهو صادق.

والمراد بالبعض الكلّ في هذه الآية ، وقال الليث : (بعض ههنا زائدة ؛ أي يصبكم الّذي يعدكم) ، وقال أهل المعاني : هذا على المظاهرة في الحجاج ، كأنه قال لهم : أقلّ ما يكون في صدقه أن يصبكم بعض الذي يعدكم وفي بعض ذلك هلاككم) (١) ، فذكر البعض ليوجب الكلّ ، ويدلّ على ذكر البعض بمعنى الكلّ ، قال لبيد :

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يعتلق (٢) بعض النّفوس حمامها (٣)

أراد كلّ النّفوس ، ومثل قول الآخر (٤) :

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزّلل

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (٢٨) ؛ أي لا يهديه في الآخرة إلى جنّته وثوابه. والمسرف : هو المتجاوز عن الحدّ في المعصية.

قوله تعالى : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ؛) أي قال لهم الرجل المؤمن على وجه النّصيحة لهم : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ) أي غالبين مستعلين في أرض مصر ، (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا ؛) أي فمن يمنعنا من عذاب الله إن جاءنا ، (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى ؛) أي ما

__________________

ـ الّذي أنذر موسى عليه‌السلام) ، وقال ابن المنذر : (أخبرت أنّ اسمه حزقيل).

(١) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٢٨١.

(٢) يروى : (يرتبط) بدل (يعتلق) كما في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٣٠٧.

(٣) لبيد العامري (؟ ـ ٤١ ه‍) ، شاعر مخضرم ، أدرك النبي وأسلم.

(٤) هو عمرو بن شييم ، الشهير ب (القطامي) لقبا. ينظر : معاني القرآن للزجاج : ج ٤ ص ٢٨١.

٤٠١

أشير عليكم إلّا ما أراه حقّا من الصواب في أمر موسى ، (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) (٢٩) ؛ أي ما أعرّفكم إلّا طريق الهدى.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) (٣٠) ، معناه : وقال لهم الرجل المؤمن : إنّي أخاف عليكم في قتله وترك الإيمان به أن ينزل بكم من العذاب ، (مِثْلَ دَأْبِ) ، مثلما نزل بالأمم الماضية قبلكم حين كذبوا رسلهم ، (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ). وقوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٣١) ؛ أي لا يعاقب أحدا بلا جرم.

قوله تعالى : (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) (٣٢) ؛ يعني يوم القيامة ينادى فيه كلّ أناس بإمامهم ، وينادي فيه أهل النار أهل الجنة ، وأهل الجنة أهل النار ، وينادى فيه بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء ، وأصله : يوم التّنادي بإثبات الياء كما في التّناجي والتّقاضي ، إلّا أنّ الياء حذفت منه كما حذف من قوله تعالى (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ)(١) وشبه ذلك.

وقيل : سمّي يوم التّنادي ؛ لأنّ الكفّار ينادون فيه على أنفسهم بالويل والثّبور ، كما قال تعالى (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً)(٢) ، وقيل في معنى ذلك : أنه ينادي المنادي ألا أنّ فلان بن فلان سعد سعادة لا شقاوة بعدها أبدا ، وينادي : ألا إنّ فلان بن فلان شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبدا.

وقرأ الحسن : (يوم التّنادي) بإثبات الياء على الأصل (٣). وقرأ ابن عبّاس : (يوم التّنادّي) بتشديد الدال على معنى يوم التنافر ، وذلك إذا هربوا فندّوا في الأرض كما يندّ الإبل إذا شردت على أصحابها.

قال الضحاك : (إذا سمعوا بزفير النّار نادوا هربا ، فلا يأتوه قطرا من الأقطار إلّا وجدوا ملائكة صفوفا ، فيرجعون إلى المكان الّذي كانوا فيه ، فذلك قوله تعالى

__________________

(١) القمر / ٦.

(٢) الفرقان / ١٤.

(٣) نقله الفراء في معاني القرآن : ج ٣ ص ٦. والزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٢٨٢.

٤٠٢

(يوم التّناد) (١) ، وقوله تعالى : (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ)(٢).

وقوله تعالى : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ؛) أي منصرفين عن موقف الحساب إلى النار ، (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ؛) أي مانع يمنعكم من عذابه ، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣٣).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ؛) أي جاءكم يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالدّلالات ظاهرة على وحدانيّة الله تعالى (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)(٣). وقيل : معنى قوله (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل المؤمن.

وقوله تعالى : (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ ؛) أي في شكّ من عبادة الله وحده ، (حَتَّى إِذا هَلَكَ) ، حتى إذا مات ، (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً ؛) يأمرنا وينهانا ، (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ ؛) هكذا يهلك الله من هو متجاوز عن الحدّ ، (مُرْتابٌ) (٣٤) ؛ أي شاكّ في توحيد الله وصدق أنبيائه.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ؛) قال الزجّاج : (هذا تفسير المسرف المرتاب) على معنى هم الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان بالإبطال والتكذيب والطّعن بغير حجّة أتتهم ، (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ؛) أي عظم جدالهم بغضا وسخطا عند الله وعند الذين آمنوا ، (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ ؛) أي هكذا يختم الله بالكفر ، (عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ ؛) عن الإيمان ، (جَبَّارٍ) (٣٥) ؛ للناس على «ما» (٤) يريد.

