التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

وقوله تعالى : (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (١٢٦) ؛ أي خالقكم وخالق آبائكم ، ومن قرأ (رَبَّكُمْ) بالنصب فعلى صفة (أَحْسَنَ الْخالِقِينَ)(١).

وقوله تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (١٢٧) ؛ أي لمحضرون في النار والعذاب بتكذيبهم ، (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٢٨) ؛ أي لكن عباد الله المخلصين مبعدون من الموضع الذي فيه المشركون.

قوله تعالى : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) (١٢٩) ، يريد إلياس ومن آمن معه ، (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١٣٢) ؛ قال أبو علي الفارسي : (تقديره : الياسيّين) (٢) إلّا أنّ اليائين للنّسبة حذفتا ، كما حذفتا في الأشعريّين والأعجمين ، وقرأ نافع (الياسين) أي سلام على أهل كلام الله وآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن يس من كلام الله تعالى في القرآن.

قوله تعالى : (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١٣٣) ؛ أي من جملة المرسلين ، (إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) (١٣٥) ؛ يعني امرأته المنافقة تخلّفت في موضع العذاب في جملة الباقين ، (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) (١٣٦) ؛ أي أهلكناهم بعذاب الاستئصال.

قوله تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٣٨) ؛ هذا خطاب لمشركي العرب ، كانوا يعدون على قريات قوم لوط فلم يعتبروا.

قوله تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (١٤٠) ؛ أي هرب من قومه إلى السفينة المملوءة بالناس والدواب ، وإنما هرب لأن الله كان أوعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا فلم يؤمنوا ، وعلم أنّ العذاب نازل بهم ، فخرج من بينهم من غير أن يأمره الله تعالى بالخروج ، فكان ذلك دينا منه وكان

__________________

(١) في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٢٣٥ ؛ قال الزجاج : (وقرئت (الله ربكم) على صفة أحسن الخالقين الله ، وقرئت (الله ربّكم) على الابتداء والخبر).

(٢) الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ٣٢٠.

٣٢١

قصده حين خرج منهم للمبالغة في تحذيرهم وإنذارهم ، فكان بذهابه كالفارّ من مولاه ، فوصف بالأباق.

وقوله تعالى : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (١٤١) ؛ وذلك أنه لمّا ركب السفينة ، وقفت السفينة ولم تسر بأهلها ، فقال الملّاحون : ههنا عبد آبق من سيّده ، وهذا رسم السفينة إذا كان فيها عبد آبق لا تجري واقترعوا فوقعت القرعة على يونس فقال : أنا الآبق ، (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ.)

قال سعيد بن جبير : (لمّا استهموا جاء حوت إلى السّفينة فاغرا فاه ينتظر أمر ربه ، كأنّه يطلب واحدا من أهلها ، فقال يونس : يا أهل السّفينة أنا المطلوب من بينكم ، فقالوا : أنت أكرم على الله تعالى من أن يبتليك بمثل هذه البليّة ، فقال لهم : اقترعوا فمن خرجت القرعة على اسمه ألقي إلى الحوت ، وكان يعلم أنّ القرعة تخرج عليه ، إلّا أنّه لم يبدأ بإلقاء نفسه إلى الحوت مخافة أن تلحقه سمة الجنون ، فساهم فوقع السّهم عليه فكان من المسهومين).

والمدحض في اللغة : هو المغلوب في الحجّة ، وأصله من دحض الرجل إذا نزل من مكانه ، فلما ألقي عليه السّلّم في البحر ابتلعه الحوت ابتلاع اللّقمة.

وقوله تعالى : (وَهُوَ مُلِيمٌ) (١٤٢) ؛ أي أتى بما يستحقّ عليه اللّوم ، والمليم : الآتي بما يلائم على مثله ، وسبب استحقاقه اللّوم خروجه من بين قومه قبل ورود الإذن عليه من الله تعالى.

قوله تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) (١٤٣) ، أي لو لا أنه كان قبل أن يلتقمه الحوت من المصلّين لله تعالى ، (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٤٤) ؛ لمكث في بطن الحوت إلى يوم البعث والنّشور. قال الحسن : (ما كانت له صلاة في بطن الحوت ، ولكنّه قدّم عملا صالحا قبل ذلك) (١).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٧١٧). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ١٠ ص ٣٢٢٩.

٣٢٢

ويقال : إن المراد بالتسبيح في هذه الآية قوله في الحوت : لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين. قال السديّ : (لبث يونس في بطن الحوت أربعين يوما) (١) ، وقال الضحّاك : (عشرين يوما) (٢) ، وقال عطاء : (تسعة أيّام) (٣) ، وقال مقاتل : (ثلاثة أيّام) (٤).

قوله تعالى : (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) (١٤٦) ؛ أي ألهمنا الحوت أن يطرحه على فضاء من الأرض ، والعراء هو المكان الخالي من الشّجر والبناء ، قال مقاتل : (معنى : (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) يعني وجه الأرض وهو سقيم قد بلي لحمه مثل الصّبيّ المولود) ، قال ابن مسعود : (كهيئة الفرخ الّذي ليس عليه ريش).

وقيل : معنى (وَهُوَ سَقِيمٌ) أي وهو مريض ، وذلك لما أصابه في بطن الحوت من الشدّة والضّغطة والبعد من الهواء والغذاء ، حتى ضعف جسمه ورقّ جلده ولم يبق ظفر ولا شعر كالولد أوّل ما يخرج من بطن أمّه.

