التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

ابن جريج : (قالت السّماء : يا رب خلقتني وجعلتني سقفا محفوظا ، وأجريت فيّ الشّمس والقمر والنّجوم ، لا أعمل فريضة ولا أبتغي ثوابا. وقالت الأرض : يا رب جعلتني بساطا ومهادا ، وشققت فيّ الأنهار ، وأنبتّ فيّ الأشجار ، لا أتحمّل فريضة ولا أبتغي ثوابا ولا عقابا) (١).

ومعنى قوله : (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) أي مخافة وخشية لا معصية ولا مخالفة ، والعرض كان تخييرا لا إلزاما ، قوله : (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) أي خفن من الأمانة أن لا توفّيها ، فيلحقهنّ العقاب ، فأبوا ذلك تعظيما لدين الله وخوفا أن لا يقوموا به ، وقالوا : نحن مسخّرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا.

قوله تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٧٢) ، يعني : وحملها آدم عليه‌السلام قال الله له : يا آدم إني عرضت الأمانة على السّموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ولم يطقنها ، فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال : يا رب وما فيها؟ قال : إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت. فتحمّلها آدم ، وقال : حملتها بين أذنيّ وعاتقي.

قال ابن عباس : (عرض الله على آدم أداء الصّلوات الخمس في مواقيتها ، وأداء الزّكاة عند محلّها ، وصيام رمضان ، وحجّ البيت ، على أنّ له الثّواب وعليه العقاب ، فقال : بين أذنيّ وعاتقي) (٢).

وقال مقاتل : (قال الله تعالى لآدم : أتحمل هذه الأمانة وترعاها حقّ رعايتها؟ فقال آدم : وما لي عندك؟ قال : إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة ، فلك الكرامة وحسن الثّواب في الجنّة ، وإن عصيت وأسأت معذّبك ومعاقبك. قال : قد رضيت يا رب ، وتحمّلها. فقال الله عزوجل : قد حمّلتكها. فذلك قوله تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً).

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ١٠ ص ٣١٥٩ : الرقم (١٧٨١٣).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان بأسانيد : الرقم (٢١٨٩٥).

٢٢١

قال الكلبيّ : (ظلمه حيث عصى ربّه وأخرج من الجنّة ، وجهله حيث تحمّلها). وقال مقاتل : (ظلوما لنفسه ، جهولا بعاقبة ما حمّل) (١). وقال مجاهد : (لمّا خلق الله السّموات والأرض والجبال ، عرضت الأمانة عليها فلم تقبلها ، فلمّا خلق الله آدم عرضها عليه فقال : قد تحمّلتها يا رب. قال مجاهد : فما كان بين أن تحمّلها وبين أن أخرج من الجنّة إلّا قدر ما بين العصر والظّهر) (٢).

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : (إنّ الله قال لآدم : إنّي عرضت الأمانة على السّموات والأرض فلم يطقنها ، فهل أنت حاملها بما فيها؟ قال : يا رب وما فيها؟ قال : إن حفظتها أجرت ، وإن ضيّعتها عوقبت ، قال : قد تحمّلتها. فما بقي في الجنّة إلّا كقدر ما بين الظّهر والعصر حتّى خرج منها) (٣).

وقال زيد بن أسلم : (الأمانة هي الصّوم والغسل من الجنابة) ، وقال بعضهم : (هي أمانات النّاس والوفاء بالعهود ، فحقّ على كلّ مؤمن أن لا يغشّ مسلما في شيء لا قليل ولا كثير).

وقال السديّ : (هي ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده ، وذلك أنّ آدم عليه‌السلام لمّا أراد أن يحجّ إلى مكّة ، قال : يا سماء احفظي أولادي بالأمانة ، فأبت. وقال للأرض كذلك ، فأبت. وقال للجبال كذلك ، فأبت. ثمّ قال لابنه قابيل : أتحفظهم بالأمانة؟ قال : نعم ، تذهب وترجع فتجد أهلك كما يسرّك. فانطلق آدم ورجع وقد قتل قابيل هابيل ، فذلك قوله تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) يعني قابيل حين حمل أمانة أبيه ثمّ لم يحفظها) (٤).

قوله تعالى : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) ، أي ليعذبهم الله بما خانوا الأمانة وكذبوا الرّسل ، ونقض الميثاق

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٥٧.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ١٠ ص ٣١٦٠ : الرقم (١٧٨١٥).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٨٩٥).

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٩٠٥) مطولا ، والأثر (٢١٩٠٦) مختصرا.

٢٢٢

الذي أقرّوا به حين أخرجوا من ظهر آدم. قال الحسن : (هؤلاء الّذين خانوها ، وهم الّذين ظلموها).

قوله تعالى : (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ، لأنّهم أدّوا الأمانة ، وهي الفرائض. وقيل : معنى الآية : إنّا عرضنا الأمانة ليظهر نفاق المنافق ، وشرك المشرك فيعذّبهم الله ، ويظهر إيمان المؤمنين فيتوب الله عليهم ، أي يعود عليهم بالمغفرة والرّحمة إن حصل منهم تقصير في بعض الطاعات ، وكذلك ذكر بلفظ التوبة ، فدلّ على أن المؤمن العاصي خارج من العذاب ، (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) ، للمؤمنين إذا تابوا ، (رَحِيماً) (٧٣) ، بمن مات على التوبة.

