التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

وقال السديّ : (سواء لا زيادة ولا نقصان جوابا لمن سأل في كم خلقت الأرض والأقوات ، فيقال : أربعة أيّام سواء) (١). و (لِلسَّائِلِينَ) ههنا هم اليهود ، سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مدّة خلق السّموات والأرض ، ويجوز قوله (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) عائدا على تقدير الأقوات ، كأنه قال : لكلّ محتاج إلى القوت (٢).

قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ؛) قال السديّ : (كان ذلك الدّخان من نفس الماء حين تنفّس ، وكان بخاره يذهب في الهواء ، فخلقت السّماء منه وفتقت سبعا في يوم الخميس والجمعة) (٣).

وقوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ؛) أي ائتيا ما آمركما وافعلا ، كما يقال : ائت ما هو الأحسن ؛ أي افعله.

قال المفسّرون (٤) : إن الله تعالى قال : أما أنت يا سماء فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك ، وأما أنت يا أرض فشقّقي أنهارك واخرجي ثمارك ونباتك ، وقال لهما : اعملا ما آمركما طوعا وإلّا ألجأتكما ذلك حتى تفعلاه كرها ، فأجابتا بالطّوع وهو قوله تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١١) ؛ أي أتينا أمرك. ولمّا ركّب الله فيهنّ العقول ، وخطاب من يعقل جمعهن جمع من يعقل كما قال تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٥) ولو جمعهن جمع من لا يعقل لقيل : طائعات.

ويقال في معناه : أتينا نحن من فينا طائعين ، وإنّما ذكر تارة بلفظ التّثنية وتارة بلفظ الجمع ؛ لأن السّموات والأرض شيئان من حيث الجنس بمنزلة الفئتين

__________________

(١) نقله أيضا البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٤٧ عن قتادة والسدي.

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٣٤٣ ؛ قال القرطبي : (أو على تقدير : هذه سواء للسائلين. وقال أهل المعاني : (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) ولغير السائلين ، أي خلق الأرض وما فيها لمن سأل ولمن لم يسأل ، ويعطي من سأل ومن لا يسأل).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٤٩٩).

(٤) نقله الطبري عن ابن عباس في جامع البيان : الأثر (٢٣٤٩٧).

(٥) الأنبياء / ٣٣.

٤٢١

(والطائعين) ، فقيل لهما : ائتيا ، ثم السّموات بنفسها جماعة ، وكذلك الأرض ، فلذلك قالتا : (أَتَيْنا طائِعِينَ). وانتصب (طَوْعاً) و (كَرْهاً) على معنى أطيعا طاعة أو تكرهان كرها.

وبلغنا أن بعض الأنبياء قال : يا ربّ ؛ لو أنّ السّموات والأرض حين قلت لهما (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) عصياك ما كنت صانعا بهما؟ قال : كنت آمر دابّة من دوابي فتبتلعهما (١). قال : فأين تلك الدابة؟ قال : في مرج من مروج ، قال : وأين ذلك المرج؟ قال : في علم من علومي (٢).

قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ؛) أي صنعهنّ وأحكمهن وأتمّ خلقهن سبع سموات بعضها فوق بعض بما فيهنّ من الشمس والقمر والنجوم ، (فِي يَوْمَيْنِ) ، في يوم الخميس والجمعة ، فتمّ خلق السموات (٣) والأرض في ستّة أيام.

لفظ القضاء في اللغة بمعنى الإتمام ، ومن ذلك : انقضاء الشّيء إذا تمّ ، وقضى فلان إذا مات ؛ لأنه تمّ عمره ، وقال الشاعر (٤) :

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السّوابغ تبّع

عملهما وصنعهما.

قوله تعالى : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ؛) قال قتادة : (يعني خلق شمسها وقمرها ونجومها ، وخلق في كلّ سماء خلقها من الملائكة والخلق الّذي فيها من البحار وجبال البرّ وما لا يعلمه إلّا هو). وقيل : أمر في كلّ سماء بما أراد. وقيل : أوحى إلى أهل كلّ سماء ما يصلحها به من أمره.

__________________

(١) في المخطوط وضع الناسخ علامة تصحيح ، ولم يصحح ، وكتب برسم غير واضح (تبتلعهما). وتم ضبط النص من الجامع لأحكام القرآن.

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٣٤٤ ، نقله القرطبي على أنه حديث ، وقال : (ذكره الثعلبي) والمعروف أن الثعلبي ليس من أهل الحديث.

(٣) في المخطوط : (الشمس).

(٤) الشاعر هو : أبو ذؤيب الهذلي. والصّنع بفتحتين : الحاذق. ومسرودتان : صفة الموصوف محذوف ، أي درعان مسرودتان. والبيت من شواهد الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٢٨٩. وينظر : لسان العرب : ج ١ ص ١٦ : (تبع) وج ١١ ص ٢٠٩.

٤٢٢

قوله تعالى : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ ؛) أي زيّنا السّماء القربى إلى الأرض بمصابيح وهي النجوم ، وقوله تعالى : (وَحِفْظاً ؛) أي وحفظناها بالنّجوم من استراق الشّياطين السمع حفظا.

وقيل : انتصب (حِفْظاً) على تقدير : وزيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح زينة وحفظا ، فبعض النّجوم زينة للسّماء لا يتحرّك ، وبعضها يهتدى بها في ظلمات البرّ والبحر ، وبعضها رجوم للشّياطين.