فلما ألقي على وجه الأرض كان يتأذى بحرّ الشّمس ، فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين ، قال الكلبيّ : (هي القرع) ، وهي شجرة الدّبّاء العربي ، وكلّ شجرة لا تقوم على ساق وتمتدّ على وجه الأرض مثل القرع والبطّيخ ونحوها فهو يقطين ، واشتقاقه من قطن من المكان إذا أقام به ، فهذا الشّجر يكون ورقه وساقه على وجه الأرض ، فلذلك قيل : يقطين ، ومن خصائص شجرة القرع أنّها لا يقربها ذباب ، قالوا : فكان يستظلّ بها من الشّمس ، وسخّر الله له وعلة (٥) بكرة وعشيّا تختلف إليه ، فكان

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٧٢٠).

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٠١.

(٣) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٠١.

(٤) نقله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ١٢٣ عن مقاتل بن حيان. وكذا البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٠١.

(٥) الوعل : تيس الجبل. والأنثى : وعلة. ينظر : القاموس المحيط : (وع ل)

٣٢٣

ثم أرسله الله بعد ذلك وهو قوله : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (١٤٧) ؛ وقال الحسن : (معناه : بل يزيدون) ، وقال الكلبيّ : (معناه : ويزيدون) ، وكان الذين أرسل إليهم أهل نينوى ، كأنّه أرسل قبل ما التقمه الحوت إلى قوم ، وبعد ما نبذه الحوت إلى قوم آخرين.

قوله : (فَآمَنُوا) ؛ أي فآمن من أرسل إليهم يونس عليه‌السلام بما جاءهم به من عند الله تعالى. قوله تعالى : (فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٤٨) ؛ أي إلى حين آجالهم. واختلفوا في الزيادة على مائة ألف ، قال مقاتل : (كانت الزّيادة عشرين ألفا) (١) ، وقال الحسن : (بضعا وثلاثين ألفا) (٢) ، وقال سعيد بن جبير : (سبعين ألفا) (٣).

وقوله تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) (١٤٩) ؛ أي سلهم ـ يا محمّد ـ أهل مكّة سؤال توبيخ وتقريع (ألربك البنات ولهم البنون)؟ وذلك أنّ قريشا وقبائل من العرب منهم خزاعة وجهينة وبنو سليم كانوا يقولون : إنّ الملائكة بنات الله ، تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا. وقوله تعالى : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) (١٥٠) ؛ أي حاضروا خلقنا إيّاهم ، فكيف جعلوهم إناثا ولم يشهدوا خلقهم كما قال الله تعالى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ)(٤).

قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٥٢) ؛ في إضافة الأولاد إلى الله تعالى حين زعموا أنّ الملائكة بنات الله ، تعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا ، (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) (١٥٣) ؛ القراءة المعروفة المشهودة بفتح الألف على الاستفهام الذي فيه التوبيخ ، والمعنى : سلهم أصطفى البنات ، إلّا أنه حذف ألف الوصل وبقيت ألف الاستفهام مفتوحة

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ١٠٨.

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٠٢.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٧٤٤). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ١٠ ص ٣٢٣١.

(٤) الزخرف / ١٩.

٣٢٤

مقطوعة على حالها مثل أستكبرت وأستغفرت (١) ، وأذهبتم ونحوها. وقرأ نافع برواية ورش (أَصْطَفَى) موصولة على الخبر والحكاية عن قول المشركين ، تقديره : ليقولون ولد الله ويقولون اصطفى البنات (٢).

وقوله تعالى : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١٥٤) ؛ هذا توبيخ لهم ؛ أي كيف ترضون لله ما لا ترضون لأنفسكم ،(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (١٥٥) ، أفلا تتّعظون فتمتنعون عن مقالتكم ،(أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) (١٥٦) ؛ أم لكم حجّة بيّنة على صحّة دعواكم هذه ، (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ ؛) وحجّتكم ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٥٧) فيما تدّعون.

قوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ؛) أي جعل هؤلاء بين الله وبين الملائكة الذين يشاهدونهم نسبا ، وسميت الملائكة جنّة في هذا لاستتارهم عن أعين الناس كاستتار الجنّ ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (١٥٨) ؛ أي علمت الملائكة أنّ الكفار الذين عبدوهم لمحضرون في العذاب لدعائهم إلى هذا القول.

ثم نزّه الله تعالى نفسه فقال : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (١٥٩) ؛ أي عمّا يصفونه ويضيفونه إليه ، (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٦٠) ؛ لكنّ عباد الله المخلصين من الجنّ والإنس لا يحضرون هذا العذاب.

قوله تعالى : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) (١٦١) ؛ هذا خطاب لأهل مكّة ، معناه : فإنّكم أيّها المشركون وما تعبدونه من دون الله الأصنام ، (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) (١٦٢) ؛ أي ما أنتم على ذلك بمضلّين أحدا ، (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) (١٦٣) ، إلّا من كان في علم الله أنه يصلى الجحيم ، وفي هذا بيان على أنّهم لا يفسدون أحدا إلّا من كان في معلوم الله أنه سيكفر ، يعني أن قضاء الله سبق في قوم بالشّقاوة ، فإنّهم يصلون النار ، فهم الذين يضلّون في الدّين ويعبدون الأصنام.

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) ينظر : إعراب القرآن : ج ٣ ص ٢٩٩. والحجة للقراء السبعة : ص ٣٢٢.

