التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب مدنيّة ، وهي خمسة آلاف وسبعمائة وتسعون حرفا ، وألف ومائتان وثمانون كلمة ، وثلاث وسبعون آية.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأها وعلّمها أهله وما ملكت يمينه ؛ أعطي الأمان من عذاب القبر](١) وبه التّوفيق.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ ؛) قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : (وذلك أنّ أبا سفيان بن حرب ؛ وعكرمة بن أبي جهل ؛ وأبا الأعور السّلمي قدموا فنزلوا على عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ؛ وجدّ ابن قيس ؛ ومعتب ابن قسر المنافقين.

وكان يومئذ مع المشركين عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فطلبوا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كانوا طلبوا منه الأمان على أن يكلّموه ، فقالوا له : يا محمّد ارفض ذكر آلهتنا اللّات والعزّى ومنات ، وقل : إنّ لها شفاعة في الآخرة ومنفعة لمن عبدها ، وندعك أنت وربّك! فشقّ ذلك على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : ائذن لي يا رسول الله في قتلهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنّي قد أعطيتهم الأمان]. فأمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر أن يخرجهم من المدينة ، فقال لهم عمر رضي الله عنه : أخرجوا في لعنة الله وغضبه ، وأنزل الله هذه الآية (٢).

__________________

(١) أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان : ج ٨ ص ٥ عن أبي بن كعب وإسناده ضعيف. وذكره الزمخشري في الكشاف : ج ٣ ص ٥٤٨.

(٢) ذكره الواحدي في أسباب النزول : ص ٢٣٦. وفي الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ١١٤ ؛ ـ

١٦١

ومعناها : يا أيّها النبيّ اتّق الله في نقض العهد الذي بينك وبين أهل مكّة لا تنقضه قبل أجله (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) فيما دعوك إليه ، ولا تمل إليهم ، ولا ترفق بهم ظنّا منك أن ذلك أقرب إلى استمالتهم إلى الإيمان ، فإن ذلك يؤدّي إلى أن يظنّ بك مقارنة القوم على كفرهم ، فمعنى قوله (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) يعني أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة ، والمنافقين عبد الله بن أبي وجدّ بن قيس وغيرهما.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (١) ؛ أي عليما بأحوالهم ، حكيما فيما أوجبه عليك في أمرهم وفيما يخلقه.

قوله تعالى : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ؛) أي اعمل بما أمرك الله في القرآن من مجانبة الكفّار والمنافقين وترك موافقتهم ، (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (٢) ؛ قرأ بالياء أبو عمرو ، وقرأ الباقون بالتّاء أي خبير بك وبهم.

قوله تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ؛) أي فوّض أمرك إلى الله واعتمد عليه في معاملتهم بما أمرت به في شأنهم ، (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٣) ؛ أي حافظا وناصرا.

قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ؛) قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : (نزلت هذه الآية في أبي معمّر جميل بن أبي راشد الفهريّ ، وكان رجلا حافظا لبيبا لما يسمع ، وكان يقول : إنّ في جوفي لقلبين ، أعقل بكلّ واحد منهما أفضل من عقل محمّد! وكانت قريش تسمّيه ذا القلبين لدهائه وكثرة حفظه للحديث ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية تكذيبا لهم ، فأخبر أنّه ما خلق لأحد قلبين.

فلمّا كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم أبو معمّر ، تلقّاه أبو سفيان وهو يعدو وإحدى نعليه في يده والأخرى في رجله ، فقال له : يا أبا معمّر ما فعل النّاس؟ قال : انهزموا. فقال له : ما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟! فقال :

__________________

ـ قال القرطبي : (وقيل : إنها نزلت فيما قال الواحدي والقشيري والثعلبي والماوردي وغيرهم). وذكره مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٣٢.

١٦٢

ما شعرت إلّا أنّهما في رجليّ. فعرفوا يومئذ أنّه لو كان له قلبان ما نسي نعله في يده) (١).

وقال الزهريّ ومقاتل : (هو مثل ضربه الله للمظاهر امرأته والمتبنّي ولد غيره ، يقول : فكما لا يكون للرّجل قلبان ، لا تكون امرأة المظاهر أمّه حتّى لا يكون له أمّان ، ولا يكون ولد ابن رجلين) (٢).

قوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ ؛) أي ما جعل نساءكم اللّائي تقولون لهن : أنتنّ علينا كظهور أمّهاتنا ، لم نجعلهن كأمّهاتكم في الحرمة. وكانت العرب تطلّق نساءها في الجاهلية بهذا اللفظ ، فلما جاء الإسلام نهوا عنه ، وأوجبت الكفارة في سورة المجادلة.

قوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ؛) أي ما جعل من تدّعونه ابنا من أبناء غيركم كأبنائكم الذين من أصلابكم في الانتساب والحرمة والحكم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تبنّى زيد بن حارثة بعد أن أعتقه ، فكان يقال : زيد بن محمّد ، فلمّا جاء الإسلام أمر أن تلحق الأدعياء بآبائهم ، وكان يوم تبنّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الوحي (٣).

قرأ نافع وأبو عمرو (وتظّهّرون) بفتح التاء وتشديد الظّاء والهاء من غير ألف ، وقرأ الشّاميّ كذلك إلّا أنّه بألف ، وقرأ حمزة والكسائي مثل قراءة شامي إلّا أنه بالتخفيف ، وقرأ عاصم والحسن بضمّ التاء وتخفيف الظّاء وبألف وكسر الهاء ، قال أبو عمرو : (وهذا منكر ؛ لأنّ التّظاهر من التّعاون) (٤).

__________________

(١) ذكره مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٣٤. والواحدي في أسباب النزول : ص ٢٣٦ ـ ٢٣٧. والبغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٢٢. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ١١٦.

