التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

(مُنَجُّوكَ) مخفوضة ولم يجز عطف الظّاهر على المضمر المخفوض ، فما جعل الثّاني على المعنى ، فصار التّقدير : وننجي أهلك ، أو منجون أهلك).

قوله تعالى : (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ ؛) أي عذابا بالحجارة ، وقيل : الخسف والحصب ، (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٣٤) ؛ أي بسبب فسقهم ، يروى أنّ تلك القرية كانت مشتملة على سبعمائة ألف رجل.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً ؛) أي آثار منازلهم الخربة وهي ترك ديارهم منكوسة عظة وعبرة ، وأظهر الله فيها ماء أسودا نتنا يتأذى الناس برائحته ، وقوله تعالى : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٣٥) ؛ أي يتفكّرون فيما فعل الله بهم فلا يفعلون مثل فعلهم.

قوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ؛) أي وأرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيبا ، (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ ؛) أي واخشوا البعث الذي فيه جزاء الأعمال ، (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٣٦) ؛ أي لا تعثوا في الأرض بالفساد ، (فَكَذَّبُوهُ ؛) بالرّسالة ، (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ؛) أي الزّلزلة ، (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٣٧) ؛ أي ميّتين باركين على ركبهم.

قوله تعالى : (وَعاداً وَثَمُودَ ؛) أي وأهلكنا عادا وثمودا ، (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ ؛) أي ظهر لكم يا أهل مكّة من منازلهم والحجر واليمن في هلاكهم حيث تمرّون بها ، (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ؛) القبيحة ، (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ؛) أي فصرفهم عن طريق الحقّ ، (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٣٨) ؛ أي عقلاء يمكنهم تمييز الحقّ من الباطل ، ويقال : كانوا معجبين بضلالهم يرون أنّهم على الحقّ ، ولم يكونوا كذلك ، والمعنى : أنّهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين فيما عملوا من الضّلالة ، يحسبون أنّهم على هدى.

قوله تعالى : (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ ؛) أي وأهلكنا قارون وفرعون وهامان بعد ما جاءهم

١٠١

موسى بالمعجزات فتعظّموا عن الإيمان به ، (وَما كانُوا سابِقِينَ) (٣٩) ؛ أي لم يكونوا فائتين من عذاب الله.

قوله تعالى : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ؛) أي كلّ هؤلاء القوم الذين ذكرناهم عاقبناهم بذنوبهم ، (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ؛) يعني الحجارة وهم قوم لوط ، وقيل : الحاصب الرّيح التي تأتي بالحصباء ، وهي الحصى الصّغار ، (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ؛) وهم قوم صالح وشعيب ، (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ؛) يعني قارون وأصحابه ، (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ؛) يعني قوم نوح وفرعون ، (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ؛) بإهلاكه إيّاهم ، (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٠) ؛ بالكفر والمعاصي.

قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ ؛) يعني الأصنام يتّخذونها أولياء يرجون نصرها ونفعها ، (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) ، وبيتها لا يغنيها عن الحرّ والبرد والمطر ، كذلك آلهتهم لا ترزقهم شيئا ، ولا تملك لهم ضرّا ولا نفعا.

قوله تعالى : (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) أي لا بيت أضعف منه مما يتّخذه الهوام ، (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٤١) ؛ إنّ اتّخاذهم الأولياء سوى الله كاتّخاذ العنكبوت بيتا في قلّة النفع ما اتّخذوهم أولياء.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ؛) قرأ أبو عمرو (يَدْعُونَ) بالياء لذكر الأمم قبلها ، وقرأ الباقون بالتاء ، ومعنى الآية : أنه عالم بما عبدتموه من دونه فهو يجازيكم على كفركم ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤٢).

وقوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ ؛) يعني أمثال القرآن ، (نَضْرِبُها) ، نبيّنها ، (لِلنَّاسِ). قال مقاتل : (يعني لكفّار مكّة) (١)(وَما يَعْقِلُها ؛) الأمثال ، (إِلَّا الْعالِمُونَ) (٤٢) ؛ أي العلماء.

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٥٢٠.

١٠٢

قوله تعالى : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ؛) أي للحقّ واظهر الحقّ خلقها ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٤٤) ؛ أي لدلالة على قدرة الله وتوحيده.

قوله تعالى : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ ؛) أي إقرأ عليهم يا محمّد ما أنزل عليك من القرآن ، وأقم الصّلوات الخمس في مواقيتها بشرائطها وسننها.

قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ؛) وذلك أنّ في الصّلاة تكبيرا وتسبيحا وقراءة ووقوفا للعبادة على وجه الذّلّ والخشوع ، وكلّ ذلك يدعو إلى شكله ويصرف عن ضدّه وهي الآمر والنّاهي بالقول. والفحشاء : ما قبح من العمل ، والمنكر : ما لا يعرف في شريعة ولا سنّة.

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : (في الصّلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله) (١) (فمن لم تنهه صلاته عن المعاصي لم يزدد من الله إلّا بعدا) (٢) ، وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلّا بعدا](٣).

وقوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ؛) أي ولذكر الله إيّاكم بالتوفيق والمغفرة والثواب أكبر من ذكركم إياه بالطاعة ، وقيل : ذكر الله في المنع من الفحشاء والمنكر أكبر من الصّلاة ، ويجوز أن يكون أكبر في معنى الكبر في الجزاء والثّواب ، كما قال عزوجل : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ)(٤).

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٣٤٣).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٣٤٠). والطبراني في المعجم الكبير : ج ١١ ص ٤٦ : الحديث (١١٠٢٥). والقضاعي في المسند : ج ١ ص ٣٠٥ : الحديث (٥٠٨). وفي مجمع الزوائد : ج ٢ ص ٢٥٨ ؛ قال الهيثمي : (رواه الطبراني في الكبير ، وفيه ليث بن أبي سليم ، وهو ثقة ولكنه يدلس).

(٣) لم أجده.

(٤) البقرة / ٤٥.

١٠٣

قالت الحكماء : ذكر الله للعبد أكبر من ذكر العبد لله ؛ لأنّ ذكر الله للعبد على حدّ الاستغناء ، وذكر العبد إياه على حدّ الافتقار ، ولأنّ ذكر العبد بجرّ نفع أو دفع ضرّ ، وذكر الله للعبد للفضل والكرم ، ولأنّ ذكر العبد مخلوق ، وذكر الله غير مخلوق.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) : [أي ذكر الله على كلّ حال أحسن وأفضل ، والذّكر أن تذكره عند ما حرّم ، فتدع ما حرّم ، وعند ما أحلّ فتأخذ ما أحلّ](١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليكثر من ذكر الله عزوجل](٢).

وقال أبو الدّرداء رضي الله عنه : (ألا أخبركم بخير أعمالكم وأحبها إلى مليككم وأتمّها في درجاتكم ، وخير لكم من أن تغزوا عدوّكم فتضربوا رقابهم ، وخير لكم من إعطاء الدّنانير والدّراهم؟) قالوا : وما هو؟! قال : (ذكر الله عزوجل ؛ قال الله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ)(٣).

وقال معاد بن جبل : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيّ الأعمال أحبّ إلى الله تعالى؟ قال : [أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عزوجل](٤). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ما من قوم جلسوا في مجلس يذكرون الله فيه ؛ إلّا حفّت بهم الملائكة ؛ وغشيتهم الرّحمة ؛ وذكرهم الله فيمن عنده](٥).

__________________

(١) لم أجده.

(٢) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف : ج ٦ ص ٥٩ : الحديث (٢٩٤٤٨) عن معاذ بن جبل ، وفي ج ٧ ص ١٨٠ : الحديث (٣٥٠٤٩) أيضا.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٢١١٦٧) عن أبي الدرداء.

(٤) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ٢٠ ص ٩٣ : الحديث (١٨١) ، وص ١٠٧ : الحديث (٢١٢) ، وص ١٠٨ : الحديث (٢١٣). وفي مجمع الزوائد : ج ١٠ ص ٧٤ ؛ قال الهيثمي : (رواه الطبراني بأسانيد ، وفي بعضها خالد بن يزيد ، ضعفه جماعة ، ووثقه أبو زرعة وغيره ، وبقية رجاله ثقات).

(٥) ذكره الغزالي في إحياء علوم الدين ، وهو في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين في الرقم (٨٧٣) بلفظه ، وقال العراقي : (رواه مسلم من حديث أبي هريرة) ولفظه عند مسلم : [ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ، إلّا نزلت عليهم السّكينة وغشيتهم الرّحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده].

١٠٤

وروي أنّ رجلا أعتق أربع رقاب ، وآخر قال : سبحان الله ؛ والحمد لله ؛ ولا إله إلّا الله ؛ والله أكبر ، ثم إنّ الذي لم يعتق سأل حبيب (١) سرّا وفي أصحابه فقال : ما تقولون فيمن أعتق أربع رقاب وأنا قلت : سبحان الله ؛ والحمد لله ؛ ولا إله إلّا الله ؛ والله أكبر ، فأيّهما أفضل؟ فنظروا هنيهة وقالوا : ما نعلم شيئا أفضل من ذكر الله.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (٤٥) ؛ أي ما تعملون من الخير والشرّ ، لا يخفى عليه شيء.

قوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ؛) أي لا تخاصموا أهل الكتاب إلّا بالطريقة التي هي أحسن ، وهي أن تعظوهم بالقرآن على وجه النّصح لهم والاستمالة إلى دين الإسلام وتعظيم الله تعالى وطلب ثوابه ، (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ؛) أي إلّا من ظلم من أهل الكتاب فمنع الجزية أو نقض العهد ، وعاد حربا لكم ، فجادلوهم باللّسان والسّنان ، وأغلظوا عليهم حتى يسلموا ، (وَقُولُوا ؛) لمن قبل الجزية منهم إذا أخبروكم بشيء من كتبهم : (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ؛) أي آمنّا بالقرآن والتوراة والإنجيل والزبور ، (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٤٦) ؛ أي مخلصون بالعبادة والتوحيد ، وهذه صفة المجادلة الحسنة.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ؛) أنزلنا إليك يا محمّد القرآن كما أنزلنا إليهم الكتب ، (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي الذين أكرمناهم بعلم التّوراة وهم عبد الله بن سلام وأصحابه يؤمنون بالقرآن بدلالة التّوراة. وقوله : (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ؛) أراد به من كفّار مكّة من يؤمن به ، يعني يسلم منهم.

