التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً ؛) أي خوفا للمسافر من الصّواعق ، وطمعا للمقيم في المطر وسقي الزّرع ، (فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ؛) أي في البرق ، وإنزال المطر وإحياء الأرض بعد قحطها ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢٤).

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ؛) يعني من غير عمد تحتهما ، ولا علاقة فوقهما بقدرة الله وتسكينه ، قوله تعالى : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ ؛) أي ثم إذا دعاكم من القبور عند النفخة الثّانية يدعو إسرافيل بأمره من صخرة بيت المقدس : أيّتها الأجساد البالية والعروق المتمزّقة والشّعور المتمرّطة ، (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) (٢٥) ؛ من قبوركم مهطعين إلى الدّاعي.

قوله تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؛) أي هم عبيدا وملكا ، (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (٢٦) ، أي كلّ له مطيعون في الحياة والبقاء والموت والبعث ، وإنّ عصوا في العبادة فهم منقادون لله عزوجل لا يقدرون على الامتناع من شيء يراد بهم من صحّة ومرض وغنّى وفقر وحياة وموت.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ؛) أي هو الذي يبدأ الخلق من النطفة ثم يميته فيصير ترابا كما كان ، ثم يبعثه في الآخرة. وقوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ؛) أي الإعادة هيّنة عليه ، وما شيء عليه بعسير ، وقد يذكر لفظ (يفعل) بمعنى (فعيل) كقوله (الله أكبر) بمعنى كبير ، وكذلك أهون عليه أو هيّن عليه. قال الفرزدق (١) :

لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل

على أيّنا تعدو المنيّة أوّل

__________________

(١) هكذا في المخطوط ، ولعل الوهم من الناسخ ، وإلّا ف القائل : هو معن بن أوس المزني. كما في ذيل الأمالي لأبي علي القالي : ص ٢١٨. وشرح البيت وإعرابه في خزانة الأدب الكبرى للبغدادي : ج ٣ ص ٥٠٥ ـ ٥٠٦. وينظر : جامع البيان : مج ١١ ج ٢٠ ص ٤٤.

١٢١

يريد بقوله : لأوجل ؛ أي وجل ، وقال أيضا (١) :

إنّ الّذي سمك السّماء بنى لنا

بيتا قوائمه أعزّ وأطول

أي عزيزة طويلة. وإنّما قيل على هذا التأويل ؛ لأنه لا يجوز أن يكون بعض الأشياء على الله أهون من بعض.

قوله تعالى : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؛) أي له الصّفة العليا وهي القدرة التي لا يجري عليها العجز ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧) ؛ أي القاهر لكلّ شيء ، الحكيم في جميع أفعاله.

قوله تعالى : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ ؛) أي وصف لكم أيّها المشركون مثلا من أنفسكم ، وبيّن لكم ذلك المثل من أنفسكم ، ثم بيّنه فقال : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) ، أي هل لكم من عبيدكم وإمائكم من شركاء فيما رزقناكم من الأموال ؛ أي هل يشاركونكم في أموالكم فتكونوا أنتم مع عبيدكم سواء فيما أعطيناكم ، (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ، أي تخافون عبيدكم أن يقاسموكم في مالكم كما تخافون نساءكم وأقاربكم أن يورثوكم بعدكم ، أو تخافوا لائمة عبيدكم إذا لم تعطوهم حقّهم ، كما تخافون لائمة بعضكم بعضا من الأقارب والشّركاء إذا لم يؤدّوا حقّهم إليهم.

قالوا : لا! فقال : أفترضون لله تعالى ما لا ترضون لأنفسكم ، تشركون عبيد الله في ملكه ، وقد خلقهم ، ولا تشركون عبيدكم فيما رزقكم الله وأنتم لم تخلقوهم ، وتجعلون الخوف من عبيد الله كالخوف من الله إذ تعبدونهم كعبادة الله تعالى ، (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢٨) ؛ أي هكذا يبيّن الآيات واحدة بعد واحدة ليكون ذلك أقرب إلى الفهم وواقع في القلب.

ومعنى (أَنْفُسِكُمْ) هاهنا : أمثالكم من الأحرار ، كقوله (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ)(٢). ومعنى الآية : كيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها لي شركاء

__________________

(١) البيت للفرزدق كما في جامع البيان : مج ١١ ج ٢٠ ص ٤٥. وينظر : الديوان ، طبعة القاهرة : ص ٧١٤.

(٢) الحجرات / ١١.

١٢٢

وأنتم عبيدي وأنا مالكهم جميعا ، فكما لا يجوز استواء المملوك مع سيّده ، كذلك لا يجوز استواء المخلوق مع خالقه.

قوله تعالى : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ؛) أي ليس لهم في الإشراك شبهة من حيث الحجة ، ولكنّهم يشركون بالله بناء على الجهل وهوى النفس ، (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ ؛) أي لا هادي لمن أضلّه الله ، (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٩) ؛ أي ما لهم من مانعين من عذاب الله.

قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ؛) أي فأقم يا محمّد على دين الإسلام ، وقوله (حَنِيفاً) أي مائلا عن كلّ دين إلّا الإسلام ، وقوله تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ ؛) أي اتّبع دين الله ، والفطرة : الملّة ؛ وهي الإسلام والتوحيد ، (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ؛) أي خلق الله المؤمنين عليها ، وقد ورد في الحديث : [كلّ مولود يولد على الفطرة] إلى آخر الحديث (١).