__________________

(١) نقله الفراء عن الضحاك في معاني القرآن : ج ٣ ص ٨. وأصله أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٣٩٣).

(٢) الرحمن / ٣٣.

(٣) يوسف / ٣٩.

(٤) (ما) سقطت من المخطوط.

٤٠٣

قال ابن عبّاس : (يختم على قلوبهم فلا يسمعون الهدى ولا يعقلون الرّشاد) وقرئ (على كلّ قلب) بالتنوين ، وقال الزجاج : (الوجه الإضافة لأنّ المتكبر هو الإنسان) (١).

قوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ؛) أي قال لوزيره هامان : ابن لي قصرا منيفا مشيّدا بالآجرّ (٢) ، قال في موضع آخر : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً)(٣) وكان هامان هو أوّل من استعمل الآجرّ لبناء الصّرح ، ولكن كره بناء القبور بالآجرّ.

قوله تعالى : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ) ؛ الطريق للسّموات ، والسّبب في الحقيقة : كلّ ما يوصلك إلى الشيء ، ولذلك سمي الجبل سببا. وقال بعضهم : أسباب السّموات طبقاتها.

قوله تعالى : (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى ؛) ظنّ فرعون بجهله أنّ إله موسى مما يرقى إليه ، قوله تعالى : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) ، أي إني لأظن موسى كاذبا فيما يقول إنّ له ربّا في السّماء ، ولما قال موسى : ربّ السّموات ، فظنّ فرعون بجهله واعتقاده الباطل أنه لمّا لم ير في الأرض أنه في السماء ، فرام الصعود إلى السّماء لرؤية إله موسى. وقيل : معناه : وإني لأظنّ موسى كاذبا فيما يقول أنّ له ربّا غيري أرسله إلينا.

وقرأ الأعرج (٤)(فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) بنصب العين على جواب (لَعَلِّي) بالفاء على معنى إنّي إذا بلغت اطّلعت ، وقرأه العامة (فأطّلع) عطفا على قوله تعالى :

__________________

(١) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٢٨٣.

(٢) الآجر : الذي يبنى به. وأصله فارسي معرّب. مختار الصحاح : ص ٧.

(٣) القصص / ٣٨.

(٤) هو حميد بن أبي حكيم المروزي الأعرج ، من أهل مرو ، روى عني يحيى بن يعمر ـ تابعي روى عن عثمان وعلي وغيرهما من الصحابة ـ وثقة ابن حبان في (الثقات) : ج ٣ ص ٢٨٥ : الرقم (٨٤٢). وترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب : الرقم (١٦٠٠).

٤٠٤

(وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ ؛) أي كذا حسّن له قبح عمله ، زيّن له الشيطان جهله ، ومن قرأ (زيّن) بفتح الزاي على أنّ المعاصي يدعو بعضها إلى بعض.

وقوله تعالى : (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ؛) أي صدّ غيره عن الهدى ، ويحتمل أنه صدّ عن السبيل بنفسه ، و (صُدَّ) بضم الصاد أي منع عن سبيل الحقّ ، (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) (٣٧) ؛ أي في خسار وهلاك.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) (٣٨) ؛ أي قال الرجل المؤمن من آل فرعون : يا قوم اتّبعوني على ديني أحملكم على طريق السّداد والهدى ، (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ ؛) أي مشقّة يسيرة تنقطع ، (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) (٣٩) ؛ فلا تزول ؛ أي هي المحلّ الذي يقع فيه الاستقرار.

قوله : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً) ، يعني الشّرك ، (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ؛) فلا يجزى إلّا مثلها في العظم ، معنى النار ، (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً ؛) أي طاعة ، (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ؛) مخلص ، قال ابن عبّاس : (يعني قول لا إله إلّا الله) (١)(فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) (٤٠) ؛ أي بما لا يعرف له مقدار.

قوله تعالى : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) (٤١) ؛ أي قال لهم الرجل المؤمن : يا قوم ما لي أدعوكم إلى سبب النّجاة ، (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ) ، وتدعونني إلى عمل أهل النّار وهو الشّرك. وقوله تعالى : (وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ؛) أي من لا أعرف له ربوبيّته ، (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ ؛) أي الغالب المنتقم ممن عصاه ، (الْغَفَّارِ) (٤٢) ؛ لمن تاب وآمن.

قوله تعالى : (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ ؛) يعني قوله (لا جَرَمَ) أي حقّا أنّ ما تدعونني إليه من المعبودين دون الله

__________________

(١) نقله القرطبي أيضا في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٣١٧.

٤٠٥

ليس له دعوة في الدّنيا ولا في الآخرة ، قال السديّ : (معناه : لا يستجيب لأحد في الدّنيا ولا في الآخرة) (١) ، والتقدير : ليس له استجابة دعوة. قوله تعالى : (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ ؛) أي وإنّ مرجعنا إليه في الآخرة ، يفصل بين المحقّ والمبطل ، (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ ؛) أي وإنّ المتجاوزين عن الحدّ في الكفر وسفك الدماء بغير الحقّ ، (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٤٣).