وقوله تعالى : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) (٤٧) ؛ أي ما يجحد بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن بعد المعرفة إلّا الكافرون من اليهود ، وذلك أنّهم عرفوا أنّ محمّدا نبيّ والقرآن حقّ فجحدوا وأنكروا.

__________________

(١) هكذا أبهم الاسم (حبيب) ولم يعرّفه.

١٠٥

قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ؛) أي ما كنت يا محمّد تقرأ من قبل القرآن (مِنْ كِتابٍ) أي ما كنت قارئا قبل الوحي ولا كاتبا ، وقوله : (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٤٨) ؛ ولا تكتبه بيمينك ، ولو كنت تقرأه وتكتب لوجد المبطلون طريقا إلى التّشكيك في أمرك والارتياب في نبوّتك ، ويقولون إنه يقرأه من الكتب الماضية ، فلمّا كان معلوما عندهم أنه عليه‌السلام كان لا يقرأ ولا يكتب ، ثم أتى بالقرآن الذي عجزوا عن الإتيان بسورة مثله ، دلّهم ذلك على أنه من عند الله ، ولأنّه كانت صفته في التّوراة والإنجيل : أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب ، ولو كنت قارئا كاتبا لشكّ اليهود فيك ، وقالوا : إنّ الذي نجده في التوراة أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب.

قوله تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ؛) قال الحسن : (يعني القرآن آيات بيّنات في صدور الّذين أوتوا العلم يعني المؤمنين الّذين حملوا القرآن على عهد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحملوه بعد) (١).

وقال مقاتل : (بَلْ هُوَ) يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آياتٌ بَيِّناتٌ) أي دو آيات بيّنات في صدور أهل العلم من أهل الكتاب ؛ لأنّهم يجدونه بنعته وصفته). (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) (٤٩) ، يعني كفار اليهود.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ ؛) أي قال كفّار مكّة : هلّا أنزل على محمّد آية من ربه كما كانت الأنبياء تجيء بها إلى قومهم ، أرادوا بها الآيات التي كانوا يقترحونها عليه من قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) الآية (٢).

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ وخلف : (آية) على التوحيد ، وقرأ الباقون بالجمع.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٣٧٥). والطبري في جامع البيان : الأثر (٢١١٩٩).

(٢) الإسراء / ٩٠.

١٠٦

وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي في حكم الله إن شاء أنزلها ، (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥٠) ؛ أي رسول مخوّف لكم بلغة تعرفونها ، وليس إنزال الآيات بيده.

وقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ؛) معناه : أو لم يكن لهم كفاية في معرفة نبوءتك أنّا أنزلنا عليك القرآن الذي تقرأه عليهم بلغتهم مما فيه أخبار الأمم الماضية مع عجزهم عن الإتيان بحديث مثله ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً ؛) أي في إنزال القرآن لرحمة لمن آمن به وعمل بما فيه ، (وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥١) ، أي وذكرى وموعظة لهم.

قوله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ؛) أي قل لهم يا محمّد : كفى الله شهيدا بأنّي رسول إليكم ، (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ ؛) أي صدّقوا بالأصنام وجحدوا وحدانيّة الله ، (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٥٢) ؛ بالعقوبة وفوت المثوبة.

قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ؛) أي يستعجلك كفار مكّة بالعذاب قبل وقته استهزاء وتكذيبا منهم بذلك ، (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ ؛) أي لو لا أنّ الله جعل لعذابه أجلا مسمّى قد سمّاه وهو يوم القيامة. وقيل يعني مدّة أعمارهم ؛ لأنّهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب لعجّل لهم العذاب في الحال ، (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٣) ؛ بإتيانه.

قوله تعالى : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٥٤) ؛ فيه تعجيب باستعجالهم مع أنّ جهنّم محيطة بهم في الآخرة ، جامعة لهم ، (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ؛) فلا يبقى جزء منهم إلّا وهو معذب في النار جزاء ، ويقال لهم : (وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٥).

قرأ الكوفيّون ونافع : (وَيَقُولُ) بالياء ، يعني الموكّل بعذابهم يقول لهم ذلك ، وقرأ الباقون بالنّون ؛ لأنه لمّا كان بأمره سبحانه جاز أن ينسب إليه.

١٠٧

قوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (٥٦) ؛ قال مقاتل : (نزلت في ضعفاء مسلمي مكّة ، تقول : إن كنتم في ضيق بمكّة من إظهار الإيمان) (١) فاخرجوا منها وأمروا بالهجرة من الموضع الّذي لا يمكنهم فيه من عبادة الله ، وكذلك يجب على كلّ بلد ، من كان في بلد فعمل فيها بالمعاصي ، ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيّأ له أن يعبد الله حقّ عبادته.