وانتصب قوله (فِطْرَتَ اللهِ) على الإغراء ، وقيل : على معنى : اتّبع فطرة الله.

وقوله تعالى : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ؛) أي لا تغيير لدين الله الذي أمر الناس بالثّبات عليه ، وهو نفي معناه النهي ؛ أي لا تبدّلوا دين الله الذي هو التوحيد بالشّرك. وقوله تعالى : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) يعني التوحيد هو الدين المستقيم ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ ؛) يعني كفّار مكّة ، (لا يَعْلَمُونَ) (٣٠) ؛ توحيد الله ودين الإسلام هو الحقّ.

قوله تعالى : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ ؛) أي أقيموا وجوهكم راجعين إلى الله في كلّ ما أمركم به ، لا تخرجون عن شيء من أوامره ، وهذا لأنّ الخطاب في أوّل هذه الآيات للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) ، والمراد به أمته ، كما في قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ)(٢) فكأنّه قال : أقيموا وجوهكم منيبين ؛ أي راجعين إلى أوامره ، وقوله تعالى (وَاتَّقُوهُ) أي اتّقوا مخالفته ، (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ١ ص ٢٨٤ : الحديث (٨٢٦ ـ ٨٣٥) بأسانيد وألفاظ.

(٢) الطلاق / ١.

١٢٣

الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) ؛ أي زايلوا دينهم الذي أمروا بالثبات عليه.

ومن قرأ (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) فمعناه : صاروا فرقا ، وذلك معنى قوله : (وَكانُوا شِيَعاً) ، أي صاروا جماعة ، (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣٢) ، أي كلّ جماعة اختارت دينا مثل اليهود والنّصارى وسائر الملل ، كلّ أهل دين يفرحون بما عندهم من الدّين.

قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ ؛) أي إذا أصاب الناس شدّة وبليّة وقحط وغلاء يعني كفّار مكّة ، دعوا ربّهم لدفع الشّدة ، (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ؛) أي راجعين إليه ، منقطعين من الخلق ، لا يلجأون في شدائدهم إلى أوثانهم ، (ثُمَّ إِذا ؛) أذهب عنهم تلك الشدّة و (أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً ؛) أي أعطاهم من عنده المطر ، (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (٣٣) ؛ أي يعودون إلى الشّرك (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ؛) فيبدّلوا الشّكر كفرا ، (فَتَمَتَّعُوا ؛) أي تلذذوا في الدّنيا ، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٣٤) ، ماذا ينزل بكم.

قوله تعالى : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) ، أي أم أنزلنا على هؤلاء حجّة وبرهانا وكتابا من السّماء ، (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) (٣٥) ، يشهد وينطق بأنّ الله أمرهم بما يفعلون. وهنا استفهام إنكار ؛ أي ليس الأمر على هذا.

قوله تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها ؛) أي إذا أذقناهم نعمة استبشروا بها ، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ؛) شدّة ومحنة وبليّة ، (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ؛) في الشّرك من المعاصي (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) (٣٦) ؛ أي إذا هم ييأسون من رحمة الله.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ؛) أي ويضيّق ، (إِنَّ فِي ذلِكَ ؛) أي في البسط والتّقتير ، (لَآياتٍ ؛) دالّة على التوحيد ، (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٣٧).

١٢٤

قوله تعالى : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ؛) أي أعط ذا القربى في الرّحم حقّه من الصّلة والبرّ ، وأعط (وَالْمِسْكِينَ ؛) الذي يطوف على الأبواب حقّه أيضا ، وهو التّصدّق عليه ، وأعط (وَابْنَ السَّبِيلِ ؛) النازل بك حقّه ؛ أي ضيافته ، يعني أكرم الضّيف النازل بك ، (ذلِكَ خَيْرٌ ؛) أي الذي ذكرت من الصّلة والإعطاء والضّيافة خير ، (لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ ؛) يعني رضا الله ؛ أي إعطاء الحرّ أفضل من الإمساك (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٣٨) ؛ أي الفائزون السّعداء الباقون في الجنّة ، ومن أعطى أحدا لا يريد به وجه الله ذهب ماله من غير أن يحصل على شيء ، فلذلك قال : (يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ).

قوله تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ ؛) أي ما تعاطيتم من عقد الرّبا رجاء أن تزيدوا أموالكم فلا يزيد في حكم الله ، وعلى الآخذ أن يردّه على المأخوذ منه ، قال الله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا)(١).

قرأ ابن كثير (أتيتم) مقصورا غير ممدود. وقوله تعالى (لِيَرْبُوَا) ، قرأ الحسن ونافع : (لتربو) بتاء مضمومة وجزم الواو على الخطاب ؛ أي لتربو أنتم ، وقرأ الباقون (لِيَرْبُوَا) بياء مفتوحة ونصب الواو ، وجعلوا الفعل للرّبا (٢).

وقوله تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ ؛) أي ما أعطيتم من صدقة تريدون بها رضا الله ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (٣٩) ؛ الذين يضاعف لهم في العاجل والآجل ، يقال : رجل مضعف ؛ أي ذو أضعاف كما يقال : رجل مقوّي ذو قوّة ، وموسر ؛ أي صاحب يسار.