آخر تفسير سورة (الأحزاب) والحمد لله رب العالمين.

٢٢٣

سورة سبأ

سورة سبأ مكّيّة ، وهي ألف وخمسمائة واثنى عشر حرفا ، وثمانمائة وثلاثون كلمة ، وخمس وخمسون آية.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ سورة سبأ لم يبق نبيّ ولا رسول إلّا كان يوم القيامة له رفيقا ومصافحا](١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ؛) الحمد : الوصف بالجميل على جهة التّعظيم ، وقوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) المعنى : له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا ، (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ؛) أي يحمده أهل الآخرة على دوام نعمه عليهم كما يحمده أهل الدّنيا ، ولكنّ الحمد في الدّنيا تعبّد ، وفي الآخرة شكر على سبيل السّرور ؛ لأنه لا يكلّف في الآخرة ، يقول أهل الآخرة : الحمد لله الّذي صدقنا وعده ، والحمد لله الّذي هدانا لهذا ، والحمد لله الّذي أذهب عنّا الحزن والنّقم في الدّارين كلّها منه. قوله : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (١) ؛ أي الحكيم في أفعاله ، الخبير بأحوال عباده.

وقوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ؛) أي ما يدخل في الأرض ويغيب فيها من المطر والحيوانات من الميتة ، ويعلم ما يخرج منها من أنواع النّبات والزّروع وغير ذلك مما لا يعلمه إلّا هو ، ويعلم (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ ؛) من الأمطار التي هي سبب أرزاق العباد ، ويعلم (وَما يَعْرُجُ ؛)

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف : ج ٣ ص ٥٧٦. وأخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم عن أبي بن كعب.

٢٢٤

في السّماء ؛ أي من يصعد ، (فِيها ؛) من الملائكة الحفظة لديوان العباد ، وما يرتفع فيها من الرّياح والحرّ والبرد ، ويعلم ما يصعد فيها من أعمال العباد. يقال : عرج يعرج ؛ إذا صعد ، وعرج يعرج إذا صار أعرجا.

وقوله تعالى : (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (٢) ؛ أي الرّحيم بعباده ، الغفور لمن استحقّ المغفرة.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ؛) أي قال الكفّار : لا تأتينا القيامة ، (قُلْ ؛) لهم يا محمّد : (بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ؛) على ما أخبر الله تعالى ، (عالِمِ الْغَيْبِ.)

قرأ حمزة والكسائيّ (عالِمِ الْغَيْبِ) بخفض الميم على وزن فعال على المبالغة ، كقوله : علّام الغيوب ، وقرأ نافع وابن عامر : (عالم) برفع الميم على تقدير : هو عالم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمر وعاصم (عالِمِ) بالكسر نعت لقوله (وَرَبِّي)(١).

قوله تعالى : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ ؛) أي لا يغيب عنه ولا يبعد عليه معرفة وزن ذرّة ، (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ؛) وخصّ الذرّة بالذّكر لأنّها أصغر شيء يدخل في أوهام البشر ، وهذا مثل ؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه ما هو دون الذرة ، والمعنى : الله يعلم كلّ شيء دقّ أو جلّ. قوله تعالى : (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٣) ؛ الكتاب المبين في هذه الآية هو اللّوح المحفوظ.

وقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤) ؛ معناه : لتأتينّكم الساعة ليجزي الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات على أعمالهم بالمغفرة والرّزق الكريم ؛ أي الثواب الحسن في الجنّة.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ ؛) أي سعوا فيها بعد ظهورها ووضوحها بالتكذيب لها والجحود بها ، مقدّرين أنّهم سيفوتوننا ، ويعاجزون

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء : ج ٣ ص ٣٥١.

٢٢٥

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) (٥) ؛ من عذاب مؤلم ، والرّجز : أسوأ العذاب.

قرأ ابن كثير (أَلِيمٌ) بالرفع على نعت العذاب ، وقرأ الباقون بالخفض على نعت الرّجز.

قوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (٦) ؛ أوّل هذه الآية عطف على قوله (لِيَجْزِيَ) أي ولكي يعلم الّذين أوتوا العلم الّذي أنزل إليك من ربك وهو القرآن وآيه يهدي إلى صراط العزيز بالنّقمة لمن لا يؤمن به ، الحميد لمن وحّده ، أي يهدي إلى دين الله.

وقوله تعالى (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يعني مؤمني أهل الكتاب. وقال قتادة : (يعني أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (١). وقوله (هُوَ الْحَقَّ) إنّما دخلت (هُوَ) في هذا الموضع للفصل عند البصريّين ، ويسمّى ذلك عمادا ، ولا يدخل العماد إلّا في المعرفة ، قال الشاعر :

ليت الشّباب هو الرّجيع على الفتى

والشّيب كان هو البدئ الأوّل (٢)

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٧) ؛ أي قال الكفّار على وجه التّعجّب والإنكار ؛ أي قال بعضهم لبعض : هل ندلّكم على رجل يعنون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزعم أنّكم تبعثون بعد أن تكونوا عظاما ورفاتا! وذلك قوله تعالى : (يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يقول لكم بليتم وتقطّعت أجسامكم واندرست آثاركم تعودون. وقوله تعالى (كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي إذا تفرّقتم في الأرض وتفرّقت العظام والجلود كلّ تفريق ، (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي نجدّد خلقكم بأن تبعثوا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٩١٩).

(٢) ذكره الفراء في معاني القرآن : ج ٢ ص ٣٥٢.