(٢) ذكره مقاتل بمعناه في التفسير : ج ٣ ص ٣٤.

(٣) ذكره الواحدي في أسباب النزول : ص ٢٣٧.

(٤) ينظر : الحجة للقراءات السبعة : ج ٣ ص ٢٨٠.

١٦٣

قوله تعالى : (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ ؛) أي الذي تقولونه من إضافة القلبين إلى الرجل الواحد ، وقول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمّي ، وقول الرجل لغير ابنه : هذا ابني ، قوله : تقولون بأفواهكم من غير أن يكون له حقيقة ولا عليه دلالة ولا حجّة ، (وَاللهُ ؛) تعالى ، (يَقُولُ الْحَقَّ ؛) أي يبيّن أنّ الذين يقولونه قول باطل ، (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (٤) ؛ أي يدلّ على طريق وإلى الدّين المستقيم.

قوله تعالى : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ؛) أي نسّبوا هؤلاء الأدعياء إلى الآباء الذين قد ولدوا على فراشهم وقولوا : زيد بن حارثة ، ولا تقولوا : زيد بن محمّد. وقوله تعالى : (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ ؛) أي أعدل في حكم الله من نسبتكم إياهم إلى الذين تبنّوهم. وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول : (ما كنّا ندعوا زيد بن حارثة إلّا زيد بن محمّد حتّى نزل قوله تعالى : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ)(١).

قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ؛) فهم إخوانكم في الدّين ؛ أي من أسلم منهم ، (وَمَوالِيكُمْ ؛) أي وبنو أعمامكم ، فقولوا : يا أخي ويا ابن عمّي. في الآية إباحة إطلاق اسم الأخوّة وحظر اطلاق اسم الأبوّة ، وفي ذلك دليل على أن من قال لعبده : هذا أخي ؛ لم يعتق لأنه يحتمل الأخوّة في الدّين ، وإن قال : هذا ابني ؛ عتق لأن ذلك ممنوع في غير النّسب.

قوله تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ ؛) أي ليس عليكم إثم في نسبة الرجل إلى غير أبيه على وجه الخطأ. قال قتادة : (ولو دعوت رجلا

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٥٦٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر) وذكره. وأخرجه البخاري في الصحيح : كتاب التفسير : الحديث (٤٧٨٢). ومسلم في الصحيح : الحديث (٦٢ / ٢٤٢٥). وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ١٢ ص ٢٣٠ : الحديث (١٣١٧٠).

١٦٤

لغير أبيه وأنت تحسب أنّه أبوه لم يكن عليك بأس) (١) ، (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ؛) أي ولكن الإثم عليكم فيما تعمّدونه من ادعائهم إلى غير آبائهم ، (وَكانَ اللهُ غَفُوراً ؛) أي لمن تعمّد ثم تاب ، (رَحِيماً) (٥) ؛ به بعد التوبة.

قوله تعالى : (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) موضع قوله (فِيما) خفض عطفا على قوله (فِيما أَخْطَأْتُمْ) تقديره : ولكن فيما تعمّدت قلوبكم.

قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ؛) أي هو أشفق وأبرّ وأحقّ بالمؤمنين من بعضهم ببعض ، وهو أولى بكلّ إنسان منه بنفسه. وقيل : معناه : إذا حكم فيهم بشيء نفذ حكمه فيهم ، ووجبت طاعته عليهم.

وقال ابن عبّاس : (إذا دعاهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى شيء ، ودعتهم أنفسهم إلى شيء ، كانت طاعة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى بهم من طاعة أنفسهم) (٢). وقال مقاتل : (معناه طاعته النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى بهم من طاعة بعضهم لبعض) (٣).

وقالت الحكماء : النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم لأنفسهم ، تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم. وقال أبو بكر الورّاق : (لأنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم إلى العقل ، وأنفسهم تدعوهم إلى الهوى). وقال بسّام بن عبد الله (٤) : (لأنّ أنفسهم تحرس من نار الدّنيا ، والنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرسهم من نار الآخرة).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٥٩١). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٥٨٢).

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٢٣.

(٣) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٣٥٠.

(٤) بسام بن عبد الله الصيرفي ، أبو الحسن الكوفي. روى عن زيد بن علي بن الحسين وأخيه أبي جعفر الباقر ، وجعفر الصادق وعطاء وعكرمة وغيرهم. وروى عنه ابن المبارك ووكيع وأبو نعيم وغيرهم. ينظر : تهذيب التهذيب : الرقم (٧٠٦) : ج ١ ص ٤٥٤.

١٦٥

قوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ؛) أي كأمّهاتهم في تعظيم حقّهنّ وفي تحريم نكاحهن ، فلا يحلّ لأحد أن يتزوّج بهنّ ، كما لا يجوز التزويج بالأمّ. ولم يرد إثبات الأميّة من جميع الوجوه ، ألا ترى أنه لا تحلّ رؤيتهن ولا يرين المؤمنين بخلاف الأمّهات ، وكذلك لا يخلو بهنّ ، ولا يسافر بهن ، ولا يرثهن ولا يرثونه ، ولو كن كالأمّهات من جميع الوجوه لكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يزوّج بناته من أحد من الناس ؛ لأن البنات يكنّ أخوات المؤمنين.

ومن هذا المعنى ما روي : أنّ امرأة قالت لعائشة : يا أمّ ، قالت : (لست لك بأمّ ، إنّما أنا أمّ رجالكم) (١) فبان بهذا أنّ معنى الأمومة تحريم نكاحهن فقط. ولهذا لا يجوز أن يقال لبناتهن أنّهن أخوات المؤمنين.