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) : (الرّبا ها هنا هو هبة الرّجل لصاحبه يريد أن يثاب أفضل منه) (٣). وقال السديّ : (هو الهديّة يهديها الرّجل لأخيه يطلب المجازاة (٤) ، فإنّ ذلك لا يربو عند الله ، ولا يؤجر عليه

__________________

(١) البقرة / ٢٧٦.

(٢) ينظر : الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ٢٦٩.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٣٢٠).

(٤) في المخطوط : (المساقاة) والمناسب ما أثبتناه.

١٢٥

صاحبه ولا إثم عليه) ، وقال الزجّاج : (هو دفع الإنسان الشّيء ليعوّض ما هو أكبر منه ، وذلك ليس بحرام ولكنّه لا ثواب فيه ؛ لأنّ الّذي يهديه يستدعي ما هو أكثر منه ، وإنّما يربو عند الله هو العطيّة الّتي لا يطلب بها المكافأة ، ولا يراد بها إلّا رضا وجه الله).

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ؛) أي خلقكم في بطون أمّهاتكم ثم أخرجكم ، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ؛) بعد انقضاء آجالكم ، (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ؛) بعد الموت ، (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٠).

قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ؛) أي قحط المطر ونقصت الغلّات وذهبت البركة في البرّ والبحر ؛ أي أجدب البرّ وانقطعت مادّة البحر ، (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ؛) أي بشؤم ذنوبهم ومعاصيهم ، الناس كفّار مكّة ، (لِيُذِيقَهُمْ ؛) الله بالجوع في السّنين السبع ، يعني (بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ؛) أي جزاؤه ليكون عقوبة معجّلة ، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٤١) ؛ من الكفر إلى الإيمان ، ومن المعصية إلى الطاعة ، فيكشف الله عنهم الشدّة. وفي هذا تنبيه على أنّ الله تعالى إنّما يقضي بالجدوبة ونقص الثّمرات والنبات لطفا منه في رجوع الخلق عن المعصية.

قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ؛) أي قل لأهل مكّة سافروا في الأرض ، (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) ، أي كيف صار إجرام ، (الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) (٤٢) ؛ أي انظروا إلى ديار عاد وثمود وقوم لوط ليدلّكم ذلك على أنه لا ينبغي لأحد أن يكفر بالله تعالى.

قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ؛) أي أقم قصدك وعملك ، واجعل جهتك اتّباع الدّين القيّم وهو الإسلام المستقيم الذي لا عوج فيه ، واعمل به أنت ومن تبعك ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ؛) يعني يوم القيامة ، (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) (٤٣) ؛ أي يوم القيامة يتفرّقون بعد الحساب إلى الجنّة والنار.

قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ؛) أي ضرر كفره ، (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (٤٤) ؛ أي يطأون لأنفسهم منازلهم في الجنة ، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ

١٢٦

آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ؛) ثوابهم ، ثم يزيدهم (مِنْ فَضْلِهِ ؛) أي يثيبهم أكثر من أعمالهم ، (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٤٥) ؛ أي لا يكرمهم ولا يثيبهم ولا يرضى عنهم.

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ ؛) أي من علامات توحيده إرساله الرياح للبشارة بالمطر ، (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ؛) يعني الغيث والخصب ، (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ ؛) أي السفن تجري في البحر بتلك الرّياح ، (بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ؛) أي ولتسلكوا في البحر على السّفن للتجارة وطلب الرزق بهذه الرياح ، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٤٦) ؛ هذه النّعم فتوحّدونه.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ؛) أي بالدّلالات الواضحات فكذبوا بها ، (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ؛) أي عذبنا الذين كذبوهم ، (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧) ؛ أي كان واجبا علينا إنجاء المؤمنين مع الرّسل من عذاب الأمم ، وفي هذا تبشير للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالظّفر والنصر على من كذب به.

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً ؛) أي تزعجه من حيث هو ، وذلك أنّ الله يحدث السّحاب عقيب الرياح فترفعه الرياح في الهواء ، (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أي قطعا بعضها فوق بعض ، (فَتَرَى الْوَدْقَ) يعني المطر ، (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ؛) أي من وسطه إلى قوم دون قوم ، (فَإِذا أَصابَ بِهِ ؛) بذلك المطر ، (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٤٨) ؛ يفرحون بالمطر ، (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ؛) المطر (مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) (٤٩) ؛ أي يائسين من ذلك ، كرّره للتأكيد (١) ، والمبلس هو الآيس القانط.

__________________

(١) أي أعاد قوله : (مِنْ قَبْلِهِ) تأكيدا. وفي معالم التنزيل : ص ١٠٠٩ ؛ قال البغوي : (وقيل : الأولى ترجع إلى إنزال المطر ، والثانية إلى إنشاء السحاب).

١٢٧

قوله تعالى : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ، الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره. وآثار الرحمة هي أنواع النّبات الذي ينبت من المطر من بين أخضر وأحمر وغير ذلك من الألوان.

وقوله (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ، كيف يجعل الأرض مخضرّة بعد يبسها ، (إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) ، أي الذي فعل ذلك هو الذي يحيي الموتى للنّشور ، فإنه كما يعيد الشجر الذي ظهر يبسه ، ويعيد فيه الخضرة والنور والثمرة ، كذلك يحيي الموتى ، (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٥٠) ؛ من الموت والبعث قدير.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) ، ولئن أرسلنا ريحا حارّة أو باردة فأيبست زروعهم ، ورأوا الزرع مصفرّا بعد خضرته ، (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) (٥١) ، لصاروا بعد اصفرار النّبت يجحدون ما سلف من النعمة ، يعني أنّهم يفرحون عند الخصب ، وإذا استبطأوا الخصب والرزق جزعوا فكفروا بالنّعم.