٢٢٦

وقوله تعالى : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ؛) هذا من قول الكفّار بعضهم لبعض ؛ قالوا : افترى محمّد على الله كذبا حين زعم أنّا نبعث بعد الموت! (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ؛) أي جنون ، يقولون : زعم كذبا أم به جنون.

فردّ الله عليهم مقالتهم بقوله : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) (٨) ؛ أي ليس الأمر على ما قالوا من افتراء وجنون ، كأنه قال : لا هذا ولا ذاك ، ولكنّ الذين لا يؤمنون بالبعث في الآخرة ، والخطأ البعيد في الدّنيا.

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ؛) معناه : إنّ سماءنا محيطة بهم والأرض حاملة لهم ، (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ؛) هذه ، (الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ) تلك ، (كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) فما يحذرون هذا فيرتدعون عن التكذيب بآياتنا.

والمعنى : أنّ الإنسان حيث ما نظر رأى السماء فوقه ، والأرض قدّامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله ، فكأنه تعالى قال : إنّ أرضي وسمائي محيطة بهم ، وأنا القادر عليهم ، إن شئت خسفت بهم ، وإن شئت أسقط عليهم قطعة من السماء.

قرأ حمزة والكسائي وخلف : (إن يشأ) و (يخسف) و (يسقط) في ثلاثتها بالياء لذكر الله تعالى قبله ، وقوله تعالى (أَفْتَرى) ألف استفهام دخلت على ألف الوصل فلذلك سقطت.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٩) ؛ أي إنّ فيما ذكر من منيعه وقدرته وفيما ترون من السّماء والأرض لعلامة تدلّ على قدرة الله تعالى على البعث ، وعلى من يشاء من الخسف بهم ، لكلّ عبد أناب إلى الله ورجع إلى طاعته وتأمّل ما خلق. قال الحسن : (المنيب : الرّاجع إلى الله تعالى بقلبه وقوله وفعله ، فإذا نوى نوى لله ، وإذا قال قال لله ، وإذا عمل عمل لله) (١).

__________________

(١) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٢٦٤ ؛ قال القرطبي : (أي تائب رجّاع إلى الله بقلبه ، وخص المنيب بالذكر ؛ لأنه المنتفع بالفكرة في حجج الله وآياته).

٢٢٧

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً ؛) يعني النبوة والكتاب والملك. قوله تعالى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ؛) أي سبحي معه إذا سبّح ، فكان داود عليه‌السلام إذا سبّح سبّحت الجبال معه حتى يسمع صوت تسبيحها. وقرئ (أوبي معه) أي عودي في التّسبيح معه كلّما عاد فيه.

وقال القتيبيّ : (أصله من التّأويب ، وهو السّير باللّيل كلّه ، كأنّه أراد ادني النّهار كلّه بالتّسبيح معه). وقيل : تسير معه كيف شاء.

وقوله (وَالطَّيْرَ) ، قرأ العامة بالنصب ، وله وجوه ؛ أحدها : بالفعل ؛ تقديره : وسخّرنا له الطير ، تقول : أطعمته طعاما وماء أي وسقيته ماء. والثاني : بالنّداء ، يعني بالعطف على موضع النداء ، لأنّ موضع كلّ منادى النصب. والثالث : بنزع الخافض ، كأنه قال : أوّبي معه الطّير ، كما يقال : لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها ؛ أي مع فصيلها. وقرأ يعقوب (والطّير) بالرفع عطفا على الجبال. وقيل : على الابتداء ، قال الشاعر :

ألا يا زيد والضّحاك سيرا

فقد جاوزتما خمر الطّريق

يروى هذا البيت بنصب (الضّحّاك) ورفعه (١).

وقوله تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (١٠) ؛ أي جعلنا له الحديد ليّنا يضربه كيف شاء من غير نار ولا مطرقة ، وكان عنده مثل الشّمع والطين المسلول والعجين. قوله تعالى : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ ؛) أي قلنا له اعمل دروعا واسعات تامّات يجرّها لابسها على الأرض ، فكان داود عليه‌السلام أوّل من عمل الدّروع ، والسّابغ : هو الذي يغطّي كلّ ما على الرجل حتى يفضل ، فكان داود يبيع كلّ درع بأربعة آلاف ، فيأكل ويطعم عياله ويتصدّق على الفقراء والمساكين.

قوله تعالى : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ؛) أي اجعل حلق الدّرع متتابعة متناسقة بعضها إلى بعض على مقدار معلوم لا يتفاوت على وجه ، ولا تنفذ فيه السّهام ولا

__________________

(١) الخمر : بالتحريك : ما يسترك من شجر وغيرها. قاله الفراء في معاني القرآن : ج ٣ ص ٣٥٥.

٢٢٨

السّنان. يقال : سرد الكلام يسرده إذا ذكره بالتأليف على وجه تحصل به الفائدة ، ومن هذا يقال لصانع الدّروع : سرّاد وزرّاد. والسّرود والزّرد للوصل.

وقال بعضهم : السّرد سمرك طرفي الحلق ؛ أي لا تجعل المسامير دقاقا فتنغلق ، ولا غلاظا فتكسر الحلق ، واجعل ذلك على قدر الحاجة. والقول الأول أقرب إلى الآية ، لأن الدروع التي عملها داود كانت بغير المسامير ؛ لأنه كانت معجزة.