وفائدة تحريم نكاح أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المؤمنين في حياته وبعد وفاته تعظيم أمره وتفخيم شأنه ، ولذلك حرم على الابن نكاح امرأة أبيه.

قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ؛) أي وذو القرابة بعضهم أحقّ بميراث بعض في حكم الله ، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ؛) إذا لم يكونوا قرابة ، وذلك أنّهم كانوا يتوارثون في ابتداء الإسلام بالهجرة والموآخاة.

قال الكلبيّ : (آخا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين النّاس ، فكان يوآخي بين الرّجلين ، وإذا مات أحدهم ورثه الثّاني دون عصبته وأهله ، فمكثوا كذلك ما شاء الله حتّى نزلت الآية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) من المؤمنين الّذين آخا رسول الله بينهم والمهاجرين ، فنسخت هذه الآية الموارثة بالموآخاة والهجرة ، وصارت للأدنى فالأدنى من القرابات) (٢).

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٥٦٧ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن سعد وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عائشة ...) وذكره.

(٢) نقله الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٦٠) بتفصيل عن ابن زيد.

١٦٦

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً ؛) (معروفا) استثناء ليس من الأول ، ومعناه : لكن فعلكم إلى أوليائكم جائز ، يريد أن يوصي الرجل لمن يتولّاه ممن لا يرثه بما أحبّ من ثلث ماله ، فيكون الموصى له أولى بقدر الوصيّة من القريب الوارث ، وقال ابن زيد : (معناه إلّا أن توصوا لأولياءكم من المهاجرين) (١). قوله تعالى : (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (٦) ؛ أي كان الميزان للأقرباء ، والوصية للأصدقاء ، ونسخ الميراث بالهجرة وردّه إلى ذوي الأرحام مكتوبا في اللّوح المحفوظ.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ ؛) أي واذكر إذ أخذنا من النّبيّين عهودهم ؛ أي يصدّق بعضهم بعضا ، ويبشّر الأول بالآخر ، ويأخذ كلّ رسول منهم على قوله بما أمر الله به ، وقوله تعالى : (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ؛) قيل : إنّ الواو مقحمة ؛ وتقديره : منك ومن نوح ، فيكونوا (مِنْكَ) ما بعده تفسير (النَّبِيِّينَ).

والفائدة في تخصيص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذّكر ؛ لأنّهم أهل الشرائع والكتب ، وأولو العزم من الرّسل ، ولهم الأمم والتّبع. وقدّم ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الخطاب معه. وجاء في التفسير : أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [إنّي خلقت قبل الأنبياء وبعثت بعدهم](٢).

قوله تعالى : (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٧) ؛ أي عهدا وثيقا بأن يعبدوني ولا يشركون بي شيئا. وقيل : وأخذنا منهم عهدا شديدا على الوفاء بما حملوا. وقوله تعالى : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ؛) أي لكي يسأل المبلّغين عن تبليغهم وهو قوله تعالى : (ما ذا أَجَبْتُمُ)(٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٦٠٧).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٢١٦٠٩) عن قتادة مرسلا. وابن أبي حاتم في التفسير : الحديث (١٧٥٩٤ و١٧٥٩٥) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكره.

(٣) القصص / ٦٥.

١٦٧

وفائدة سؤال الرّسل وهم صادقون ؛ لتكذيب الذين كفروا بهم فيكون هذا السؤال احتجاجا على الكاذبين ، وإذا سئل الصّادقون ، فكيف يظنّ بالكاذبين؟! وقوله تعالى : (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) (٨) ؛ أي أعدّ للّذين كفروا بالرّسل عذابا شديدا.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ؛) يذكّرهم الله إنعامه عليهم في دفع الأحزاب عنهم من غير قتال ، وذلك : أنّ الكفّار جاءوا بأجمعهم في وقعة الخندق ، وأحاطوا بالمدينة من أعلاها وأسفلها ، طليحة بن خويلد الأسدي (١) وأصحابه من فوق الوادي ، وكان أبو الأعور السّلميّ وأصحابه من أسفل الوادي ، وكان أبو سفيان وأصحابه ويهود بني قريظة في مواجهة المؤمنين (٢) ، فاشتدّ الخوف بالمؤمنين وزاغت أبصارهم ؛ أي مالت من الخوف ، ويقال : مالت أبصار المنافقين خوفا من النّظر إليهم. وكان الكفّار خمسة عشر ألفا ، وبلغت قلوب المسلمين الحناجر ؛ أي كادت تبلغ الحلوق ، وذلك أنّ شدّة الخوف ترفع الرّئة ، فترفع الرّئة القلب.

كما روي : أنّ المؤمنين قالوا : يا رسول الله! قد بلغت القلوب الحناجر ، فهل من شيء؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [قولوا : اللهمّ استر عوراتنا وآمن روعاتنا ، يكفيكهم الله تعالى](٣) فأرسل الله على الكفّار ريحا باردة منكرة شغلتهم عن الاستعداد للحرب ، ومنعتهم من الثّبات على المكان ، وقلعت خيامهم وأكفأت أوانيهم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون منها في سلامة ، وليس بينهم إلّا مسافة الخندق ، وكان ذلك إحدى معجزاته عليه‌السلام كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور](٤).

__________________

(١) في المخطوط : (الأزدي). ترجم له ابن عبد البر في الاستيعاب : ج ٢ ص ٣٢٤ : الرقم (١٣٠٠).

(٢) ذكره مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٣٧. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ١٤٤.

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الحديث (١٧٥٩٩). والطبري في جامع البيان : الحديث (٢١٦١٤). وفي الدر المنثور : ج ٦ ص ٥٧٣ ؛ قال السيوطي : (أخرجه أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي سعيد ...) وذكره.