قوله تعالى : (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ ؛) أي فستذكرون هذا الذي أقول لكم في الدّنيا من النّصيحة إذا نزل بكم العذاب في الآخرة ، في حين لا ينفعكم الذّكر عليه ، (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ ؛) أي وأترك أمر نفسي إلى الله فأثق به ولا أشتغل بكم ، (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٤٤) ؛ أي بأوليائه وأعدائه.

قوله تعالى : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا ؛) وذلك أنّ فرعون أراد أن يقتله فهرب منهم ، فلم يقدروا عليه ، ودفع الله عنه غائلة مكرهم ، (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) (٤٥) ؛ أي نزل بفرعون وقومه أشدّ العذاب ، قال الكلبيّ : (غرقوا في البحر ودخلوا النّار) والمعنى : وحاق بآل فرعون سوء العذاب ، في الدّنيا الغرق ، وفي الآخرة النار ، فذلك قوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ؛) ارتفاع (النَّارُ) على البدل من (سُوءُ الْعَذابِ).

قوله تعالى : (يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) أي صباحا ومساء ، يقال لهم : يا آل فرعون هذه منازلكم ، توبيخا ونقمة ، قال ابن مسعود : (إنّ أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يعرضون على النّار كلّ يوم مرّتين) (٢) ، وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ ، إن كان من أهل الجنّة

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٤١٦) عن السدي ، وأسقطه الناسخ هناك ، وأثبته ابن كثير في التفسير : ج ٤ ص ٨٢ : (قال السدي : لا يجيب داعية لا في الدنيا ولا في الآخرة).

(٢) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٢٩١ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن مسعود رضي الله عنه) وذكره. وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٨٤٣٥).

٤٠٦

فمن «أهل» الجنّة ، وإن كان من أهل النّار فمن «أهل» النّار ، يقال : هذا مقعدك حتّى يبعثك الله يوم القيامة](١).

وقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٦) قرأ نافع والكوفيّون بقطع الألف وكسر الخاء ؛ أي يقال للملائكة : أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب ، وهو الدّرك الأسفل من النار ، وقرأ الباقون بضمّ الخاء ووصل الألف على الأمر لهم بالدخول.

قوله تعالى : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) (٤٧) ؛ أي واذكر يا محمّد لقومك : إذ يختصم أهل النار في النار ، وباقي الآية مفسّر في سورة إبراهيم عليه‌السلام.

وقوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها ؛) أي إنا نحن وأنتم قد استوينا في العذاب ، (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) (٤٨) ؛ أي قضى بهذا علينا وعليكم وحكم أن لا يتحمل أحد عذاب أحد.

فلما رأوا شدّة العذاب ، (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ) ، قالوا ، (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) (٤٩) ؛ أي يهوّن عنّا العذاب قدر يوم من أيّام الدّنيا ، (قالُوا) ، فيقول الزبانية : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ ؛) أي بالدّلالات الظاهرة على وحدانيّة الله ، (قالُوا بَلى) ، فيقولون : بلى قد أتتنا الرسل ، (قالُوا) ، فتقول لهم الزبانية : (فَادْعُوا) ، أنتم فإنّ الله تعالى لم يأذن لنا في الدّنيا ، (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (٥٠) ؛ أي في ضياع لا ينفعهم.

قوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ؛ أي إنا لنعين الرسل والمؤمنين على أعدائهم في الدّنيا بالاستعلاء عليهم بالحجّة

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الجنائز : باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي : الحديث (١٣٧٩). ومسلم في الصحيح : كتاب الجنة وصفة نعيمها : الحديث (٦٥ / ٢٨٦٦).

٤٠٧

وبالغلبة عليهم في المحاربة ، ونعينهم ، (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٥١) ؛ بإعلاء كلمتهم وإظهار منزلتهم ، والمعنى : ويوم القيامة تقوم الحفظة من الملائكة يشهدون للرّسل بالتبليغ ، وعلى الكفّار بالتكذيب.

وواحد الأشهاد : شاهد ، مثل صاحب وأصحاب ، وطائر وأطيار ، والمراد من الأشهاد الأنبياء والملائكة والمؤمنون والجوارح والمكان والزمان ، يشهدون بالحقّ لأهله ، وعلى المبطل بفعله ، (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ؛) أي إن اعتذروا من كفرهم لم يقبل منهم ، وإن تابوا لم تنفعهم التوبة ، (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ؛) أي البعد من الرحمة ، (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٥٢) ؛ يعني جهنّم سوء المنقلب.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ؛) من الضّلالة يعني التوبة ، وقيل : معناه : ولقد أعطينا موسى الدّين المستقيم ، (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) (٥٣) ، ونزّلنا على بني إسرائيل التوراة والإنجيل والزّبور (هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٥٤) ؛ هدى من الضّلالة وعظة لذوي العقول ، (فَاصْبِرْ) ، يا محمّد على أذى الكفّار كما صبر الرسل قبلك ، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) ، في نصرتك وإظهار دينك صدق كائن ، (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ؛) يعني الصغائر ؛ لأن أحدا من البشر لا يخلو من الصغائر وإن عصم من الكبائر.