قوله تعالى : (وَاعْمَلُوا صالِحاً ؛) أي قال الله لآل داود : اعملوا صالحا فيما بينكم وبين ربكم ، (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١) ؛ من شكر وطاعة.

قوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ ؛) أي وسخّرنا لسليمان الرّيح كانت تحمل سريره فتذهب في الغدوّ مسيرة شهر ، وترجع في الرّواح مسيرة شهر.

قال الفرّاء : (نصب (الرِّيحَ) على المفعول ؛ أي وسخّرنا لسليمان الرّيح) (١). وقرأ عاصم (الرّيح) بالرفع على معنى : وله تسخير الرّيح ، والمعنى أنّ الريح كانت تسير في اليوم مسيرة شهرين للرّاكب المسرع.

قوله تعالى : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ؛) أي أذبنا له عين النّحاس ، فسالت له ثلاثة أيّام كما يسيل الماء ، وإنّما انتفع الناس بما أخرج الله لسليمان ، وكان قبل سليمان لا يذوب. والقطر هو الرّصاص.

قوله تعالى : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ ؛) أي وسخّرنا له من الجنّ (مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) من القصور والبنيان ، (بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا ؛) أي من يمل من الشّياطين عن أمرنا الذي أمرناه من الطاعة لسليمان ، (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) (١٢) ؛ أي من عذاب النّار الموقدة. وقيل : إنّ الله تعالى وكّل ملكا بيده سوط من نار ، فمن زاغ منهم من طاعة سليمان ضربه ضربة أحرقته.

__________________

(١) قاله الفراء في معاني القرآن : ج ٣ ص ٣٥٦.

٢٢٩

قوله تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ ؛) أي يعملون لسليمان ما يشاء (مِنْ مَحارِيبَ) أي مساجد ، كان هو والمؤمنون يصلّون فيها. ويقال : أراد بالمحاريب الغرف والمواضع الشريفة ، يقال لأشرف موضع في الدار محراب ، والمحراب مقدّم كلّ مسجد ومجلس وبيت.

وقوله تعالى (وَتَماثِيلَ) أي تماثيل كلّ شيء ، يعني صورا من نحاس وزجاج ورخام ، كانت الجنّ تعملها ، وكانوا يصوّرون له الأنبياء والملائكة في المسجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة ، وهذا يدلّ على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان ، ثم صار حراما في شريعة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما روي في الحديث : [إنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة](١). وروي : [لعن الله المصوّرين بما صوّروا](٢).

قوله تعالى : (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ ؛) الجفان جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة من الصّفر. وقوله (كَالْجَوابِ) أي كالحياض العظام ، فهي كحياض الإبل ، والجواب جمع الجابية ، وسمّي الحوض جابية ؛ لأنّه يجبي الماء ؛ أي يجمعه ، والجباية جمع الماء. يقال : إنه كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل يأكلون بين يديه.

قوله تعالى : (وَقُدُورٍ راسِياتٍ ؛) أي ثابتات عظام من الحجر كالجبال لا ترفع من أماكنها ، ولكن يوقد تحتها حتى ينطبخ ما فيها من الأطعمة فيأكل منها الألوف ، وكانت هذه الأعمال التي يعملونها معجزة لسليمان عليه‌السلام.

وقوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ؛) أي قلنا لهم : اعملوا بطاعة الله شكرا له على هذه النّعم التي منّ بها عليكم. وقيل : انتصب قوله (شُكْراً) على المصدريّة. وقوله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١٣) ؛ أي قليل من عبادي من يشكر لي ؛ لأن الشّاكرين وإن كثروا فقليل في جنب من لم يشكر.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب اللباس : باب من كره القعود عند الصور : الحديث (٥٩٥٨). ومسلم في الصحيح : كتاب اللباس : باب تحريم تصوير صورة الحيوان : الحديث (٨٥ / ٢١٠٦). وأبو داود في السنن : كتاب اللباس : باب في الصور : الحديث (٤١٥٥).

(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ٢٢ ص ٩٥ : الحديث (٢٩٦ ، وص ٩٦ : الحديث (٢٩٨) مختصرا.

٢٣٠

قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ؛) وذلك أنّ سليمان عليه‌السلام كان يعتاد طول القيام في الصّلاة ، وكان إذا أعيا اتّكأ على عصاه ، فاتّكأ ذات يوم على عصاه ، فقبض الله روحه ، فبقي على تلك الحالة سنة ، والعملة في أعمالهم يعملون كما هم ولم يجترئ أحد أن يدنو منه هيبة له.

وقوله (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) دابّة الأرض هي الأرضة التي تأكل الخشب ، وقوله تعالى (مِنْسَأَتَهُ) أي عصاه التي كان يتّكئ عليها.

وقوله تعالى : (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) (١٤) ؛ أي فلمّا سقط سليمان لتآكل المنسأة ، تبيّن الجنّ للإنس ؛ أي ظهروا أنّهم لا يعلمون الغيب ، فلو علموا ما عملوا له سنة وهو ميّت ، فذلك قوله تعالى : (ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) أي في العذاب من أعمالهم الشاقّة التي كانوا يعملونها في بناء بيت المقدس وغيره ، فلمّا علموا بموته لسقوط العصا تركوا الأعمال.

ثم أن الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين الطّعام لآتيناك بأطيب الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب لآتيناك بأطيب الشراب ، ولكنّا سننقل إليك الطين والماء ، فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت ، فما رأيتموه من الطّين في جوف الخشب فهو مما ينقله الشياطين إليها شكرا لها!