(٤) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٥٧٣ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في ـ

١٦٨

قوله تعالى : (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) ، يعني الذين تحزّبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الخندق ، وهم عيينة بن حصن وأبو سفيان بن حرب وبنو قريظة ، (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) ، وهي الصّبا ، أرسلت عليهم حتى أكفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم (١) ، وقوله : (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) ، يعني الملائكة ؛ (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (٩).

وروي : أنّ شابّا من أهل الكوفة قال لحذيفة بن اليمان : يا أبا عبد الله هل رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : (إي والله لقد رأيته) قال : والله لو رأيناه لحملناه على رقابنا ، وما تركناه يمشي على الأرض ، فقال له حذيفة : (يا ابن أخي أفلا أحدّثك عنّي وعنه؟) قال : بلى. قال : (والله لو رأيتنا يوم الخندق ، وبنا من الجهد والجوع ما لا يعلمه إلّا الله. قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلّى من اللّيل ما شاء الله ، ثمّ قال : [ألا رجل يأتي بخبر القوم جعله الله رفيقي في الجنّة؟] فو الله ما قام منّا أحد ممّا بنا من الخوف والجوع والجهد. ثمّ صلّى ما شاء الله ، ثمّ قال : [ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله رفيقي في الجنّة؟] فو الله ما قام منّا أحد ممّا بنا من الجهد والخوف والجوع. فلمّا لم يقم أحد ، دعاني فلم أجد بدّا من إجابته ، قلت : لبّيك يا رسول الله ، قال : [اذهب فجئ بخبر القوم ، ولا تحدثنّ شيئا حتّى ترجع].

قال حذيفة : قمت وجنبيّ يضطربان ، فمسح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأسي ووجهي ، ثمّ قال : [اللهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ومن تحته]. قال : فانطلقت أمشي حتّى أتيت القوم ، وإذا ريح الله وجنوده يفعل بهم ما يفعل ، ما يستمسك لهم بناء ، ولا تثبت لهم نار ، ولا يطمئنّ لهم قدر. فبينما هم كذلك ، إذ خرج أبو سفيان من رحله ، فقال : يا معشر قريش ؛ ما أنتم بدار مقام ، لقد

__________________

ـ الكنى وابن مردويه وأبو الشيخ في العظمة وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس) وذكره. وأخرجه أبو الشيخ في العظمة : الحديث (٦٠ / ٨٦٠).

(١) الفسطاط فيه لغات : فسطاط وفسطاط وفسّاط وفسّاط وفسّاط وفستاط. وهو : بيت من شعر ، ويطلق ويراد به أيضا المدينة التي فيها مجتمع الناس ، وكل مدينة فسطاط. والمراد هنا الأول. ينظر : كتاب الغريبين : ج ٥ ص ١٤٤٧. ومختار الصحاح : ص ٥٠٣.

١٦٩

هلكت الخفّ والحافر (١) وأخلفتنا بنو قريظة ، وهذه الرّيح لا يستمسك لنا معها شيء ، ولا تثبت لنا نار ولا تطمئنّ قدر. ثمّ عجّل فركب راحلته ، وإنّها لمعقولة ما حلّ عقالها إلّا بعد ما ركبها.

فقال حذيفة : فقلت في نفسي : لو رميت عدوّ الله فكنت قد صنعت شيئا ، فأوترت قوسي وأنا أريد أن أرميه ، ثمّ ذكرت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ولا تحدثنّ شيئا حتّى ترجع]. فحططت القوس ثمّ رجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلّي ، فلمّا فرغ قال : [ما الخبر؟] فأخبرته بذلك ، فضحك حتّى بدت أنيابه في سواد اللّيل. ثمّ أدناني منه وبي من البرد ما أجده ، فألقى عليّ طرف ثوبه ، وألزق صدري ببطن قدميه وهو قائم يصلّي) (٢).

قوله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) أي مالت عن كلّ شيء ، فلم تنظر إلّا إلى عدوّها مقبلا من كلّ جانب ، (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) ، والحنجرة جوف الحلق. قال قتادة : (شخصت القلوب من مكانها ، فلولا أنّه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت).

وقوله تعالى : (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) يعني الملائكة ، بعث الله ملائكة على المشركين فقلعت أوتاد الخيل وأطناب الفساطيط ، وأطفأت النيران وجالت الخيل بعضها في بعض ، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى وقع بهم الرعب فانهزموا من غير قتال.

قوله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) ، أي من فوق الوادي من قبل المشرق عليهم مالك بن عوف البصري ، وعيينة بن حصن الفزّاري في ألف من غطفان ، (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) ، يعني من قبل المغرب فيهم أبو سفيان في قريش ومن تبعه ، وأبو الأعور السّلمي من قبل الخندق.

__________________

(١) الخفّ : واحد أخفاف البعير. والحافر حافر الفرس. والمراد هنا الإبل والخيل.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٢١٦١٦). ومسلم في الصحيح : كتاب الجهاد والسير : باب غزوة الأحزاب : الحديث (٩٩ / ١٧٨٨).

١٧٠

وكان من حديث الخندق : أنّ نفرا من اليهود منهم حييّ بن أخطب وكنانة بن الرّبيع وهوذة بن قيس وأبو عمارة الوائليّ ، وجماعة من بني النّضير خرجوا حتّى قدموا على قريش فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأجابوهم فاجتمعوا مع قريش. فسارت وقائدها عيينة بن حصين الفزّاريّ ، وسارت بنو مرّة وقائدها الحارث بن عوف ، وسارت بنو أشجع وقائدها مسعر بن رخيلة الأشجعيّ ، وسارت قريش وقائدها أبو سفيان.