قوله تعالى : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ؛) يعني الكفار لا يسمع ، والأعمال الذي لا يبصرون ، ولذلك قال : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ ؛) أي لا تقدر أن تجبرهم على الهدى ، وإنّما بعثت داعيا ومبلّغا. قوله تعالى : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا ؛) أي إلّا من يصدّق بكتابنا ، (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٥٣) ؛ أي هم الذين يستبدلون به فهم مخلصون منقادون لأمر الله.

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ؛) أي من نطفة ضعيفة في بطون الأمّهات ، ثم أطفالا لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا ، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) ، ثم جعلكم أقوياء بما أعطاكم من العقل والاستطاعة والهداية والتصرّف في اختلاف المنافع ودفع المضارّ ، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ؛) قوّة الشّباب ، (ضَعْفاً ؛) عند الكبر والهرم ، (وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ ؛) من ضعف وقوة وشيبة وشباب ، (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (٥٤) ؛ أي العليم بخلقه القادر على تحويلهم من حال إلى حال.

١٢٨

قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ؛) أي تقوم السّاعة ، يحلف المشركون ما لبثوا في القبور غير ساعة واحدة. وقيل : ما لبثوا في الدّنيا غير ساعة يستقلّون في جنب أيّام الآخرة ، (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) (٥٥) ؛ أي هكذا كانوا يكذبون في الدّنيا بجهلهم وغفلتهم كما كذبوا في الآخرة.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ؛) أراد بالذين أوتوا العلم : الملائكة والأنبياء والمؤمنون ، يقولون للكفّار بعد ما أقسموا : لقد لبثتم فيما كتب الله لكم من اللّبث إلى يوم البعث ، وقيل : في حكم الله ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ؛ تقديره : وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله ، وهم الذين يعلمون كتاب الله. وقوله : (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ ؛) أي يوم الذي كنتم تنكرونه في الدّنيا ، وتكذّبون به ، (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٥٦) ؛ وقوعه في الدّنيا فلا ينفعكم العلم به الآن.

قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ؛) أي اعتذارهم من الذّنوب إن اعتذروا ، (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٥٧) ؛ أي لا يجابون إلى ما يطلبون من الرّجعة إلى الدّنيا ، فإنّهم يقولون : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً)(١). قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : (لا يقبل من الّذين أشركوا عذر ولا عتاب ولا توبة في ذلك اليوم).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ؛) أي بيّنّا لهم في القرآن من كلّ صفة ، (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ ؛) مثل العصا واليد وبكلّ حجّة ، (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) (٥٨) ؛ أي ما أنتم إلّا على الباطل يا محمّد وأصحابك!.

__________________

(١) السجدة / ١٢.

١٢٩

قوله تعالى : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٥٩) ؛ أي يختم على قلوب الذين لا يعلمون توحيد الله ، فكلّ من لا يعلم توحيد الله فذلك لأجل ما طبع الله على قلبه.

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ؛) أي اصبر يا محمّد على تبليغ الرّسالة والوحي ، وعلى ما يلحقك من أذيّة الكفّار ، فإنّ ما وعد الله من النّصر وإظهار دين الإسلام صدق كائن يأتيك في حينه. والمعنى : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) بنصر دينك وإظهارك على عدوّك حقّ فلا يحملنّك تكذيب الكفار الذين لا يستيقنون بأمر الله على الحقّ ، وكن حليما صبورا.

وقوله : (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (٦٠) ، لا تعجل بالدّعاء عليهم فيما يستعجلون من العذاب لقولهم : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ)(١) ، و (مَتى هذَا الْوَعْدُ)(٢) ، و (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ)(٣). ومعنى الآية : (ولا يستخفن) رأيك وحلمك يا محمّد (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) ؛ بالبعث والحساب.

آخر تفسير سورة (الروم) والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) العنكبوت / ٢٩.

(٢) سبأ / ٢٩ ، وغيرها.

(٣) ص / ١٦.

١٣٠

سورة لقمان

سورة لقمان مكّيّة ألفان ومائة وعشرة أحرف ، وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة ، وأربع وثلاثون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥) ؛ أي هذه السورة آيات الكتاب الحكيم الذي وعدك الله أن ينزله عليك.

وانتصب (هُدىً وَرَحْمَةً) على الحال. وقرأ حمزة بالرفع على الابتداء ، وقيل : على إضمار هو. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : (معنى الآية : هدى من الضّلالة ورحمة من العذاب للموحّدين من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وما بعد هذا قد تقدّم تفسيره.

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ؛) نزلت هذه الآية وما بعدها في النّضر بن الحارث (١) ، كان اشترى كتبا فيها أخبار الأعاجم ، ويحدّث بها أهل مكّة ، ويتملّق بها في المجالس ، ويقول : إنّ محمّدا يحدّثكم أحاديث عاد وثمود ، وأنا أحدّثكم أحاديث فارس والروم ، وأقرأ عليكم كما محمّد يقرأ عليكم أساطير الأوّلين ، هو يأتيكم بكتاب فيه قصص الأمم الماضية ، وأنا أتيت بمثله! وكانوا يستملحون حديثه ، وكان إذا سمع شيئا من القرآن يهزا به ويعرض

__________________

(١) قاله البيهقي في شعب الإيمان : باب في حفظ اللسان : فصل في ترك قراءة كتب الأعاجم : ج ٤ ص ٣٠٥ ، وذكر الحديث ، وفيه عن الكلبي عن أبي صالح ، إسناده ضعيف. وذكره الواحدي في أسباب النزول : ص ٢٣٢.