٣٢٥

قوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (١٦٤) ؛ هذا من قول جبريل عليه‌السلام للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ليس منّا معشر الملائكة ملك في السّموات والأرض إلّا له موضع معلوم يعبد الله فيه ، لا يتجاوز ما أمر به ، (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) (١٦٥) ؛ أي المصطفّون في الصّلاة كصفوف المؤمنين. وقيل : صافّون حول العرش ينتظرون الأمر والنهي من الله تعالى ، (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (١٦٦) ؛ أي المصلّون لله ، المنزّهون له عن السّوء ، وعن جميع ما لا يليق بصفاته.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) (١٦٧) ، أي وقد كان كفار مكّة يقولون : (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) (١٦٨) ، لو جاءنا ذكر كما جاء غيرنا من الأوّلين من الكتب ، (لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٦٩) ؛ لأخلصنا العبادة لله ، فلمّا جاءهم الرسول والكتاب كما قالوا وطلبوا ؛ (فَكَفَرُوا بِهِ) ، كفروا بذلك ، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (١٧٠) ، ماذا ينزل بهم ، وهذا كما قالوا : لو أنّا أنزل علينا الكتاب لكنّا أهدى منكم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) (١٧١) ؛ معناه : لقد تقدّم وعدنا بالنصر والظّفر لعبادنا المرسلين ، (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) (١٧٢) ، يعني بالكلمة قوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)(١) فهذه الكلمة التي قد سبقت ، فالله تعالى لم يفرض على نبيّ الجهاد إلّا ونصره وجعل العاقبة له ، قال الحسن : (ما غلب نبيّ في حرب ولا قتل فيه قط) (٢).

قوله تعالى : (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١٧٣) ؛ أي جند الله لهم الغلبة بالحجّة والنصر في الدّنيا ، وينتقم الله من أعدائه في الآخرة. قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) (١٧٤) ؛ أي أعرض عنهم حتى تنقضي المدّة التي أمهلوا فيها ، (وَأَبْصِرْهُمْ) ، في عذاب الآخرة ، (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) (١٧٥) ؛ ما وعدوا من

__________________

(١) المجادلة / ٢١.

(٢) ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ١٣٩.

٣٢٦

العذاب. وقيل : معناه : أعرض عنهم حتى نأمرك بقتالهم ، وأبصرهم بقلبك فسوف يبصرون العذاب بأعينهم.

فقالوا للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : متى ينزل بنا العذاب الذي تعدنا به؟ فقال الله تعالى : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) (١٧٦) ؛ أي يطلبون تعجيل عذابنا لجهلهم ، (فَإِذا نَزَلَ ؛) العذاب ، (بِساحَتِهِمْ ؛) أي بفناء دارهم وموضع منازلهم ، (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) (١٧٧) ؛ أي فبئس صباح قوم أنذرهم الرسل فلم يؤمنوا.

وعن أنس رضي الله عنه قال : لمّا أتى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر ، قال : [الله أكبر ، خربت خبير إنّا إذا نزلنا ساحة قوم فساء صباح المنذرين](١).

وقوله تعالى : (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) (١٧٨) ؛ إنّما ذكره ثانيا تأكيدا لوعد العذاب ، وقوله تعالى : (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) (١٧٩) ؛ ليس هذا بتكرار ؛ لأنّهما عذابان ، أراد بالأول عذاب الآخرة ، وبالثاني عذاب الدّنيا يوم بدر.

قوله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (١٨٠) ؛ أي تنزيها لربك رب القدرة والمنعة والغلبة عمّا يقولون من الكذب بالأوثان آلهة ، وأنّ الملائكة بنات الله.

وقوله تعالى : (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (١٨١) ؛ الذين بلّغوا عن الله التوحيد والشرائع. قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إذا سلّمتم عليّ فسلّموا على المرسلين ، فإنّما أنا رسول من المرسلين](٢).

قوله تعالى : (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٢) ؛ أي الشّكر لله رب الخلائق على إهلاك الأعداء وإعزاز الأولياء. وقيل : معناه : والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح : كتاب الأذان : الحديث (٦١٠). ومسلم في الصحيح : كتاب النكاح : الحديث (١٢٠ / ١٣٦٥).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : ج ١٢ ص ١٣٩ : الحديث (٢٢٨٠٦). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ١٠ ص ٣٢٣٤. وفي الدر المنثور : ج ٧ ص ١٤٠ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن سعد وابن مردويه مرسل).

٣٢٧

على إهلاك المشركين ونصرة الأنبياء.

وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : (من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليكن آخر كلامه من مجلسه : سبحان ربك رب العزّة عمّا يصفون ...) (١) إلى آخر السّورة.

آخر تفسير سورة (والصافات) والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) أخرجه البغوي في معالم التنزيل بإسناده عن أصبغ بن نباته عن علي رضي الله عنه ، وذكره. وفي الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ١٤١ ؛ قال القرطبي : (ذكره الثعلبي من حديث رضي الله عنه مرفوعا). ينظر : الكشف والبيان للثعلبي : ج ٨ ص ١٧٤.

٣٢٨

سورة ص

سورة ص مكّيّة ، وهي ثلاثة آلاف وتسع وتسعون حرفا ، وسبعمائة واثنان وثمانون كلمة ، وثمان وثمانون آية.

قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ سورة ص أعطي من الأجر وزن كلّ جبل سخّره الله تعالى لداود حسنات ، وعصم من أن يصرّ على ذنب صغير أو كبير](١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (١) ؛ اختلفوا في قوله (ص) قال : (صدق الله) وهو قول الضحّاك (٢) ، وقال عطاء : (صدق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، وقال محمّد بن كعب القرظي : (هو مفتاح اسم الله صمد وصانع المصنوعات وصادق الوعد) (٣). وقيل : هو من فواتح السّور. قال ابن عبّاس : (هو قسم أقسم الله به) (٤) ، وقال سعيد بن جبير : (هو بحر يحيي الله به الموتى بين النّفختين) (٥). وقيل : هو إشارة إلى صدود الكفّار عن القرآن والهدى.