ثم خوّفهم بالموت لتهون عليهم الهجرة ؛ فقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ؛) أي كلّ أحد ميّت أينما كان ، فلا تقيموا بدار الشّرك خوفا من الموت ، (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٥٧) ، بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم. وقال سعيد بن جبير : (معنى الآية : إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها ، فإنّ أرضي واسعة) (٢) ، وقال عطاء : (إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا منها ، فإنّ أرض الله واسعة) (٣) ، وقال مجاهد : (إنّ أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا) (٤).

وقال الكلبيّ : (نزلت في المستضعفين من المؤمنين الّذين كانوا بمكّة لا يقدرون على إظهار الإيمان وعبادة الرّحمن ، فحثّهم على الهجرة إلى المدينة ، فشقّ عليهم وقالوا : كيف يكون حالنا إذا انتقلنا إلى دار الغربة وليس بها أحد يعرفنا فيواسينا ، ولا نعرف وجوه الاكتساب فيها ، فقطع الله عذرهم بهذه الآيات).

ومعناها : إنّ أرضي واسعة آمنة ، وقيل : (واسِعَةٌ) أي رزقي لكم واسع ، فاخرجوا من هذه الأرض التي أنتم فيها. وعن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنّة ، وكان رفيق إبراهيم ومحمّد عليهما‌السلام](٥).

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٥٢٣.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٢٠٥).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٢٠٦).

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٢٠٧).

(٥) ذكره الزمخشري في الكشاف : ج ٣ ص ٤٤٦ ، وقد تقدم في النساء ، وهو من مراسيل الحسن.

١٠٨

ثم ذكر ثواب من هاجر ، فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ؛) يعني المهاجرين ، (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ؛) قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : (لنسكننّهم غرف الدّرّة والزّبرجد والياقوت ، ولننزلنّهم قصور الجنّة) ، وقرأ حمزة والكسائيّ : (لنثوينّهم) يقال : ثوى الرجل إذا أقام ، وأثويته إذا أنزلته منزلا يقيم فيه ، والمعنى : والذين آمنوا لننزلنّهم من الجنّة غرفا عوالي تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار ، (خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (٥٨) ؛ لله.

ثم وصفهم فقال : (الَّذِينَ صَبَرُوا ؛) أي على دينهم فلم يتركوه لشدّة لحقتهم ، (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٥٩) ؛ قال ابن عبّاس : (وذلك أنّ المهاجرين توكّلوا على الله وتركوا دورهم وأموالهم). وقيل : معناه : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في أرزاقهم وجهاد أعدائهم ومهمّات أمورهم.

قال مقاتل : (إنّ أحدهم كان يقول بمكّة : كيف أهاجر إلى المدينة وليس لي بها مال ولا معيشة) (١). فقال الله عزوجل : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ؛) أي وكم من دابّة في الأرض ؛ وهي كلّ حيوان يدبّ على الأرض مما يعقل ومما لا يعقل.

والمعنى : كم من نفس دابّة لا تحمل رزقها ؛ أي لا ترفع رزقها معها ولا تدّخر شيئا لغد ، (اللهُ يَرْزُقُها ؛) حيث توجّهت ، (وَإِيَّاكُمْ ؛) يرزقكم إن أخرجتم إلى المدينة ، وإن لم يكن لكم زاد ولا نفقة. قال سفيان : (وليس شيء ممّا يخبئ ويدّخر إلّا الإنسان والفأر والنّملة والغراب على ما قيل) (٢).

وقيل : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للمؤمنين الّذين كانوا بمكّة وقد آذاهم المشركون : [أخرجوا إلى المدينة وهاجروا ، ولا تجاوروا الظّلمة فيها] فقالوا : يا رسول الله! كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها عقار ولا مال ، فمن يطعمنا

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٥٢٤.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٣٦٠.

١٠٩

ويسقينا؟ فأنزل الله هذه الآية (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ)(١) يوما بيوم ؛ أي يرزق من يحمل ومن لا يحمل ، فكم من دابّة لا تجمع رزقها لغد ، ولا يقدر على حمل رزقها لضعفها ، الله يرزقها وإيّاكم ، (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦٠) ؛ أي السّميع لأقوالهم : نخشى إن فارقنا أوطاننا العيلة ، العليم بما في قلوبهم ونفوسهم ، فلا يتركوا عبادة الله بسبب الرّزق ، ولا يهتمّوا لأجل ذلك.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ؛) يعني لئن سألت مشركي مكّة : من خلق السّموات ، (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٦١) ؛ أي يصرفون عن عبادة الله الذي هذه صفته إلى عبادة جمادات لا تنفع ولا تضرّ.

قوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ؛) أي يبسط الرّزق على قوم ، ويضيّق على قوم ، يفعل ذلك عن علم وحكمة ، لا عن غلط وخطأ ، (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٢).

قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ ؛) يعني كفّار مكّة أيضا ، (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ؛) أي الحمد لله على إقرارهم ؛ لأن ذلك يلزمهم الحجّة ، ويوجب عليهم التوحيد. وقيل : معناه : الحمد لله على هذه النّعم ، وعلى ما تفضّل به جلّ ذكره من الإنعام على العباد ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٦٣) ؛ بتوحيد ربهم مع إقرارهم بأنه خلق السّموات والأرض وأنزل المطر.