فلمّا سمع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب الخندق على المدينة ، وكان الّذي أشار بالخندق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلمان ، فقال : يا رسول الله ، إنّا كنّا بفارس إذا حوصرنا خندقنا. فحفره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون حتّى أحكموه.

فلمّا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حفر الخندق ، أقبلت قريش حتّى نزلت بمجمع الأسيال من رومة (١) ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون وهم ثلاثة آلاف من المسلمين ، فكان الخندق بينهم وبين المشركين ، وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف ، وأتاهم العدوّ من فوقهم ومن أسفل منهم ، حتّى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ ، وظهر النّفاق في المنافقين ، حتّى قال معتب بن بشير المنافق : كان محمّد وعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، فأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط ، ما وعدنا الله ورسوله إلّا غرورا (٢). فذلك قوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) (١٠).

فأقام النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقام الكفّار معه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ، ولم يكن بين القوم إلّا الرّمي بالنّبل والحصى والحصار (٣).

__________________

(١) اضطربت العبارة في المخطوط : (وأقبلت قريش حتى أقبلت بالمدينة). وضبطت كما في السيرة النبوية : ج ٣ ص ٢٣٠.

(٢) اختصر الطبراني قصة الخندق من السيرة النبوية لابن هشام : ج ٣ ص ٢٢٤ ـ ٢٣٣. وينظر : الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية بن هشام : ج ٣ ص ٤١٦ ـ ٤٢٥.

(٣) الحصار : (حصره) ضيّق عليه وأحاط به ، وكلّ من امتنع عن شيء فقد حصر عنه ، وأحصره حبسه. ينظر : مختار الصحاح : ص ١٣٩ : (حصر)

١٧١

فلمّا اشتدّ البلاء على النّاس واستطال ، بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عيينة بن حصين وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان ، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما من القوم ، فجرى بينهما الصّلح حتّى وقع الكتاب ولم تقع الشّهادة ، فذكر ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشارهما في ذلك ، فقالا : يا رسول الله ؛ أهذا شيء أمرك الله به أم أمر تحبّه أنت أم أمر تصنعه لنا؟ فإن كان أمرا من الله لك فلا بدّ لنا من العمل به ، وإن كان أمرا تحبّه فاصنع ما شئت ، وإن كان شيئا تصنعه لنا فعرّفنا به ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [بل والله ما صنعت ذلك إلّا أنّي رأيت العرب قد رمتكم بقوس واحدة ، وكالبوكم من كلّ جانب ، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم].

فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لقد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشّرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من ثمارنا تمرة إلّا قراء أو شراء ، فكيف وقد أكرمنا الله بالإسلام وأعزّنا بك نعطيهم أموالنا! ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلّا السّيف حتّى يحكم الله بيننا وبينهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [فأنت وذاك]. فتناول سعد الصّحيفة الّتي كتبوا فيها صلحهم فمحاها (١).

ثمّ إنّهم تراموا بالنّبل ، فوقعت رمية في أكحل سعد بن معاذ فقطعته ، رماه ابن الغرفة من قريش ، فما زال أكحله يسيل دما حتّى خيف عليه ، فقال سعد : اللهمّ إن كنت أبقيت من حرب قريش فأبقني لها ، فإنّه لا شيء أحبّ إليّ من جهاد قوم آذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبوه وأخرجوه ، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لنا شهادة ولا تمتني حتّى تقرّ عيني من بني قريظة.

ثمّ أتى نعيم بن مسعود الغطفانيّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ؛ قد أسلمت وإنّ قومي من غطفان لم يعلموا بإسلامي ، فمرني فيهم بما شئت ، فقال عليه‌السلام : [إنّما أنت رجل واحد فخذّل عنّا إن استطعت]. فخرج نعيم بن مسعود حتّى

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام : غزوة الخندق : هم الرسول بعقد صلح بينه وبين غطفان ثم عدل : ج ٣ ص ٢٣٤.

١٧٢

أتى بني قريظة ، وكان لهم نديما في الجاهليّة ، فقال لهم : يا بني قريظة ؛ لقد علمتم ودّي لكم وما بيني وبينكم من المحبّة. قالوا : صدقت ؛ لست عندنا بمتّهم.

فقال لهم : إنّ قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمّد ، وإنّ قريشا وغطفان ليسوا كهيئتكم ؛ لأنّ هذه بلدكم وبها أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، لا تقدرون على أن تحوّلوا إلى غيركم ، وإنّ قريشا وغطفان أموالهم وأولادهم ونساؤهم بعيدون ، إن رأوا لهم هاهنا صولة وغنيمة أخذوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم ، وخلّوا بينكم وبين هذا الرّجل وهو رجل ببلدكم لا طاقة لكم به ، فلا تقاتلوه حتّى تأخذوا رهنا من أشراف قريش وغطفان يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم. فقالوا له : لقد أشرت برأي ونصيحة.

ثمّ خرج حتّى أتى قريشا ، فقال : يا معشر قريش ؛ قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّدا ، وقد بلغني أمرا رأيت حقّا عليّ أن أبلغكموه نصحا لكم ، فاكتموا عليّ. قالوا : نفعل! قال : اعلموا أنّ معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمّد ، وقد أرسلوا إليه : أنّا قد ندمنا على فعلنا ، فهل يرضيك عنّا أن نأخذ من القبيلتين قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب رقابهم ، ثمّ نكون معك على من بقي منهم ، فقال لهم : نعم. وأنتم إذا بعثت اليهود إليكم يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا.

ثمّ خرج حتّى أتى غطفان فقال لهم : يا معشر غطفان ؛ أنتم أصلي وعشيرتي وأحبّ النّاس إليّ ، ولا أراكم تتّهموني. قالوا : صدقت! قال : فاكتموا عليّ ، قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.

فأرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى يهود بني قريظة نفرا من قريش وغطفان ، فأتوهم وقالوا لهم : قد هلك الخفّ والحافر ، فأعدّوا للقتال حتّى يفرغ ما بيننا وبين محمّد. فقال بنو قريظة : لسنا بالّذي نقاتل معكم حتّى تعطونا رهنا من رجالكم تكون ثقة بأيدينا ، فإنّا نخاف أنّكم إذا اشتدّ عليكم الحرب والقتال أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا ، وهذا الرّجل قريب من بلادنا ، ولا طاقة لنا به.

١٧٣

فرجعت الرّسل بما قالت بنو قريظة ، فقالت قريش وغطفان : والله إنّ الّذي حدّثنا به نعيم بن مسعود لحقّ. وأرسلوا إلى بني قريظة : والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا ، ولكنّكم إن كنتم تريدون الحرب فاخرجوا معنا فقاتلوا ونحن معكم. قالت بنو قريظة : لا نقاتل إلّا إذا أعطيتمونا رهنا من رجالكم. فقالوا لهم : حدّثنا نعيم بن مسعود بذلك فلم نصدّقه ، فقالوا لهم : إنّ الّذي ذكره لكم حقّ. وخذل الله بينهم ، وبعث عليهم الرّيح في ليلة شاتية شديدة البرد حتّى انصرفوا راجعين ، والحمد لله رب العالمين (١).

قوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) ، فأمّا المنافقون فظنّوا أنّ محمّدا وأصحابه سيغلبون ويستأصلون ، وأما المؤمنون فأيقنوا أنّ ما وعدهم الله تعالى حقّ ، وأنه سيظهر دينه على الدّين كلّه ولو كره المشركون. قال الحسن في معنى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) : (يعني ظنّ المؤمنون بالله خيرا ، وظنّ المنافقون أنّ الكافرين ظهروا على المؤمنين) (٢).

قرأ نافع وعاصم وابن عامر : (الظُّنُونَا) و (الرَّسُولَا) و (السَّبِيلَا) بإثبات الألف فيها وقفا ووصلا لأنه من أواخر الآي ، وقرأ أبو عمرو بغير ألف وقفا ووصلا ، وقرأ الباقون بالألف في الوقف دون الوصل.

قوله تعالى : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) أي في تلك الحال اختبر المؤمنون بالقتال ليتبيّن المخلص من المنافق. وقيل : معناه : امتحن المؤمنون بالخوف الشّديد الذي عنده يظهر المؤمن القويّ من المؤمن الضعيف ، وذووا العزم الصحيح من غيرهم. وقوله : (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) (١١) أزعجوا وحرّكوا تحريكا شديدا ، وذلك أن الخائف يكون قلقا مضطربا لا يستقرّ على مكانه.

__________________

(١) قصة نعيم بن مسعود الغطفاني أخرجها ابن هشام في السيرة النبوية : ج ٣ ص ٢٤٠ ـ ٢٤٤.

(٢) في جامع البيان : الأثر (٢١٦٢٧). وفي التفسير الكبير لابن أبي حاتم : الأثر (١٧٦٠٨) عن الحسن قال : (ظنونا مختلفة : ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون ، وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله حق ، وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون).

١٧٤

قوله تعالى : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (١٢) معناه : وإذ يقول الذين يستبطنون الكفر والذين في قلوبهم شكّ وضعف اعتقاد : ما وعدنا محمّد أنّ فارس والروم يفتحان علينا ونحن في مكاننا هذا الذي لا يقدر أحد أن يبرز لحاجته إلّا باطلا. قال قتادة : (قال ناس من المنافقين : يعدنا محمّد أن نفتح قصور الشّام وفارس ، وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله ، هذا والله الغرور) (١).

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ؛) قال مقاتل : (هم بنو سالم من المنافقين) (٢) ، وقال السديّ : (عبد الله بن أبيّ وأصحابه). (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) أي يا أهل المدينة ، قال أبو عبيدة : (يثرب اسم أرض ، ومدينة الرّسول في ناحية منها) (٣). وقوله تعالى : (لا مُقامَ لَكُمْ) أي لا موقف لكم في هذا الموضع ، فارجعوا إلى المدينة.

وقرأ عاصم (لا مُقامَ) بضمّ الميم ؛ أي لا إقامة لكم هاهنا ؛ لكثرة العدوّ وغلبة الحراب ، فارجعوا إلى منازلكم ، أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤).

قوله تعالى : (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ ؛) معناه : ويستأذن فريق منهم النبيّ عليه‌السلام في الرّجوع إلى منازلهم بالمدينة ؛ وهم : بنو حارثة وبنو سلمة ، وكانوا يعتلّون في الاستئذان بقولهم : (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ ؛) أي بيوتنا خالية من الرّجال تخاف عليها ، وقيل : معناه : إنّ بيوتنا ليست بجديدة. وقال مقاتل والحسن : (معناه : قالوا بيوتنا ضائعة نخشى عليها السّرّاق) (٥). وقال قتادة : (قالوا بيوتنا ممّا يلي العدوّ

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٦٣١).

(٢) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٣٨.

(٣) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٣١. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ١٤٨.

(٤) قاله الطبري في جامع البيان : مج ١١ ج ٢٠ ص ١٦٤.

(٥) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٣٩.

١٧٥

ولا نأمن على أهلنا) (١). فكذبهم الله تعالى وأعلم أنّ قصدهم الهرب ، فقال عزوجل : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) (١٣) ؛ من القتال ونصرة المؤمنين.