قال الكلبيّ : (معناه : أعرض عن الهدى) كأنّه ذهب إلى أنّه كان في الأصل صدّ ؛ أي صدّ أبو جهل أو صدّ أهل مكّة عن الحقّ ، فأبدلت إحدى الدّالين ألفا).

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف : ج ٤ ص ١٠٥.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٨١٢).

(٣) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٠٤.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٨١٠).

(٥) ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ١٤٣.

٣٢٩

وقرأ عيسى بن عمر : (صاد) بفتح الدّال ، ومثل قاف ونون ، لاجتماع السّاكنين وحرّكها بأخفّ الحركات. ومعناه : صاد محمّد قلوب الرّجال واستمالها حتى آمنوا به. وقرأ الحسن : (صاد) بكسر الدّال من المضادّات التي هي من المقابلة والمعارضة ؛ أي عارض عملك بالقرآن (١).

قوله تعالى : (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) أي ذي البيان الهادي إلى الحقّ. وقيل : معناه : ذي الشّرف ، كما في قوله تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)(٢) والمعنى : أقسم الله تعالى بالقرآن أنّ محمّدا صادق ، وجواب قسم محذوف تقديره : والقرآن ذي الذّكر ما الأمر كما يقول الكفّار (٣).

قوله تعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) (٢) ؛ يعني : كفّار مكّة في منعة وحميّة وتكبّر عن الحقّ ، (وَشِقاقٍ) أي خلاف وعداوة لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله تعالى : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ؛) أي من أمم بتكذيبهم الرّسل ، (فَنادَوْا ؛) عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة ، (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) (٣) ؛ أي وليس الحين حين نزو ولا قرار (٤) ، قال وهب : (لات باللّغة السّريانيّة : وليس ، وذلك أنّ السّريانيّ إذا أراد أن يقول وليس يقول : ولات) (٥) وقال أئمّة اللّغة : (أصلها (لا) زيدت فيها التّاء ، كما زيدت في ثمّت وربّت). وقال قوم : إنّ التاء زيدت في (حِينَ) كما زيدت في قول الشّاعر :

العاطفون تحين ما من عاطف

والمطعمون زمان أين المطعم؟ (٦)

__________________

(١) ذكره ابن النحاس في إعراب القرآن : ج ٣ ص ٣٠٢.

(٢) الزخرف / ٤٤.

(٣) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ١٤٤ ؛ قال القرطبي : (ما الأمر كما يقولون من أنك ساحر كذاب ؛ لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة ، بل هم في تكبّر عن قبول الحق).

(٤) النّزو : من نزا ، أي وثب ، وبابه عدا. والمراد : ضرب العدوّ.

(٥) في الدر المنثور : ج ٧ ص ١٤٥ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب بن منبه) وذكره.

(٦) البيت لأبي وجزة السعدي. قاله ابن النحاس في إعراب القرآن : ج ٣ ص ٣٠٤. وينظر : اللسان : (ليت) : ج ١٢ ص ٣٧٣.

٣٣٠

والمراد بتحين : حين. فمن قال : إنّ التاء مع لا ، فالوقف عليه بالتاء. وروي عن الكسائيّ (ولاه) بالهاء في الوقف ، ومثله روى قنبل عن ابن كثير. ومن قال : إن التاء مع حين لا ، فالوقف عليه ، (ولا) ثم تبتدئ : تحين مناص (١).

قال ابن عبّاس : (كان كفّار مكّة إذا قاتلوا فاضطربوا في الحرب ، قال بعضهم لبعض : مناص ؛ أي اهربوا وخذوا حذركم ، فلمّا نزل بهم العذاب ببدر قالوا : مناص ، على عادتهم ، فأجابتهم الملائكة : ولات حين مناص ؛ أي ليس هذا حين منجى) (٢).

وقيل : معناه : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي ليس هذا حين نزو ولا حين فرار ، والمناص مصدر من النّوص ، يقال : ناصه ينوصه إذا فاته ، ويكون النّوص بمعنى التأخّر ؛ أي ليس هذا حين التأخّر ، والنّوص هو الفوت والتأخّر.

قوله تعالى : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ؛) أي وعجب المشركون أن جاءهم نبيّ منهم يخوّفهم من عذاب الله ، (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) (٤) ؛ يعنون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله تعالى : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ؛) أي قالوا لفرط جهلهم على وجه الإنكار : أجعل محمّد الآلهة إلها واحدا؟ (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥) ؛ أمّا هذا الذي يقول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ردّ الحوائج إلى إله واحد ، إلّا شيء مفرط في العجب.

والعجاب : ما يكون في غاية العجب ، يقال : رجل طوال ، وأمر كبار ، وسيف قطاع ، وسيل حجاف ، ويراد بذلك كلّ مبالغة.

وذلك أنّ عمر بن الخطّاب لمّا أسلم شقّ على قريش ، فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الرّؤساء والصّناديد والأشراف ، وكانوا خمسة وعشرين رجلا ، منهم الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم سنّا ، وأبو جهل ، وأبيّ بن خلف ، وأبو البحتري بن

__________________

(١) ينظر : إعراب القرآن للنحاس : ج ٣ ص ٣٠٤.

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٠٥. وينظر : الدر المنثور : ج ٧ ص ١٤٤. والجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ١٤٦.

٣٣١

هشام ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والعاص بن وائل ، والنضر بن الحارث ، ومخرمة بن نوفل ، وزمعة بن الأسود ، والأحنف بن شريق ، وغيرهم.