قوله تعالى : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) أي باطل وغرور وعبث تنقضي عن قريب بسرعة ، (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ؛) يعني الجنّة هي الحيوان ؛ أي الحياة والدّوام والبقاء الذي لا نفاد له ، والحيوان والحياة واحد. وقوله تعالى : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٦٤) ؛ أي لو كانوا يعلمون

__________________

(١) ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٣٦٠.

١١٠

الفرق بين الحياة الدّائمة والحياة الفانية لرغبوا في الباقي الدائم عن الفاني الزّائل ، ولكنّهم لا يعلمون.

قوله تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ؛) يعني المشركين إذا ركبوا في السّفينة وهاجت الرياح واضطربت الأمواج ، وخافوا الغرق والهلاك ، (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي دعوا الله مفردين له بالدّعاء ، وتركوا شركاءهم وأصنامهم فلا يدعونهم لإنجائهم ، (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ ؛) أي فلمّا خلّصهم من تلك الأهوال ، وأخرجهم إلى البرّ ؛ (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ؛) أي عادوا إلى شركائهم لكي يكفروا بما أعطيناهم ، (وَلِيَتَمَتَّعُوا ؛) في كفرهم ، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٦٦) ؛ جزاء فعلتهم. قال عكرمة : (كان أهل الجاهليّة إذا ركبوا في البحر حملوا معهم الأصنام ، فإذا اشتدّت بهم الرّيح ألقوا تلك الأصنام في البحر ، وصاحوا : يا الله يا الله).

وقيل : إنّ (اللام) في قوله (لِيَكْفُرُوا) لام الأمر ، ومعناها : التهديد والوعيد ، كقوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)(١)(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ)(٢) ، وكذلك عقّبه بقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) أي ألم ير كفار مكّة (أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) يعني مكّة ، ويسلب الناس من حولهم فيقتلون ويؤسرون وتؤخذ أموالهم ، وأهل مكّة آمنون من ذلك ، (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ ؛) أي فيقرّون ويصدّقون بالباطل وهي الأصنام بعد قيام الحجّة ، (وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) (٦٧) ؛ أي بمحمّد والإسلام يجحدون. والتّخطّف : هو تناول الشيء بسرعة.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ؛) أي لا أجد أظلم ممّن زعم أنّ لله شريكا ، (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ ؛) يعني

__________________

(١) فصلت / ٤٠.

(٢) الإسراء / ٦٤. وفي المخطوط : (واستفززه من استطعت).

١١١

محمّدا والقرآن ، (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) (٦٨) ؛ أي أما لهذا الكافر المكذّب مأوى في جهنّم ، وهو استفهام ، ومعناه : التقرير.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ؛) أي الذين جاهدوا الكفار لابتغاء مرضاتنا لنهدينّهم سبلنا إلى الجنّة ؛ أي لنوفّقنّهم لإصابة الطريق المستقيمة. وقيل : معناه : والذين قاتلوا لأجلنا أعداءنا لنهدينّهم سبيل الشّهادة والمغفرة.

وقال الفضيل : (معناه : والّذين جاهدوا فينا في طلب العلم بالعمل به) ، وقال أبو سليمان الدّارانيّ : (معناه : الّذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله إلى ما لا يعلمون). وعن ابن عبّاس : (أنّ معناه : والّذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينّهم سبل ثوابنا).

وقيل : معناه : والذين جاهدوا بالصّبر على المصائب والنّوائب لنهدينهم سبل الوصول للمواهب. وقيل : والذين جاهدوا بالثّبات على الإيمان لنهدينّهم دخول الجنان. وقال سهل بن عبد الله : (والّذين جاهدوا في إقامة السّنّة لنهدينّهم سبل دخول الجنّة). قوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٦٩) ؛ أي من بالنّصر على أعدائهم ، والمعونة في دنياهم والثواب والمغفرة في عقباهم.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المؤمنين والمنافقين](١).

آخر تفسير سورة (العنكبوت) والحمد لله وحده

__________________

(١) من أحاديث فضائل السور ، يذكره أهل التفسير عن أبي أمامة وأبي بن كعب ، في إسناده نظر ، وعدّه البعض من الموضوعات. ينظر : اللباب في علوم الكتاب : ج ١٥ ص ٣٨٠.

١١٢

سورة الرّوم

سورة الرّوم مكّيّة ، وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا ، وثمانمائة وتسع عشرة كلمة ، وستّون آية.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ سورة الرّوم كان له من الأجر عشر حسنات ، بعدد كلّ ملك يسبح لله بين السّماء والأرض](١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (٣) ؛ أي غلبت فارس الروم ، ففرح بذلك كفار مكّة وقالوا : الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب ، وافتخروا بذلك على المسلمين وقالوا لهم : نحن أيضا نغلبكم كما غلبت فارس الروم.

وقصّة ذلك : أن كسرى ملك فارس أرسل شهريار إلى الرّوم ، فسار إليهم بأهل فارس ليغزوهم ، فظهر على الروم فقتلهم وخرّب مدائنهم ، وكان قيصر ملك الروم قد بعث بجيش لمّا سمع بقدوم شهريار ، فالتقيا بأدرعات وبصرى وهي أدنى الشّام إلى أرض العرب والعجم ، فغلبت فارس الروم حتى انتزعوا بيت المقدس من الروم ، وكان ذلك موضع عبادتهم.

فبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بمكّة فشقّ ذلك عليهم ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكره أن يظهر الأميّون من المجوس على أهل الكتاب من الرّوم ، وفرح بذلك كفار مكّة وشمتوا ، فلقوا أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : إنّكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ، وقد ظهر

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف : ج ٣ ص ٤٧٣ ، وهو من مرويات الثعلبي في تفسيره عن أبي أمامة وأبي بن كعب بإسناد واه ضعيف.

١١٣

إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الرّوم ، وإنّكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم ، فأنزل الله عزوجل هذه الآيات (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ)(١).

فخرج أبو بكر رضي الله عنه إلى الكفّار وقال : (أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟! فلا تفرحوا ولا يقرّ الله أعينكم ، فو الله ليظهرنّ الرّوم على فارس ، أخبرنا بذلك نبيّنا) فقام إليه أبيّ بن خلف الجمحيّ وقال له : كذبت! فقال له أبو بكر : أنت أكذب يا عدوّ الله) فقال أبيّ بن خلف : كما غلبت عبدة النّيران أهل الكتاب ، فكذلك نحن نغلبكم) واستبعد المشركون ظهور الرّوم على فارس لشدّة شوكة أهل فارس.

فقال أبو بكر لأبيّ بن خلف : (أنا أراهنك على أنّ الرّوم تغلب إلى ثلاث سنين) فراهنه أبيّ على خمس من الإبل ، وقيل : على عشر من الإبل ، (فإن ظهرت الرّوم على فارس غرمت ، وإن ظهرت فارس غرمت أنا) ثمّ جاء أبو بكر إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بذلك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [زد في الخطر (٢) وأبعد في الأجل] ففعل ذلك ، وجعل الأجل تسع سنين ، وكان ذلك قبل تحريم القمار.

روي أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي بكر : [إنّما البضع ما بين الثّلاث إلى التّسع]. قرأ : [زده في الخطر ومادّه في الأجل] فخرج أبو بكر فلقي أبيّا فقال : لعلّك ندمت! فقال : أزيدك في الخطر وأمادّك في الأجل ، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين ، قال : قد أخاف فعلت.

فلمّا خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكّة ، أتاه فلزمه وقال أبيّ : إن تخرج من مكّة فأقرّ لي كفيلا ، فكفل له ابنه عبد الله بن أبي بكر ، فلمّا أراد أبيّ بن خلف أن يخرج إلى أحد ، أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال : لا والله لا أدعك حتّى تعطيني كفيلا ، فأعطاه كفيلا ومضى إلى أحد ، ثمّ رجع فمات بمكّة من جراحته

__________________

(١) ذكره الواحدي في أسباب النزول : ص ٢٣١ ـ ٢٣٢.

(٢) الخطر : الرّهان والعوض.

١١٤

الّتي جرحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بارزه ، وظهرت الرّوم على فارس يوم الحديبية وذلك على رأس تسع سنين من مراهنتهم ، وهذا قول أكثر المفسّرين (١).

وقال أبو سعيد الخدريّ ومقاتل : (لمّا كان يوم بدر قتلت المسلمون كفّار مكّة ، وأتاهم الخبر أنّ الرّوم قد غلبت فارس ، ففرح المسلمون بذلك ، وغلب أبو بكر رضي الله عنه أبيّا وأخذ مال الخطر من ورثته ، وجاء به إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [تصدّق به](٢).

ومعنى الآية : (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) يعني الجزيرة ؛ وهي أقرب أرض الرّوم إلى فارس ، وقال عكرمة : (يعني أدرعات وكسكر). وقوله (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) يعني الروم من بعد غلبة فارس إيّاهم سيغلبون فارس (فِي بِضْعِ سِنِينَ ؛) وهو ما بين الثلاث إلى العشر ، فالتقى الروم وفارس في السّنة السابعة من غلبة فارس إيّاهم ، فغلبتهم الروم ، فجاء جبريل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهزيمة فارس وظهور الرّوم عليهم ، ووافق ذلك يوم بدر.

قوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ؛) أي قبل أن غلبت الروم ومن بعد ما غلبت ، يعني أنّ غلبة أحد الفريقين الآخر ، أيّهما كان الغالب والمغلوب ؛ فإنّ ذلك كان بأمر الله تعالى وإرادته وقضائه وقدره.

وقوله تعالى : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (٤) ؛ يعني بغلب الروم فارس ، يفرح المؤمنون ، (بِنَصْرِ اللهِ ؛) الروم على فارس ، ويكون فرح المؤمنين يومئذ لظهور معجزة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإهلاك بعض الكفّار بعضا كما يفرح الصّالحون بقتل الظّالمين بعضهم بعضا.

__________________

(١) ينظر : جامع البيان : الأثر (٢١٢٢٩ و٢١٢٢٣). وتفسير مقاتل : ج ٣ ص ٣ ـ ٥.