قوله تعالى : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١٢) ؛ أي ذلك الذي سبق ذكره ؛ تقديره : العزيز في ملكه القادر القاهر الذي لا يلحقه عجز ولا يعتريه (١) سهو ولا جهل ، أحكم ذلك كلّه وأتقنه حتى لا يدخله الخلل مدى الدّهور.

قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ؛) الآية ، وذلك أنّ الملأ من قريش قالوا : قد التبس علينا أمر محمّد ، فلو التمستم رجلا عالما بالشّعر والكهانة والسّحر فأتاه وكلّمناه ، وأتانا ببيان أمره. فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الشّعر والكهانة والسّحر ، وعلمت من ذلك علما لا يخفى عليّ إن كان كذلك.

فمضى عتبة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في الحطيم ، فكلّمه ولم يترك شيئا إلّا قاله ، وكان عتبة من أحسن النّاس حديثا ، فقال : يا محمّد أنت خير أم هاشم (٢)؟ أنت خير أم عبد المطّلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فيم تشتم آلهتنا وتضلّل آباءنا؟ فإن كان ذلك طلبا للرّئاسة عقدنا لك ألويتنا وكنت رأسنا ما بقيت ، وإن كان لك الباءه زوّجناك عشر نسوة ممّن تختار من بنات قريش ، وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك. ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساكت لا يتكلّم.

__________________

(١) في المخطوط : (يعتد به).

(٢) في المخطوط : (هشام).

٤٢٣

فلمّا فرغ عتبة من كلامه قرأ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بسم الله الرّحمن الرّحيم (حم ، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ...) إلى قوله (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ). فوثب عتبة فزعا مخافة أن يصبّ عليه العذاب الّذي خوّفه به النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتى قومه مذعورا وأقسم لا يكلّم محمّدا بعدها أبدا.

فقال له أبو جهل : لعلّك صبوت إلى محمّد ، وما ذاك إلّا من حاجة أصابتك ، وإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمّد! فغضب عتبة وقال : والله لقد كان أبي من أكثر قريش مالا ، ولكن أتيته وقصصت عليه القصّة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، والله ما اهتديت لجوابه. فقال حرث بن علقمة : والله لقد أفسد هذا الرّجل ديننا وفرّق بين كلمتنا ، وأيم الله لئن بقي هذا الرّجل ويقيم ليكوننّ بطن الأرض خير لكم من ظهرها ، وسيبين ذلك لكم إذا خرج منكم إلى غيركم ، فذروه ما ترككم (١).

ومعنى الآية : فإن أعرضوا عن الإيمان بك ولم يقبلوا قولك بعد هذا البيان ، فقل : خوّفتكم عذابا مثل عذاب قوم هود وقوم صالح. والصّاعقة : هو الهلاك على حالة هائلة.

وقوله تعالى : (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي إذا جاءتهم الرسل إلى من كان قبلهم فعلموا بتواتر الأخبار ، ثم إنّهم الرسل أيضا من خلف من كان قبلهم بأن لا يعبدوا إلّا الله ، (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ؛) أي لو شاء ربّنا أن ينزّل إلينا رسولا لأنزل ملائكة من جنده ، (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (١٤) ؛ ما أنتم إلّا بشر مثلنا. ويجوز أن يكون معنى (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) بأن الرّسل أتتهم من جميع جهاتهم.

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٣٠٨ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه ، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل ، وابن عساكر عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما) وذكره. وأخرجه البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٤٨. والنحاس في إعراب القرآن : ج ٤ ص ٣٩.

٤٢٤

قوله تعالى : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ؛) أي تعظّموا عن الإيمان بنبيهم وأعجبتهم أجسامهم ، (وَقالُوا ؛) لنبيّهم : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ؛) بالبدن فيهلكنا ، وذلك أنّ هودا عليه‌السلام خوّفهم وهدّدهم بالعذاب ، فقالوا : نحن نقدر على دفعه بفضل قوّتنا ، وكانت لهم أجسام طويلة وخلق عظيم ، فلما أتتهم الريح قاموا ليصدّون عنهم فحملتهم إلى عنان السّماء ثم صرعتهم على وجوههم ثم ألقت عليهم الرّمل حتى غطّتهم ، وكان يسمع أنينهم تحت التّراب حتى أهلكهم الله.

فلمّا قالوا لنبيّهم : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) قال الله تعالى ردّا عليهم : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ؛) لأن الخالق للشّيء لا بدّ أن تكون له مزية على خلقه ، (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (١٥) ؛ أي يكفرون.

قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً ؛) أي عاصفا شديد الصّوت ، مأخوذ من الصّرّة وهي الصيحة ، وقال ابن عبّاس : (يعني الباردة ، مأخوذ من الصّرّ وهو البرد). قال الفرّاء : (هي الباردة تحرق كما تحرق النّار) (١) وهي ريح باردة شديدة الهبوب ، ذات صوت تحرق كالنّار.

وقوله تعالى : (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ ؛) أي نكدات مشؤومات عليهم ، ذات نحوس ، قال ابن عبّاس : (كانوا يتشاءمون بتلك الأيّام). قرأ ابن عامر وأهل الكوفة (نَحِساتٍ) بكسر الحاء ، وقرأ الباقون بسكونها ، يقال : يوم نحس ونحس.