قال لهم الوليد بن المغيرة : امشوا إلى أبي طالب وقولوا له : أنت شيخنا وكبيرنا ، وإنّا أتيناك لتقض بيننا وبين ابن أخيك. فمشوا إليه وهو يومئذ مريض مرض الموت ، فشكوا إليه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ قال : [أريد منهم كلمة واحدة إذا قالوها ملكوا العرب ودانت لهم العجم] فقالوا : وما هي؟! قال : [قولوا لا إله إلّا الله] فنفروا من ذلك ؛ وقالوا : أنجعل آلهة إلها واحدا؟! (١)

وقيل : إنّ أبا طالب لمّا دعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا ابن أخي ؛ هؤلاء قومك يسألونك السّواء ، فلا تمل كلّ الميل عليهم ، فقال : [وماذا يسألونني؟] قال : ترفض ذكر آلهتهم ويدعونك وإلهك ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنّي أدعوهم إلى كلمة واحدة] قالوا : وما هي؟ قال : [لا إله إلّا الله].

فنفروا من ذلك ، وقال : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) ، فاغتاظوا من ذلك وخرجوا من عند أبي طالب يقول بعضهم لبعض : أمشوا واصبروا على آلهتكم (٢). فذلك قوله تعالى : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ)(٣) ؛ أي انطلق من مجلسهم وهم يقولون الذي كانوا فيه عند أبي طالب ، وهم يقولون : اثبتوا على عبادة آلهتكم واصبروا ، (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ ؛) على دينكم ، (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) (٦) ؛ أي هذا الشيء يريده محمّد صلّى الله عليه وسلّم ولا يتمّ له ذلك.

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ١ ص ٢٢٧. والترمذي في السنن : كتاب التفسير : الحديث (٣٢٣٢). والنسائي في السنن الكبرى : ج ٥ ص ٨٧٦٩.

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٠٤. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ١٥٠.

(٣) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٠٥. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ١٥٠.

٣٣٢

قوله تعالى : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ ؛) أي قالوا : ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التّوحيد في الملّة الآخرة ، يعنون النّصرانية ؛ لأنّها آخر الملل ، والنصارى لا توحّد بأنّهم يقولون : ثالث ثلاثة. (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) (٧) ؛ أي قالوا : ما هذا الذي يقوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا كذب اختلقه من تلقاء نفسه ، يعنون الذي جاء به من التوحيد والقرآن.

قوله تعالى : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ؛) أي قال المشركون : اختصّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنّبوة والكتاب من بيننا ، ونحن أكبر منه سنّا وأعظم شرفا! والمعنى بالذّكر القرآن.

يقول الله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي ؛) أي يقولون ما يعتقدونه إلّا شاكّين ، (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) (٨) ؛ الاستئصال ، وهذا تهديد لهم ، أي أنّهم سيذوقوا العذاب ثم لا ينتفعون بزوال الشّكّ في ذلك الوقت.

قوله تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (٩) ؛ معناه : عندهم خزائن رحمة ربك ؛ أي بأيديهم مفاتيح النّبوة والرّسالة فيضعونها حيث شاؤا. وقيل : معناه : عندهم خزائن رحمة ربك فيمنعونك ما منّ الله به عليك من الكرامة وفضّلك به من الرّسالة. ومعنى الآية : ليس ذلك بأيديهم ولكنه بيد العزيز في ملكه ، الوهّاب الذي وهب النبوّة لك.

قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) (١٠) ؛ وذلك أنّهم كانوا يحسدون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما خصّ به من النبوّة والوحي ، فقال الله تعالى : (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فينازعوا خالقهم ، وينزّل الوحي على من يختار ، فقال لهم : (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) أي فليصعد في طوق السّموات من سماء إلى سماء ، فليمنع الوحي عنك إن كان لهم مقدرة على ذلك.

قوله تعالى : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) (١١) ؛ أخبر الله تعالى نبيّه أنه سيهزم جند المشركين ببدر ، و (جُنْدٌ) خبر مبتدأ محذوف ؛ أي هم جند ، و (ما) زائدة ، و (هُنالِكَ) إشارة إلى بدل ومصارعهم بها و (الْأَحْزابِ) سائر من تقدّمهم

٣٣٣

من الكفّار الذين تجرّؤوا على الأنبياء عليهم‌السلام (١).

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) ، أي كذبت قبل قومك قوم نوح ، (وَعادٌ) ، هودا ، وكذب ، (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) (١٢) ، وموسى عليه‌السلام ، (وَثَمُودُ) ، صالحا ، (وَقَوْمُ لُوطٍ) ، لوطا ، (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ ؛) شعيبا ، كذب هؤلاء أنبياءهم فحلّ بهم عذاب الاستئصال ، وكذلك (أُولئِكَ ؛) أي أؤلئك ، (الْأَحْزابُ) (١٣) ، والأحزاب الجماعة الكثيرة القويّة ، (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) ، كلّهم كذبوا الرّسل رسلهم ، (فَحَقَّ عِقابِ) (١٤) ، فحقّ عليهم عقابي وعذابي ، وكذلك يحقّ على قومك.

وسمّي فرعون ذو الأوتاد ؛ لأنه كان يمدّ بين الأوتاد فيرسل عليهم الحيّات والعقارب. وقيل : إنه كان إذا غضب على الإنسان واتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض ، قال عطيّة : ((ذُو الْأَوْتادِ) ؛ أي ذو الجنود والجموع الكثيرة) (٢) يعني أنّهم كانوا يقوّن أمره ويشددون ملكه كما يقوّي الوتد الشيء. وقيل : الأوتاد الأبنية المشيدة ، سمّيت بذلك لارتفاعها كما سميت الجبال أوتادا.