وقيل : معناه : واستغفر لذنوب أمّتك ، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ؛) أي نزّهه عن كلّ صفة لا تليق به ، واحمده على كلّ نعمة. ويجوز أن يكون المراد بالتسبيح في الآية من قوله : (بِالْعَشِيِّ ؛) الصّلوات الخمس وقت ما بعد الزّوال إلى وقت العشاء الآخرة ، ومن قوله : (وَالْإِبْكارِ) (٥٥) ؛ صلاة الفجر. والمعنى : صلّ لربك شاكرا لربك بالعشيّ والإبكار.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ؛) وذلك أن اليهود كانوا يجادلون في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رفع القرآن ، وكانوا يقولون له : صاحبنا المسيح بن داود ، يعنون الدجّال يخرج في آخر الزمان فيبلغ سلطان البرّ والبحر ، ويردّ الملك إلينا وتسير معه الأنهار ، وهو آية من آيات الله! ويعظّمون أمر الدجّال ، فأنزل الله هذه الآية.

٤٠٨

ومعناه : إنّ الذين يخاصمون بغير حجّة أتتهم ، (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ؛) أي ما في قلوبهم إلّا عظمة عن قبول الحقّ لحسدهم ، ما هم ببالغي تلك العظمة التي في قلوبهم لأنّ الله تعالى مذلّهم ، فلا يصلون إلى دفع من آيات الله.

قال ابن عبّاس : (والمعنى : ما يحملهم على تكذيبك إلّا ما في صدورهم من العظمة ما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر لأنّ الله مذلّهم) (١). وقال ابن قتيبة : (إنّ في صدورهم إلّا تكبّر على محمّد ، وطمع أن يصلوه وما هم ببالغي ذلك ، فاستعذ بالله يا محمّد من الكبر ومن شرّ اليهود ومن شرّ الدّجّال ومن كلّ ما تجب الاستعاذة منه) (٢) ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٥٦) ؛ بهم وبأعمالهم.

وقوله تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ؛) أي هذا أكبر من خلق بغير عمد وجريان الأفلاك بالكواكب فيه أعظم في النفس وأهول في الصدر من خلق الناس ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ ؛) الكفار ، (لا يَعْلَمُونَ) (٥٧) ؛ حين لا يستدلّون بذلك على توحيد خالقهما وقدرته على ما هو أعظم من خلق الدجّال ، وعلى أن يمنع المسلمين من غلبته عليهم.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [إنّ قبل خروج الدّجّال ثلاث سنين ، أوّل سنة تمسك السّماء ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها ، والثّانية تمسك ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها ، وفي السّنة الثّالثة تمسك السّماء ما فيها والأرض وما فيها ، ويهلك كلّ ذات ظلف وضرس](٣).

وعن أبي أمامة الباهليّ قال : (خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم ، فكان أكثر خطبته أن يحدّثنا عن الدّجّال ويحذّرنا ، فكان من قوله : [أيّها النّاس ؛ إنّه لم تكن فتنة في الأرض أعظم من فتنة الدّجّال ، إنّ الله تعالى لم يبعث نبيّا إلّا حذر أمّته منه ، وأنا

__________________

(١) نقله البغوي أيضا في معالم التنزيل : ص ١١٤٢.

(٢) نقله عنه البغوي أيضا في معالم التنزيل : ص ١١٤٢.

(٣) أخرجه البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٤٢ بإسناده عن أسماء بنت يزيد الأنصارية.

٤٠٩

آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم ، وهو خارج فيكم لا محالة ، فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيج كلّ مسلم ، وإن يخرج بعدي فكلّ امرئ حجيج نفسه ، والله تعالى خليفتي على كلّ مسلم.

أنّه يخرج بين جبلين بين العراق والشّام يعيث يمينا ويعيث شمالا ، فيا عباد الله اثبتوا ، فإنّه يبدأ فيقول : أنا نبيّ ولا نبيّ بعدي! ثمّ يثني ويقول : أنا ربّكم! ولن تروا ربّكم حتّى تموتوا ، وإنّه أعور وليس ربّكم بأعور ، وإنّه مكتوب بين عينيه : كافر ، يقرؤه كلّ مؤمن ، فمن لقيه منكم فليتفل في وجهه.

وإنّ من فتنته أنّ معه جنّة ونار ، فناره جنّة وجنّته نار ، فمن ابتلي بناره فليقرأ فواتح سورة الكهف ويستغيث بالله ، فتكون عليه بردا وسلاما ، وإنّ من فتنته أنّ معه شياطين يتمثّل كلّ واحد منهم على صورة إنسان ، فيأتي الأعرابيّ فيقول له : إذا بعثت أباك وأمّك وأهلك تشهد أنّي ربّك؟ فيقول : نعم ، فيتمثّل له شياطينه على صوت أبيه وأمّه ، فيقولان له : يا بنيّ اتّبعه فإنّه ربّك ، ومن فتنته أن يسلّط على نفس فيقتلها ، ثمّ يحييها الله بعد ذلك ، فيقول الدّجّال : انظروا إلى عبدي هذا ، فإنّي بعثته الآن ويزعم أنّ له ربّا غيري]) (١).

قال مقاتل : (إنّ الرّجل الّذي يسلّط عليه الدّجّال رجل من جشعم ، فيقتله ثمّ يبعثه الله تعالى ، فيقول له الدّجّال : من ربّك؟ فيقول : الله ربي وإنّك الدّجّال عدوّ الله).