وسميت العصا منسأة لأنه ينسأ بها الغنم وغيره ؛ أي يؤخّر ويطرد ، يقال : أنسأ الله في أجله ؛ أي أخّر الله في أجله. وأكثر القرّاء يقرأون (مِنْسَأَتَهُ) بالهمزة ، وقرأ أبو عمرو ونافع بترك الهمزة ، وهما لغتان.

وقوله تعالى (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) أي ظهر أمرهم. وقيل : في موضع النصب تقديره : علمت وأيقنت الجنّ (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) ، وكان الإنس قبل هذا يظنّون أن الشّياطين يعلمون السّرّ يكون بين اثنين ، فظهر لهم يومئذ أنّهم لا يعلمون ذلك.

٢٣١

قال أهل التّاريخ : كان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة ، ومدّة ملكه أربعون سنة ، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه ، وكان عمر داود مائة وأربعون سنة (١).

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ؛) قال فروة بن مسيك : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألته عن سبأ ما هو؟ فقال : [رجل من العرب أولد عشرة أولاد ، تيامن منهم ستّة ، وتشامّ منهم أربعة. فأمّا الّذين تيامنوا فالأزد وكندة وحمير ومذحج والأشعريّون وإنمار ومنهم بجيلة. وأمّا الّذين شاموا فعاملة وغسّان ولخم وجذام](٢). والمراد بسبأ القبيلة الذين هم من أولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

وقوله تعالى (فِي مَسْكَنِهِمْ) أنه كانت مساكنهم بمأرب من اليمن (آية) أي علامة يدلّ على قدرة الله وأنّ المنعم عليهم هو الله تعالى. ثم فسّر تلك الآية فقال : (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ ؛) أي عن يمين واديهم وشماله قد أحاطتا بذلك الوادي الذي بين مساكنهم.

والمعنى : لقد كان لأهل سبأ في مواضعهم علامة ، وهي جنّتان ؛ أي بستانان ؛ إحداهما عن يمين الطريق ، وأخرى عن يسار الطّريق ، ويقال : كان بستانين عن يمين الطريق وبستانين عن شمال الطريق ، إلّا أنّ البساتين كلّ واحد من الجانبين سمي جنّة لاتّصال بعضها ببعض ، وكانوا في النّعمة بحيث كانت المرأة تمشي في تلك الطريق بين البساتين وعلى رأسها الزّنبيل فيمتلئ من ألوان الفاكهة من غير أن تمسّ شيئا بيدها.

__________________

(١) ذكره القرطبي أيضا في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٢٨١.

(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ١٨ ص ٢٧٢ : الحديث (٨٣٤ و٨٣٥ و٨٣٦) وإسناده حسن. وأبو داود في السنن : كتاب الحروف والقراءات : الحديث (٣٩٨٨) مختصرا. والترمذي في الجامع : أبواب التفسير : الحديث (٣٢٢٢) ، وقال : حسن غريب. والطبري في جامع البيان : الحديث (٢١٩٨١).

٢٣٢

قرأ حمزة والنخعيّ وحفص (فِي مَسْكَنِهِمْ) بفتح الكاف على الواحد ، وقرأ الأعمش والكسائي وخلف : (مسكنهم) بكسر الكاف على الواحد أيضا ، وقرأ الباقون : (مساكنهم) على الجمع (١).

قوله تعالى : (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ ؛) أي قيل لهم : (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) يعني هذه النّعم ، (وَاشْكُرُوا لَهُ ؛) أي لله على نعمة هذه ، وهذا حدّ الكلام ، ثم ابتدأ فقال : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ؛) أي هذه بلدة طيبة أو لكم بلدة طيبة ، يعني ليست بسبخة ، ولم يكن يرى بعوضة قط ، ولا دباب ولا برغوث ولا حيّة ولا عقرب ، وأنّ الرجل الغريب ليأتيها وفي ثوبه القمل والدوابّ ، فحين يرى بيوتهم تموت الدواب والقمل. والمعنى : بلدة طيّبة الهواء. وقوله تعالى : (وَرَبٌّ غَفُورٌ) (١٥) ؛ أي غفور الخطايا ، كثير العطايا.

قوله تعالى : (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ؛) أي فأعرضوا عن الحقّ وكفروا وكذبوا أنبياءهم ، ولم يشكروا نعم الله ، وقالوا : لا نعرف لله تعالى نعمة علينا! وقالوا لأنبياءهم : قولوا لربكم الذي يزعمون أنه منعم فليحبس عنّا نعمه إن استطاع!

قال وهب : (بعث الله تعالى إلى سبأ ثلاثة عشر نبيّا ، فدعوهم إلى الله وذكّروهم نعمه ، وخوّفوهم عقابه ، فكذبوهم وقالوا : ما نعرف لله علينا نعمة) (٢).

قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) ، قال ابن الأعرابيّ : (العرم : السّيل الّذي لا يطاق) (٣) ، وقال مقاتل : (العرم وادي سبأ) (٤). وقيل : العرم : المطر الشديد الذي يأتي منه سيل لا يطاق دفعه ، وعرمة الماء ذهابه في كلّ مذهب.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء : ج ٢ ص ٣٥٧. ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج : ج ٤ ص ١٨٧.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٩٨٥).