(٢) حديث أبي سعيد أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٢١٢٣٣). وذكره مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٦ بلفظ : [هذا سحت ، تصدّق به]. وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الحديث (١٧٤٥٨) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.

١١٥

وقوله تعالى : (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ؛) أي ينصر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أعدائه ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٥) ؛ أي هو العزيز بالنّقمة ممن عصاه ، الرّحيم بأوليائه وهم المؤمنون.

قوله تعالى : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ ؛) نصب على المصدر ؛ أي وعد الله ذلك وعدا وهو راجع إلى قوله (سَيَغْلِبُونَ) أي وعد الله ذلك لا يخلف الله وعده بظهور الروم على فارس ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٦) ؛ إنّ الله لا يخلف وعده ؛ لأن أكثرهم كفّار.

وقوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ؛) يعني معايشهم وما يصلحهم (١). قال الحسن : (يعلمون متى زرعهم ومتى حصادهم ، ويعلمون وجوه الاكتساب من التّجارة والزّراعة والحراثة والغراسة ، وما يحتاجون إليه في الشّتاء والصّيف) قال الحسن : (بلغ والله من علم أحدهم في الدّنيا أنّه ينقر الدّراهم بيده فيخبرك بوزنه ولا يحسن يصلّي!) (٢).

وقوله تعالى : (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٧) ؛ أي هم مع علمهم بأمور الدّنيا لا يعلمون ما طريقة الدليل من أمر الآخرة ، وما يكون فيها من البعث والثواب والعقاب ، فهم غافلون عمّا هو أولى بهم ، وعما يلزمهم من الاستعداد لذلك.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) ، أي في خلق الله إيّاهم ، (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، فتعلمون أنّ الله لم يخلق السّموات والأرض ، (وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ؛) إلّا بالحقّ ؛ أي إلّا الحقّ ، (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) ، ومعنى الآية : أو لم يتفكّر أهل مكّة بقلوبهم فيعلمون أنّ الله ما خلق السّموات والأرض ، وما فيهما

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٢٣٩) عن إبراهيم ، و (٢١٢٤١) عن عكرمة. وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٤٦٦).

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٠٣. وفي الدر المنثور : ج ٦ ص ٤٨٤ ؛ قال السيوطي :

(أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن رضي الله عنه وأوله (ليبلغ من جذق أحدهم ...). أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٤٦٧).

١١٦

من العجائب والبدائع إلّا ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ، ويجزي كلّ عامل بما عمل عند انقضاء الأجل المسمّى الذي جعله الله لانقضاء أمر السّموات والأرض وهو يوم القيامة. وقوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ؛) يعني كفّار مكّة ، (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) (٨).

وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ؛) أي أولم يسافروا في الأرض ، (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ ؛) صار أمر ، (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ؛) من الأمم السالفة حين كذبوا الرّسل إلى الهلاك بتكذيبهم فيعتبروا. ثم وصف تلك الأمم فقال : (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ ؛) أي حرثوها وقلبوها للزراعة والغرس ، (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها ؛) كفّار مكّة لأنّهم كانوا أطول عمرا وأكثر عددا ، (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ، فلم يبق منهم ولا من عمارتهم أثر ، فكذلك يكون حال هؤلاء.

قوله تعالى : (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ؛) بإهلاكهم ، (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٩) ؛ بالكفر والتكذيب.

قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) (١٠) ؛ أي ثم صار آخر أمر الذين أساءوا بالكفر والمعاصي السّوء ، يعني العذاب والنار بسبب تكذيبهم واستهزائهم بآيات الله. قال الفرّاء والزجّاج : (السّوءى ضدّ الحسنى وهي الجنّة ، وضدّها النّار) ، وقال ابن قتيبة : (السّوء جهنّم ، والحسنى الجنّة ، وإنّما سمّيت سوءى ؛ لأنّها تسوء صاحبها).

قوله تعالى : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ؛) أي يخلقه من النطفة ثم يحييه بعد ما أماته (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١١) ؛ ثم إلى موضع حسابه وجزائه يرجعون فيجزيهم بأعمالهم. قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) (١٢) ؛ أي ييأس المجرمون من رحمة الله ، ومن كلّ خير حين عاينوا العذاب.

١١٧

وقال الفرّاء : (ينقطع كلامهم وحجّتهم) ، وقيل : معنى (يُبْلِسُ) أي يفتضح ، وقيل : معناه : يندمون ، وقيل : المبلس الساكت المنقطع عن حجّته الآيس من أن يهتدي إليها ، قال الشاعر (١) :

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا

قال : نعم أعرفه وأبلسا

والمجرمون هم المشركون. قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ ؛) أي لم يكن للكفار ممّن أشركوه في العبادة شفعاء يشفعوا لهم إلى الله ، (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) (١٣) ؛ أي يتبرّؤن منها ويتبرّؤن منهم.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) (١٤) ؛ أي واذكر (يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) الخلائق في طريق الجنّة ، وطريق النّار. وقيل : معناه : يوم القيامة يتفرّقون بعد الحساب إلى الجنّة والنار فلا يجتمعون أبدا.