وقرأ ابن عبّاس وأبو رجاء : (إنّ بيوتنا عورة) بكسر الواو ؛ أي قصيرة الجدران ، فيها خلل وفرجة. قال الزجّاج : (يقال : عور المكان يعورّ عورا وعورة ، وبيوت عورة وعورة ، وهي مصدر). والعورة في اللغة : ما ذهب عنه السّتر والحفظ ، تقول العرب : اعورّ الفارس إذا كان فيه موضع خلل للضّرب ، وعور المكان إذا بدت منه عورة. قال الشاعر :

متى تلقهم ، لا تلق للبيت عورة

ولا الضّيف محروما ولا الجار مرملا (٢)

يقال : أرمل القوم إذا فرغ زادهم (٣).

قوله تعالى : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ؛) أي لو دخلت المدينة على هؤلاء المنافقين من أطرافها ، يعني : لو دخل عليهم هؤلاء الأحزاب من نواحيها ، (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها ؛) أي ثم دعوا إلى الشّرك لأجابوها سريعا وأعطوها من أنفسهم. والمعنى : لو أنّ الأحزاب دخلوا المدينة ، ثم أمروهم بالشّرك لأشركوا.

وقرأ أهل المدينة (لأتوها) بالقصر ؛ أي لفعلوها بأنفسهم ، (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) (١٤) ؛ أي وما يلبثون بإجابتها إلّا قليلا حتى يقبلوا. قال قتادة : (وما احتبسوا عن الإجابة إلى الكفر إلّا قليلا) ، ويقال : ما يتلبّثون بالمدينة بعد إجابتهم إلّا يسيرا حتى يهلكوا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٦٣).

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ١٤٨ :

متى تلقهم ، لا تلق للبيت معورا

ولا الضّيف مفجوعا ولا الجار مرملا

(٣) المرمل : الذي نفذ زاده ؛ ومنه حديث أبي هريرة : كنّا مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزاة ، فأرملنا وأنفضنا. وحديث أمّ معبد : [وكان القوم مرملين] أي نفذ زادهم. ينظر : تهذيب اللغة للأزهري : ج ١٠ ص ١٤٩. ولسان العرب لابن منظور : ج ٥ ص ٣٢١. والروض الأنف : ج ٢ ص ٣٢٦.

١٧٦

قوله تعالى : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ ؛) قيل : إنّهم بنو حارثة همّوا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة ، فلمّا نزل فيهم ما نزل ، عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها. وقال قتادة : (هم قوم كانوا غابوا عن وقعة بدر ، ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة ، فقالوا : لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلنّ ، فلمّا كان يوم الأحزاب لم يفوا بذلك العهد) (١).

ومعنى الآية : ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل غزوة الخندق (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) أي لا ينهزمون ولا يولّون العدوّ ظهورهم. وقوله تعالى : (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) (١٥) ؛ أي مطالبا مسؤولا عنه محاسبا عليه ، يسألون عنه في الآخرة.

ثم أخبر الله أنّ الفرار لا يزيدهم في آجالهم ؛ فقال : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ ؛) أي من حضر أجله مات أو قتل ، فكلاهما مكتوب عليكم. وقوله تعالى : (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (١٦) ؛ أي إن فررتم من الموت أو القتل في هذه الوقعة لم يمتّعوا إلّا قليلا حتى يلحقكم أحد الأمرين. والمعنى : لا تمتّعون بعد الفرار في الدّنيا إلّا مدّة أجلكم.

ثم أخبر الله تعالى أنّ ما قدّره عليهم وأراده بهم لا يدفع عنهم ، قوله تعالى : (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ ؛) أي من الذي يجيركم ويمنعكم من الله ، (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً ؛) أي هلاكا وهزيمة ، (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً ؛) أي خيرا وهو النصر. وهذا كلّه أمر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخاطبهم بهذه الأشياء.

ثم أخبر الله أنه لا ينفعهم قريب ولا ناصر ينصرهم من الله ، فقال تعالى : (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٧).

قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا ؛) قال المفسّرون : هؤلاء قوم من المنافقين ، كانوا يبطئون المجاهدين ويمنعونهم عن الجهاد. يقال : عاق يعوق ؛ إذا منع ، وعوّق إذا اعتاد المنع ، وعوّقه إذا صرفه عن الوجه الذي يريده.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٦٤٢).

١٧٧

قال قتادة : (هم قوم من المنافقين ، كانوا يقولون : ما محمّد وأصحابه إلّا أكلة رأس ، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وحزبه ، دعوا هذا الرّجل فإنّه هالك ، فخلّوهم وتعالوا إلينا) (١).

وقوله تعالى : (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) أي ويعلم القائلين لإخوانهم تعالوا إلينا ودعوا محمّدا فلا تشهدوا معه الحرب ، فإنّا تخاف عليكم الهلاك. وقوله : (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) (١٨) ؛ أي لا يحضرون القتال في سبيل الله إلّا قليلا ؛ أي لا يقاتلون إلّا رياء وسمعة من غير احتساب ، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا.

قوله : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ؛) أي بخلاء عليكم بأنفسهم وأموالهم ، لا ينفقون شيئا منها في سبيل الله ونصرة المؤمنين. ثم أخبر عن جبنهم فقال تعالى : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) ، من الخوف والفزع كما تدور أعين الذي يحضره الموت فيغشى عليه ، ويذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرف ، كذلك هؤلاء تشخص أبصارهم وتحار أعينهم لما يلحقهم من الخوف ، (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ ؛) أي بسطوا ألسنتهم وأرسلوها ، طاغين عليكم. قال الفرّاء : (معناه : آذوكم بالكلام وعضّوكم بألسنة سليطة ذربة) (٢) يقال : خطيب مسلاق إذا كان بليغا في خطابه (٣).