قوله تعالى : (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ؛) أي ما ينظر أهل مكّة لوقوع العذاب بهم إلّا صيحة واحدة وهي نفخة البعث ، وذلك أنّ العقوبة في قوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤخّرة إلى يوم البعث ، وعقوبة الأمم الماضية كانت معجّلة في الدّنيا ومؤجّلة في الآخرة ، ألا ترى أنّ الله تعالى ذكر عقوبة الاستئصال في الدّنيا من الأمم الماضية ، وقال في هذه الأمّة (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ)(٣).

قوله تعالى : (ما لَها مِنْ فَواقٍ) (١٥) ؛ أي ما لتلك الصّيحة من رجعة إلى الدّنيا ، والفواق بضمّ الفاء وفتحها بمعنى واحد وهو رجوع ، ومن ذلك قولهم : أفاق فلان من الجنون ومن المرض ؛ إذا رجع إلى الصحّة. والفواق بضمّ الفاء ما بين

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء : ج ٢ ص ٣٩٩. وإعراب القرآن للنحاس : ج ٣ ص ٣٠٦.

(٢) ذكره أيضا البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٠٦.

(٣) القمر / ٤٦.

٣٣٤

حلبتي النّاقة ؛ لأن اللّبن رجوعه إلى الضّرع بين الحلبتين. والمعنى : ما ينظر هؤلاء إلّا صيحة واحدة ما لها من رجوع. وقيل : يردّد لك الصوت فيكون له رجوع (١).

قوله تعالى : (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) (١٦) ؛ أي قاله المشركون عجّل لنا صحيفتنا قبل الحساب حتى نعلم ما فيها ، قال الكلبيّ : (لمّا نزل في الحاقّة : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) و (أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) قالوا على جهة الاستهزاء : ربّنا عجّل لنا قطّنا في الدّنيا ، فقيل : يوم الحساب أعجل لنا كتابنا ، قالوا ذلك تكذيبا واستهزاء) (٢).

والقطّ : الصّحيفة التي أحصت كلّ شيء. وقيل : القطّ : النّصيب ، وسميت كتب الجوائز قطوطا لأنّهم كانوا يكتبون الأنصباء من العطايا في الصّحائف ، يقال : أخذ فلان قطّه ؛ إذا أخذ كتابه الذي كتب له بجائزته وصلته.

وقال ابن عبّاس : (معنى قوله (قِطَّنا) أي حظّنا من العذاب والعقوبة) (٣). قال قتادة : (نصيبنا من العذاب) (٤). قال مجاهد : (عقوبتنا) (٥). وقال عطاء : (هو يقوله النّضر بن الحارث : اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو اءتنا بعذاب أليم) (٦).

قوله تعالى : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ؛) اصبر يا محمّد على ما يقولون من تكذيبك وعلى قولهم إنّك ساحر وشاعر ومجنون وكاهن ، وانتظر ما وعدك الله من

__________________

(١) الفواق والفواق : اسمان من الإفاقة. ومعنى الإفاقة الرجوع والسكون كما في إفاقة المريض ، إلا أن الفواق بالفتح يجوز أن يقام مقام المصدر ، والفواق اسم لذلك الزمان الذي يعود فيه اللبن. والفيقة بالكسر اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين. ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ١٥٦. واللباب في علوم الكتاب : ج ١٦ ص ٣٨٧.

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٠٦.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٨٧٥).

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٨٧٧).

(٥) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٨٧٦).

(٦) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٠٦. وفي الدر المنثور : ج ٧ ص ١٤٨ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد بن حميد).

٣٣٥

النصر عليهم والانتقام منهم ، (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ ؛) أي ذي القوّة في العبادة وذا النّعم الكثيرة ، كيف صبر على أذى قومه ، (إِنَّهُ أَوَّابٌ) (١٧) ؛ أي مطيع لله ، مقبل على طاعته. والأوّاب : كثير الأوب الى الله تعالى. قال الزجّاج : (كانت قوّة داود على العبادة أتمّ قوّة ، كان يصوم يوما ويفطر يوما ، وذلك أشدّ الصّوم ، وكان يصلّي نصف اللّيل).

قوله تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) (١٨) ؛ معناه : إنّ الجبال كانت تسبح معه غدوة وعشيّة. والإشراق طلوع الشّمس وإضاءتها ، يقال : شرقت إذا طلعت ، وأشرقت في الآية بصلاة الضّحى ، وعن ابن عبّاس رضي الله عنه : (كنت أقرأ هذه الآية لا أدري ما هي ، حتّى حدّثتني أمّ هانيء في بيت أبي طالب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها فدعا بوضوء ، فتوضّأ ثمّ صلّى الضّحى ، وقال : [يا أمّ هانيء هذه صلاة الإشراق]) (١).

قوله تعالى : (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (١٩) ؛ أي وسخّرنا له الطّير مجموعة إليه تسبح الله معه غدوة وعشيا ، (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي كلّ لله تعالى مسبح ومطيع يرجع التسبيح مع داود كلما سبّح. وقيل : معناه : كلّ له رجّاع إلى طاعته وأمره.

قوله تعالى : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ ؛) أي قوّينا ملكه وثبّتناه بالهيبة ، ويقال بالحرس ، كان يحرس محرابه كلّ ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل ، كان فيهم أبناء الأنبياء لم يطمع في ملكه أحد. قرأ الحسن : (وشدّدنا) بالتشديد. قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٢٠) ؛ قال ابن عبّاس رضي الله عنه : (الحكمة هي النّبوّة والمعونة بكلّ ما حكم). فقال مقاتل : (الحكمة الفهم والعلم) (٢). وقيل : الحكمة كلّ كلام حسن يدعو إلى الهدى وينهى عن الرّدى.