[وإنّ من فتنته يقول للأعرابيّ : أرأيت إن بعثت لك أبيك وأمّك أتشهد أنّي ربّك؟ فيقول : نعم ، فيتمثّل له شياطينه على صورة أبيه وأمّه. وإنّ أيّامه أربعين يوما ،

__________________

(١) الحديث لم أقف عليه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ، وهو حديث مشهور بألفاظ عديدة وأسانيد عديدة. وأصله عن أبي هريرة وجابر وأبي سعيد وغيرهم كثير رضي الله عنهم جميعا. ومن هذه الأسانيد ، أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب الجائز : الحديث (١٣٥٤ و١٣٥٥) ، وكتاب الأنبياء : الحديث (٣٣٣٧) ، وكتاب الجهاد : الحديث (٣٠٥٥). ومسلم في الصحيح : كتاب الفتن وأشراط الساعة : الحديث (١١٢ / ٢٩٣٨).

٤١٠

فيوم كالسّنة ، ويوم دون ذلك ، ويوم كالشّهر ، ويوم دون ذلك ، ويوم كالجمعة ، ويوم دون ذلك ، وآخر أيّامه كالشّرفة ، فيصبح الرّجل بباب المدينة فلا يبلغ بابها حتّى تغرب الشّمس].

قالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف نصلّي في تلك الأيّام القصار؟ قال : [تقدرون فيها كما تقدرون في هذه الأيّام الطّوال ، فلا يبقى شيء من الأرض إلّا وطئه الرّجل وغلب عليه ، إلّا مكّة والمدينة فإنّه لا يأتيهما ، ويكون إمام النّاس يومئذ بالمدينة رجلا صالحا ، فيقال له : صلّ الصّبح ، فإذا كبّر ودخل في الصّلاة ونزل عيسى عليه‌السلام ، فإذا رآه ذلك الرّجل عرفه فيتأخّر ليتقدّم عيسى ، فيضع عيسى يده بين كتفيه ويقول له : صلّ قائما ، أقيمت لك الصّلاة.

فيصلّي عيسى وراءه ثمّ يقول : افتحوا الباب ، فيفتح باب المدينة ، ومع الدّجّال يومئذ سبعون ألف يهوديّ كلّهم ذوو سلاح وسيف محلا ، فإذا نظر الدّجّال إلى عيسى ذاب كما ذاب الرّصاص من النّار والملح في الماء ، فيقول له عيسى : إنّ لي فيك ضربة لن تفوتني بها ، فيدركه عند باب كذا الشّرقيّ وهو باب قتيلة ، فلا يبقى شيء ممّا خلق الله يتوارى به يهوديّ إلّا أنطق الله ذلك الشّيء ، فلا شجر ولا حجر ولا دابّة إلّا قالت : يا عبد الله المسلم هذا كافر فاقتله.

ويكون عيسى عليه‌السلام حكما عدلا وإماما مقسطا ، فيدقّ الصّليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ، وترفع الشّحناء والتّباغض ، وترفع حمة (١) كلّ دابّة حتّى يدخل الصّبيّ يده فم الحنش (٢) فلا يضرّه ، ويلقى الإنسان الأسد فلا يضرّه ، ويكون الأسد في الإبل كأنّه كلبها ، ويكون الذّئب في الغنم كأنّه كلبها ، ويملأ الأرض إسلاما (٣) ، ويسلب الكفّار ملكهم ، ولا يكون الملك إلّا للمسلمين ، ويبارك في الأرزاق حتّى أنّ

__________________

(١) حمة العقرب : سمّها وضرّها.

(٢) الحنش : كلّ ما يصاد من الطّير والهوام ، والجمع (الأحناش). والحنش أيضا : الحيّة ، وقيل : الأفعى.

(٣) هكذا في المخطوط : (إسلاما).

٤١١

النّفر يجتمعون على رمّانة واحدة ، ويكون الفرس بدرهمين](١) وبالله التّوفيق).

قوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ؛) أي فكما لا يستويان فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر في الآخرة في الجزاء بالعذاب والنّعيم ، وباقي الآيتين : (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (٥٩) ظاهر المعنى.

قوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ؛) أدعوني ووحّدوني في الدّنيا أقبل منكم وأستمع دعاءكم ، (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي ؛) إنّ الذين يتعظّمون عن طاعتي وعن المسألة مني ، (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٦٠) ؛ أي صاغرون ذليلون ، والدّاخر : هو الذليل الصّاغر ، قال حسّان :

قتلنا من وجدنا يوم بدر

وجئنا بالأسارى داخرا

قرأ ابن كثير (سيدخلون) بضمّ الياء وفتح الخاء (٢).

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً ؛) أي تبصرون فيه لطلب المعاش ، (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (٦١) ؛ نعم الله ، (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ؛) ومبتدعه ، لا معبود سواه ، فلا ينبغي لأحد أن يدعو مخلوقا مثله ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٦٢) ؛ وقد تقدّم تفسير ذلك ، (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٦٣) ؛ أي هكذا كان لمصرف القوم الذين كانوا بدلائل الله يجحدون.

__________________

(١) أخرجه أبو داود مختصرا في السنن : كتاب الملاحم : باب خروج الجدال : الحديث (٤٣٢٢). وابن ماجة في السنن : كتاب الفتن : باب فتنة الدجال : الحديث (٤٠٧٧). وفي الدر المنثور : ج ٢ ص ٧٣٩ ـ ٧٤٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه أبو داود وابن ماجة عن أبي أمامة الباهلي) وذكره.