قوله تعالى : (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ؛) أي عذاب الهون والذّلّ وهو العذاب الذي يخزون به ، والخزي والفضيحة والنّكال كلّه بمعنى واحد ، (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) (١٦) ، وعذاب الآخرة أبلغ في المذلّة وأبقى وأشدّ ، لا يدفع عنهم ولا يخفّف عنهم.

قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ؛) أي وأمّا ثمود فبيّنّا لهم سبيل الهدى ودعوناهم ودللناهم على الخير بإرسال الرّسل ، فاختاروا

__________________

(١) قاله الفراء في معاني القرآن : ج ٣ ص ١٣.

٤٢٥

الكفر على الإيمان بعد أن أريناهم الأدلّة وأخرجنا لهم ناقة عشراء من صخرة ملساء ، (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ ؛) أي ذي الهوان ، (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٧) ، بكفرهم وعقرهم الناقة ، (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا ؛) بصالح ، (وَكانُوا يَتَّقُونَ) (١٨) ؛ الشّرك والكبائر.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (١٩) ؛ قرأ نافع ويعقوب (نحشر) بنون مفتوحة وضمّ الشّين ، ونصب (أعداء) ، وقرأ الباقون (يُحْشَرُ) بالياء المضمومة ورفع (أَعْداءُ). ومعنى الآية : وأنذرهم يوم يجمع أعداء الله ويساقون إلى النار بالعنف ، وقوله تعالى (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا ثم يقذفون في النار.

وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها ؛) أي حتّى إذا جاءوا النار التي لم يقذفوا (١) ثم يقذفون في النار. قوله تعالى : حشر أعداء الله حبسوا عندها وهم يعاينونها ، ويقال لهم : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ، فيجحدون ويقولون : والله ربنا ما كنا مشركين ، فعند ذلك يختم على أفواههم وتستنطق جوارحهم (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ ؛) وكلّ عضو من أعضائهم بما ارتكبوا من الكفر والمعاصي.

قوله تعالى : (وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٠) ؛ قال ابن عبّاس : (يريد فروجهم ، كنّى عنها بالجلود) (٢). وقيل : الجلود الجوارح ، (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ) ، فيقول الكفّار لجلودهم بعد ما يردّ النطق إلى ألسنتهم : (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ؛) وعملتم على هلاكنا ، (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ؛) وتمّ الكلام.

ثم قال الله تعالى : (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢١) ؛ أي ليس إنطاقه الجلود أبدع من خلقه إيّاكم ابتداء وإعادة بعد الموت ، وليس هذا من كلام الجلود.

__________________

(١) في المخطوط : (حتى إذا جاءوا النار التي ثم يقذفون في النار).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٥٢٧) عن الحكم الثقفي ، و (٢٣٥٢٨) عن عبيد الله ابن أبي جعفر.

٤٢٦

قوله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ؛) معناه : ما كنتم تستترون بالمعاصي عن الناس مخافة من أن تشهد عليكم هذه الجوارح في الآخرة ؛ لأنّكم ما كنتم تظنّون ذلك ، (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٢) ؛ ولكن عملتم بالمعاصي عمل من يظنّ أنّ الله لا يعلم بما يعمله في السرّ. قال ابن عبّاس : (كان الكفّار يقولون : إنّ الله لا يعلم ما في أنفسنا ولكنّه يعلم ما يظهر!).

قوله تعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ ؛) أي ظنكم أن الله لا يعلم ما تعملون ، (أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣) ؛ أي أهلككم فصرتم من المنبذين بالوزر والعقوبة. وقيل : معنى (أَرْداكُمْ) أي طرحكم في النار (١).

قوله تعالى : (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ؛) أي فإن يمسكوا عن الاستغاثة ولم ينطقوا بشكوى فالنار مسكن لهم منتقمة منهم ، (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) (٢٤) ؛ أي وإن يطلبوا العتبى وهي الرّضا فماهم عن «أن» يطلبوا رضاهم ويقبل عذرهم. يقال : أعتبني فلان ؛ أي أرضاني بعد استخاطه إيّاي ، واستعتبته طلبت منه أن يعتب أي يرضى.

قوله تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ ؛) معناه : سبّبنا لهم أعوانا وقرناء من الشّياطين حتى أضلّوهم وهو قوله تعالى : (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ؛) من أمر الآخرة أن لا جنّة ولا نار ولا بعث ولا حساب ، (وَما خَلْفَهُمْ ؛) من أمر الدّنيا أن لا ينفقوا في وجوه البرّ ، وأن يتلذذوا في الدّنيا ويجمعوا الأموال ، (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ؛) أي وجب عليهم ، (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (٢٥).

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢٦) ؛ وذلك أنّ كفار قريش قالوا لأتباعهم : لا تسمعوا هذا القرآن

__________________

(١) نقله البغوي عن ابن عباس في معالم التنزيل : ص ١١٥٠.

٤٢٧

الّذي يقرؤه عليكم محمّد ، فإذا سمعتموه يقرأ فارفعوا أصواتكم بالأشعار والأراجيز والغوا فيه بالمكاء والصّفير ، وقابلوه بكلام اللّغو حتى تغلبوه فيسكت.