وقوله تعالى : (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ؛) أي بخلاء بالغنيمة ، يخاصمون فيها ويشاحّون المؤمنين عليها عند القسمة ، فيقولون : أعطونا فلستم أحقّ منّا! وقوله تعالى : (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا ؛) أي هم وإن أظهروا الإيمان ونافقوا فليسوا بمؤمنين ، (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ ؛) أي أبطل جهادهم وثواب أعمالهم ؛ لأنه لم يكن في إيمان ، (وَكانَ ذلِكَ) الإحباط ، (عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١٩) ؛ قال

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٦٤٧). ومعنى (ما هم إلا أكلة رأس) أي قليل ، يشبعهم رأس واحد. وهو جمع آكل.

(٢) قاله الفراء في معاني القرآن : ج ٢ ص ٣٣٩.

(٣) ينظر : إعراب القرآن لابن النحاس : ج ٣ ص ٢١١.

١٧٨

مقاتل : (معنى الآية : فإذا ذهب الخوف وجاء الأمن والغنيمة ، سلقوكم بألسنة حداد ؛ أي بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة ، وسيقولون : أعطونا فلستم أحقّ بها منّا! فأمّا عند البأس والقتال فأجبن قوم وأخذلهم ، وأمّا عند الغنيمة فأشحّ قوم) (١).

قوله تعالى : (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي يظنّ المنافقون من جبنهم وخبثهم أنّ الأحزاب لم يذهبوا إلى مكّة وقد ذهبوا ، (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ ؛) في المرّة الثانية ؛ أي يرجعون إلى القتال ، (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ ؛) داخلون في البادية مع الأعراب ، (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ ؛) أي يتمنّون لو كانوا في بادية بالبعد منكم ، يسألون عن أخباركم يقولون : ما فعل محمّد وأصحابه؟! فيعرفون حالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة. والمعنى بسؤالهم : أنه إذا كان الظّفر لكم شاركوكم ، وإن كان للمشركين شاركوهم ، كلّ هذا من الخوف والجبن. قرأ يعقوب (يسّاءلون) بالتشديد والمدّ ، بمعنى يتساءلون ؛ أي يسأل بعضهم بعضا عن أخباركم ، (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) (٢٠) ؛ لو كان هؤلاء المنافقون فيكم ما قاتلوا إلّا رميا بالحجارة من غير احتساب.

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ؛) أي لقد كان لكم في رسول الله قدوة حسنة في الصّبر على القتال والثّبات عليه واحتمال الشّدائد في ذات الله ، (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ ؛) يرجو ثواب الله ، (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) ، وثواب الدنيا والآخرة ، (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢١) ، وذلك : أنّ كل من ذاد أو ذكر الله في لسانه ازدادت رغبته في الاقتداء بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومعنى الآية : لقد كان لكم في رسول الله اقتداء لو اقتديتم به ، والصبر معه في مواطن القتال كما فعل هو يوم أحد إذ كسرت رباعيّته وشجّ حاجبه وقتل عمّه ، فواساكم مع ذلك بنفسه ، فهلّا فعلتم مثل ما فعل هو. وقوله تعالى : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) يدلّ من قوله (لَكُمْ) وهو تخصيص بعد التعميم للمؤمنين.

__________________

(١) ينظر : تفسير مقاتل بن حيان : ج ٣ ص ٤١ ، بلفظ قريب من هذا.

١٧٩

قوله تعالى : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ؛) وذلك أنّ الله تعالى كان قد وعدهم في سورة البقرة (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ ...) إلى قوله (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)(١) وقوله تعالى (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)(٢). وقوله تعالى : (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) (٢٢) ؛ أي ما زادهم ما رأوه إلّا إيمانا وتصديقا بوعد الله وتسليما لآخره.

قوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ؛) أي من جملة المؤمنين رجال وافوا ما عاهدوا الله عليه بالثّبات على الدّين والعمل بموجبه من الصّبر على القتال وغير ذلك ، (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ؛) أي من وفّى بنذره ، ومنهم من أقام على ذلك العهد حتى قتل شهيدا في سبيل الله. قيل : إنّ المراد به حمزة ابن عبد المطّلب وأصحابه الذين قتلوا يوم أحد.

والنّحب في اللّغة : النّذر ، وقيل : النّحب هو النّفس ، ومنه النّحيب : وهو التّنفّس الشديد والنّشج في البكاء (٣). والمعنى على هذا القول : (منهم من قضى نحبه) (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ؛) الموت على ذلك العهد. وقيل : معناه : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) أي مات أو قتل في سبيل الله فأدرك ما تمنّى ، فذلك قضاء النّحب. وقيل : فرغ من عمله ، ورجع إلى الله. وقال الحسن : (قضى أجله على الوفاء والصّدق) (٤) ، قال ابن قتيبة : ((قَضى نَحْبَهُ) : قتل).

وأصل النّحب : النّذر ، كان قوم نذروا أنّهم إن لقوا العدوّ قاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله تعالى فقتلوا. يقال : فلان قضى نحبه ، إذا قتل. وقال محمّد بن اسحق : (فمنهم من قضى نحبه ، من استشهد يوم بدر وأحد ، ومنهم من ينتظر ما وعد الله من نصر أو شهادة على ما مضى عليه أصحابه) (٥).

__________________

(١) الآية / ٢١٤.

(٢) الفتح / ٢٨.

(٣) النّشج : صوت معه يردّد الصبي بكاء في صدره ، فيحزن ببكائه من يسمعه. ينظر : الغريبين في القرآن والحديث : ج ٦ ص ١٨٣٦.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٦٧١).

(٥) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٦٦٧) ؛ قال : (حدثني يزيد بن رومان) وذكره. وذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٣٤.

١٨٠