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الأوسط : ج ٥ : الحديث (٤٢٥٨). وفي مجمع الزوائد : ج ٧ ص ٩٩ ؛ قال الهيثمي : (رواه الطبراني في الأوسط وفيه أبو بكر الهذلي ، وهو ضعيف).

(٢) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ١١٥.

٣٣٦

وأما (فَصْلَ الْخِطابِ) فهو فصل القضاء بين الحقّ والباطل فيما بين الخصوم ، لا يتعتع في قضائه (١). وقيل : فصل الخطاب وهو الحكم بالبيّنة واليمين. وقيل : هو قوله : أمّا بعد ، وهو أوّل من قال : أمّا بعد ، ومعناه أما بعد حمد الله فقد بلغت كذا وسمعت كذا.

قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (٢١) ؛ اختلفوا في خطيئة داود عليه‌السلام والذي هو مستفيض بين العوامّ ما ذكره الكلبيّ : (أن داود عليه‌السلام كان يصلّي ذات يوم في محرابه ، والزّبور منشور بين يديه ، إذ جاءه إبليس في صورة حمامة من ذهب فيها كلّ لون حسن ، فوقفت بين يديه فمدّ يده ليأخذها ، فطارت غير بعيد من غير أن توسّد من نفسها ، فامتدّ إليها ليأخذها فطارت حتى وقعت في الكوّة ، فذهب ليأخذها فطارت من الكوّة ، فجعل داود عليه‌السلام ينظر أين تقع ، فأبصر امرأة في بستان تغتسل ، وإذا هي من أعجب النّساء وأحسنهنّ ، وأعجبته ، فلما حانت منها التفاتة أبصرته فأسبلت شعرها على جسمها فغطّى بدنها ، فزاده ذلك إعجابا بها. فسأل دواد عنها وعن زوجها ، فقالوا اسمها تشايع بنت شائع وزوجها أوريّا بن حنانا وهو غائب في غزاة بالبلقاء مع أيّوب بن صوريا ابن أخت داود ، فكتب داود إلى ابن أخته : اذا أتاك كتابي هذا فابعث أوريا إلى موضع كذا وإلى القلعة الفلانيّة ، ولا يرجعوا حتى يفتحوها أو يقتلوا. فلما جاء الكتاب ندبه وندب الناس معه ، فأتوا القلعة فلما أتوها رموهم بالحجارة حتى قتلوهم وقتل أوريا معهم. فلما انقضت عدّتها تزوّجها داود عليه‌السلام ، فهي أمّ سليمان (٢).

__________________

(١) التّعتة في الكلام : التردد من حصر أو عيّ. والأصل أن فصل الخطاب عبارة عن كون الذي أوتيه يكون قادرا على التعبير عن كل ما يخطر بالبال ويحضر في الخيال ، بحيث لا يختلط شيئا بشيء ، وبحيث يفصل كل مقام عما يخالفه. وهذا معنى عام يتناول فصل الخصومات ويتناول الدعوة إلى دين الله الحق.

(٢) ما أورده الطبراني هنا في حقّ داود عليه الصلاة والسّلام من قبيل الإسرائيليات ، ولا صحة له. وأورده الطبري على سبيل حكاية اختلاف كما في جامع البيان : الآثار (٢٢٩٣٥ ـ ٢٢٩٤٢). وهي ضرب من أوهام القصّاص وخيالاتهم التي يجل الله عنها المؤمنين فضلا عن الأنبياء والمرسلين.

٣٣٧

فلما دخل داود عليه‌السلام بها ، فلم يلبث إلّا يسيرا حتى بعث عليه ملكين في صورة آدميّين ، فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته ، وكان من عادته أنّه جزّأ الدهر يوما لعبادته ؛ ويوما لنسائه ؛ ويوما للقضاء بين النّاس.

فلما جاء الملكان في يوم عبادته منعهما الحرس من الدخول عليه ، فتسوّروا المحراب ؛ أي دخلوا عليه من فوق المحراب (١) ، (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ) ، فلم يشعر وهو يصلّي إلّا وهما بين يديه جالسين ، (فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ) ، ففزع منهما ، فقالا : لا تخف يا داود نحن ، (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ ؛) أي ولا تجر ، قال السدّيّ : (ولا تسرف) (٢) ، وقال المؤرّج : (ولا تفرّط).

وقرأ أبو رجاء (تشطط) بفتح التاء وضمّ الطاء الأولى من الشّطط ، والإشطاط مجاوزة الحدّ. قوله تعالى : (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) (٢٢) ؛ أي وأرشدنا إلى الطريق المستقيم.

قوله تعالى : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ؛) قال أحد الملكين : إن هذا أخي ؛ أي على ديني له تسع وتسعون امرأة. والنعجة : البقرة الوحشيّة ، والعرب تكنّي عن المرأة بها ، وتشبه النساء بالنّعاج من البقر ، وإنما يعني بهذا داود ؛ لأنه كان له تسع وتسعون امرأة ، وهذا من أحسن التّعريض ، ويسمّى تعريض التفهيم والتنبيه ؛ لأنه لم يكن هناك نعاج.