١٣١

عنه. فذلك قوله : (وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٦) ؛ أي ليصرف الناس عن دين الله بلا علم ، ومن قرأ (ليضلّ) بفتح الياء ، فمعناه : ليتشاغل بما يلهيه ، وليصير أمره إلى الضّلال والباطل.

ومعنى قوله تعالى (لَهْوَ الْحَدِيثِ) أي باطل الحديث ، هذا قول الكلبيّ ومقاتل ، وقيل : المراد بلهو الحديث الغناء ، وعن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [لا يحلّ تعليم المغنّيات ولا بيعهنّ ولا شراؤهنّ ، وثمنهنّ حرام ، والّذي نفس محمّد بيده ؛ ما رفع رجل قطّ عقيرته يتغنّى إلّا ارتدفه شيطانان يضربان بأرجلهما على ظهره وصدره حتّى يسكت](١) ، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وابن مسعود ، قالوا : (هو والله الغناء ، واشتراء المغنّية والمغنّي بالمال).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من ملأ مسامعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع أصوات الرّوحانيّين يوم القيامة] قيل : وما الرّوحانيّون يا رسول الله؟ قال : [أهل الجنّة](٢) ، وعن إبراهيم النخعيّ أنه قال : (الغناء ينبت النّفاق في القلب) (٣) وقال مكحول : (من اشترى جارية ضرّابة ليمسكها لغنائها وضربها مقيما عليه حتّى يموت لم أصل عليه) (٤).

قوله تعالى : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي أنه جاهل فيما يفعل ، لا يفعله عن علم ، (وَيَتَّخِذَها هُزُواً) بالرفع عطفا على (مَنْ يَشْتَرِي) ، وبالنصب عطفا على (لِيُضِلَّ) ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٢١٣٥٨) بأسانيد وألفاظ عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... وذكره. وفي مجمع الزوائد : ج ٨ ص ١١٩ ـ ١٢٠ ؛ قال الهيثمي : (رواه الطبراني بأسانيد ، ورجال أحدها وثقوا وضعفوا). وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ٨ ص ١٩٨ : الحديث (٧٨٠٥). وفي مجمع الزوائد : ج ٨ ص ١٢٢ قال : (فيه علي بن يزيد الألهاني ، وهو ضعيف). وفي ج ٨ ص ٢١٢ : الحديث (٧٨٥٥ و٧٨٦٢) ، وفيه علي هذا أيضا.

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٥٤ ؛ قال القرطبي : (أخرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول).

(٣) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٥٠٥ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن أبي الدنيا عن إبراهيم النخعي).

(٤) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠١١.

١٣٢

والكتابة المذكورة تعود إمّا إلى الآيات المذكورة في أوّل السورة ، وإما الى (سَبِيلِ اللهِ) ، والسبيل يؤنّث لقوله (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي)(١).

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً ؛) أي أعرض عن قبولها متعظّما عن الإيمان بها ، (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً ؛) أي ثقلا يمنعه عن السّماع ، (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٧) ؛ وجيع في الدّنيا قبل أن يصل إلى الآخرة ، وهو ما روي : (أنّه أخذ أسيرا يوم بدر فقتل صبرا).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٩) ؛ ظاهر المعنى.

وقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ؛) أي جبالا ثم أرسيت أوتاد لها لئلّا تميد بأهلها ، (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ ؛) أي فرّق الدوابّ الكثيرة في الأرض ، (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً ؛) يعني المطر ، (فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (١٠) ؛ أي من كلّ نوع حسن.

وقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ ؛) أي هذا الذي ذكرت لكم مما تعاينون خلق الله ، (فَأَرُونِي ؛) أيّها الكفار ، (ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ؛) أيّ شيء خلقه الذي تعبدون من دونه ، فلم تجدوا شيئا يشيرون إليه من خلق غيره ، ولم يقدروا على جواب هذا الكلام ، فقيل : (بَلِ الظَّالِمُونَ ؛) أي الكافرون ، (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١١).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ ؛) يعني العقل والعلم والعمل به ، والإصابة في الأمور. واتّفق العلماء على أن لقمان حكيما (٢) ، ولم يكن نبيّا إلّا عكرمة

__________________

(١) يوسف / ١٠٨.

(٢) أخرج الطبري في جامع البيان الآثار عن مجاهد وقتادة وسعيد بن المسيب في الآثار : (٢١٣٨٥ ـ ٢١٣٩٤) بأن لقمان كان حكيما ولم يكن نبيا.

١٣٣

وحده فإنه قال : (كان لقمان نبيّا) (١) ، وقال بعضهم : خيّر لقمان بين النبوّة والحكمة فاختار الحكمة! (٢)

وعن ابن عمر رضي الله عنهما ؛ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : [حقّا أقوله : لم يكن لقمان نبيّا ، ولكن عبدا صمصامة ، كثير التّفكّر ، حسن اليقين ، أحبّ الله فأحبّه ، فمنّ عليه بالحكمة](٣). وروي أنه كان تتلمذ لألف نبيّ عليهم‌السلام.