(٣) نقله عنه أيضا البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٦٠. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٤) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٦٢.

٢٣٣

وقيل : العرم هو الفأر الذي نقب السدّ عليهم ، وصفة ذلك : أن الماء كان يأتي أرض سبأ من الشّجر وأودية اليمن ، فردموا ردما بين جبلين وحبسوا الماء في ذلك الرّدم ، وجعلوا لذلك الرّدم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض ، وكانوا يسقون من الباب الأعلى ، ثم من الباب الثاني ، ثم من الباب الأسفل ، فلا ينفذ الماء حتى يأتي ماء السّنة الثانية ، فأخصبوا وكثرت أموالهم. فلمّا كذبوا الرّسل بعث الله عليهم جرذا نقب ذلك الرّدم ، فاندفع الماء عليهم وعلى جنّتيهم ، فدفن السّيل بيوتهم وأغرق جنّتيهم وخرّب أراضيهم (١).

قوله تعالى : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ؛) أي بدّلناهم بالجنّتين اللّتين أهلكناهما جنّتين ، (ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ ؛) الأكل : اسم لما يؤكل. والخمط : شجر الأراك ، ويقال : الخمط كلّ نبت قد أخذ طعما من مرارة حتى لا يمكن أكله. وقيل : هو شجر ذات شوك.

قرأ أبو عمرو ويعقوب (أكل خمط) بالإضافة ، وقرأ الباقون (أُكُلٍ) بالتّنوين ، وهما متقاربان في المعنى.

وقوله تعالى : (وَأَثْلٍ ؛) الأثل : ما عظم من شجر الطّرفاء (٢) ، وقوله تعالى : (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) (١٦) ؛ والسّدر إذا كان برّيّا لا ينتفع به ولا يصلح ورقة للغسول ، كما يكون ورق السّدر الذي نبت على الماء. ومعنى قوله تعالى (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) يعني أن الخمط والأثل كان أكثر في الجنّتين المبدّلتين من السّدر. قال قتادة : (كان شجر القوم من خير الشّجر ، فبدّله الله من شرّ الشّجر بأعمالهم) (٣) ، والسّدر : هو شجر النّبق.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٩٩٣) عن وهب بن منبه.

(٢) في معاني القرآن : ج ٣ ص ٣٥٩ ؛ قال الفراء : (وأما الأثل فهو الذي يعرف ، شبيه بالطرفاء ، إلا أنه أعظم طولا).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٠٠٥).

٢٣٤

قوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا ؛) أي جزيناهم ذلك التّبديل والتّخريب بكفرهم بنعم الله تعالى ، (وَهَلْ نُجازِي ؛) بمثل هذه العقوبة وتعجيل سلب النّعمة ، (إِلَّا الْكَفُورَ) (١٧) ؛ أي الكافر المعاند ، وقيل : معناه : إنّ المؤمن نكفّر عنه ذنوبه بطاعاته ، والكافر يجازى على كلّ سوء يعمله. وقال الفرّاء : (المؤمن يجزى ولا يجازى) (١) أي يجزى الثّواب بعمله ، ولا يكافؤ بسيّئاته.

قرأ أهل الكوفة : (نُجازِي) بالنّون وكسر الزّاي. ونصب (الْكَفُورَ) لقوله (جَزَيْناهُمْ) ولم يقل جوزوا ، وقرأ الآخرون (يجازي) بياء مضمومة ورفع (الكفور).

وقوله تعالى (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) من قرأ بالنصب فهو اسم قبيلة ، فلهذا لم ينصرف ، ومن نوّنه وخفضه فهو اسم لرجل.

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) أي جعلنا بين أهل سبأ وبين قرى الأرض التي باركنا فيها وهي الأرض المقدّسة باركنا فيها بالماء والشّجر ، يعني قرى الشّام ومصر ، وقوله (قُرىً ظاهِرَةً) أي قرى متقاربة متّصلة ، إذا خرج الرجل من واحدة من القرى ظهرت له الأخرى ، فكانوا لا يحتاجون في سيرهم إلى الشّام إلى زاد ، وكانت المرأة تخرج ومعها مغزلها ، وعلى رأسها مكتلها ، ثمّ تغزل ساعة فلا ترجع بيتها حتى يمتلئ مكتلها من الثّمار ، وكان ما بين الشّام وأرض سبأ على تلك الصفة.

قوله تعالى : (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ ؛) أي جعلنا القرى مواصلة بقدر السّير المتّصل على قدر المقيل والمبيت من قرية إلى قرية ، أنعمنا عليهم في مسيرهم كما أنعمنا عليهم في مساكنهم ، فقلنا لهم : (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً ؛) إن شئتم باللّيالي وإن شئتم بالأيّام ، (آمِنِينَ) (١٨) ؛ من الظّلم والجوع والعطش وعن جميع ما يخاف في الطريق.

__________________

(١) قاله الفراء في معاني القرآن : ج ٣ ص ٣٥٩ بلفظ : (وأمّا المؤمن فإنّه يجزى ؛ لأنّه يزاد ويتفضّل عليه ولا يجازى).

٢٣٥

ومعنى الآية : (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) من القرية إلى القرية مقدارا واحدا ، نصف يوم ، وقلنا لهم : (سِيرُوا فِيها) في تلك القرى ، (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) ؛ ليلا شئتم السير أو نهارا (آمِنِينَ) من الجوع والعطش والسّباع والتّعب ومن كلّ خوف.