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٣٢٨ ؛ قال القرطبي : (وقرأ ابن كثير وابن محيصين ورويس عن يعقوب وعياش عن أبي عمرو وأبو المفضل عن عاصم) وذكرها وقال : (على ما لم يسمّ فاعله).

٤١٢

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً ؛) أي مستقرّا للأحياء والأموات ، كما قال (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ)(١)(وَالسَّماءَ بِناءً ؛) أي وجعل السّماء سقفا مرفوعا فوق كلّ شيء ، (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ؛) أي خلقكم فأحسن خلقكم.

قال ابن عبّاس : (خلق الله ابن آدم قائما معتدلا يأكل بيده ويتناول بيده ، وكلّ ما خلق الله يتناول بفيه) (٢). وقال الزجّاج : (خلقكم أحسن الحيوان كلّه) ، (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ؛) أي من لذيذ الأطعمة وكريم الأغذية.

وقوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ؛) أي الذي فعل ذلك كلّه هو ربّكم فاشكروه ، (فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٦٤) ؛ أي فتعالى الله دائم الوجود لم يزل ولا يزال ربّ كلّ ذي روح من الجنّ والإنس وغيرها ، (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ؛) بلا أوّل ولا آخر ، لم يزل ، كان حيّا ولا يزال حيّا ، منزّه عن كلّ آفات ، وليس أحد غيره من الأحياء بهذه الصّفات ، لا مستحقّ للإلهيّة غيره ، (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٥) ، فوحّدوه مخلصين له الدّين ؛ أي الطاعة ، واشكروه على معرفة التوحيد. قال ابن عبّاس رضي الله عنه : (إذا قال أحدكم : لا إله إلّا الله فيقل في إثرها : الحمد لله رب العالمين) (٣).

وقوله تعالى : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٦) ؛ أي أمرت أن أستقيم على الإسلام.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ؛) أي خلق أصلكم من تراب ، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ؛) لآبائكم ، (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) ، ثم نقلكم إلى العلقة وهو الدم الغليظ ، (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ ؛) من بطون أمّهاتكم أطفالا واحدا واحدا لذلك

__________________

(١) الأعراف / ٢٥.

(٢) نقله أيضا البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٤٤.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٤٤٢).

٤١٣

قوله : (طِفْلاً ؛) وقال (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً)(١) لأن الواحد يكون أعمال (٢).

وقوله تعالى : (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ؛) أي بنقلكم إلى حال اجتماع القوّة والكمال ، (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ؛) أي تصيروا شيوخا بعد الأشدّ ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ ؛) من قبل البلوغ ومن قبل الشّيخوخة ، (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى ؛) يريد أجل الحياة إلى الموت ، ولكلّ أجل لحياته ينتهي إليه ، ويقال : لتبلغوا أجلا مسمّى ؛ أي لتوافوا القيامة للجزاء والحساب ، (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦٧) ، ولكي يعقلوا وحدانية الله تعالى وتمام قدرته ، وتصدقوا بالبعث بعد الموت.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ؛) أي يحيي الأموات ويميت الأحياء ، (فَإِذا قَضى أَمْراً ؛) من الإحياء والإماتة ، (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ) ، يريده ، (كُنْ فَيَكُونُ) (٦٨) ، ويحدثه.

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ ؛) أي يخاصمون في القرآن بالردّ والتكذيب ، وهم المشركون ، (أَنَّى يُصْرَفُونَ) (٦٩) ، كيف يصرفون إلى الكذب بعد وضوح الدلالة ، (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ ؛) الذين كذبوا بالقرآن ، (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) ، من الشّرائع والأحكام والتوحيد ، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٧٠) ، عاقبة أمرهم ، (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) (٧١) ، حين تجعل الأغلال الحديد مع السّلاسل في أعناقهم ، يسحبون في الحبال على وجوههم ، يلقون ، (فِي الْحَمِيمِ) ، في نار عظيمة ، (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (٧٢) ؛ قال مجاهد : (توقد بهم النّار فصاروا وقودها).

قوله تعالى : (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ) ، ثم تقول لهم الزّبانية : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) (٧٣) ، أين الآلهة التي كنتم تعبدونها ، وترجون منافعها ، وتدعونها ،

__________________

(١) الكهف / ١٠٣.

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٢ ص ١١ ؛ قال القرطبي : (أي أطفالا ، فهو اسم جنس ، وأيضا فإن العرب قد تسمي الجمع باسم الواحد).

٤١٤

(مِنْ دُونِ اللهِ) ، فيؤلمون قلوبهم بمثل هذا التوبيخ كما يؤلمون أبدانهم بالتعذيب ، (قالُوا ؛) فيقول الكفار : (ضَلُّوا عَنَّا) ، أي ضلّت آلهتنا عنّا ؛ أي ضاعت فلا نراها ، ثم يجحدون عبادة الأصنام فيقولون : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) ، إن لم نكن نعبد من قبل هذا شيئا ، ويجوز أن يكون هذا كالرّجل يعمل عملا لا ينتفع به ، فيقال له : إيش تعمل؟ فيقول : لا شيء.

وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) (٧٤) ؛ أي هكذا يهلكهم ذلك العذاب الذي نزل بكم ، (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ؛) بالباطل ، (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٧٦) ؛ قال مقاتل : (يعني البطر والخيلاء).

والغلّ : هو ما يجعل في العنق للإذلال والإهانة. والطّوق : هو ما يجعل للإجلال والكرامة. وقرأ ابن عبّاس : (والسّلاسل) بفتح اللام ، و (يسحبون) بفتح الياء ؛ معناه : ويسحبون السلاسل (١).

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ؛) بنصرك والانتقام منهم ، (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٧٧) ؛ معناه : فإن انتقمنا منهم وأنت حيّ فبشرى لك ، وإن نتوفّاك قبل «أن» نريك ذلك فإلينا مرجع الكلّ منهم للمجازاة ، وسيصل إليهم موعدهم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ؛) أي منهم من قصصنا عليك خبرهم في القرآن ، ومنهم من لم نقصص عليك خبرهم ، (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ؛) في الآية إبلاغ عذر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يأتيهم به من الآيات التي كانوا يقترحونها عليه ، وليس علينا حصر عدد الرّسل ، ولكنا نؤمن بجملتهم.

__________________

(١) في إعراب القرآن للنحاس : ج ٤ ص ٣١ ؛ قال : (وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس أنه قرأ (والسلاسل) بالنصب (يسحبون) والتقدير في قراءته : ويسحبون السلاسل).

٤١٥

وقوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ ؛) أي إذا جاء قضاؤه بين أنبيائه وأممهم ، (قُضِيَ بِالْحَقِّ) ، لم يظلموا إذا عذّبوا (وَخَسِرَ هُنالِكَ ؛) عند ذلك ، (الْمُبْطِلُونَ) (٧٨) ، المكذّبون.

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٧٩) ؛ الله الذي خلق لكم الإبل والبقر والغنم لتركبوا بعضها وتأكلوا لحم بعضها ، (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ ؛) من ألبانها وأصوافها وأوبارها وأشعارها ، (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ؛) أي لتبلغوا عليها في ركوبها حاجة في قلوبكم لا تبلغونها إلّا بها ، قال مجاهد : (تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد ، وتبلغوا عليها حاجاتكم في البلاد ممّا كانت) ، (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (٨٠) ؛ أي وعلى ظهورها في البرّ وعلى السّفن في البحر تحملون في كسبكم وحجّكم وتجاراتكم.

قوله تعالى : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ ؛) أي يريكم الله دلائل قدرته من الشمس والقمر والنّجوم والليل والنهار والجبال والبحار ، وتسخّر الأنعام لمنافع العباد ، كلّها من آيات الله ، (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) (٨١) ، فأيّ آية من آيات الله تجهلون أنّها ليست من الله تعالى؟

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ؛) من الأمم كيف أهلكهم الله بتكذيبهم الرسل ، (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ ؛) من أهل مكّة بالعدد ، (وَأَشَدَّ قُوَّةً ؛) في البلدان ، وأظهر ؛ (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ؛) في الأبنية العظيمة ، والقصور المشيدة ، والعيون المستخرجة ، (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٢) ، فلم ينفعهم من عذاب الله كثرة عددهم وشدّة قوّتهم وجمعهم الأموال ، (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٨٣) ؛ بالجهل الذي عندهم أنه علم ، وقالوا : نحن أعلم منهم ، لن نبعث ولن نعذب ، فمعنى قوله : (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي رضوا بما عندهم من العلم وهو في الحقيقة جهل وإن زعموه علما.

٤١٦

قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا) ، فلمّا رأوا عذابنا آمنوا ، (بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ؛) ولا ينفع الإيمان عند ذلك.

وقوله تعالى : (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ؛) أي هذا قضائي في خلقي أنّ من كذب أنبيائي وجحد ربوبتي ؛ أي سنّ الله هذه السّنة في الأمم كلّها أن لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب ، وسنة الله هي حكم الله الذي مضى في عباده في بعث الرّسل إليهم ، ودعائهم إلى الحقّ وترك المعاجلة بالعقوبة ، وأنّ الإيمان وقت البأس لا ينفع.

ونصب قوله (سُنَّتَ اللهِ) على التحذير أو على المصدر ، وقوله تعالى : (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٨٥) ؛ أي هلك عند ذلك المكذّبون.

آخر تفسير سورة (غافر) والحمد لله رب العالمين.

٤١٧

سورة السّجدة (فصّلت)

سورة حم السّجدة مكّيّة ، وهي ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفا ، وسبعمائة وستّ وتسعون كلمة (١) ، وأربع وخمسون آية.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ حم السّجدة أعطي من الأجر بعدد كلّ حرف منها عشر حسنات](٢) والله أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٢) ؛ قال (تَنْزِيلٌ) مبتدأ ؛ وخبره (٣) : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ ؛) أي بيّن حلاله وحرامه ، ومعنى التّنزيل : المنزّل كما يذكر العلم بمعنى المعلوم ، والحلق بمعنى المحلوق ، قوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا ؛) منصوب على الحال ؛ أي بيّنت آياته في حال جمعه على مجرى لغة العرب ، (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣) ؛ اللّسان العربيّ ، (بَشِيراً ؛) بالجنّة لمن أطاع ، (وَنَذِيراً ؛) بالنار لمن عصى الله ، (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ؛) أهل مكّة عن الإيمان ، (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (٤) ؛ سماعا ينتفعون به.

قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ؛) أي قال كفّار مكّة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قلوبنا في أغطية مما تدعونا إليه من القرآن لا يصل إلى قلوبنا ، (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ؛) أي ثقل وصمم يمنع من استماع ما تقرؤه.

__________________

(١) في اللباب في علوم الكتاب : ج ١٧ ص ٩٦ ؛ قال ابن عادل : (وسبعمائة وتسعة وتسعون كلمة).

(٢) ذكره أيضا الزمخشري في الكشاف : ج ٤ ص ٢٠١ ، وهو في تفسير الثعلبي وابن مردويه من حديث أبي ، ولا يصح ، والله أعلم.

(٣) هذا مذهب البصريين ، نقله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٢٨٧.

٤١٨

والأكنّة : جمع كنان ، مثل عنان وأعنّة. (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ؛) وبيننا وبينك حاجز وفرقة في الدّين فلا نوافقك على ما تقول ، (فَاعْمَلْ ؛) على أمرك ودينك ، (إِنَّنا عامِلُونَ) (٥) ؛ على أمرنا ومذهبنا.

قوله تعالى : (قُلْ ؛) يا محمّد : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ؛) أي كواحد منكم ولو لا الوحي ما دعوتكم. وقوله تعالى : (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ؛) لا شريك له ، (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ ؛) أي لا تميلوا عن سبيله وتوجّهوا إليه إلى طاعته ، (وَاسْتَغْفِرُوهُ ؛) من الشّرك ووحّدوه.

قوله تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) (٦) ؛ وويل لمن لا يقول لا إله إلّا الله ، (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ، ولا يطهّرون أنفسهم من الشّرك بالتوحيد ، (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (٧) ، وقال الحسن : (لا يقرّون بالزّكاة ، ولا يرون إيتاءها ولا يؤمنون بها) (١) ، قال الكلبيّ : (عابهم الله وقد كانوا يحجّون ويعتمرون) ، قال قتادة : (الزّكاة قنطرة الإسلام ، فمن قطعها نجا) (٢) أي فمن عبرها نجا ، ومن لم يعبرها هلك.

وفي هذه الآية دلالة على أنّ الكفار يعاقبون في الآخرة على ترك الشّرائع كما يعاقبون على ترك الإيمان ؛ لأن الله وعدهم على ذلك ، وقال في جواب أهل النار حين يقال لهم (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ، قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ)(٣).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٨) ؛ أي غير مقطوع ، من قولهم : مننت الحبل إذا قطعته ، وثواب المؤمن لا ينقطع. وقيل : لا يمنّ عليهم بذلك ؛ لأن المنّة تكدّر الصنيعة.

__________________

(١) نقله أيضا البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٤٦.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٤٧٣).

(٣) المدثر / ٤٢ ـ ٤٤.

٤١٩

قوله تعالى : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ؛) أي (قُلْ أَإِنَّكُمْ) يا أهل مكّة (لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ) في عظمها وقوّتها في يوم الأحد ويوم الاثنين ، (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ؛) من الأصنام ؛ أي أضدادا (١) ، وقوله تعالى : (ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٩) ؛ أي ذلك الذي هذه قدرته ربّ كلّ ذي روح وملكهم.

قوله تعالى : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها ؛) أي وخلق فيها جبالا ثوابت أوتادا لها في يوم الثّلاثاء ، (وَبارَكَ فِيها ؛) أي بارك في الأرض بالسّماء والشجر والنبات والثمار ، (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ؛) أي معايشها ، قدّر الله لكلّ حيوان ما يكفيه بحسب الحاجة ، وجعل في كلّ أرض معيشة ليست في غيرها لتعايشوا وتتّجروا.

وكان تقدير الأقوات في يوم الأربعاء ، فتمّ خلق الأرض بما فيها في أربعة أيّام ، ولو أراد الله أن يخلقها في لحظة واحدة لفعل وقدر ، ولكنه خلقها في ستّة أيام لأنه تعالى حليم ذو أناة ، أحبّ أن يعلّم الخلق الأناة في الأمور.

وقال الحسن : (معنى قوله (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي قسّم الأرض أرزاق العباد والبهائم) (٢) ، وقال الكلبيّ : (الخبز لأهل قطر ؛ والثّمر لأهل قطر ؛ والذرّة لأهل قطر ؛ والسّمك لأهل قطر ، جعل الله في كلّ بلدة ما لم يجعل في الأخرى ؛ ليعيش بعضهم من بعض بالتّجارة من موضع إلى موضع) (٣).

وقوله تعالى : (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (١٠) ؛ رفعه أبو جعفر على الابتداء ؛ أي هنّ سواء ، وخفضه الحسن ويعقوب نعت أربعة أيّام ، ونصبه الباقون على معنى : استوت سواء للسّائلين ، واستواء يعني على المصدر كما يقال : في أربعة أيّام تماما. ومعناه : من سأل عنه فهكذا الأمر.

__________________

(١) في المخطوط : (أغلالا).

(٢) نقله أيضا البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٤٧ عن مقاتل والحسن.

(٣) نقله أيضا البغوي عن الكلبي في معالم التنزيل : ص ١١٤٧.

٤٢٠