واختلفوا في حرفته ، فقال الأكثرون : كان نجّارا ، ويقال : كان خيّاطا ، ويقال : كان راعيا ، ويروى : كان عبدا حبشيّا غليظ الشّفتين مشقوق الرّجلين.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (مرّ رجل بلقمان والنّاس مجتمعون حوله وهو يعظهم ، فقال : ألست العبد الأسود الّذي كنت ترعى الغنم؟! قال : بلى ، قال : فما بلغ بك إلى ما أرى؟ قال : صدق الحديث ؛ وأداء الأمانة ؛ وترك ما لا يعنيني) (٤).

وعن أنس : (أنّ لقمان كان عبد داود عليه‌السلام وهو يسرد درعا ، فجعل لقمان يتعجّب ممّا يرى ، ويريد أن يسأله فمنعته حكمته من السّؤال ، فلمّا فرغ منها ، جعلها عليه وقال : نعم درع الحرب هذا ونعم حامله ، فقال لقمان : الصّمت حكمة وقليل فاعله) (٥).

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٥٣٥). والطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٣٩٥).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٥٣٣) عن قتادة.

(٣) ذكره الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب : الرقم (٥٣٨٤). والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٦٠ ، وقال : (ذكره ابن عطية). وهو كما قال : في المحرر الوجيز : ص ١٤٨٥. وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي مسلم الخولاني كما في الدر المنثور : ج ٦ ص ٥١٠ عن أبي الدرداء. وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٥٣٧).

(٤) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٥١٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت ، وابن جرير عن عمر بن قيس رضي الله عنه ... وذكره).

(٥) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٥١٣ ؛ قال السيوطي : (أخرجه العسكري في الأمثال ، والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس). وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان : باب في حفظ اللسان : الحديث (٥٠٢٦).

١٣٤

وقال عكرمة : (كان لقمان من أهون مماليك سيّده ، فبعث مولاه مع عبيد له إلى بستان لمولاهم يأتونه من ثمره ، فجاءوا وليس معهم شيء ، وقد أكلوا الثّمرة ، وأحالوا على لقمان بذلك! فقال لقمان لمولاه : إنّ ذا الوجهين لا يكون عند الله أمينا ، فاسقني وإيّاهم ماء حميما ، فسقاهم فجعلوا يتقيّؤن الفاكهة ، وجعل لقمان يتقيّأ ماء بحتا ، فعرف صدقه وكذبهم).

قال : (وأوّل ما روي من حكمته أنّه جاء مع مولاه فدخل المخدع ، فأطال الجلوس فيه ، فناداه لقمان : إنّ طول الجلوس على الحاجة يتجمّع منه الكدر ، ويورث الباسور ، وتصعد الحرارة إلى الرّأس ، فاجلس هوينا وقم هوينا ، قال : فخرج وكتب حكمته على باب الحشّ (١)).

ومعنى الآية (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ) علم التوحيد والمواعظ والفقه والعقل والإصابة في القول ، وألهمناه أن يشكر الله على ما أعطاه من الحكمة.

ومعنى قوله : (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ؛) أي قلنا له : اشكر الله فيما أعطاك من الحكمة ، (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ؛) أي من يشكر نعم الله فإن منفعة شكره راجعة إلى نفسه ، (وَمَنْ كَفَرَ ؛) فلم يوحّد ، (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ ؛) عن شكره ، (حَمِيدٌ) (١٢) ؛ يحمده الشاكر ويثبته على شكره.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ؛) أي واذكر : إذ قال لقمان لابنه وهو يعظه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ ؛) أحدا في العبادة ، (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣) ؛ عند الله ؛ أي ليس من الذّنوب شيء أعظم من الشّرك بالله ؛ لأنّ الله تعالى هو الحيّ المميت الخالق الرازق ، فإذا أشركت به أحدا غيره فقد جعلت النعمة لغير ربها ، وذلك من أعظم الظّلم.

قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ؛) نزل في سعد بن أبي وقّاص ؛ لمّا آمن بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلفت أمّه لا تذوق طعاما ولا شرابا ولا يظلّها شيء حتّى يرجع سعد

__________________

(١) الحشّ بفتح الحاء وضمها : البستان ، وهو أيضا المخرج ؛ لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البستان. مختار الصحاح : ص ١٣٧ (ح ش ش).

١٣٥

إلى دينه ، فمضت على هذا أيّاما ، فبلغ من أمرها إلى أن تداخل بعض أسنانها في بعض ، فأنزل الله هذه الآية ، فقال سعد : (لو كان لها سبعون نفسا فخرجت ما ارتددت عن الإسلام) ففتح فاها وصبّ فيه الطّعام والشّراب (١). ومعنى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) أي أمرناه ببرّ والديه عطفا عليهما.

وقوله تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ ؛) أي ضعفا على ضعف ، ومشقّة على مشقة ، كلّما ازداد الولد في الرّحم كبر ، ازدادت الأمّ ضعفا.

قوله تعالى : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ ؛) أي وفطامه في انقضاء عامين ، وقدّره بعامين بناء على الأغلب ، ولأنّ الرّضاع لا يستحقّ بعد هذه المدّة. والفصال هو الفطام ، وهو أن يفصل الولد عن الأمّ كي لا يرضع. والمعنى بهذا ذكر مشقّة الوالدة بإرضاع الولد عامين. وروي عن يعقوب : (وفصله في عامين) بغير ألف (٢).