ثم إنّهم بطروا النعمة ، وسألوا أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض ، (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ؛) أي اجعل بيننا وبين الشّام فلوات ومفاوز لنركب عليها الرّواحل ونتزوّد الأزواد (١) ، ذلك أنّهم قالوا لو كانت ثمارنا أبعد مما هي لكان أجدر أن نشتهيها ، فاجعل بين منازلنا وبين مقصدنا المفاوز. ويقال : كانت هذه المسألة من تجّارهم ليربحوا في أموالهم.

قرأ ابن كثير وأبو عمرو (بعّد) على وجه الدّعاء. وقرأ ابن الحنفيّة ويعقوب (ربّنا) برفع الباء (باعد) بألف وفتح العين والدلالة على الخبر ، استبعدوا أسفارهم بطرا منهم وأشرا. وقرأ الباقون (رَبَّنا) بفتح الباء و (باعِدْ) بالألف وكسر العين وجزم الدّال على الدّعاء. وقد قرئ (بعد) بضمّ العين و (بين) بالرفع ؛ أي بعد ما يتّصل بسفرنا.

قوله تعالى : (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ؛) يعني بترك الشّكر والطاعة ، وقيل : بالكفر ، (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ ؛) لمن بعدهم يتحدّثون بأمرهم وشأنهم ، ولم يبق منهم ولا من ديارهم أثر. وقوله تعالى : (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ؛) أي فرّقناهم في البلاد المختلفة كلّ تفريق ، وذلك أنّهم شرّدوا في البلاد ، وصاروا بحيث يتمثل بهم العرب يقولون : تفرّق القوم أيدي سبأ وأيادي سبأ.

قال الشعبيّ : (أمّا غسّان فلحقوا بالشّام ، وأمّا الأنصار فلحقوا بيثرب ، وأمّا خزاعة فلحقوا بتهامة ، وأمّا الأزد فلحقوا بعمان) (٢) وكانت غسّان ملوك الشّام.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) ؛ أي فيما فعل بسبأ (لَآياتٍ) ؛ لعبر ودلالات (لِكُلِّ صَبَّارٍ) ، عن معاصي الله ، (شَكُورٍ) (١٩) ؛ لأنعمه.

__________________

(١) في المخطوط صحف العبارة ، فكتب الناسخ : (وتزود الآن واد ذلك).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٠٢٢).

٢٣٦

قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٠) ؛ قرأ أهل الكوفة (صَدَّقَ) بالتشديد ؛ أي ظنّ فيهم ظنّا حيث قال : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)(١)(وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)(٢) فصدّق ظنّه وحقّقه بفعله ذلك واتّباعهم إيّاه. وقرأ الآخرون (صدق) بالتخفيف ؛ أي صدق عليهم في ظنّه بهم.

وقوله تعالى (عَلَيْهِمْ) أي على أهل سبأ ، وقال مجاهد : على النّاس كلّهم إلّا من أطاع الله عزوجل (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهم الّذين قال الله تعالى فيهم (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ)(٣).

وقيل : إن إبليس لمّا وسوس إلى آدم وعملت فيه وسوسته ، طمع في ذرّيته ؛ فقال : إنّه مع فضله وعقله ، وعملت فيه وسوستي ؛ فكيف لا تعمل في ذرّيته؟ فأخبر الله في هذه الآية : أنّ القوم اتبعوه فصدّقوا ظنّه ، إلّا طائفة من المؤمنين لم يتّبعوه في شيء.

وقيل : إن إبليس لمّا سأل النّظرة فأنظره الله تعالى قال : لأضلّنّهم ولأمنّينّهم ولأموّهنّهم (٤) ، ولم يكن في وقت هذه المقالة مستيقنا ، وإنّما قال ظنّا منه ، فلما اتّبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنّه فيهم.

وقوله تعالى : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ ؛) أي ما كان لإبليس عليهم من حجّة ولا نفاذ أمر إلّا بالتّزيين والوسوسة. وقوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) ؛ أي ما كان تسليطنا إياه عليهم إلّا لنعلم المؤمنين من الشاكرين.

والمعنى : ما سلّطناه عليهم إلّا لنعلم إيمان المؤمن ظاهرا وكفر الكافر ظاهرا ، وقد يذكر العلم ويراد به الإظهار. وقوله تعالى : (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٢١) ؛ أي عالم بكلّ شيء من الإيمان وشكّ وغير ذلك.

__________________

(١) ص / ٨٢.

(٢) الأعراف / ١٧.

(٣) الاسراء / ٦٥.

(٤) ربما (وَلَآمُرَنَّهُمْ) رسم الكلمة في المخطوط قريب بين الكلمتين.

٢٣٧

قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ؛) أي قل لكفّار مكّة : أدعوا الّذين زعمتم أنّهم آلهة من دون الله ، قال مقاتل : (أي ادعوهم ليكشفوا عنكم الضّرر الّذي نزل بكم في سنين الجوع).

وقيل : معناه : ادعوا الذين زعمتم أنّهم آلهة لكم لكي يرزقوكم ويدفعوا عنكم الشدائد ، ثم إنّهم لا يملكون مثقال ذرّة ؛ أي لم يخلقوا زنة ذرّة في السّموات ولا في الأرض ، فمن أين يستحقّون العبادة؟!

وقوله تعالى : (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ ؛) أي ما لهم في السّموات والأرض من شرك في خلقهما ، وقوله تعالى : (وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) (٢٢) ؛ أي وما الله تعالى منهم من معين فيما خلق.