يقول الله تعالى : (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً ؛) أي في الدّنيا بالقتل والأسر ، (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٧) ، ولنعاقبنّهم في الآخرة بعذاب أشدّ من عذابهم في الدّنيا ، (ذلِكَ ؛) العذاب ، (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ). وقوله تعالى : (النَّارُ ؛) بدل من العذاب ؛ أي بدل من قوله (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ). وقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ ؛) أي لهم في النّار دار الإقامة ، (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (٢٨) ؛ يعني القرآن جحدوا أنه من عند الله.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ؛) معناه : يقول الّذين كفروا في النار : يا ربّنا أرنا اللّذين أضلّانا عن الحقّ. قال بعضهم : يريد به إبليس وقابيل أوّل من أحدث المعصية في بني آدم ، (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ؛) أي أسفل منّا في النار ، (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) (٢٩) ؛ في الدّرك الأسفل. وقيل : معناه : ليكونا أشدّ عذابا منّا.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ؛) أي إنّ الذين وحّدوا الله ، (ثُمَّ اسْتَقامُوا) ، على الإيمان ولم يشركوا. وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : (اللهمّ أنت ربّنا فارزقنا الاستقامة) (١).

وقال أبو بكر رضي الله عنه : (يعني ثمّ استقاموا على أنّ الله رب لهم) (٢) ، وقال مجاهد : (هم الّذين لم يشركوا به شيئا حتّى يلقوه) (٣). وقال بعضهم : يعني الاستقامة على أداء الفرائض ولزوم السّنة. وروي عن عمر رضي الله عنه : (استقاموا لله بطاعته ولم يروغوا روغان الثّعالب) (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٥٥٩).

(٢) بمعناه ؛ أخرجه الطبري في جامع البيان : الآثار (٢٣٥٥١ ـ ٢٣٥٥٢).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٥٥٤).

(٤) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٥١. وفي الدر المنثور : ج ٧ ص ٣٢٢ ؛ قال السيوطي :

(أخرجه ابن المبارك وسعيد بن منصور وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن

٤٢٨

وقوله : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ؛) يعني قبض أرواحهم فتقول لهم : (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٣٠) ؛ أي لا تخافوا ما أنتم واقفون عليه ، ولا تحزنوا على الدّنيا وأهلها ، وتقول لهم عند خروجهم حين يرون أهوال القيامة : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ؛) تولّيناكم وحفظنا أعمالكم ، ونتولّاكم في الآخرة ونحفظكم.

وعن ثابت أنه قال : (بلغنا أنّ المؤمن إذا خرج من قبره يوم القيامة ، نظر إلى حافظين قائمين على رأسه يقولان له : لا تخف اليوم ولا تحزن وأبشر بالجنّة الّتي كنت توعد) (١).

وقال عثمان رضي الله عنه في معنى قوله : (ثُمَّ اسْتَقامُوا) : ثمّ أخلصوا العمل لله عزوجل) (٢). وقال مجاهد وعكرمة : (معناه : ثمّ استقاموا على شهادة أن لا إله إلّا الله حتّى لحقوا بالله) (٣).

وقال مقاتل : (استقاموا على المعرفة ، ولم يرتدّوا ، تتنزّل عليهم الملائكة) (٤) في ثلاث مواطن : عند الموت ، وفي القبر ، وفي وقت البعث : أن لا تخافوا على صنيعكم ولا تحزنوا على مخلّفيكم (٥).

وقال مجاهد : (أن لا تخافوا على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة ، ولا تحزنوا على خلفتكم في الدّنيا من ولد وأهل ، فإنّه سيخلفكم في ذلك كلّه) (٦). وقال السديّ : (لا تخافوا من ذنوبكم فإنّي أغفرها لكم).

__________________

ـ المنذر) وذكره. وأخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٥٥٩).

(١) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٣٢٣ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ثابت أنه قرأ السجدة) وذكره.

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٥١.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٥٥٧).

(٤) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ١٦٦.

(٥) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٥١.

(٦) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٥١.

٤٢٩

وقال بعضهم : معنى هذه الآية : أنّ الّذين قالوا : (رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) بالوفاء على ترك الخنى (١) تتنزّل عليهم الملائكة بالرّضى : أن لا تخافوا من الغنى ولا تحزنوا على الغنى وأبشروا بالبقاء مع الذي كنتم توعدون من اللقاء. وقيل : معناه : ألّا تخافوا فلا خوف على أهل الاستقامة ، ولا تحزنوا فإن لكم أنواع الكرامة وأبشروا بالجنة التي هي دار السّلامة ، لا تخافوا فعل دين الله إن استقمتم ، ولا تحزنوا ، فبحبل الله اعتصمتم ، وأبشروا بالجنة إن تبتم لا تخافوا ما دمتم ولا تحزنوا فقد نلتم ما طلبتم ، وأبشروا بالجنة التي فيها رغبتم ، ولا تحزنوا فأنتم أهل الإيمان ، ولا تحزنوا وأنتم أهل الغفران ، وأبشروا بالجنة التي هي دار الرّضوان ، لا تخافوا وأنتم أهل الشّهادة ، ولا تحزنوا فأنتم أهل السّعادة ، وأبشروا بالجنة التي هي دار الزّيادة ، لا تخافوا فأنتم أهل النّوال ، ولا تحزنوا فأنتم أهل الوصال ، وابشروا بالجنة التي هي دار الحلال ، لا تخافوا فقد أمنتم الثّبور ، ولا تحزنوا فإن لكم الحور ، وأبشروا بالجنة التي هي دار السرور ، ولا تخافوا فسعيكم مشكور ، ولا تحزنوا فذنبكم مغفور ، وابشروا بالجنة التي هي دار النور ، لا تخافوا فطالما كنتم خائفين ، ولا تحزنوا فقد كنتم عارفين ، وأبشروا بالجنة التي عجز عنها وصف الواصفين ، لا تخافوا فأنتم من أهل الإيمان ، ولا تحزنوا فأنتم من أهل الحرمان ، وأبشروا بالجنة التي هي دار الأمان. لا تخافوا فسلمتم من أهل الجحيم ، ولا تحزنوا فقد وصلتم إلى الرب الرحيم ، وأبشروا بالجنة التي هي دار النعيم ، لا تخافوا فقد زالت عنكم المخافة ، ولا تحزنوا فقد سلمتم من كلّ آفة ، وابشروا بالجنة التي هي دار الضيافة ، لا تخافوا العزل من الولاية ، ولا تحزنوا على ما قدّمتم من الجناية ، وأبشروا بالجنة التي هي دار الهداية ، لا تخافوا حلول العذاب ، ولا تحزنوا من هول الحساب ، وأبشروا بالجنة التي هي دار الثواب ، لا تخافوا فأنتم سالمون من العقاب ، ولا تحزنوا فأنتم واصلون إلى الثواب ، وأبشروا بالجنة فأنّها نعم المآب.

قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ ؛) أي تقول لهم الملائكة : نحن أولياؤكم ؛ أي نحن الحفظة الذي كنا معكم في الأولى ، ونحن أحبّاؤكم أولياؤكم

__________________

(١) الخنا : الفحش ، وقد (خنى) عليه من باب (صدى) و (أخنى) عليه في منطقه : أي أفحش. وأخنى عليه الدهر : أتى عليه وأهلكه. مختار الصحاح : ص ١٩٢.

٤٣٠

في الآخرة ، لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة ، (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من الكرامات واللّذات ، يعني ولكم في الآخرة ما تشتهي أنفسكم ، (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٣٢) ؛ أي أنزلهم الله نزلا ، ولا يجوز أن يكون قوله (نُزُلاً) جمع نازلة ، ويكون المعنى : ولكم ما تدّعون من غفور رحيم نازلين. ويجوز أن يراد به القوت الذي يقام للنازل والضّيف ، والمعنى : ثبت لهم ما يدّعون (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) أي كثير المغفرة ، رحيم بمن كان على الإيمان والتوبة.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : لمّا نزلت هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) قال : [أمّتي ورب الكعبة](١) ، لأنّ اليهود قالوا ربّنا الله ثم لم يستقيموا إذ قالوا : عزير ابن الله! والنصارى قالوا : ربنا الله ، ثم لم يستقيموا إذ قالوا : المسيح ابن الله!

قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً ؛) قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : (أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا إلى شهادة أن لا إله إلّا الله) ، وقال الحسن : (هو المؤمن أجاب الله دعوته ودعوة النّاس إلى ما أجاب الله فيه دعوته وعمل صالحا في إجابته) (٢)(وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٣) ؛ وقالت عائشة رضي الله عنها : (إنّ هذه الآية نزلت في المؤذّنين الّذين يدعون إلى الصّلاة ويصلّون بين الأذان والإقامة) (٣).

قوله تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ؛) ولا تستوي كلمة التّوحيد وكلمة الشّرك ، وقيل : هما الطاعة والمعصية ، ويقال : الخصلة الحميدة والخصلة السيّئة. وقيل : الحلم والجهل ، والعفو والإساءة.

__________________

(١) ذكره الثعلبي في الكشف والبيان : ج ٨ ص ٢٩٤ ؛ قال : (روى ثابت عن أنس) وذكره. ونقله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٣٥٨ ، ولم أقف عليه.

(٢) نقلهما البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٥١. وأخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٥٦٩).

(٣) نقله البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٥١. وفي الدر المنثور : ج ٧ ص ٣٢٥ ؛ قال السيوطي :

(أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه).

٤٣١

ودخول (لا) في قوله : (وَلَا السَّيِّئَةُ) زائدة للتأكيد وبعد المساواة (١) ؛ لأن المعنى : لا تستوي الحسنة والسيئة ، ومثله قول الشاعر :

ما كان يرضى رسول الله فعل

هم والطّيّبان أبو بكر وعمر

وقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ؛) أي ادفع السّفاهة والعجلة بالأناة وبالرّفق ، وذلك أنه إن لقيت بعض من يضمر في نفسه عداوتك فتبدأه بالسّلام أو تبتسم في وجهه لأن ذلك يلين لك قلبه ، ويسلم لك صدره فذلك قوله تعالى : (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (٣٤) ؛ أي إذا فعلت ذلك صار الذي يعاديك صديقا قريبا لك. وتسمّي العرب القريب حميما ؛ لأنه يحمي لما يهم صاحبه.

قوله تعالى : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ؛) أي ما يلقى هذه الخصلة التي هي دفع السّيئة بالحسنة إلّا الذين صبروا على كظم الغيظ واحتمال المكروه وصبروا على طاعة الله ، وصبروا عن معصيته ، (وَما يُلَقَّاها) ، أي وما يعطاها ، (إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٣٥) ؛ من الخير. وقيل : من الصبر ، وقيل : الحظّ العظيم الجنّة ، أي ما يلقّاها إلّا من وجبت له الجنّة. وقيل : الحظّ العظيم القدر ، العظيم عند الله.

قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ ؛) أي وإمّا يلحقنّك من الشيطان وسوسة عند هفوة غيرك وعند ما يدعو بك إلى معصية الله فتصرفك الوسوسة عن الاحتمال ، (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ؛) أي اعتصم بالله من شرّ الشّيطان ، امض على حكمك ، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ؛) لمقالة أعدائك ، (الْعَلِيمُ) (٣٦) ؛ بهم وبمجاراتهم.

ثم ذكر الله علامات توحيده ودلائل قدرته ؛ فقال : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ؛) أي ومن آياته الدّالة على ربوبيّته ووحدانيّته الليل والنهار بما فيهما من المنافع والمقاصد ، والشمس والقمر بما فيهما من البدائع ، (لا

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للأخفش : ج ٢ ص ٦٨٤.

٤٣٢

تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ؛) أي لا تعبدوا الشمس والقمر ، واعبدوا الله الذي خلقهنّ ، (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (٣٧) ؛ أي إن كنتم تريدون بعبادة الشّمس والقمر عبادة الله.

وذلك أنّ قوما من الكفّار يسجدون لهما ويزعمون أنّهم يتقرّبون بذلك إلى الله تعالى ، فقيل لهم : إن كنتم تريدون بذلك عبادة الله تعالى ، فالسّجود لخالقهما أولى من السّجود لهما.

فإن قيل : ما معنى قوله (خَلَقَهُنَّ) والقمر مذكّر والشمس مؤنّثة ، والمذكّر والمؤنث إذا اجتمعا غلب المذكّر؟ قلنا : إنّ قوله (خَلَقَهُنَّ) راجع إلى الآيات التي سبق ذكرها في أوّل هذه الآية من الليل والنهار والشّمس والقمر ، ويكون ضمير ما لا يعقل على لفظ التأنيث كما يقال : هذه كباش ذبحن وذبحت.

قوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ؛) أي فإن تكبّروا عن عبادتي والسجود لي فالملائكة الذين عند ربك بقرب الكرامة والمنزلة يصلّون له بالليل والنهار ، وينزّهونه عن كلّ ما لا يليق به ، (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) (٣٨) ؛ أي لا يميلون على عبادته ولا يفترون.

واختلفوا في موضع السّجود من هذه السّورة ؛ فقال الحسن : (عند قوله (تَعْبُدُونَ). وهو قول الشّافعي. وقال ابن عبّاس ومسروق : (هو عند قوله : (لا يَسْأَمُونَ) وهو قول علمائنا ، وهو الأصحّ لأنه موضع تمام الكلام (١).

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ؛) من آياته الدّالة على وحدانيّته وقدرته أنّك ترى الأرض مغبرّة يابسة لا نبات فيها ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ؛) تحرّكت للنبات وانتفخت وارتفعت له حتى يكاد النبات يظهر ، (إِنَّ الَّذِي أَحْياها ؛) بإنزال المطر ، (لَمُحْيِ الْمَوْتى ؛) في الآخرة ، (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩) ؛ من الإحياء والإماتة.

__________________

(١) نقله القرطبي الخلاف بتفصيل أكثر في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٣٦٤.

٤٣٣

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا ؛) أي يميلون عن الحقّ في آياتنا إلى جانب الباطل ، قال مقاتل : (يميلون عن الإيمان بالقرآن (١)) (٢) ، وقال مجاهد : (يلحدون بآياتنا بالمكاء واللّغط) (٣) ، (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) ، بأشخاصهم وأفعالهم وأقوالهم وعزائمهم. واللّحد واللّحاد بمعنى واحد وهو الميل ، ومنه الملحد لعدوله عن الحقّ ، ومنه اللّحد الذي في القبر لأنه في جانب منه.

قوله تعالى : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ ؛) هو تقدير نفي المساواة بين الفريقين. قيل : المراد قوله (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ) أبو جهل وجدله (خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) حمزة ، وقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤٠) ؛ لفظه لفظ الأمر ، ومعناه التهديد والوعيد.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ ؛) أي بالقرآن ، (لَمَّا جاءَهُمْ ؛) وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) (٤١) ؛ محذوف الجواب ، تقديره : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) سينزل بهم من العذاب ما هو مذكور في الكتاب العزيز. والعزيز : هو الكريم على الله. وقيل : هو الممتنع على من يريد معارضته وتغييره بزيادة ونقصان.

قوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ؛) أي لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ولا يجيء بعده كتاب فيبطله ، وقال الزجّاج : (معناه : أنّه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه ، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه) (٤) ، فمعنى الباطل على هذا الزيادة والنقصان. وفي عين المعاني : (الباطل إبليس).

__________________

(١) في المخطوط : (بالكفران).

(٢) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ١٦٨.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٥٩١).

(٤) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ص ٢٩٤.

٤٣٤

وقوله تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤٢) ؛ أي منزّل من عالم بوجوه الحكمة ، مستحقّ للحمد على خلقه بإنعامه عليهم.

قوله تعالى : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ؛) فيه تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما كان يلحقه من أذيّة قومه ؛ أي قد قيل للأنبياء قبلك ساحر ، وكذّبوا كما كذّبت. ويجوز أن يكون معناه : ما أقول لك ولا آمرك بتبليغ الوحي والرسالة إلّا ما قد قيل للرّسل قبلك.

وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) (٤٣) ؛ أي لذو مغفرة لمن تاب وآمن ، وذو عقاب أليم لمن ثاب (١) على الكفر.

وقوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ؛) أي لو جعلناه قرآنا بلغة غير لغة العرب لقال العرب : ولو بيّنت آياته بلغة العرب حتى نفهمها عندك بغير مترجم.

قوله تعالى : (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ؛) استفهام على وجه الاستبعاد ؛ كأنّهم قالوا : كتاب أعجميّ ورسول عربيّ ، كيف يكون هذا؟! فينكرونه أشدّ الإنكار. يقال : رجل أعجميّ إذا كان لا يفصح سواء كان من العرب أو العجم ، ورجل عجميّ إذا كان منسوبا إلى العجم وإن كان فصيحا ، ورجل أعرابيّ إذا كان من أهل البادية سواء كان من العرب أو لم يكن ، ورجل عربيّ إذا كان منسوبا إلى العرب وإن كان غير فصيح.

ومعنى الآية : أنّهم كانوا يقولون : إنّ المنزّل عليه عربيّ ، والمنزّل أعجميّ ، فكان ذلك أشدّ لتكذيبهم ، (قُلْ ؛) يا محمّد : (هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ؛) يعني القرآن هدى للذين آمنوا من الضّلالة وشفاء من الأوجاع. وقال مقاتل : (شفاء لما في القلوب بالبيان الّذي فيه) (٢).

__________________

(١) ثاب : رجع ، وثاب الناس : اجتمعوا وجاءوا. والمثابة : الموضع الذي يثاب إليه مروى بعد أخرى ، ومنه سمي المنزل مثابة ، وأراد هنا الإصرار على الكفر.

(٢) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ١٦٩.

٤٣٥

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ؛) أي إنّهم في ترك القبول بمنزلة الصّمّ العمي ، وسيؤدّيهم تكذيبهم إلى العمى ، وقوله تعالى : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ؛) أي عموا عن القرآن وصمّوا عنه.

وقال السديّ : (عمت قلوبهم عنه) (١). والمعنى : وهو عليهم ذو عمى. وانتصب قوله (عمى) على المصدر. وقوله تعالى : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٤٤) ؛ أي إنّهم لا يسمعون ويفهمون كما أنّ من دعا من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم. والمعنى : أنّه بعيد عندهم من قلوبهم ما يتلى عليهم.

قوله تعالى : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ؛) يعني التوراة ، (فَاخْتُلِفَ فِيهِ ؛) قومه كما اختلف قومك في القرآن ، وهذا تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ؛ أي كما آتيناك الكتاب وكذب به قومك وصدّق به بعضهم كذلك آتينا موسى الكتاب فكذب به بعض قومه وصدّق به بعضهم.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ؛) معناه : ولو لا كلمة سبقت من ربك في تأخير العذاب عن هذه الأمة إلى يوم القيامة كما قال تعالى (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ)(٣) لعذبهم بعذاب الاستئصال. وقيل : أراد بسبق الكلمة : أن لا يعذّبهم وأنت فيهم.

والمعنى : ولو لا كلمة سبقت من ربك في تأخير العذاب عن مكذّبي القرآن إلى أجل مسمّى يعني القيامة ، لقضي بينهم بالعذاب الواقع بمن كذب ، (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) ، من صدقك وكتابك ، (مُرِيبٍ) (٤٥) ؛ أي موقع لهم الرّيبة ، وقيل : إنّهم لفي شكّ من القرآن ظاهر الشّكّ.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٦١٣).

(٢) في المخطوط : (وهذا تعدية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، والمناسب ما أثبتناه ، والله أعلم.

(٣) القمر / ٤٦.

٤٣٦

قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٤٦) ؛ ظاهر المراد.

قوله تعالى : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ؛) أي لا يعلم متى وقت قيامها إلّا الله تعالى ، ولا يجاب فيها بشيء ، ويقال : الله أعلم.

قوله تعالى : (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها ؛) قرأ نافع وابن عامر (ثَمَراتٍ) بالجمع ، وقرأ الباقون (ثمرة) على الوحدان. وقوله تعالى (مِنْ أَكْمامِها) الأكمام جمع الكمّة (١) ، وهي ليف النّخل ، وقال ابن عبّاس : (الأكمام الكفرّيّ قبل أن ينشقّ ، فإذا انشقّ فليس بأكمام) (٢)(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ؛) بيّن الله أنّ الذي يعلم الثّمار في الأكمام ، والأولاد في الأرحام مع مشاهدة الأكمام ، والأمّهات هو الله تعالى لا يعلمه أحد غيره ، ومن لم يشاهد شيئا منها أولى.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي ؛) فيه وعيد للمشركين ؛ أي يقال للمشركين يوم القيامة : أين شركائي في ظنّكم وزعمكم؟! فيقولون : (قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) (٤٧) ؛ أي أعلمناك وعرّفناك أنّا كنا في الدّنيا جهلاء غير عارفين ، ما منّا من شهيد أنّ لك شريكا ، يتبرّؤون يومئذ من أن يكون مع الله شريك. وقوله تعالى : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ؛) أي ضاع ، (ما كانُوا يَدْعُونَ ؛) يعبدون ، (مِنْ قَبْلُ ؛) في الدّنيا. قوله تعالى : (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٤٨) ؛ أي أيقنوا أنه لا خلاص لهم من النّار.