قوله تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ؛) أي قلنا له اشكر لي على خلقي إياك ، وعلى إنعامي عليك ، واشكر لوالديك على تربيتهما إياك. وقال مقاتل : (اشكر لي إذ هديتك للإسلام ، ولوالديك بما أولياك من النّعم) (٣).

قوله تعالى : (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (١٤) ؛ أي مصيرك ومصير والديك ، وعن سفيان بن عيينة في قوله : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) قال : (من صلّى الصّلوات الخمس فقد شكر الله ، ومن دعا للوالدين في إدبار الصّلوات فقد شكر للوالدين) (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٢١٤٠٠ ـ ٢١٤٠٣). واختلفوا في سعد ، هل هو سعد ابن مالك أم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما؟ وفي الدر المنثور : ج ٦ ص ٥٢١ ؛ قال السيوطي : (أخرج أبو يعلى والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي قال : إن سعد بن أبي وقاص قال : ...) وذكر الحديث بطوله ، وقد تقدم في العنكبوت.

(٢) في المحرر الوجيز : ص ١٤٨٦ ؛ قال ابن عطية : (وقرأ الجمهور (وفصاله) وقرأ الحسن وأبو رجاء والجحدري ويعقوب : (وفصله)). ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٦٤. واللباب في علوم الكتاب : ج ١٥ ص ٤٤٦.

(٣) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٢٠.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز : ص ١٤٨٦. والجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٦٥. واللباب في علوم الكتاب : ج ١٥ ص ٤٤٦.

١٣٦

قوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ؛) أي أجهدا عليك لتشرك بي جهلا بغير علم فلا تطعهما ، فإنّ حقّهما وإن عظم فليس بأعظم من حقّي.

وقوله تعالى : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ؛) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [حسن المصاحبة أن تطعمهما إذا جاعا ، وتكسوهما إذا عريا ، وعاشرهما عشرة جميلة](١). (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ؛) أي واتّبع طريق من رجع إليّ ؛ أي من سلك طريق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه. والمعنى : واتّبع دين من أقبل إلى طاعتي وهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال عطاء عن ابن عبّاس رضي الله عنهم : (يعني أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه أنّه حين أتاه عبد الرّحمن بن عوف وسعد بن أبي وقّاص وسعيد بن زيد وعثمان وطلحة والزّبير فقالوا : يا أبا بكر آمنت وصدّقت محمّدا؟ قال : نعم ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآمنوا به وصدّقوا ، فأنزل الله تعالى يقول لسعد : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) يعني أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه) (٢).

ويستدلّ من قوله تعالى (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) على أنّ الابن لا يستحقّ القود على أبيه ، ولا يحدّ الأب بقذفة الابن ، ولا يحبس الأب بدين الابن ، لأن في إيجاب القود والحدّ والحبس له عليه ما ينافي مصاحبتهما.

وعن أبي يوسف : (أنّ القاضي يأمر الأب بقضاء دين الابن ، فإن تمرّد حبسه لاستخفاف أمره). وقال محمّد بن الحسن : (يحبس الأب في نفقة الابن الصّغير ، ولا يحبس بالدّين الّذي له عليه ؛ لأنّه لو لم يحبس في نفقة الصّغير لتضرّر الولد).

قوله تعالى : (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ؛) أي مرجعكم ومرجع آبائكم ، (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٥) ؛ من الخير والشرّ. وقد تضمّنت هذه

__________________

(١) لم أقف عليه.

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠١٣. وفي المحرر الوجيز : ص ١٤٨٦ ؛ قال ابن عطية :

(وحكى النقاش ...) وذكره. وينظر : أسباب النزول للواحدي : ص ٢٢٣.

١٣٧

الآية النّهي عن صحبة الكفّار والفسّاق ، والترغيب في صحبة الصالحين لقوله تعالى (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ).

قوله تعالى : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ ؛) وذلك أنّ ابن لقمان سأل أباه فقال : أرأيت الحبّة التي تكون في قعر البحار ؛ أيعلمها الله؟ فأعلمه أنّ الله يعلم الحبّة أينما كانت.

وقيل : إنّ ابن لقمان قال لأبيه : يا أبت! إن عملت بالخطيئة حيث لا يراني أحد ، كيف يعلمها الله؟ فقال لقمان لابنه : (إِنَّها إِنْ تَكُ) يعني إنّ المعصية إن تك مثقال حبّة من خردل فتكون في صخرة التي تحت الأرضين السّبع أو في السّموات أو في الأرض يأت بها الله للجزاء عليها (١).

ومن قرأ برفع (مثقال) فتقديره : أن تقع مثقال حبّة.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (١٦) ؛ أي قادر على الإتيان بها ، خبير بموضعها ، يوصلها إلى صاحبها حيث كان. واللّطيف : العالم بكلّ دقيق وجليل. ومعنى الآية : أن الله تعالى ضرب هذا مثلا لأعمال العباد ، يعني أنه يأتي بأعمالهم يوم القيامة ، وإن كان العمل الصالح في الصّغر بوزن حبّة من خردل ، فالله تعالى يحفظه ولا يخفى عليه مكانه حتى يجازيه عليه ، ونظير هذا قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٢).

قوله تعالى : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ؛) أي أقم الصّلاة التي افترضها الله عليك ، وأمر بالطاعة وانه عن المعصية ، (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ ؛) من الأذيّة في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وقوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٧) ؛ أي الصّبر على ما أصابك في ذات الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عظام الأمور. وقيل : من حقّ الأمور التي أمر الله بها.