وقوله تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ؛) أي ولا تنفع شفاعة ملك مقرّب ولا نبيّ ولا أحد حتى يأذن الله له في الشّفاعة. وهذا تكذيب من الله لهم حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله.

قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف (أذن) بضمّ الألف ، وقرأ غيرهم بالفتح ، فمن فتح كان المعنى لمن أذن الله له في الشّفاعة ، وكذلك من قرأ بالضمّ لأنّ الآذن هو الله تعالى في القراءتين جميعا.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٢٣) ؛ قرأ ابن عامر ويعقوب : (فزّع) بفتح الفاء والزاي ، وقرأ غيرهما بضمّ الفاء وكسر الزاي. والمعنى : حتى إذا كشف الفزع والجزع عن قلوبهم. ومن قرأ بالفتح فالمعنى : حتّى إذا كشف الله الفزع عن قلوبهم.

واختلفوا في هذه الكتابة والموصوفين بهذه الصّفة ، من هم؟ ومن النّصب الذي من أجله فزّع عن قلوبهم؟ فقال قوم : هم الملائكة. واختلفوا في سبب ذلك ، فقال بعضهم : إنّما فزّع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله عزوجل.

٢٣٨

قال عبد الله بن مسعود : (إذا تكلّم الله تعالى بالوحي ، سمع أهل السّماء صلصلة مثل صلصلة السّلسلة على الصّفوان ، فيصعقون لذلك ويخرّون سجّدا ، فإذا علموا أنّه وحي فزّع عن قلوبهم فتردّ إليهم ، فينادي أهل السّموات بعضهم بعضا : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(١).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [إنّ الله تعالى إذا تكلّم بالوحي ، سمع أهل السّماء صلصلة كجرّ السّلسلة على الصّفا ، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم جبريل ، فيقولون له : ماذا قال ربّك؟ قال : يقول الحقّ](٢).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إذا قضى الله الأمر في السّماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خضوعا لقوله ، كأنّه سلسلة على صفوان ، فإذا فزّع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربّكم؟ قالوا : الحقّ](٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إذا تكلّم الله بالوحي ، أخذت السّموات منه رجفة أو رعدة شديدة خوفا من الله تعالى ، فإذا سمع ذلك أهل السّموات صعقوا وخرّوا سجّدا ، فيكون أوّل من رفع رأسه جبريل عليه‌السلام ، فيكلّمه الله من وحيه بما أراد ، ثمّ يمرّ جبريل بالملائكة ، فكلّما مرّ بسماء سأله ملائكتها : ماذا قال ربّنا يا جبريل؟ فيقول جبريل : قال الحق وهو العليّ الكبير ، فيقول مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمر الله](٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٢٢٠٣٥ و٢٢٠٣٦) بأسانيد عديدة وألفاظ.

(٢) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٦٩٩ ؛ قال السيوطي : (وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي من وجه آخر عن ابن مسعود ...) وذكره.

(٣) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٦٩٧ ؛ قال السيوطي : (أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة ...) وذكره.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٢٢٠٤٠).

٢٣٩

وقال مقاتل والكلبيّ : (لمّا كانت الفترة بين عيسى ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسمائة وخمسون عاما ، فلمّا بعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّم الله تعالى جبريل بالرّسالة إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسمعت الملائكة الصّوت بالوحي ، فظنّوا أنّها القيامة قامت ، فصعقوا ممّا سمعوا ، فلمّا انحدر جبريل بالرّسالة ، جعل أهل كلّ سماء يسألونه على وجه التّعرّف بعد ما انكشف الفزع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربّكم؟ قال جبريل ومن معه : قال الحقّ) (١).

وقيل : لمّا سمعت الملائكة الوحي صعقوا فخرّوا سجّدا ظانّين أنّها القيامة ، فلما نزل جبريل بالوحي انكشف فزعهم فرفعوا رؤوسهم ، وقال بعضهم لبعض : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا الْحَقَّ) يعني الوحي (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي الغالب القاهر السيّد المطاع الكبير العظيم ، فلا شيء أعظم منه.

وقرأ الحسن (حتّى إذا فزع عن قلوبهم) بالعين المعجمة والزّاي بمعنى فزعت قلوبهم من الفزع ، وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ قوله (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) راجع إلى المشركين ، فإنّهم إذا شاهدوا أهوال يوم القيامة غشي عليهم ، فيزيل الله ذلك عن قلوبهم ، ثم تقول لهم الملائكة : ماذا قال ربّكم في الدّنيا والآخرة؟ فيقولون : الحقّ ، فأقرّوا حين لا ينفعهم الإقرار.

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ ؛) أي قل يا محمّد لكفّار مكّة : من يرزقكم من السّموات المطر ، ومن الأرض النبات والثمر؟ وإنّما أمر بهذا السّؤال احتجاجا عليهم ؛ لأنّ الذي يرزق هو المستحقّ للعبادة لا غيره ، وذلك أنه إذا استفهمهم عن الرّزق لم يمكنهم أن يبيّنوا رازقا غير الله ، فيتحيّروا في الجواب فيؤمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجواب ، فيقول لهم : إنّ الذي يرزقكم هو الله عزوجل ، وثمّ الكلام.

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٦٤. ونقله القرطبي عن الكلبي أيضا كما في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٢٩٧.

٢٤٠