وقوله تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ ؛) أي لا يملّ الإنسان من الخير ، (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ ؛) والمكروه والأمراض والأسقام والشّدائد ،

__________________

(١) هو كلّ ظرف لماء أو لغيره ، والعرب تدعو القشرة الكفرّاة كمّا ، والكفرّاة والكفرّيّ : كافور الطّلع. والكافور : وعاء طلع النّخل ، أي قشره. أخرجه الطبري بإسناده عن السدي كما في جامع البيان : الأثر (٢٣٦٢١).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٣٦٢١) عن السدي. ونقله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٣٧١ عن ابن عباس.

٤٣٧

(فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) (٤٩) ؛ أي يصير آيس شيء من عود النّعمة ، وزوال المكروه عنه ، فيضجر على ذلك غاية الضّجر.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا ؛) أي نعمة منّا ، (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ؛) من بعد مكروه مسّه ، (لَيَقُولَنَّ هذا لِي ؛) أي بفضلي وقوّتي وعمل استحققته ، وهذا من اختلاف الكفّار. قوله تعالى : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ؛) هذا يدلّ على أنّ هذا الإنسان كافر.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ؛) أي لست على يقين من البعث ، فإن كان الأمر على ذلك ورددت إلى ربي أنّ لي عنده الجنة ويعطيني في الآخرة أفضل ما أعطاني في الدّنيا. قال الله تعالى : (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) (٥٠) ؛ وعيد لهم.

قوله تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ؛) أي اذا أنعمنا على الكافر أعرض عن الطاعة والشّكر وتباعد عن الواجب كبرا ، (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (٥١) ، وإذا أصابه مكروه الدّهر فإذا هو يئس يدعو الله ليكشف ذلك عنه.

والمعنى بقوله تعالى (دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي كثير لا يملّ من الدّعاء. وإنّما لم يقل : طويل ؛ لأن ذكر العريض أبلغ في باب الامتداد والانبساط ، لأن العريض يدلّ على الطويل ، ولا يدلّ الطويل على العريض.

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ؛) أي قل يا محمّد لأهل مكّة : أرأيتم إن كان القرآن من عند الله ، (ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ ؛) عن الحقّ والهدى ، (مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٥٢) ؛ خلاف للحقّ بعيد عنه ، وهو أنتم ، فلا أحد أضلّ منكم.

وقوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ؛) أي سنريهم دلائل التوحيد من مسير النّجوم وجريان الشّمس والقمر طلوعا وغروبا على مرّ الدّهور ، وفي الأرض من الجبال والأودية والأشجار. قوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) من مخارج الأنفاس ومجاري الدّم وموضع العقل والفكر والفهم وآلات الكلام.

٤٣٨

وقيل : معنى (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) أي سنريهم ما نفتح من القرى على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النواحي والأطراف (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) فتح مكّة (١). قال الحسن : يعني (سنريهم ظهور محمّد على الآفاق وعلى مكّة حتّى يعرفوا أنّه مؤيّد من قبل الله تعالى بعد أن كان واحدا لا ناصر له) (٢). وذلك معنى قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ؛) أي ما يقول لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الحقّ.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥٣) ؛ معناه : أو لم يكف بربك شاهدا أنّ القرآن من الله وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق وشهيد هو العالم. قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ ؛) معناه : ألا إنّهم في شكّ من البعث والثواب والعقاب ، (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥٤) ؛ أحاط بكلّ شيء علما ؛ إنّه يعلم الغيب والشّهادة.

آخر تفسير سورة حم السجدة (فصلت) ، والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) قاله الطبري في جامع البيان : مج ١٣ ج ٢٥ ص ٧. ونقله عن السدي في الأثر (٢٣٦٣٢) ، عن المنهال في الأثر (٢٣٦٣١).

(٢) نقله البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٥٤ عن مجاهد والحسن والسدي والكلبي.

٤٣٩

سورة الشّورى

سورة الشّورى مكّيّة ، وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة حرف وثمانون حرفا (١) ، وثمانمائة وستّ وستّون كلمة ، وثلاث وخمسون آية.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ سورة حم عسق كان ممّن تصلّي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له](٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق) (٢) ؛ (ح) حلمه و (م) مجده و (ع) علمه و (س) سناؤه و (ق) قدرته ، أقسم الله بها (٣) ، (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣) ؛ اخبارا بالغيب ويكون قبل أن يكون ، وقيل : الحاء من الرّحمن ، والميم من ملك ، والعين من عزيز والسين من قدّوس والقاف من قاهر ، ومعنى (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ) مثل ما أوحينا إليك بهذه السّورة أوحينا إلى من قبلك من الرّسل. وعن ابن عبّاس رضي الله عنه أنه قال : (ليس من نبيّ إلّا وقد أوحي إليه ب حم عسق كما أوحي إلى نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (٤).

__________________

(١) في اللباب في علوم الكتاب : ج ١٧ ص ١٦١ ؛ قال الحنبلي : (وثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا.

(٢) أخرجه أهل التفسير ، وهو من مرويات الثعلبي وابن مردويه عن أبي في تفسيرهما. ينظر : الكشاف للزمخشري : ج ٤ ص ٢٢٨. واللباب لابن عادل الحنبلي : ج ١٧ ص ٢٢٥.

(٣) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٩ ص ٢ ؛ قال القرطبي : (وروى نافع عن ابن عباس ...) وذكره. وفي معالم التنزيل : ص ١١٥٥ ذكره البغوي عن عكرمة عن ابن عباس.

(٤) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١١٥٥.

٤٤٠