__________________

(١) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠١٣.

(٢) الزلزلة / ٧ و٨.

١٣٨

قوله تعالى : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ؛) قرأ نافع وأبو عمرو (١) وحمزة والكسائي وخلف (تصاعر) بالألف ، وقرأ الباقون (تُصَعِّرْ) بغير ألف. قال ابن عبّاس : (معناه : لا تتكبّر فتحقرك النّاس ، ولا تعرض عنهم بوجهك إذا كلّموك) ، يقال : صعّر خدّك وصاعر ، إذا مال وأعرض تكبّرا. والمعنى : لا تتعظّم على خلق الله ، ولا تعرض عن الناس تكبّرا عليهم ، بل يكون الفقير والغنيّ عندك سواء ، ولا تعبس في وجه أحد من الناس.

قوله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ؛) أي ولا تمش في الأرض بالإعجاب والبطر وازدراء الناس ، قال الحسن : (أنّى لابن آدم الكبر وقد خرج من مخرج البول مرّتين؟!).

وروي : أنّ المهلّب بن أبي صفرة مرّ على مطّرف بن عبد الله (٢) وهو يتبختر في جبّة خزّ ، فقال : (هذه مشية يبغضها الله ورسوله) فقال له المهلّب : ما تعرفني؟! قال : (بلى ؛ أعرفك ، أوّلك نطفة مذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، وتحمل بين العذرة) فمضى المهلّب وترك مشيته تلك.

وروي : أنّ عبد الله بن محمّد (٣) بن واسع خرج يوما يتمشّى ، فقال محمّد بن واسع : (من هذا؟!) قالوا : هذا ولدك عبد الله ، قال : ادعوه ، فجاؤا به إليه ، فقال له : (يا

__________________

(١) في المخطوط : (أبو عمر) والصحيح ما أثبتناه.

(٢) هو مطّرف بن عبد الله بن الشخير. ينظر ترجمته في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء : ج ٢ ص ١٩٨. قال أبو نعيم : (ومنهم المتعبد الشكير ، مطرف بن عبد الله بن الشخير ، كان لنفسه مذلا ولذكر الله مجلا). وقال في ص ٢١٠ : (أسند مطرف عن غير واحد من الصحابة).

(٣) محمّد بن واسع ، ينظر : حلية الأولياء : ج ٢ ص ٣٤٥ ؛ قال أبو نعيم : (ومنهم العامل الخاشع ، والخامل الخاضع ، أبو عبد الله محمّد بن واسع. كان لله عاملا ، وفي نفسه خاملا) وأسند عن مالك بن دينار قال : (للأمراء قراء ، وللأغنياء قراء ، وإن محمّد بن واسع من قراء الرحمن). وفي ص ٣٥٤ ؛ قال : (كان محمّد بن واسع عالما واعيا ، لا ناقلا راويا ، وعى فأوعى ، قليل الكلام والرواية ، طويل الصيام والسعاية ، روى عن أنس بن مالك ومطرف والحسن وابن سيرين وسالم وعبد الله بن الصامت وأبي بردة رضي الله تعالى عنهم).

١٣٩

بنيّ! أتدري بكم اشتريت أمّك؟ اشتريتها بثلاثمائة درهم ، وأبوك لا كثّر الله من مثله في النّاس ، أتمشي هذه المشية؟!) (١).

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (١٨) ؛ الاختيال : هو التّبختر في المشي ، والفخور : هو المتطاول بذكر المناقب على السّامع والافتخار عليه ، وذلك مذموم لأن المستحقّ على نعم الله شكرا لا الفخر.

قوله تعالى : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ؛) أي تواضع (٢) ولا تتبختر ، وليكن مشيك قصدا لا تبخترا ولا إسراعا. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن](٣) يقال : قصد فلان في مشيته إذا مشى مستويا ، وقال مقاتل : (لا تختل في مشيتك) ، وقال عطاء : (قوله تعالى (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي امش بالوقار والسّكينة) كقوله تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً)(٤) ، والمعنى : اقصد في المشي ، لا تعجل ولا تمش بالهوينا.

قوله تعالى : (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ؛) أي اخفض صوتك ولا ترفعه على وجه انتهار النّاس وإظهار الاستخفاف بهم ، وقال عطاء : (معناه : اغضض من صوتك إذا دعوت وناجيت ربّك) ، وكذلك وصيّة الله تعالى في الإنجيل لعيسى عليه‌السلام : مر عبادي يخفضوا أصواتهم إذا دعوني ، فإنّي أسمع وأعلم ما في قلوبهم.

قوله تعالى : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١٩) ؛ أي أقبح الأصوات صوت الحمير ؛ لأن أوّله زفير وآخره شهيق. قال ابن زيد : (لو كان في رفع الصّوت خيرا ما جعله الله للحمير) (٥) ، وعن أمّ سعد قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنّ

__________________

(١) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء : ج ٢ ص ٣٥٠.

(٢) عن مجاهد ، أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٥٤٩). والطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٤٢٤).

(٣) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء : ج ١٠ ص ٢٩٠. ومن طريق أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد : ج ١ ص ٤٣٥ : ترجمة (٤٢٠) محمّد بن إبراهيم.

(٤) الفرقان / ٦٣.

(٥) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٤٣٣). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٥٥٤).

١٤٠