وقال الحسن : (إن كانوا اجتمعوا في الدّنيا ليفترقنّ يوم القيامة ؛ هؤلاء في علّيّين ، وهؤلاء في أسفل سافلين) (٢) ، وهو قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) (١٥) ؛ أي في الجنّة ينعّمون ويكرمون بالتحف ويسرّون.

والحبرة السّرور. وقيل : الحبرة كلّ نعمة حسنة ، والتّحبير التحسين. وسمّي العالم حبرا لتخلّقه بأحسن أخلاق المؤمنين ، ويسمّى المداد حبرا لأنه تحسن به الأوراق ، وقيل : معنى الآية : فهم في رياض الجنّة يتلذذون.

قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) ، وكذبوا بالبعث بعد الموت ، (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) (١٦) ؛ أي يحضرون في العذاب ، ويحبسون.

__________________

(١) الشاعر هو العجاج ، ومعنى المكرس : الذي صار فيه الكرس ، وهو الأبوال والأبعار المكان الذي قد بعرت فيه الإبل وبولت ، فركب بعضه بعضا. وينظر : معاني القرآن للفراء : ج ٢ ص ٣٢٣.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٤٧٥) بأسانيد.

١١٨

قوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) (١٨) ؛ أي فصلّوا لله ، على تأويل : فسبحوا لله ، قال ابن عبّاس : (جمعت هذه الآية الصّلوات الخمس ومواقيتها ، فوقت المساء يصلّى فيه المغرب والعشاء ، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) : صلاة الفجر ، (وَعَشِيًّا) : العصر ، (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الظّهر) (١).

وقوله تعالى : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يحمده أهل السّموات وأهل الأرض ، ويصلّون له ويسجدون. وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قال : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ...) إلى قوله تعالى : (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) وآخر سورة الصّافّات دبر كلّ صلاة ، كتب الله من الحسنات عدد نجوم السّماء ، وقطر المطر ، وعدد ورق الشّجر ، وعدد نبات الأرض. وإذا مات أجرى الله له بكلّ حسنة عشر حسنات في قبره](٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من سرّه أن يكتال له بالقفيز الأوفى فليقل : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ...) إلى قوله تعالى : (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ ، سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ...) إلى آخر السّورة](٣).

قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ؛) أي الإنسان الحيّ من النّطفة الميتة ، (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) ، ويخرج النطفة وهي ميتة من الإنسان الحيّ ، ويقال : يخرج الفرخ من البيضة ، والبيضة من الفرخ ، (وَيُحْيِ الْأَرْضَ) ، بإخراج الزّروع منها ، (بَعْدَ مَوْتِها ؛) أي بعد أن كانت لا تنبت ، (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (١٩) ، من قبوركم يوم القيامة إلى المحشر ، فإنّ بعثكم بمنزلة ابتداء خلقكم ، وهما في قدرة الله تستويان. قرأ حمزة : (تخرجون) بفتح التّاء.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٢٦١).

(٢) أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان : ج ٧ ص ٢٩٨ بإسناد ضعيف.

(٣) أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان : ج ٧ ص ٢٩٨ ، عن أنس ، وفي إسناده بشر بن الحسين ، وهو ساقط).

١١٩

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ؛) أي من دلائل قدرته وعلامات توحيده أن خلق أصلكم من تراب ، يعني آدم ، (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) (٢٠) ؛ أي ثمّ إذا أنتم من لحم ودم تنتشرون ؛ أي تتفرّقون في حوائجكم ، وتنبسطون في الأرض ، (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ؛) أي من علامات توحيده وقدرته أن خلق لكم من جنسكم نساء لتطمئنّوا إليها ، ولم يجعلهنّ من الجنّ ، (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ؛) أي جعل بين الزّوجين مودّة ورحمة ، فيما يتراحمان ويتوادّان ، وما من شيء (١) أحبّ إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما ، حتى أنّ كثيرا من الناس يهجر عشيرته بسبب زوجته ، وكذلك من النّساء من تهجر عشيرتها بسبب زوجها.

والمعنى : من دلالة توحيد الله وقدرته أن خلق من نطفة الرّجال ذكورا وإناثا ؛ ليسكن الذكور إلى الإناث ، والنّطف عن صفة واحدة ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١) ؛ في عظمة الله وقدرته.

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي ومن علامات توحيده خلق السّموات والأرض بما فيهما من العجائب ، (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) ، أي لغاتكم وأصواتكم وصوركم وألوانكم ، لأنّ الخلق بين عربيّ وعجميّ وأسود وأحمر وأبيض ، وهم ولد رجل واحد وامرأة واحدة ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) (٢٢) ؛ أي للبرّ والفاجر والإنس والجنّ.

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ؛) أي ومن آياته كيفيّة نومكم ، وكيف يغلب عليكم ، وأين يأتيكم ، وكيف يزول عنكم فتطلبون معيشتكم ، وقوله تعالى : (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ؛) تقدير (وابتغاؤكم من فضله بالنّهار) يعني تصرّفكم في طلب المعيشة بالنّهار ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٢٣) القرآن ؛ سماع الاستدلال ، والاعتبار ، والتدبّر.

__________________

(١) في المخطوط : (شرع) بدل (شيء) وهو تصحيف.

١٢٠