وقوله تعالى : (وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ ؛) أي امرأة واحدة ، (فَقالَ أَكْفِلْنِيها ؛) أي ضمّها إليّ واجعلني كبعلها أعولها. والمعنى : طلّقها حتى أتزوّجها ، وقال ابن

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ١٠ ص ٣٢٣٨. وقال ابن كثير في التفسير : ج ٤ ص ٣٢ : (وقد ذكر المفسرون قصة أكثرها مأخوذ من الاسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده ؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه ، ويزيد وإن كان من الصالحين ، ولكنه ضعيف الحديث عند الأئمة ، فالأولى أن يقتصر في رواية هذه القصة وأن يردّ علمها إلى الله عزوجل).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٩١٤) بلفظ : (ولا تحف)

٣٣٨

جبير : (معنى قوله : (أَكْفِلْنِيها) أي تحوّل عنها) ، (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) (٢٣) ؛ أي غلبني ، وقال الضحّاك : (أي تكلّم وكان أفصح منّي ، وإن عاداني كان أبطش منّي) (١) ، وقال عطاء : (معناه أعزّ منّي وأقوى على مخاطبتي لأنّه كان الملك).

قوله تعالى : (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ؛) أي إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك بما كفلك من قوله عن امرأتك ليتزوّجها هو. قوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ؛) معناه : وإنّ كثيرا من الشّركاء ليظلم بعضهم بعضا ، ظنّ داود أنّهما شريكان. وقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ؛) معناه : إلّا الذين آمنوا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ؛) فإنّهم لا يظلمون أحدا ، (وَقَلِيلٌ ما هُمْ ؛) أي هم قليل ، يعني الذين لا يظلمون.

قال السديّ : (لما قال أحدهما : إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ، قال داود عليه‌السلام للآخر : ما تقول؟ قال : نعم لي تسع وتسعون نعجة وله نعجة ، وأنا أريد أن آخذها وأكمّل نعاجي مائة ، قال داود عليه‌السلام : وهو كاره؟ قال نعم وهو كاره ، قال : إذا لا ندعك وإن رمت ذلك ضربنا منك هذا ، وهذا يعني طرف الأنف ، وأصله : الجبهة.

قال : يا داود أنت أحقّ أن يضرب مثل هذا ، وهذا يعني طرف الأنف وأصله ، حيث كان له تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريّا إلّا امرأة واحدة ، فلم تزل تعرّضه للقتل حتى قتل وتزوّجت امرأته. ثم صعدا إلى السّماء ، فعلم داود عليه‌السلام أنّ الله قد ابتلاه وامتحنه ، فخرّ راكعا أي ساجدا وأناب ، ورجع إلى طاعة الله تعالى بالتّوبة والنّدامة (٢).

ومعنى قوله تعالى : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ؛) أي وعلم داود أنّا امتحنّاه بما قدّرنا عليه من نظره إلى المرأة وافتتانه بها ، وهذا قول بعض المفسّرين ، إلّا أنّ هذا قول مردود ، لا يظنّ بداود عليه‌السلام ضلالة ، فهو أجلّ قدرة وأعظم منزلة ، وكيف يظنّ بالأنبياء عليهم‌السلام أن يعرّض المسلمين للقتل لتحصيل نسائهم لأنفسهم ، ومن

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٩٢٩).

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٠٩.

٣٣٩

نسب الأنبياء عليهم‌السلام إلى هذا وصدّق به فهو ممّن لا يصلح لإيمانه بهم ، ولئن يخطئ الإنسان في نفي الفواحش عنهم خير ممّن يخطئ في إضافتها إليهم ، وقد أمرنا في الشّريعة بحمل أمور المسلمين على الصّحّة والسّداد ما أمكن.

وعن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما أنه قال : (ما زاد داود عليه‌السلام على أن قال لزوجها : تحوّل لي عنها) (١). وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : (لئن سمعت أحدا يقول إنّ داود عليه‌السلام قارب من تلك المرأة سواء أو حدّث بحديث داود عليه‌السلام على ما يرويه القصّاص معتقدا صحّته جلدته مائة وستّين جلدة) (٢) يعني مثل حدّ قذف سائر الناس.

وقيل : إنّ ذنب داود عليه‌السلام أنه تمنّى أن تكون له امرأة أوريا حلالا ، وحدّث نفسه بذلك ، فاتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه ، فلما بلغه قتله لم يجزع ولم يتوجّع عليه كما يجزع على غيره من جنده إذا هلك ، ثم تزوّج امرأته فعاتبه الله على ذلك ؛ لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله.

وقوله تعالى : (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) (٢٤) ؛ أي خرّ ساجدا ، وعبّر عن السّجود بالرّكوع لأن كليهما بمعنى الانحناء ، روي أنه مكث ساجدا أربعين ليلة حتى نبت العشب من دموعه على رأسه وأكلت الأرض جبينه ، وكان يقول : رب زلّ داود زلّة أبعد ما بين المشرق والمغرب ، سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء ، سبحان خالق النّور ، إلهي تبكي الثّكلى على ولدها إذا فقدته ، وداود يبكي على خطيئته.

إلهي أنت خلقتني وفي سابق علمك ما أنا إليه صائر ، سبحان خالق النّور ، إلهي الويل لداود إذا كشف الغطاء ، فيقال : هذا داود الخاطئ ، سبحان خالق النّور ، إلهي بأيّ عين أنظر إليك يوم القيامة ، وإنما ينظر الظالمون من طرف خفيّ ، وبأيّ قدم أقوم بها يوم تزلّ أقدام الخاطئين ، سبحان خالق النّور.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٩٢٤). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ١٠ ص ٣٢٤٠. وفي الدر المنثور : ج ٧ ص ١٦١ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس) وذكره.

(٢) ذكره ابن عادل الحنبلي في اللباب : ج ١٦ ص ٤٠٢.

٣٤٠